النهار - المقال والمآل في ما كتبه جهاد الزين ومناقشتا صلاح بدر الدين وخليل زهر قراءة غير أيديولوجية للزلزال السوداني - عبد الحسين شعبان
المقال والمآل في ما كتبه جهاد الزين ومناقشتا صلاح بدر الدين وخليل زهر
قراءة غير أيديولوجية للزلزال السوداني - عبد الحسين شعبان
بقلم أنيق ولغة رشيقة، والأهم من ذلك بفكر منفتح يبث جهاد الزين أفكاره وآراءه على صفحة "قضايا النهار"، ولطالما اغرانا بالاشتباك معه ودّياً، فعلى مدى السنوات العشر المنصرمة كنت قد قرأت ما جاد به قلم الزين من طروحات إشكالية لا تتعلق بالوضع اللبناني حسب، بل بالدور التركي والنفوذ الايراني والمأزق الفلسطيني وقضايا التنوّع الثقافي والفيديراليات ورسائل السيستاني وغيرها.
وأتذكّر مرة كتبت بدعوة كريمة منه في مناقشة الفيديرالية العراقية، خصوصاً وهو يعرف موقفي من القضية الكردية ومن مبدأ حق تقرير المصير منذ عقود من الزمان، مثلما كتبت مرّات عديدة تقاطعت فيها مع صحيفة "النهار" التي كان السبق في فتح حوار بخصوصها في صفحة "قضايا النهار".
أسوق هذه المقدمة الطويلة لأدخل في صلب الموضوع الذي يتعلق بمقالة جهاد الزين حول " النخب العربية وزلزال انفصال السودان" ("النهار" 28 /9 /2010) والتي ناقشها الكاتبان صلاح بدر الدين ("الأكراد وزلزال جنوب السودان" 2 /10 /2010) وخليل زهر ("التصدي للتفكك بسلاح التنمية الاقتصادية" 16 /10 /2010)، وأظن أن الموضوع بحاجة الى حوار وجدل واسعين لا في الاعلام فحسب، بل في الجامعات ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية والثقافية، باشراك النخب المختلفة الحاكمة وغير الحاكمة، بما فيها البرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها، لأن الموضوع لا يتعلق بأوضاع الحاضر فحسب، بل بأوضاع المستقبل.
البيئة الدولية أصبحت مشجّعة على مثل هذا الجدل بعد أن أصبح الأمر الواقع واقعاً، فبعد إنتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الايديولوجي من شكل الى آخر جديد، انقسمت دول وكيانات، وشهد العالم قيام دول جديدة، سواءً على نحو حضاري، كما حدث في الانقسام المخملي بين التشيك والسلوفاك بعد فيدرالية دامت عقوداً من الزمان، أو جرّاء حروب ونزاعات وأعمال عنف ودماء غزيرة، كما حدث في يوغوسلافيا وبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة.
وكنت قد كتبت في صحيفة "الخليج" الاماراتية بتاريخ 25 /8 /2010 مقالة بعنوان "كوسوفو وقرار محكمة لاهاي: أي دلالة مستقبلية"؟ وعدت لمناقشة هذا الأمر حول بلجيكا في الصحيفة ذاتها بتاريخ 22 /9 /2010 تحت عنوان "هل بات انقسام بلجيكا وشيكاً؟" فلم تعد الأنظمة الشمولية وحدها معرّضة للانقسام كما نعتقد لأسباب إثنية وقومية ودينية، بل إن أنظمة ديموقراطية عريقة وفوق ذلك فيديرالية تتعرض، للانقسام أيضاً.
أحسب أن الرأي العام العربي منقسم على نحو حاد إزاء موضوع جنوب السودان، الذي غدا مشكلة حقيقية لا يمكن حلّها، فقد فشلت الحكومات العسكرية وغير العسكرية السودانية في إيجاد حلول لها، خصوصاً أن الخيار العسكري لم يعد ممكناً، كما فشلت الحركة الجنوبية من تحقيق أهدافها عبر الخيار العسكري، وبات التدخل الخارجي، باسم الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية أو التدخل الانساني باسم دارفور، تحصيل حاصل طالما وصلت أوضاع السودان الى ما هو عليه الآن، ولأن جميع الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها بين الشمال والجنوب وصلت الى طريق مسدود، كما إن الاتفاق على اجراء استفتاء حول الوحدة والانفصال أصبح أمراً واقعاً، وستنظم عملية الاستفتاء في 9 كانون الثاني المقبل 2011، إذْ لم يعد من مناص سوى قبول نتائج الاستفتاء، طالما انه تقرر من الطرفين ولا يمكن العودة عنه، وإذا تم التنصل منه فإن ذلك سيعني اندلاع حرب لا قدرة للطرفين على تحمّل نتائجها ولا مفرّ من ضغوط دولية هائلة ستمارسها قوى متنفذة للوصول الى ما ستعجز الحرب عن حلّه، وذلك سيعني خسارة مضاعفة، بالحرب وبالاقرار بنتائج لا مهرب منها، وقد تكون أكثر كارثية.
