النهار - الوجود المسيحي في الشرق ليس طارئاً ولا عابراً
الوجود المسيحي في الشرق
ليس طارئاً ولا عابراً
سمعنا، ونسمع كثيراً عن الحوار الإسلامي المسيحي، وقرأنا ونقرأ كثيراً لكتّاب وباحثين أشبعوا العنوان شروحاً وتفصيلات دعت وتدعو بكل تعابيرها وجملها وكلماتها المنمقة إلى ضرورة قيام مثل هذا الحوار، على اعتبار أنه واجب وضرورة إنسانية ينبغي ان تتوافر لهما كل عوامل النجاح وعناصره. ولكن رغم كل المحاولات نجد وبكل أسف، أن الجميع يدورون في حلقة مفرغة وغير قادرين على اختراقها لأسباب مختلفة، إما لأنهم غير جديين في ما يطرحونه أو في ما يفكرون به ويسعون أليه وإما لأنهم لا يريدون للأمور أن تصل الى خواتيمها ويسعدهم الاستمرار في الجدليات العقيمة، التي غالباً ما نجد لها ارتباطات وأهدافاً غير معلنة وتبطينات لها أبعاد ومرامي غير تلك التي يتوخاها أو يتمنى أن تتحقق أولئك الذين يحملون فكراً تواصلياً ويتمتعون بشيء من الانفتاح على الآخر من خلال التحاور والحوار، وبشيء من الاندفاع والصدق والرغبة الأكيدة في الوصول الى نتائج تفضي الى بلوغ الغاية المرجوة من الحوار، فلا يبقى هذا الحوار المطلوب والضرورة لا سيما في مثل هذه الظروف في نطاق التسلية واستعراض الأفكار فقط، إن أحد أهم خصائص الإسلام تكمن في حرصه الشديد على سلامة العلاقات الإنسانية بين الإنسان ونفسه وبين الإنسان وغيره، فالإنسان الذي يحسن التعامل مع نفسه مادياً ومعنوياً وروحياً وجسدياً هو كذلك مع الآخرين، أما الإنسان المسيء لنفسه، فلا يمكنه ابداً أن يكون محسناً إلى غيره.
من هنا، وجب على كل إنسان أن يحاسب نفسه، فالإنسان مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى عن نفسه وعن غيره، بإحسانه وبإساءته، ولأجل القيام بهذه المسؤولية والانطلاق بها وتأديتها لا بد من وجود أساس (إنّما المؤمنون إخوة)، فالإيمان أقوى من روابط الدم واللون واللغة كما أن ولاية الله لا تنال إلا بالطاعة، فرسول الله (ص) يخاطب بني عبد المطلب فيقول: "ائتوني بأعمالك لا بأحسابكم وأنسابكم".
من هنا، ننطلق لنقول، إن الجهود من اجل الحوار يجب أن تتجاوز كل العراقيل السياسية وغير السياسية، وكما يجب أن تُزال كل الحواجز وكل المعوقات من أمام أي حركة أو أي حالة حوارية والدفع بها بمفاهيم إيمانية وإنسانية وأخلاقية وليس بمفاهيم وأبعاد أخرى من شأنها إبقاء أبواب الانفتاح والقبول بالآخر موصدة، الأمر الذي يهيئ لنشوء مناخات غير صالحة وبيئة غير مؤاتية لقيام حوار يتسم بالجدية والرغبة الصادقة.
فالحوار لا يعني أن يصبح المسيحي مسلماً ولا المسلم مسيحياً، الأمر ليس كذلك على الإطلاق، بل هو ان نكون مؤمنين، لأن المؤمن الذي فهم او يفهم إيمانه بمعناه الشامل والعميق فهماً مصيباً صحيحاً، لا يمكن إلا أن يكون منفتحاً على الآخر ومتقبلاً للآخر ومتعاوناً معه لما فيه خير البشرية بأسرها. لا يتحقق الخير بالانكماش على الذات، أو بالحذر ونبذ الآخرين، بل بالحوار وبالانفتاح لأن البديل من التفاهم والاحترام المتبادلين بين الشعوب والطوائف هو الحرب أما السلام فهو القادر وحده على ضمان عيش كريم للجميع في ظل نظام اجتماعي يجهد في التخفيف من الظلم الاجتماعي وتحقيق الأمن والطمأنينة للجميع. الله واحد وكلنا عياله وأكرمنا عنده تبارك وتعالى أنفعنا لعياله.
