مقطع من كتاب عبد الناصر - دور القيادة التاريخية
ثانياً: عبدالناصر: دور القيادة التاريخية،
الملامح الفكريّة والصفات الشخصيّة
أولاً وقبل كل شيء هناك إجماع على أن عبدالناصر هو مؤسس وقائد وعقل "حركة الضباط الأحرار" في مصر. وأعيد وأكرِّر كما كَتب السادات: هو "قائدها من الألف إلى الياء". فقيادة أو زعامة بهذا الشأن، يجب أن يتوافر في صاحبها صفاتٌ أساسيةٌ أهمها: أن عبدالناصر كان بسيطاً في حياته الخاصة والعامة. هادئ الطباع، لا تظهر على وجهه علامات الانفعال أو الغضب (بسرعة)، خفيض الصوت، خجولاً، كتوماً، من الصعب جداً أن يدرك المحيطون به ماذا يفكّر وما هو حقيقة ما يُضمره في داخله؟
وهو بعيدٌ كلَّ البعدِ عن مظاهر التَّرف والجاه والعظمة، ولا يحتل المالُ أو الثراء في حياته وتفكيره أيَّ اهتمام أو ميل. خلوق إلى أبعد حدود الأخلاق، لم تستطع كل محاولات الإغراء من كلّ نوع، أن تلوِّثَه. وهذه صفة من الصفات الضرورية وشرط أساسي من شروط الزعامة الجماهيرية التاريخية الخلاّقة في مجتمعاتنا العربية ــــــ الإسلامية.
لقد كان عبدالناصر منَظِّماً ومنظَّماً ومنضبطاً في أوقاته وفي سلوكه وتفكيره، باذلاً جهدَه لتوظيف ذلك لزيادة الكفاءة وإنتاجية العمل. لماذا التنظيم؟!.. التنظيم بهدف توظيف تفكيرك وادّخاره لما هو مهم، حتى تبقى بعدها هذه الأشياء الصغيرة والعادية لا تشغلك عمَّا هو أساس. بالإضافة إلى ذلك إنه قارئ جيِّد وكثيراً، ومواظب على العمل دون كلل أو تعب، ومتوِّجاً ذلك كله بذاكرة قوية، ذاكرة "فوتوغرافية"، كما يقول طبيبه الخاص.
* * *
• وممَّا هو مشهورٌ أنّ عبـدالناصر: يتابع الأشياء في تفصيلاتها والأمور في جزئياتها وأبسطها، ويتمتّع بالاستيعاب الفطري والفهم والهضم، يعمل أكثر من 14 ساعة يومياً ( قراءة الجرائد قبل النوم)، سماع الراديو: حافظ مواعيد النشرات الاخبارية جميعها.
• كان عبدالناصر دائماً هادئاً لا تسمع له صوتاً مرتفعاً... يضبط نفسه سواءٌ مع المحيطين به أو مَن يلتقي بهم. لم يكن مثلاً كثير الانفعال أو الغضب إلاّ في حالاتٍ إذا شعر أنّ إهانة وُجِّهت إليه في كرامة وطنه وأمته وزعامته التي هي ملتصقة بكرامته الشخصية.
• لقد نفَّذ تعليمات الأطباء إلاّ أشياء، وما لم يستطع تنفيذه، هو الحركة والجهد البدني والمقابلات وكذلك التوتر النفسي. لقد كان عبدالناصر، كما يقال:" كالوتر المشدود". كان متوتِّراً في داخله دائماً، ويثير هذا التوتُّر كل مَن هو حوله. فلابد إذن من أن ينكسر هذا الرجل: لأنه لا ينثني أمام الحوادث، فلابد من أن ينكسر.
1- الصفة العسكرية:
الصفات الشخصية الأساسية لأيِّ زعيم أو قائد ثورة لها انعكاسات بالغة التأثير في مواقف الدولة واتجاهاتها السياسية، الداخلية والخارجية. فلكل قائد ثورة أو رجل دولة أسلوب في التفكير وطريقة في العمل، يطبعان بصورة شبه كاملة تحركاته في المجال السياسي. من هنا أهمية إلقاء بعض الأضواء على شخصية عبدالناصر من هذه الناحية ومقوماتها الأساسية:
أ- الصفة العسكرية.
ب- عدم الميل في الغالب إلى النقاش الفكري والتحليلات النظرية المجرّدة، وإنما إعطاء الأهمية إلى الجوانب العملية وإلى شيء من تقديس الحزم والقوة.
ج- طُموح أو دورُ عبدالناصر وموهبته الشخصية تؤهله لأن يلعب دوراً مركزياً في التاريخ العربي يتجاوز حدود بلده مصر، .. فعبدالناصر لأسباب قومية واستراتيجية، لم يكن ليريد أو يكتفي بأن يحصر اهتمامه ضمن الحدود المصرية والمصلحة المصرية الضيقة، وإنما أن يلعب دوراً رائداًٍ ومحوري ، كما في السابق، في التاريخ العربي الحديث.
