د. دندشلي - تاريخ حزب البعث - الدكتـور علـي جابـر(4)
المقابلة الرابعة مع
الدكتـور علـي جابـر
بتاريخ 13 آذار 1987
الموضوع: تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي وتطوُّره
من خلال التجربة الشخصية…
أجرى المقابلة والتحرير: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … في هذه المقابلة وهي الرابعة على التوالي، أودّ، لو سمحت د. علي (جابر)، أن نتابع حديثنا السابق حول تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي وتطوِّره في مراحله المختلفة. في هذه الجلسة، لنتحدث عن مرحلة مهمة جداً، وفيما أتصوَّر لم يُكتب عنها بعدُ الشيء الكثير حتى الآن، وهي التي نسميها "مرحلة الانفصال"، وهي المرحلة التي انفصلت فيها سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، ما هو وضع حزب البعث في تلك الفترة ومنذ البدايات الأولى وما هو موقفه سواءٌ على صعيد القطر السوري أو على صعيد الوطن العربي ككل، ومروراً بمرحلة الانفصال، ومن ثمَّ سنتحدَّث عن ظروف انعقاد المؤتمر القومي الخامس عام 1962..
الدكتور علي جابر: … لأتحدث بادئ ذي بَدء عن مرحلة ما قبل الانفصال. ما قبل الانفصال وفي بداية العام 1961، أقام حزب البعث العربي الاشتراكي مهرجاناً خطابياً في سينما سلوى في بيروت في ذكرى الوَحدة السورية ـ المصرية وإنشاء الجمهورية العربية المتحدة. وكنت أنا من جملة الخطباء في هذا المهرجان. وكان يتميَّز هذا المهرجان بطابع الهجومي الموضوعي تجاه نظام الوحدة القائمة في ظل الجمهورية العربية المتحدة. وذلك بعد أن بلغ التوتُّر بين قادة الحزب السابقين: ميشال عفلق وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار، مع قيادة الجمهورية والرئيس عبد الناصر، بعد أن بلغ التوتُّر حاداً عالياً، وخصوصاً عقب مجيىء الأستاذ ميشال عفلق إلى بيروت متخفياً عن طريق الساحل ومتسلِّلاً مروراً بطرابلس. وبعد أن أقام عندي في منزلي مدة أسبوع، بعيداً عن الأنظار ودون أن يعلم بوجوده أحد، في هذا الجو عُقد المهرجان الخطابي.
وأذكر أنني كنت قاسياً في نقدي لنظام الجمهورية العربية المتحدة، نقدي طبعاً للنظام مع تكريس الوَحدة بين القطرَيْن والمحافظة عليها. ذلك أن نقدنا للنظام السياسي لا يطال الوَحدة القائمة وليس له علاقة بالمسِّ بها. فقد كان ثمة تميُّزٌ بين نظام الحكم المطبَّق في الجمهورية والمطالبة بتطويره وبين الوَحدة ومن أجل استمراريتها. هذا هو فحوى خطابي في هذا المهرجان.
وأذكر أيضاً أنني كنت قد طرحت في هذا الخطاب على الرئيس عبد الناصر أو بالأحرى على قيادة الجمهورية العربية المتحدة موضوعَيْن كبيرَيْن من قبيل المقياس: الموضوع الفلسطيني والموضوع الجزائري. بمعنى أنه: ما هي فاعلية الجمهورية العربية المتحدة في تحرير فلسطين وفي نجاح الثورة الجزائرية؟… هذان الموضوعان هما المقياس والمعيار. وأذكر أنني حكمت على نظام الجمهورية العربية المتحدة أنه نظام متجمِّد وقد تجمَّد بالفعل، بمعنى أنه لم يعد يحمل في مضمونه وفي طياته زخم الثورية، هذا الزُّخم القومي الثوري الذي انعقدت الوَحدة في جوِّه. نحن نعلم أن الوَحدة بين سوريا ومصر أتت نتيجة لقاءات نضالية بين القيادة الوطنية وعلى رأسها قيادة البعث في سوريا وبين قيادة الرئيس عبد الناصر. فكان هذا اللقاء لقاءً نضالياً، نعتبره نحن قد تمَّ بمبادرة من سوريا. ذلك أن سوريا إنما هي التي كانت القطر المبادر بهدف (تحقيق أمنية قومية في الوَحدة، وبالنتيجة) تطوير الرأي العام المصري وتَسْييسه وأن تفعل تجربة سوريا القومية الوَحدية النضالية، فعلها في الشعب وفي الرأي العام المصري، حتى تصبح بعدئذ الجمهورية العربية المتحدة بيدها المبادرة لكسب أقطار أخرى إلى جانبها.
فكما أن سوريا هي التي أخذت المبادرة في جذب مصر إلى الوَحدة، فقد كان من المفروض من قِبَل الجمهورية العربية المتحدة أن تأخذ هي المبادرة لجذب العراق وغير العراق للانضمام إليها. (بمعنى أن تكن الجمهورية العربية المتحدة نواة جاذبة، لا نابذة أو منفرِّة). ولكنه للأسف فقد تبيَّن منذ الأيام والأشهر الأولى أن النظام يسير نحو الجمود (والدخول في مناوشات أو حتى صراعات داخلية مربكة وجانبية، تثير الشكوك والحذر من قِبَل حلفاء وأصدقاء الأمس وفي المقدمة مع البعثيين…).
س: … هنا، وفي هذا المجال، أريد أن أطرح سؤالاً: في رأيك الآن ومع البعد الزمني، أَلَمْ يكن حزب البعث بشكل عام، وقيادته القومية، الأستاذ ميشال عفلق والأستاذ أكرم الحوراني والأستاذ صلاح الدين البيطار بشكل خاص، أَلَمْ يكونوا جميعاً على شىء كبير جداً من التفاؤل، هذا إذا لم نقل على شىء كبير من السذاجة السياسية، هل كانوا يتصوَّرون فعلاً أن طروحاتهم النظرية قد كانت قابلة للتطبيق عن طريق الرئيس عبد الناصر والتحالف معه بقضِّه وقضيضه ونظام حكمه القائم في ذلك الحين؟..