الولادة الجديدة أو إعادة صياغة مشروع الدولة السودانية التي حصلت على استقلالها في العام 1956 كان ممكناً لو توافرت مستلزمات المشترك الانساني، وبخاصة حقوق المواطنة الكاملة والمتساوية على قاعدة الحرية والمشاركة والعدالة والهوية الجامعة العامة، مع الاحتفاظ بالهويات الفرعية، التي يمكن أن تكون عامل رفد للهوية الوطنية المتعددة والمتنوّعة والموحدة في الآن ذاته، أما وقد وصلنا الى حالة العجز، فلا يمكن ندب الحظ أو الحديث عن مؤامرات خارجية وأطماع استعمارية، خصوصاً أن المشكلة مستفحلة والخراب شامل والحل في الوحدة المأمولة بعيد المنال، خصوصاً أن عوامل الجذب الطوعية الاختيارية أصبحت بعيدة أو غير سالكة، وعلى أية حال فإن نتائج الاستفتاء ستظهر الحقيقة عارية ودون قناع أو إدّعاء.
الجديد في الموضوع السوداني أن محكمة العدل الدولية في لاهاي التابعة للأمم المتحدة قررت في 24 تموز 2010 أن انفصال كوسوفو لا يتعارض مع قواعد القانون الدولي وذلك في سابقة دولية جديدة، الأمر الذي أعطى انفصال كوسوفو عن صربيا "شرعية قانونية دولية"، وهي شرعية لا تتعارض مع القانون الدولي، وهو ما حصل ايضاً في تيمور الشرقية، على الرغم من أن "الشرعية الدولية" بخصوص فلسطين وقرار التقسيم العام 1947 كانت مخالفة صريحة لقواعد القانون الدولي واستمرت هذه المخالفة بقضم الاراضي والعدوان والاحتلال الاسرائيلي.
الشرعية الدولية تعني اتفاق القوى المتنفّذة في العلاقات الدولية في لحظة معينة على مواقف معينة، وقد تنسجم هذه المواقف وقد تتعارض مع القواعد العامة للقانون الدولي المعاصر التي جاء بها ميثاق الأمم المتحدة والتي تعززت في العام 1970 باعلان الأمم المتحدة حول العلاقات بين الدول، والذي سمّي تصريح "التعايش السلمي"، أو عندما طوّرها مؤتمر الأمن والتعاون الاوروبي المنعقد في هلسنكي في العام 1975 في وثيقته الختامية التي تبنّت ثلاثة مبادئ جديدة آمرة في القانون الدولي Jus Cogens وهي مبدأ احترام حرمة الحدود وعدم خرقها ومبدأ الاستقلال السياسي ومبدأ حقوق الانسان، كقواعد مستقلة، بضمّها الى مبدأ المساواة في السيادة وتأدية الالتزامات بحسن نية وحل المنازعات الدولية بالطرق السلمية وعدم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية وعدم التدخل بالشؤون الداخلية وغيرها.
أحسب أن الانقسام والاصطفاف بشأن الوضع السوداني قائم وسيتعمق، ولكن ماذا لو أصبح العيش المشترك مستحيلا؟ فما السبيل لحل المشكلة الجنوبية؟ وخصوصاً إذا كان بقاء الجنوب في كنف الدولة القائمة غير ممكن، فإمّا الحرب وحدّ السيف أو الرضوخ والقبول، طالما اصبح الأمر الواقع واقعاً منذ سنوات، إنه مثل الطلاق "أبغض الحلال عند الله" كما وصف لينين "الانفصال" في إطار حق تقرير المصير، خصوصاً أن الاتحاد الاختياري الطوعي لم يفضِ الى احترام الحقوق وتأمين المواطنة المتساوية والكاملة حسبما يبدو.