د- صفة في غاية الأهمية تحدِّد تفكير عبدالناصر وشخصيته وهي الجانب الاستراتيجي، وقد طبق هذه الاستراتيجية على الصعيد السياسي، بمعنى عدم خوض المعارك على جبهات متعددة، وتحديد الأولويات واختيارها، والانطلاق من أن ما يقرِّر علاقات الدول فيما بينها هو القوة والمصلحة.. وهذه الدول لا يمكن أن تعيش منعزلة بعضها عن بعض، فهي في تفاعل مستمر وتأثير وتأثر وعلى مختلف الصُّعد.. استقلال كل دولة يتأثر باستقلال الدول المجاورة والعكس أيضاً صحيح.. إلخ.
ه- أهمية الاستقلال الوطني.
و- الجانب العملي التجريبي وعدم إعطاء أهمية كبرى للمنطلقات الإيديولوجية، طالما أنه يمكن الالتقاء والتعامل والاتفاق المرحلي على بعض الأهداف المحدَّدة التي تلتقي عليها بشكل أو بآخر مصالح الأطراف المختلفة. ( وجود عدة اتجاهات سياسية وأيديولوجية بين حركة الضباط الأحرار، ولم يكن ذلك عائقاً يصعب التغلب عليه ، ما دامت الأهداف المرحلية القريبة هي واحدة: إسقاط الملَكية واستلام السلطة ).
ز- صلة الزعيم بالجماهير، الصلة أو الصفة الشعبية ينبغي أن تكون صلة مباشَرة. هنا يأتي دور الإذاعة والتلفزيون والإعلام بصورة عامة لمخاطبة الجماهير.
2- حركـة الضبـاط:
أ- مصر أول دولة مدونة في تاريخ البشرية، بزغ فجرها نحو 3000 سنة قبل الميلاد (وقبل أن تُبنى الأهرام بـــ 500 سنة)، استعادت شخصيتها الأصيلة وحلّت محل أسرة محمد علي الألبانية ــــ التركية التي حكمت مصر 150 سنة، تحت الوصاية التركية والحماية والتبعية البريطانية.
ب- أضعف طول عصور التبعية إرادة المقاومة وأضحى الفلاح المصري والمواطن العادي نتيجة للخضوع السياسي والاجتماعي وللاستغلال الاقتصادي قروناً طويلة، يشعر بأن بلده ليست له: الأجنبي احتل العرش وامتلك الأرض.
ج- التأثيرات التركية بقيت قوية: الطبقة الحاكمة والطبقة الأرستقراطية المالكة للأرض والتي جاء منها كبار المسؤولين في الجيش والجهاز المدني إنما هي في الأصل من طبقة تركية. لذلك فقد كان من السائد أن الأرستقراطية التركية: كانت تتقن الفرنسية وتحتقر اللغة العربية.
د- إذن في تموز/ يوليو 1952 ، انهارت أقدم مملكة في العالم. وكان عبد الناصر أولَ مصري أصيل يحكم مصر. لقد تمّت الثورة المصرية، حركة تموز/ يوليو 1952، بهدوء يدعو إلى الدهشة، ولم يشهد التاريخ في الواقع سوى نماذج قليلة من الثورات الهامة التي تمّت بمثل هذه السرعة وبهذا القدر الذي لا يُذْكر من الاضطرابات أو إراقة الدماء (قتيلان وإصابة 8 بجراح). ومن ناحية أخرى فقد كان الجيش البريطاني قابعاً في قواعده العسكرية بمنطقة القناة، ولم يتدخل.. كما أنه لم يحدث أيُّ تحرش بأيِّ أجنبي مع كثرة الأجانب وهيمنتهم ولم تقع مظاهرات معادية للبريطانيين.
ه- كما ذكرنا سابقاً ونعود ونُشير إلى أنّ داخل حركة الضباط الأحرار وثورة تموز/ يوليو، كان هناك إتجاهات سياسية متنوِّعة، بل وفي بعض الجوانب متناقضة (اتجاهات ماركسية، إخوان مسلمين، وطنيين مستقلّين.. إلخ). وجوّ مجلس قيادة الثورة، بعد استتباب الأمـن له، كان اتخاذ القرارات بأغلبية الأصوات والقيادة كانت قيادة جماعية. والموقف موحَّد في قضية اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية.
لقد كان أصغر قرار لابد أن يناقش في المجلس وكل جلسة تستمر من الغروب حتى الصباح. من هنا أهمية الصفة القيادية الجامعة أو الموحِّدة والموهبة التكتيكية التي تتمتع بها شخصية عبدالناصر. " لم يكن هناك من وَحدة فكرية ووعي ثقافي مشترك لهؤلاء الضباط القادمين من مدارس فكرية مختلفة وتنظيمات سياسية متباينة، وقد كانت الأفكار الوطنية العامة والنقمة على الاستعمار هي الدافع الرئيسي لتحريك الضباط. ولكن تفاصيل الأمور كانت متباينة في عقولهم وصورة المستقبل غير واضحة أمامهم". ويضيف حمروش واصفاً شخصية عبدالناصر بأنه كان "أرصن زملائه شخصية وأقلهم كلاماً وأحسنهم استماعاً وأقدرهم على حل المشاكل بمهارة تكتيكية ملحوظة" (حمروش).
بمعنى آخر إن قائد الثورة المصرية كان يعرف تماماً متى يجب أن يتقدم ومتى يجب، على العكس من ذلك، أن يخطو "خطوتين إلى الوراء".
* * *