ج: … أنا وُجهة نظري، مع احترامي لرأيك، لا أوافق على أن وُجهة نظرهم (بالتحالف مع عبد الناصر حينذاك) كانت ساذجة (من الوجهة السياسية والقومية). لا!!.. لقد كانت وُجهة نظرهم قابلة للتحقيق العملي، ولكن تنقصها الجرأة والحسم والديناميكية (والجهاز الحزبي القوي المتماسك). بمعنى أن المشروع الاتحادي الذي قدَّمه حزب البعث عن طريق وزير الخارجية صلاح الدين البيطار يومئذ، إنما هو مشروع عملي لبناء وَحدة اتحادية قابلة للحياة وللاستمرار. (ولكن، ألَمْ يكن أيضاً من السذاجة السياسية وعدم المعرفة الحقيقية، من جهة بمفهوم عبد الناصر للحكم وللسلطة، ومن جهة أخرى بطبيعة نظام الحكم المطبَّق منذ نحو ثماني سنوات في مصر، وهو نظام حكم عسكري نتيجة حركة الضباط الأحرار عام 1952؟!…). لقد كان المفروض أن يقف قادة حزب البعث بحزم عند هذا المشروع وأن يصرّوا على بحثه ومناقشته وتطبيقه وأن يستوحوا الكثير الكثير من بنوده. والمؤسف أن الأستاذ البيطار طوى المشروع في جيبه ولم يعرضه، وذلك أمام هيبة عبد الناصر السياسية والجو الجماهيري والتيار الشعبي العام تأييداً للوحدة ودعماً لها. هذا الموقف لقادة البعث، لا نقول عنه إنه "سذاجة"، بل الأصح أن نقول إنه لم يكن هناك جرأة كافية وموقف حاسم أو مواجه…
س: … لا!!…. أريد أن أوضِّح رأيي، لقد قلت: هذا الموقف فيه شىء من التفاؤل، هذا إذا لم نقل إنه موقف فيه شىء من السذاجة. ما أريد أن أقوله في هذا السياق إن نظام عبد الناصر وشخصية عبد الناصر ومفهوم عبد الناصر للسلطة السياسية وللوحدة مع سوريا، هل كان يمكنه أن يقبل بالطروحات الوَحدوية ـ الاتحادية، تلك التي طرحها أو يمكن أن يطرحها حزب البعث وقادته؟!.. بمعنى آخر، كذلك، هل قامت قيادة حزب البعث بتقويم موضوعي علمي واقعي حقيقي لشخصية عبد الناصر السياسية ولنظام حكمه في مصر؟!…
ج: … صحيح، من هذا الجانب، لم يحدث القيام بالدراسات الكافية. إنما كان الموقف مبنياً على تفـاؤل نضالـي مـن الممكن أن ينجح في استمرار الوَحـدة بين القطرَيْن في ظل الرئيس عبد الناصر وتحت قيادته، وأن ينتج عن هذه الوَحدة طريقٌ نضالية جاذبة لأقطار عربية أخرى. يعني، بكلمة واحدة، كانت قفزة وَحدوية نوعية. وذلك، كما لم يكن لأحد أن يتصوَّر القطر السوري البعيد عن القطر المصري أن يحصل بينهما تحقيق الوَحدة، فلماذا لا نتفاءل كذلك أن تُنتج هذه الوَحدة وأن تُثمر بانضمام أقطار أخرى إليها؟… فهي لمجرَّد أنها تحقَّقت كمعجزة، فمن الواجب أن تُثمر. وإن شخصية الرئيس عبد الناصر إنما هي قابلة لأن تجعل هذه الوَحدة بين القطرَيْن أن تثمر، نظراً لكونه قائداً مخلصاً. بيد أن قادة حزب البعث لم يعرفوا كيف يخاطبوا عبد الناصر بالاعتماد على أسلوب مقنع له.
س: … مثلاً، كيف يمكنهم في تلك الظروف القومية الوَحدوية "العاصفة"، أن يتوجهوا بخطابهم إليه؟… إنهم كانوا قد وضعوا أنفسهم ومصيرهـم دفعـة واحدة بين يديـه، وطلبوا منه أن يكونوا هم وحزب البعث "جنوداً" تحت قيادتـه!!..
ج: … لا، لا، رغم عدم وجود دراسات دقيقة لقيادة عبد الناصر وطبيعة شخصيته ونوعيتها، إنما ما زلت أقول إن تجربة أساتذة حزب البعث وقادته في سوريا، هذه التجربة النضالية، بنظري أنا، أغنى من تجربة عبد الناصر، إنها تجربة أكثر غنىً نظرياً وفكرياً وممارسة سياسية عملية، لأنها تجربة قائمة على سنوات طويلة من النضال السياسي والقومي، من سوريا إلى العراق إلى مختلف الأقطار الأخرى، وهذا النضال الطويل ضد أعداء الشعب وضد الأنظمة الفاسدة وضد السياسيات والأحلاف الغربية قاطبة. عبد الناصر تجاههم إنما هو يأتي من هذه الزاوية ـ من زاوية التجربة النضالية ـ يأتي متخلفاً عنهم. إن تجربة عبد الناصر (السياسية وبخاصة القومية والوَحدوية العربية) هي تجربة حديثة العهد، تجربة رجل عسكري (جاء من الوسط والبيئة والمفاهيم العسكرية).
تحضرني في هذه المناسبة فكرة طُرحت عام 1954، كيف طُرحت أو كيف كُتب فيها نظرياً، لم أعد أذكر، مفادها: حبَّذا لو عبد الناصر، بعدما انفصل الجيش عن السياسة وبعد أن قضى على النظام الملكي والإقطاع، حبَّذا بعد هذه الخطوات الكبيرة التي تحقَّقت، أن يُنشىء حزباً سياسياً معارضاً وأن يعيش بين صفوف الناس والأوساط الشعبية حتى يصل بالتجربة النضالية والديمقراطية إلى الحكم ويستلم السلطة السياسية. إنني أذكر أن مثل هذه الأفكار كانت قد طُرحت. طبعاً، لقد كانت هذه الأفكار مجرد أفكار خيالية. ولكن ذلك يُدلِّل على أن البكباشي عبد الناصر وهو على رأس السلطة يحتاج إلى تجربة سياسية، يحتاج إلى تجربة نضالية مع الشعب ولترسيخ مفهوم الديمقراطية في الحكم، (لم يكن قبل ذلك يتمتع بها إطلاقاً).
إن قادة البعث من هذه الزاوية، وهذا صحيح، كانوا قد بدأوا النضال العربي الحديث انطلاقاً جديداً نوعاً ما ومن مفهوم وفكر عصري، قائم على أيديولوجية متكاملة عصرية أيضاً، مع بِنية تنظيمية ورؤية عربية شاملة، ومع تمسك بالإرادة الشعبية التي هي توصل إلى استلام الحكم. فهذه التجارب النضالية، النظرية والعملية، لم يخضها الرئيس جمال عبد الناصر ولم يعشها، (بل كانت له نظرة خاصة فوقية، أي من فوق إلى تحت، من علٍ إلى الشعب ومن ثمَّ إلى قيادة الشعب، كما لو أنه يقود كتيبة أو فرقة عسكرية).
أما قيادات البعث، على العكس من ذلك، فقد قاموا على أساس تأسيس حركة حزبية، هدفها أن تحلَّ محل الأحزاب اليمينية المكوَّنة من الإقطاع والبرجوازية الاحتكارية وأصحاب المصالح الكبرى في الداخل وفي الخارج. في حين أن عبد الناصر، (بحكم تكوينه العسكري والفكري) كان قد اتخذ موقفاً سلبياً منذ البداية ضد أيِّ تكتل حزبي وضد أيِّ شىء اسمه حزب، وذلك كردِّ فعل على فساد الأحزاب في مصر قبل قيام ثورة يوليو 1952. لقد كان من المفروض أن يميِّز بين فشل الأحزاب التقليدية المساومة وبين مبدأ التنظيم الشعبي السليم.