وأعتقد أن عملاً من هذا القبيل سترنو اليه الانظار في شمال العراق (كردستان) وهو أمر طبيعي، ولدى أكراد إيران وتركيا وسوريا، وإنْ كان الأمر بدرجات متفاوتة، وسنكون في هذه الحال أمام ديناميكية انفصالية، بعد أزمة الكيانات القائمة، فالمشكلة الكردية في العراق ظلّت بدون حل، منذ أن تم الالتفاف على معاهدة "سيڤر" العام 1920، خصوصاً بإبرام معاهدة لوزان 1923 حيث طويت القضية الكردية، حتى عادت الى الأروقة الدولية في العام 1991 بصدور القرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين ووقف القمع الذي تعرضت له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، تحت باب التدخل الانساني والأمر الواقع، حيث تم فرض خط العرض 36 " الملاذ الآمن Safe haven" وفي ما بعد الحظر الجوي No Fly Zone (لجنوب العراق).
وايضاً بعد أن وصلت نصوص دستورية واتفاقيات سياسية بين الكرد والحكومة العراقية الى طريق مسدود، من دستور العام 1958 الذي أقرّ "شراكة العرب والأكراد" الى دستور العام 1970 الذي اعترف بأن الشعب العراقي مؤلف من قوميتين رئيستين هما العرب والأكراد والذي أعقب اتفاقية 11 آذار حول الحكم الذاتي التي سن على أساسها قانون بالاسم ذاته 1974، لكن الحرب وعمليات الابادة تركت ذكريات مأسوية ومؤلمة، بما فيها قصف حلبجة بالسلاح الكيميائي وعملية الأنفال التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المواطنين الأكراد، ولم يكن ذلك في معزل عن مداخلات خارجية وصولاً لوقوع العراق تحت الاحتلال في العام 2003.
وإذا كان الدستور العراقي النافذ (2005) قد أقرّ مبدأ الاتحاد الفيديرالي، وكان قبله برلمان كردستان قد اتّخذ مثل هذا القرار من طرف واحد العام 1992، فإن استمرار حال الاحتدام وعدم الثقة وبقاء الكثير من المشاكل عالقة، في ظل ضعف هيبة الدولة وعدم استكمال قيام المؤسسات الاتحادية (الفيديرالية)، سيعاظم من نزعات التباعد بدلاً من التقارب، ولعل ذلك سيكون عنصر تشجيع، إذا سمحت به الظروف وإذا أصبح العيش المشترك مستحيلاً، عبر تضخيم الذات أو محاولة فرض حلول من طرف واحد، أو الشعور بضرورة الاستقلال كيانياً بما يحقق الطموح المشروع في إطار حق تقرير المصير.
وهنا ما ينبّه اليه جهاد الزين حول الانفصال تحت الطاولة، بما يضرّ بسمعة الثقافة الفيديرالية، والأمر الذي بحاجة الى التذكير هو أن نظاماً فيديرالياً قائماً على اقتناع القوى الفاعلة في المشهد السياسي ومن خلال إبراز وتعزيز الهوية الثقافية الفرعية وليس طمسها، مع الحفاظ على التفاعل والتعاشق مع الهوية العامة، سيكون أساساً سليماً للوحدة الجاذبة الطوعية، الاختيارية، طبقاً لمبدأ حق تقريرالمصير، وعلى العكس من ذلك، فإن أية وحدة لن تدوم ما دام الفريق المضطهد تاريخياً يعتقد بانعدام المساواة وبالحيف والغبن، فضلاً عن الرغبة في التمكّن من التعبير عن حقوق أصيلة لا تتعارض مع القوانين الدولية، عندها سيكون الأمر الواقع واقعاً.
ليس بالقراءة الايديولوجية أو التشبث بالوحدة مهما كان الثمن ولو على حساب البشر، أو نبذ الانفصال حماية لكيانيات الدول، بل بالحريات والاعتراف بالحقوق الانسانية والتعددية والتنوّع الثقافي، وبالمساواة والمواطنة الكاملة، القائمة على العدل، وهذا هو أحد أهم دروس الزلزال السوداني.
(أكاديمي وباحث عراقي)