من هنا وجوب التأكيد أن الحوار الإسلامي - المسيحي هو السبيل الوحيد لإنقاذ مجتمعاتنا والنأي بها عن الأخطار المحدقة وعن كل ما يجري من حركات غريبة وأفكار هدامة تستبيح كل شيء، متسترة بألقاب وعناوين مختلفة لا علاقة لها بإسلام أو بمسيحية.
اما العصبية آفة قاتلة، ومؤداها هو الدمار والخراب، فالله واحد يسبّح له ما في السماوات والارض (له ملك السماوات والارض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير)، (هو الذي ينزل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات الى النور وان الله بكم لرؤوف رحيم)، (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله اجر كريم). اما كيف يكون هذا القرض الحسن؟ نعم يكون بالاعمال الصالحات، بالاحسان الى عباد الله، بالتسامح، بالمودة، بكظم الغيظ، بتقبل الآخر والانفتاح عليه، بخلق العلاقات الانسانية بين الناس وتمتين الروابط الآدمية، ولكن دائماً في نطاق الايمان بالله الواحد الاحد الذي خلق العالم وكل ما فيه، وحده القدوس، ونحن عباده. ان واجبات البشرية بأسرها ان تكون وفية وامينة وعاملة بهذه الروح. وما علينا الا ان نكون اوفياء وامناء ومن العاملين بهذه الروح الانفتاحية والتسامحية الحوارية، لان الاسلام يدعو الى ذلك وتعاليم القرآن تؤكد على احترام التعدد لقوله تعالى (ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير).
هذه الآيات تتكلم عن التعدد الديني والتعدد العرفي (الألسن والألوان) بشكل واضح، كذلك نجد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو الى هذا المعنى (وان جادلوك فقل الله اعلم بما تعملون) وتنبه الى القول الحسن عند مخاطبة الآخرين (وقولوا للناس حسناً) (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم).
يبين امير المؤمنين علي (ع) في رسالة الى مالك الاشتر والي مصر كيف يجب ان يعامل الجماعات المختلفة في الدولة، "فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحل لك... واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم... فإنهم صنفان اما اخ لك في الدين واما نظير لك في الخلق".
من هذا المبدأ يجب ان ننطلق بالحوار، وعلى هذه القواعد يجب ان نؤسس ونبني لكي يكون للحوار الاسلامي - المسيحي معناه ومؤاده ، فلا يبقى في دائرة التجاذبات والصراعات، وكي يقطع الطريق على كل من يحاول العمل على اثارة الفتن وتحريك العصبيات وتوظيفها لتكون في خدمة مصالحه، خصوصاً في بلدنا هذا الذي كان ولا يزال وسيبقى بلد التعايش والانفتاح والتعددية رغم كل ما اصابه ولحق بصيغته من اهتزازات وبشعبه من مآس حاولوا إلباسها في كثير من الحالات لبوس الصراع الطائفي والمذهبي، فلبنان لا يستمر ولا يمكن ان يكون وطناً مستقراً لاي فئة من اللبنانيين، اذا لم ترسخ صيغته وتعزز نموذجيته، ويكون فيه العيش المسيحي - الاسلامي حالة ثابتة وراسخة لا تمسك ولا تهزّ، ولا يجوز لاي فريق من الافرقاء التلاعب بها او التشويش عليها، فهي من اولى الاولويات وثابتة من دونها تسقط كل الثوابت ومصدر متقدم في اساس وجود هذا البلد، فمن دون وجود مسيحي في لبنان يعني ان لبنان غير موجود، كذلك الحال بالنسبة الى الوجود المسيحي في الشرق، فهذا الوجود ليس طارئاً ولا عابراً، بل هو مصدر غنى لمنطقتنا، ويجب ان يفعّل ويحافظ عليه، ويواجه بكل شدة كل من يحاول تقويضه او زعزعته، فصراع الاديان غير موجود، ولا مكان له في الرسالات، انما هو صراع السياسات التي تحاول الافساد في البر والبحر والسماء (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليُذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون).
الشيخ أحمد قبلان
( المفتي الجعفري الممتاز)