س: … ولكن مبدأ وجود الأحزاب السياسية من أيِّ لون كانـت، إنما يتناقض منذ البداية مع نشأة عبد الناصر الشخصية وجذوره الفكرية التكوينية العسكريـة، والبيئـة التي تربى فيها إنما هي بيئة عسكرية…
ج: … (مقاطعاً) هذا صحيح، ولكنه ليس عبد الناصر بضابط عاديّ، أو كأي قائد عسكريّ. التجربة العسكرية هي أيضاً تجربة وطنية نضالية، ولا سيما تجربته في معركة فلسطين ومعاناته ونضاله السرّي ضمن حركة الضباط الأحرار، وهذا نوع متقدم من النضال، وهو ضابط من نوع متقدم ومتطوِّر وطليعي أيضاً (بالنسبة إلى جميع ما عداه). فمن المفروض وليس من المستغرب منه أو مناقض لتصوره السياسي أن يُقرَّ مبدأ التنظيم الشعبي الذي يجب أن تُبنى عليه الحياة السياسية…. هذه الأشياء ـ للأسف الشديدة ـ كانت قد فاتته، وإنما أراد أن يقيم التنظيمات الشعبية منذ البداية بالشكل الذي نعرفه: حركة التحرير، اتحاد قومي، اتحاد اشتراكي، إلخ… وهذا ما أدّى إلى وجود فراغ وترك الساحة خالية، (مما جعل القوى المعادية أن تتحرك بسهولة في بلد تاريخ شعبه مختلف عن تاريخ الشعب المصري).
س: … هنا، أعود إلى طرح سؤالي لأقول: إنه وبعد مضي فترة زمنية طويلة، ونحن الآن في سنة 1987، أي بعد مضي نحو ثلاثين سنة على التجربة، تجربة الوَحدة التي قامت في العام 1958، ونحن نذكر ونتذكر، وكأنه البارحة، الجو العاطفي العام السائد آنذاك في المنطقة العربية ككل، من أقصاها إلى أقصاها والحماس الجماهيري يهتف من أجل هذه الوَحدة المأمولة والوَحدة العربية عموماً والتفافاً حول قيادة الرئيس عبد الناصر، هذا الجو من الحماس الشعبي والجيشان العاطفي والتأييد المطلق لعبد الناصر، كان قد حجب عن القيادات السياسية أكاد أقول قاطبة، حتى عن الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي، على الرُّغم من تجربتهم السياسية العالمية، الرؤية والتقييم الصحيح لشخصية عبد الناصر ونظامه السياسي، التقييم الحقيقي والعلني، من الجانب الديمقراطي لطبيعة حكمه في مصر، إلخ… ولكن، فقد ظهر وبعد مضي فترة زمنية أن عبد الناصر لا يحبِّذ المشاركة معه في الحكم، انطلاقاً من زملائه ورفاق دربه في السلاح وفي حركة الضباط الأحرار، لا يحبِّذ أصلاً فكرة مشاركة الحكم معه مشاركة حقيقية، وتوزيع صلاحيات السلطة السياسية ديمقراطياً بين قوى شريكة معه وحليفة متعدِّدة، كل ذلك، فيما يبدو لاحقاً، بعيدٌ عن ذهنه ويتنافى مع نظرته إلى السلطة وإلى الحكم معاً. وهذا موضوع جدير بالدراسة والتحقيق والتعمُّق فيه، حتى زملاؤه المقربون له والمشاركون معه في حركة الضباط الأحرار وفي مجلس قيادة الثورة، قد اختلف معهم منذ البداية، ولم يبق معه من زملائه الأقربين سوى الذين رضوْا أن يكونوا فقط في المرتبة الثانية أو مجرد مستشارين مخلصين له. فمن باب أولى، في كل الحالات، أن لا يتعاون أو يثق أو أن يشاركه في الحكم وفي السلطة السياسية قوى حزبية تخيف عبد الناصر وتثير في ذهنه الحذر والشك والقلق، مثيل حزب البعث العربي الاشتراكي وانتشاره الواسع المنظَّم وامتداداته في أنحاء الوطن العربي بمجمله.
ج: …هنا أيضاً، وكما أَلْمحت، فإن مسؤولية قادة حزب البعث إنما هي مسؤولية تاريخية، ذلك أن موقفهم ـ أثناء الوَحدة والتحضير لها ـ لم يترافق بالجرأة الكافية والتصلُّب بالموقف… (بل انساقوا بالتيار الجماهيري الوَحدوي، المدني والعسكري، الذي هم أنفسهم كانوا قد أطلقوه). لذلك فإنهم يتحملون مسؤولية ذاتية داخلية تاريخية، ولو أدّى هذا الموقف الحازم إلى قيام الوَحدة بين القطرَيْن دون مشاركتهم في قيامها، وإنما أن يباركوا هذه الوَحدة من غير أن يشاركوا فيها، لأن مشروعهم لم تتح له الفرصة كي يُدرس ولم يطبَّق منه أيَّ بند من بنوده. بمعنى آخر، دون البعثيين، قد تكون الوَحدة ناقصة وغير كاملة (أو غير مكتملة وغير حقيقية من غير وجود العنصر الوَحدوي الفاعل والمؤثر فيها)، هذا قصور من جهة وعدم جرأة من جهة أخرى.
ولننتقل إلى المهرجان الذي أقيم في مناسبة قيام الوَحدة، وهو الذي ألمحتُ إليه، وأعتقد أن الأيام كانت قد أثبتت أنني كنت على صواب وعلى حق في طرحي الموضوع على هذا الشكل: أن نظام الوَحدة السورية ـ المصرية فَقَد جاذبيته وفَقَد هُويته كنظام وَحدوي ثوري، قد كان من المفروض أن يأخذ المبادرة لجذب أقطار عربية أخرى، لم يعرف أو يحسن سياسياً كيف يجذبها إلى الانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة. لقد حاول أن يكسب العراق إلى الوَحدة، بيد أن الأسلوب الذي اتبعه وسار عليه في سياسته الوَحدوية (هو وحلفاؤه الوحدويون في العراق، بعثيون وغير بعثيين) كان أسلوباً خاطئاً وهو أسلوب انقلابي عسكري (يقصد حركة الشوّاف الانقلابية الفاشلة في الموصل عام 1959).
أذكر أيضاً أن عقب هذا المهرجان حيث كانت كلمتي فيه قوية وقاسية الانتقاد، أتاني تهديد بخطف ابنتي، إذا كنت سوف أستمر في هذا الموقف. وقد تبيَّن فيما بعد أن أحد قادة الميليشيات في تلك الأيام هو الذي كان وراء هذا التهديد، وهو أبو شاكر، إبراهيم قليلات… وعى أثر هذا المهرجان، وبعد أشهر عديدة حصل الانفصال. وأحدث هذا الانفصال بالشكل الذي تمَّ فيه، صدمة عنيفة وقوية جداً….
س: … (مقاطعاً) إذا سمحت لي، د. علي (جابر)، وقبل أن نصل ونتحدث في هذا الموضوع، إن شعارات حزب البعث التي رُفعت في خضمِّ المواجهة مع عبد الناصر، كانت قد تركّزت حول موضوعَيْن، كما ورد في خطابك في مهرجان سينما سلوى في بيروت: فلسطين والجزائر، ألم يكن في طروحات حزب البعث في تلك الفترة جانب من الإحراج، وقصد الإحراج النقدي الاتهامي لشخص عبد الناصر ولسياسته العربية، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية؟!… ذلك أنه في ما يتعلق بقضية الثورة الجزائرية، فإن عبد الناصر كان قد قام بواجبه ـ وهذا معروف ـ في هذا الشأن، وأدّى الدور المطلوب منه القيام به وأكثر، كقيادة وكنظام وكثورة. أما من ناحية القضية الفلسطينية، فمن وجهة نظرك أَلَمْ تأخذ في تلك الفترة وفيما بعد، خاصة، ولأتوسَّع هنا بعض الشىء ـ من جهة الأستاذ أكرم الحوراني، أَلَمْ تأخذ منحى الإحراج النقدي الاتهامي لشخص عبد الناصر ونظامه وسياسته العربية؟!…
ج: … إن ما نقصده من القيام بالواجبات النضالية للجمهورية العربيـة المتحدة، الواجبـات القومية تجاه فلسطين والجزائر، إن ما نقصده من وراء ذلك، إنما هو شىء آخر، هو نابع من افتراضنا لهُوية الجمهورية العربية المتحدة الثورية. إننا كنا نفترض أن هُوية النظام السياسي لهذه الجمهورية الناشئة هي هُوية ثورية. والهُوية الثورية لا تعتمد، بل ويجب أن لا تنتظر الآخرين كي يدعوها إلى إثارة هذه القضايا، إنما هي التي يجب أن تُخطِّط وتُبدع الأساليب النضالية من أجل التحرير. تصوَّر أنه لو لم يكن هناك ثورة جزائرية قائمة، ربما أن لا تكون الجمهورية العربية المتحدة قد فكرت بخلق أساليب ثورية لتحرير الجزائر. (هذا الرأي يحتاج إلى مناقشة، ذلك أن الجمهورية المصرية قد أيدت الثورة الجزائرية منذ قيامها وفي بداياتها الأولى عام 1954، والثورة المصرية بقياد عبد الناصر، فتيَّة، حديثة العهد، ولم تتخلص بعد من تجاوز مشاكلها الداخلية، بل وحتى الخارجية…).
لقد كانت الثورة الجزائرية قائمة، فوجدت الجمهورية العربية المتحدة من واجبها أن تساعدها سرّاً (؟؟!). إنما قضية فلسطين هي أقرب من الجزائر من حيث الجغرافيا، وهي بين مصر وسوريا، والأهداف التحريرية هي أهداف معلنة. والقضية الفلسطينية متأجِّجة باستمرار. في تلك الفترة، في الخمسينات وبخاصة بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة ـ نحن نقصد هذه الفترة بالذات ـ لم نلمس أيَّ مخطَّط ثوري لتشكيل فِرَق فدائية تعمل في الداخل من أجل التحرير، من أجل اليوم الموعود، يوم التحرير الكبير. فهذا الموقف إنما هو من واجبـات الجمهوريـة العربية المتحدة القائمة على أطراف فلسطين وحدودها الشرقية والشمالية، إقليم شمالي وإقليم جنوبي، وفلسطين في الوسط. وشعب الأردن وهو يتأثر بالجو العام العربي، أصبح وكأنه شبه إقليم ثالث. فغدت إسرائيل واقعة ضمن كماشة أو كسَّارة الجوز. فلم نلمس أمام هذا الواقع العربي المستجد أيَّ تخطيط لتشكيل فِرَق فدائية، أو وضع سياسة عربية ولو نظرية من أجل التحرير… هذا يعني، بكلام آخر، أن عبد الناصر كان ينتظر حتى تقوم المقاومة الفلسطينية، حتى يتعامل معها لاحقاً. على العكس، فقد كان من الواجب أن تقوم المبادرة منه لا من غيره. وهذا الكلام أنا قلته لرفاقنا في العراق بعد أحداث لبنان عام 1958، أنه من المفروض أن الجبهة المحسوبة عليكم، جبهة التحرير العربية، أن تكون هي العامود الفقري للمقاومة الفلسطينية وأن تكون أقوى جبهات المقاومة وتشكل هي نفسها الضمانة من أجل التحرير، على اعتبار أنكم أنتم النظام الحزبي الثوري، وباقي التنظيمات الفلسطينية تستمد القوة منها، من جبهة التحرير العربية. لم يحصل ذلك، ولكن هذا هو واجبكم…
لقد كان جوابهم أن تنظيم حزب البعث في لبنان من واجباته هو أن يقوم بهذه القضايا وأن يضع هذه الرؤية الثورية. ولكنه لم يساعد على تقوية جبهة التحرير العربية أن تكون هي الأقوى، لم يسع إلى ذلك، ربما يكون قد خشيَ أن تنافسه في العمل النضالي في لبنان أو قصور نضري وثوري، لأن التنظيم الحزبي للبعث في لبنان لم يُبن على أساس ثوري، وإنما بُنيَ على أساس ديمقراطي ليبيرالي، ولم يكن هناك تقدير حقيقي لمبادئ حزب البعث، التي هي في أساسها مبادئ ثورية، لا تتحقق فقط عن طريق العمل والنضال السياسي البرلماني. إن العمل البرلماني إنما هو جزء من النضال الحزبي. أما النضال الآخر، فهو النضال الثوري الذي يتمّ من تحت الأرض، النضال السرّي. ففي أيِّ قطر عربي ومهما كان النظام ديمقراطياً، كما حصل في لبنان وسوريا حيث هناك ديمقراطية برلمانية وإن كان ضمن حدٍّ محدود، فقد كان من المفروض أن يُبنى ـ كما مهَّدنا لذلك في مقالات سابقة ـ حزب البعث على قاعدة وبِنية تحتية في الريف حتى يصمد في المواجهة، انتظاراً للمعارضات الحكومية والقسوة السلطوية والملاحقات والضرب من قِبَل الفئة الحاكمة. فقد كان من الواجب أن ينتظر حزب البعث هذه المواجهات والصراعات مع السلطات القائمة، وقد حصل الشىء الكثير من ذلك.
وأذكر أنا أنه في الأربعينات وقبل انعقاد المؤتمر التأسيسي الأول، كنا ننظم مظاهرات ونقودها من أجل إلغاء مثلاً مرسوم رقم (50) في حينه، ومواجهة وزارة صبري العسلي، وفحوى هذا المرسوم هو إنشاء حكم مخابراتي: حجز حرّيات، حرمان الشعب من حرية التعبير، مراقبة الصحف وتعطيلها، تقييد الاجتماعات العامة ومنعها، تعطيل الديمقراطية. وكان ذلك في عزِّ عهد النظام البرلماني. وقمنا بمظاهرات عديدة من أجل القضاء على هذا المرسوم وإلغائه. وفي إحدى هذه المناسبات، كنت قد اعتقلت وكنت ما أزال حينذاك طالباً في كلية الطب في الجامعة بدمشق..
كما أن نظام الجمهورية العربية المتحدة قصَّر في القيام بواجباته تجاه قضية فلسطين ولم يتعامل مع هذه القضية العربية من موقع ثوري.. وأيضاً النظام البعثي في العراق، (بعد عام 1968) مع أنه نظام حزبي، لم يقم هو بواجباته بعد ما قامت المقاومة الفلسطينية وظهرت على الساحة النضالية، لم يقم بواجباته الكاملة من جهة، وبالطريق الصحيح من جهة أخرى. يجوز أنه قدَّم أموالاً كثيرة، ولكن النظام البعثي العراقي، لم يسلك في هذا السبيل الطريق الصحيح. بل، على العكس، فقد انقلبت الأمور عليه وجاءت معاكسة له. هذا ما قصدته في خطابي في نقد نظام الجمهورية العربية المتحدة وقيادتها، وكان بالفعل في حينه نقداً قاسياً.
س: … لقـد ذكـرتَ لي أن الأستـاذ ميشال عفلـق، في تلك الفتـرة، ترك سوريا وجاء إلى لبنـان متسلِّلاً، ما هي ظروف هـذه الحادثـة؟!.. هل كان هناك فعلاً محاولة اغتياله، أم ماذا؟!…
ج: … والله، في هذه المرحلة، كنا نصدِّق كلَّ ما يقوله لنا. لقد صوَّر لنا هذه القصة على أن المشير عبد الحكيم عامر، كان قد حصل سوء تفاهم معه، وخلاف في الآراء ووجهات النظر بينهما حول بعض القضايا الأساسية، لم أعد أذكر التفاصيل، إنما انتهى الأستاذ ميشال عفلق إلى تقدير أن هناك نِيَّة لإلحاق الأذى به أو اعتقاله. وعلى هذا الأساس سمح لنفسه أن يأتي متسلِّلاً إلى لبنان. إنما تقديري أنا، وبعد مرور هذه السنوات الطوال على هذا الموضوع، أن في هذه القصة الكثير من المبالغة والتضخيم والتصوُّر الخاطىء للأشياء، وذلك حتى يبرِّر معارضته للنظام ويقدِّم برهاناً عملياً أن الحكم في الجمهورية العربية المتحدة لم يعد يُطاق وهو حكم بوليسي قائم على أجهزة المباحث والمخابرات، يقضي على أقرب الناس له، والبعثيين في مقدمتهم. تقديري الشخصي، هذا هو السبب ورؤيتي لما حدث له وما روى لنا، من هذه الزاوية. وقد استمرت أقامته في لبنان حتى بعد حدوث الانفصال وانفراط عقد الوَحدة بين سوريا ومصر…
س: … في تلك الفترة، هل اتخذ حزب البعث قراره في إعادة تنظيمه في سوريا؟!..
ج: … أجل، كان قد بدأ التفكير فعلاً قبل الانفصال بإعادة تنظيم الحزب في سوريا. ولكن بدأ تنفيذ هذا المخطَّط عملياً في بداية وقوع الانفصال وفي أيامه الأولى. غير أنه كان يسير ببطء ويتخذ طابعاً سلبياً تجاه العناصر الحزبية البعثية ذات اللون الأكثر وَحدوية، فكان التنظيم الجديد يقف منها موقفاً سلبياً ويضعها في خانة الناصرية. فقد اتصل بي عدد من العناصر البعثية من سوريا، فلم يُقبلوا في عداد التنظيم البعثي الجديد، على أساس أنهم ناصريون، مع أن جذورهم بعثية، ولم يكونوا من عناصر أجهزة المخابرات. لقد تأثر التنظيم بلوثة ضد الناصرية والعداء للناصرية في سوريا. لقد استبعدوا فقط لأن لهم موقف ووجهة نظر تجاه عبد الناصر، وهذا ليس بكفر.
ولكن، على ضوه التجربة، وخاصة في القيادة القومية لحزب البعث، كان قد بدأ الانشقاق في صفوف الحزب وتياراته، الانشقاق العامودي الحاد بين فريق متأثر بوجه نظر أكرم الحوراني، بل أكثر من ذلك بدأ بالتفكير الماركسي، وبقيَ الفريق الآخر المتأثر بالبعث القومي الأساسي وعلى رأسه ميشال عفلق. الفريق الأول كان يتكوَّن من أكثرية أعضاء البعث المتفرِّغين في القيادة القومية، ومنهم غسان شرارة، فيصل حبيب الخيزران، عبد الرحمن منيف، عبد الوهاب شميطلي ولربما غالب ياغي. وفي المقابل، أنا وخالد يشرطي وجبران مجدلاني وآخرون. (ويمكننا أن نحدِّد أكثر أن حزب البعث العربي الاشتراكي في مرحلة الانفصال، كان قد توزَّع إلى أربع كتل أساسية كبرى: (1) تيار أكرم الحوراني العريض، (2) فريق القيادة القومية وأمينها العام ميشال عفلق، (3) ما كان يُسمى فيما بعد القيادة القطرية في سوريا ـ وهي أقرب إلى وجهة نظر أكرم الحوراني السياسية، (4) فريق البعثيين الذين أطلق عليهم لاحقاً "حركة الوحدويين الاشتراكيين"). هذا، بالإضافة إلى التنظيم السرّي لـ "اللَّجنة العسكرية"، وهو تنظيم لم يكن معروفاً حينذاك واستمر بعد ذلك كذلك إلى أمد طويل، ويضم مجموعة قليلة من الضباط البعثيين ذوي الرتب المتوسطة في المقدمة: محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد وآخرون، سوف نأتي على ذكرهم في مناسبة وحديث آخر).
هذا، وفي تلك الأثناء، عندما طُرحت فكرة انعقاد المؤتمر القومي الخامس ـ في حمص، أيار 1962 ـ حصلت مشاورات عديدة بالنسبة إلى البعثيين السوريين، فلم يُتفق على صيغة معيّنة. وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً وألمحنا إلى الرأي المتشَنِّج من جهة الفريق الماركسي، أن يكون قرار المؤتمر القطري السوري هو قرار الأكثرية والتمثيل في المؤتمر القومي الخامس للأكثرية. فلم يؤخذ بهذا الرأي، لأنه معروف سلفاً أن القرير الذي سيمثل الأكثرية وسيشارك في المؤتمر القومي الخامس هو ضد الناصرية، (إذن، هذا يعني أن البعثيين في سوريا بمجملهم كانوا هم الأغلبية ضد الناصرية، وأقرب إلى وجهة نظر أكرم الحوراني، ومتأثرين) إلى حد بعيد بالخط الماركسي. (ولربما ما هو أقرب إلى الواقع أنهم متأثرون بطروحات الأحزاب الشيوعية السياسية، وبخاصة في لبنان وسوريا بالنسبة إلى الموقف من عبد الناصر، إذ إننا لا نعتقد ولا نتصوَّر أن أحداً مهم قد قرأ الماركسية أو هضمها أو تأثر حقيقة بالفكر الماركسي. ذلك أننا نعلم أن الحزب الشيوعي اللبناني، على سبيل المثال كان ناشطاً وفاعلاً ومؤثراً إعلامياً وبالتالي سياسياً وشعاراتياً ضد قيادة الرئيس عبد الناصر وسياسة الجمهورية العربية المتحدة الداخلية وبخاصة من حيث قمعها للحريات العامة وحرية الصحافة والأحزاب السياسية).
س: … إذن، هؤلاء البعثيون في سوريا أو خارج سوريا، والذين أطلقتَ أنت عليهم صفة : "التيار الماركسي"، هل كانت توجُّهاتهم السياسية وعلاقاتهم واتصالاتهم الحزبية بشكل أو بآخر مع تيار أكرم الحوراني؟!..
ج: … نعم،
س: … ولكنهم، هم، لا يسمون أنفسهم وقتذاك أنهم "ماركسيون"!!
ج: … وإن كانوا لا يسمون أنفسهم أو يصفون مجموعتهم بأنها "مجموعة ماركسية"، إلاّ أنهم كانوا متعاطفين مع هذا التيار الماركسي ومع الخط والتحليل الماركسي. هذا، مع العلم أن الفريق الآخر (يقصد فريق القيادة القومية) لم يكن معادياً للماركسية.
س: … بمعنى آخر، هل يمكننا ـ وهنا بين هلالين ـ أن نعتبر في تلك الفترة، في أواخر عهد "الوَحدة"، وفي مرحلة الانفصال، أن البعث بمختلف أجنحته الحزبية وتياراته السياسية، كان قد خضع للتأثيرات على الصعيد النظري والفكري والممارسة العملية، للتيارات الماركسية ولطروحات الأحزاب الشيوعية في المنطقة، هل يمكننا أن نقول ذلك؟!..
ج: … أجل، إلى حدٍّ بعيد!!… نعم، ذلك أن الفرع الأم لحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا، كان قد تفكَّك، وافتقد هذه التغذية الفكرية ولم يعد موجوداً هذا التواصل الفكري والثقافي مع الفروع الحزبية. وهنا، إن ما أقصده، إنما تلك التغذية الفكرية الذاتية، فهي التي انقطعت، وهذا الإنتاج الفكري الذي يحمل هُوية حزب البعث، وإنتاج الفكر البعثي المتجدِّد. في هذه الأجواء، أصبح الفرقاء البعثيون في الأقطار العربية المختلفة (في سوريا ولبنان وغيرهما) يحاولون بطبيعة الحال تطوير الفكر البعثي كل من جهته وبطريقته الخاصة، بمعنى أخذ يسعى كل فريق بعثي تطوير فكره ذاتياً ومن زاويته الخاصة (وبحسب واقعه الثقافي ووسطه الاجتماعي والسياسي وبحسب خضوعه إلى هذا الحد أو ذاك لتيارات فكرية أو فلسفية متنوعة ومختلفة، ولا سيما أنه في تلك الفترة كانت بداية نجاح الثورات وتلاحقها في العالم الثالث، انطلاقاً من الثورة الكوبية عام 1959 وبعدها الثورة الفيتنامية والثورة الثقافية الصينية، إلخ.. إلخ..).
وهنا، أشير إلى ناحية وهي أنه بعد فشل الوَحدة بين سوريا ومصر على وجه الخصوص، فقد اُتّخذ من هذا الفشل للوَحدة في مرحلة الانفصال، ذريعة لنقد الفكر القومي العربي الوحدوي الذي كان يرفع رايته حزب البعث العربي الاشتراكي، وبالمناسبة أيضاً اُتُّخذ ذريعة لإثبات فشل هذا الفكر القومي هو أيضاً (ومن هنا، جرى البحث لدى كثير من البعثيين عن بديل لهذا الفكر القومي الوحدوي أو تعديله وتطويره وتطعيمه بفكر جديد وبفلسفة أخرى، فلم يكن في الساحة سوى الفكر الماركسي أو حتى نكون أكثر دقة، طروحات الأحزاب الشيوعية وشعاراتها السياسية والاجتماعية العامة.
"ذلك أننا لا نعتقد حتى الآن وإلى أن يثبت العكس، أنه كن قد ظهر فكر بعثي قومي عروبي متجدد ومتأثر أو مستوحي الفكر الماركسي حقيقة من داخل حزب البعث العربي الاشتراكي ومن البعثييـن أنفسهم. بل ظهر هذا التأثير بالفكـر الماركسي ـ وإن كان بشكله الطفولي ـ من أفراد دخلوا إلى حزب البعث وهم في الأصل كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي. وهو ما كان قد ظهر بادياً للعيان في المؤتمر القومي السادس تشرين الأول 1963، و"الوثيقة الماركسية الطفولية" التي قدمت إلى هذا المؤتمر ونوقشت وأدخل عليها تعديلات جذرية وأساسية، وذلك بعد إعادة صياغتها من قبل الأمين العام لحزب البعث، الأستاذ ميشال عفلق).
إن اتخاذ فشل الوَحدة لإثبات فشل الفكر القومي الوحدوي، هذا غير صحيح. إن الفكر القومي البعثي شىء، وأسباب تعطيل الوَحدة وتفكيكها شىء آخر. وإن كان ليس هناك من افتراق كبير عن بعضهما البعض، ولكن هذا لا يعني (ولا يجوز أن يعني) أن المبادئ العامة التي قامت عليها حركة البعث العربي، يجب أن تُلغى. لا، بل ينبغي أن يحصل عليها تطوير وتوضيح أكثر وإغناء أكثر.
س: … في هذا السياق، لديَّ سؤال أودّ أن أطرحه حتى تتوضَّح هذه المرحلة، مرحلة توزُّع حزب البعث العربي الاشتراكي إلى تيارات عدة، السؤال: إن البعثيين الذين أشرت إليهم وهم ينتمون، كما قلت، إلى "التيار الماركسي" وإلى تيار "البعث الماركسي"، قد كانوا يُعَدّون طيلة فترة زمنية معيَّنة ويحسبون على أنهم تلاميذ الأستاذ ميشال عفلق الخلَّص والمنفِّذون لآرائه ولسياسته، سواءٌ داخل الحزب أو خارجه، فكيف تفسِّر لي هذا النَّقد العنيف، ومن ثمَّ الانفصال عن فكر البعث القومي العربي، وبالتالي عن فكر الأمين العام للحزب الأستاذ عفلق؟… وكيف تُفسِّر لي أيضاً أو تعلِّل ابتعادهم عن الأستاذ ميشال عفلق، هذا إذا لم أقل هجومهم العنيف عليه، واقترابهم من تيار الأستاذ أكرم الحوراني وتبني وُجهات نظره؟..
ج: … هذا التَّوجه العام ليس محصوراً بهؤلاء الأشخاص فقط، وإنما بنظري وعلى ضوْء تجربتي، يشمل أكثر الذين عايشوا ميشال عفلق، عايشوه في الفترة الأولى وهم متعلِّقون بشخصه وفكره ومحبين له ومريدين. غير أنه على مرِّ الزمن وكشباب ديناميكيين، هؤلاء أو سواهم، كان يحصل طلاق تدريجي بينهم وبين الأستاذ ميشال عفلق، وذلك لسببيْن: سبب جمود ميشال عفلق الفكري، إذ إنه لم يعد ينتج فكرياً. والسبب الآخر ولربما الأهم أسلوبه في العمل النضالي، هذا الأسلوب البطيىء الذي لا يتناسب مع مركزه كونه قائداً وكأمين عام ديناميكي لحزب سياسي، فهذا الأسلوب البطيىء أخذ مع الوقت يُنفِّر الشباب من حوله، فوجدوا أنفسهم بين أمرَيْن: أما أن يبقوا على "الطريقة الصوفية"، مهما نجم عن ميشال عفلق، سيبقى له بنظرهم موقع تقدير وتقديس، وهم مريدوه، ويجمدون فكرياً معه، وإما أن يتوجهوا إلى آفاق أخرى يعبِّرون عن إمكانياتهم من خلالها وتطوُّرهم فكرياً وسياسياً. فأولئك الذين ذكرتُ لك أسماءهم فيما سبق، وغيرهم ونحن أيضاً معهم، ولربما أنا شخصياً كنتُ قد صبرت أكثر من الآخرين، وكان نَفَسي طويلاً في هذا المجال، تخلّوا عنه أكاد أقول الغالبية العظمى من مريديه ومؤيديه الذين كانوا يحيطون به ولم يبق مع الأستاذ ميشال عفلق إلا ما نَدَر من الرفاق الذين رافقوه طوال المراحل السابقة….
وأفضل دليل على ذلك أن الرفاق البعثيين في العراق، (ونحن الآن عام 1987، وفي العراق عهد الرئيس صدام حسين) لا يبدو أنهم متمسكون به من زاوية حاجتهم لكفاءته السياسية وحاجتهم لإنتاجه الفكري، إنهم يتمسكون به لاعتبارات أخرى، ربما أخلاقية (أو رمزية)، وذلك لكونه الأمين العام المؤسس الأول لحزب البعث العربي. وكان قد جاهد (لاحقاً) في حياته وحافظ من خلال شخصه على مسألة "الشرعية" لحزب البعث العربي الاشتراكي. والرفاق في العراق لديهم هذا الجانب القومي التقليدي في تفكيرهم وتربيتهم الحزبية (ولواقعهم القومي العربي الخاص)، وهم بالتالي يحبون أن يحافظوا على الخصال العربية التي يعيشون فيها، (بحسب البيئة العراقية القبلية العشائرية): الوفاء، الوفاء لكل إنسان يقوم بعمل جيِّد. بالإضافة إلى أنهم يريدون أن ينسبوا إلى أنفسهم صفة "الشرعية"، "شرعية حزب البعث". إن وجود ميشال عفلق معهم، وهو المؤسس والأمين العام الدائم لحزب البعث العربي الاشتراكي، يُضفي عليهم صفة: ممثلي الشرعية الحزبية.
وفوق ذلك، يبدون أنهم أوفياء لرجل جاهد في حياته من أجل حزب البعث العربي الاشتراكي. أنه لم ينحرف عن فكره القومي طوال حياته، فأكرموه وعززوه وكأنهم ولسان حالهم يقول له: ألله يعطيك العافية ـ هذا تقييمي الشخصي وتقديري الخاص بطبيعة الحال، وأعتقد أن تقديري من هذه الناحية صحيح ـ وهو، الأستاذ ميشال عفلق، وكأنه كان قد رضيَ منذ المؤتمر القومي السابع بلقب: "القائد المؤسس"، لأن الأمين العام لحزب سياسي، كحزب البعث العربي الاشتراكي، إنما يحتاج إلى لقب من نوع آخر، (وليس إلى لقب فخري) معنوي، رمزي…
س: … إن اقتراب فريق أو تيار بعثي ماركسي من سوريا أو من لبنان إلى تيار الأستاذ أكرم الحوراني والتحاقه به ـ كما قلتَ ـ وتبني طروحاته السياسية والقومية وتعاطفه معه في فترة الانفصال، فكيف يمكن تعليله وتفسيره من وجهة نظرك الشخصية؟!..
ج: … إنني أعلِّله، في الأساس، أن أكرم الحوارني إنما هو قائد جماهيري الأكبر في حزب البعث العربي الاشتراكي. وهناك تعلق شعبي واضح بشخصه وبحركته السياسية. وفكره الاشتراكي، لا أقول أنضج أو أوضح، من حزب البعث العربي، لا، إنما من خلال شخصه (وتحركاته السياسية العملية) ظاهر هذا الفكر الاشتراكي أكثر. والدليل على ذلك أنه هو الذي أعطى لحزب البعث العربي صفة "الاشتراكي". أعطاه طبعاً التسمية فقط، في الوقت الذي بقيَ فيه دستور الحزب كما هو، لم يتغيَّر. من هذه الزاوية، فإن طابع أكرم الحوراني هو طابع اشتراكي. أما المضمون، فهو فرز شعبي أكثر وميل شعبي أوضح وأكبر. بمعنى أنه إذا كان قد وُجد حول الأستاذ أكرم الحوراني فريق يؤمن بالاشتراكية العلمية (أي يميل إلى الاشتراكية الماركسية) داخـل حزب البعـث، لا يجد (الحزب!!) في ذلـك غضاضة أن يقبل هذا الاتجاه (وأن يهضمه) وهو خط فكري بديل، وقد عمل (تيار من البعثيين) وسار في هذا المنحى فيما بعد.
وبالفعل، وكما سبق وقلنا، في تلك الفترة في أواخر الوَحدة وأثناء الانفصال، حصل اختمار تفكير ماركسي داخل حزب البعث (أو بالأصح ضمن تيارات البعث النابذة) تجلى في التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر القومي السادس (تشرين الأول 1963).
وحول المؤتمر القومي الخامس المنعقد في حمص عام 1962، نستطيع أن نقول إنه مرحلة انتقالية لحزب البعث العربي الاشتراكي لاستئناف عمله في سوريا. وهو محطة في حياة الحزب لإعادة هُويته القومية، مع أنه لم يشترك فيه (في هذا المؤتمر) البعثيون السوريين سوى ميشال عفلق. إنما كونه انعقد في سوريا وفي مدينة سورية، والموضوع الرئيسي المطروح للمناقشة في هذا المؤتمر هو: الوَحدة والانفصال وكيفية إعادة الوَحدة بين القطرَيْن والموقف من الناصرية، كل هذه الموضوعات المطروحة على المؤتمر، يجعلنا أن نقول إن انعقاد المؤتمر كان محطة انتقالية في حياة الحزب لاستئناف نضاله من جديد، نضاله الوَحدوي، ونضاله القومي، ولترسيخ طابع ميشال عفلق للحزب (وتثبيت قيادته في الأمانة العامة).
س: … هنا يبدو لي أن أسلوب الأستاذ ميشال عفلق ملفت للنظر، وهو مقدرته التكتيكيـة.…
ج: … (مقاطعاً).. لقد كانت الساحة خالية أمامه في هذا المؤتمر القومي الخامس. والمجال في تلك الظروف مفتوح له ـ أقصد بذلك أن الساحة الحزبية خالية من وجود البعثيين السوريين بشتَّى تياراتهم، وأكثريتهم مناوئة له.
س: … ولكنه هو الذي استطاع أن يجعل هذه الساحة الحزبية السورية فارغة أمامه، أي لا وجود لها ولا تأثير في المؤتمر القومي الخامس، مما فسح له المجال واسعاً أن يغيِّر موازين القوى داخل حزب البعث وبمختلف تياراته لصالح اتجاهه القومي….
ج: … صحيح، وبحكم الظروف المحيطة. ولعدم حضور التيارات البعثية السورية، بقيت فروع الحزب الأخرى هي السائدة. إذن: الساحة البعثية السورية فارغة، والساحة الحزبية الأردنية مشطوبة تقريباً، إلاّ من مؤيدي عفلق، والساحة الحزبية اللبنانية منقسمة على نفسها، ذلك أن انشقاق القيادة القطرية اللبنانية عن الحزب الأم، حصل بعد هذا المؤتمر. (في هذا المؤتمر القومي الخامس، فإن الدور البارز الذي غيّر موازين القوى فيه، هم البعثيون العراقيون الموجودون بكثرة والذين يشغل بالهم بالدرجة الأولى هو التحضير للانقلاب البعثي في العراق). ومهما يكن من شىء، فإن هذا آخر مؤتمر قومي كنت قد حضرته وانتخبت فيه عضواً في القيادة القومية. واستمريت حتى المؤتمر القومي السادس للحزب المنعقد في تشرين الأول 1963.
وأذكر أن القيادة القومية عقدت أول اجتماع لها في حمص بعد انفضاض المؤتمر. وقد ذكرت كل ذلك في سلسلة مقالاتنا المنشورة. وبعد تقييم المؤتمر وأعماله ومقرراته، استمعت القيادة القومية إلى تقرير قدمه الوفد العراقي بالنسبة إلى الوضع السياسي وعلاقاته مع القوى الأخرى في العراق (وبخاصة التحضير لعملية الانقلاب المزمع القيام به). وأذكر أن من جملة أعضاء القيادة القومية الحاضرين الدكتور منيف الرزّاز، وأنني أنا كنت الوحيد الذي أعترض على شىء من مقرّرات الوفد العراقي. الوفد العراقي قدم تقريراً ـ كما قلت ـ حول تحضيره للقيام بالانقلاب على حكم عبد الكريم قاسم، وإعطاء فكرة تفصيلية حول البنود التي ترجح النجاح. لم يكتف بذلك، بل أكمل التقرير بشرح كيفية استلام الحكم وهيئة الحكم. بمعنى أن تشكل الوزارة من سبعة عشر (17) وزيراً بعثياً، أي تقريباً، كل العناصر القيادية الأولى في الحزب. هذا يعنى أن الوزراء البعثيين هم الأكثرية الساحقة في هذه الوزارة… وأنا هنا، اعترضت: وأوضحت أنه كيف نحن نرضى أن يكون كل العناصر القيادية في الحزب في الوزارات، في الوقت الذي يكون فيه الحكم هو حكم حزبي، ومن هي القيادات التي سوف تبقى في قيادة الحزب وإدارة أوضاع الحزب وتنظيمات الحزب، إلخ… وهذا الموضوع أخذ جدالاً طويلاً.
أما الأستاذ ميشال عفلق، كعادته، فما يهمه هو الساعة التي سوف يذهب فيها إلى بغداد. (كان الأستاذ عفلق، فيما يبدو، يلحُّ على الإسراع بالقيام بالانقلاب، نظراً لتأثير ذلك على الوضع السياسي في سوريا!!). فقد انتشى بهذا التقرير، ورأى فيه وقفة عزٍّ، وقفة مجد أن يصل الحزب إلى استلام السلطة. وكان يبدو من التقرير أن هناك إمكانية كبيرة للنجاح. وهذا هو المهم بنظر الأمين العام وبعدها: "ألله بيفرجها"!!… وهذا ما حصل بالفعـل. وأنا، كعضو فـي القيادة القوميـة، بعثي لبناني، ليس ورائي قوة مادية، لا سياسية ولا عسكرية، كنت قد أبديْت رأيي على صعيد حزبي بحت. وقد حصل كما قدَّرنا: بعد نجاح هذه الحركة في 14 رمضان (8 شباط 1963) واستلام حزب البعث السلطة في العراق، وجد نفسهم الرفاق في العراق، لا شىء بين أيديهم من دراسات أو برامج للتطبيق حول الاقتصاد والتربية والتخطيط السياسي، الداخلي أو الخارجي، العربي أو الدولي، إلخ…
ففي هذه الحالة، أخذ الرفاق العراقيون، وهم في السلطة، يستنجدون بعناصر قيادية بعثية (فكرية وسياسية مثلاً جمال الأتاسي، عبد الكريم زهور، منيف الرزاز) من خارج العراق ومن جملتهم الرفيق جبران مجدلاني، كعضو في القيادة القومية وكشخص يتقن اللغات الأجنبية، وهو محامٍ وديناميكي. وقالوا له: نحن مستعدون أن نقدِّم لك كل ما تطلبه منا… وهذا ما حصل بالفعل. وكان جبران مجدلاني بشخصه يتمتَّع بـ "الهَوْبلة"، بمعنى أنه يوهم الآخرين أن لديه أشياء كثيـرة. ولكنـه في الوقـت ذاته ذكي ومطَّلع ومحترم ومخلص، إنما لا يستطيع أن يقوم بكل هذه الجهود المطلوبة، فهي تأتي من بذل جهد عناصر عديدة وليس من جهة عنصر واحد….
س: … هنا، وفي هذه المناسبة، لقد قيل لي من مصادر بعثية عدة أن الأستاذ جبران مجدلاني قد كان، فيما يبدو، على علاقة مع المخابرات، وبخاصة مع المخابرات المصرية، هل هذا "الاتهام" صحيح وله وجه حق أم أنها مجرد تخمينات أو اتهامات تطلق دائماً حزافاً في الهواء على قيادي نشيط ومتحرك وله اتصالات واسعة، وفي حالة جبران، عربية وأجنبية؟!…
ج: …على صعيد قيادي، كل الحزبيين كان لديهم هذه النظرة إلى جبران مجدلاني، وهذا هو الرأي السائد فيه. وكانوا يكتشفون فيه هذه الأشياء، بمعنى أنه كان يسعى دائماً، هو، إلى التفاهم والتعاطي مع الطرف المصري، نظراً إلى أن عنده صداقات ومعارف شخصية. ومسكوت عنه من هذه الناحية، وهي ليست خفية أو عمل يقوم به في الخفاء… وهو لا يذهب أكثر من ذلك. ولكن، عندما يريد الواحد أن يسيىء الظن، فقد كان بين الحين والآخر يحصل نوع من الشكوك ولا نعلم إلى أيِّ حد يمكن أن يصل…
وفي كل الأحوال، هكذا كانت الأمور الحزبية تسير على هذا المنوال. وهنا، وقادة حزب البعث الأساسيين في العراق في مناصب وزارية، كان قد أُسقط بيديهم. وأخذوا يحاولون أن يستعينوا بالقيادات الحزبية البعثية من هنا ومن هناك، لكي يهيئوا لهم ويضعوا البرامج السياسية والاقتصادية وخلافه، الضرورية لسير الحكم، في الوقت الذي كان من المفروض أن تكون الدراسات والبرامج محضَّرة سلفاً. فأين تكمن الخطورة في النظام البعثي في العراق؟!… إن أسباب انهيار "الحكم التاريخي" إنما هي أسباب معروفة: أولاً وقبل كل شىء، تَرْك قيادة الحزب في العراق لعناصر قيادية محدودة جداً: هاني الفكيكي ومحسن الشيخ راضي. هذان القياديان هما اللذان استلما قيادة الحزب. وبقية القيادات الحزبية قد انغمست في شؤون الحكم (المضطرب وغير المستقر)، مع أنها غير ذات تجربة (في