د. دندشلي - مـقـابـلـة مـع الروائي والشاعر الأستاذ صدقي إسماعيل
مـقـابـلـة مـع
الروائي والشاعر الأستاذ صدقي إسماعيل
الزمان والمكان : 14 آب عام 1965 ، دمشق
أجرى المقابلة : د. مصطفى دندشلي
* * *
حوالي عام 1939 كانت الحركة العربية الوحيدة في سوريا هي عبارة عن بقايا عصبة العمل القومي .. ومنذ عام 1936 كانت البلاد محكومة من قِبَل الكتلة الوطنيّة ، والصفة الأساسيّة لهذه الكتلة السياسيّة هي الإقليمية : الاهتمام بقضايا سوريا ، التعاون مع الأجنبي من أجل تحقيق الاستقلال وعقد معاهدة عام 1936 مع الانتداب الفرنسي ... مع عدم وجود عند قادة الكتلة الوطنيّة أي فكرة إصلاحية ... ولم يتوصلوا إلى الحكم إلاّ بعد أن تخلصوا نهائياً من معارضيهم : قُتل د. عبد الرحمن الشهبندر ، وهو شخص قومي عربي إصلاحي ، معروف بأنه يمثل السياسة البريطانيّة ويدعو للتعاون معها ...ـ
ولقد دخل جماعة عصبة العمل القومي في أثناء الحرب الثانية كأعضاء في الوزارة ، أي أنهم أُغروا بالحكم ... وقد قضي بالتالي على الاتجاه القومي العربي أو أي اتجاه قومي عربي معارض ... في هذه الفترة ، كان من الطبيعي أن تبرز إلى الميدان حركة البعث العربي ...
ومن جملة الأجوبة عن هذا الوضع السياسي ، كانت حركة الأرسوزي ... إذ إن المبرّرات كثيرة لظهور الحركات الجماهيرية الشعبية ذات الاتجاه القومي العربي والتي كانت دائماً معارضة للحكم ... في هذه الفترة أيضاً وبوجه خاص ، كانت تقوم في السنة ما يقرب من 40 مظاهرة ، أكثريتها الساحقة تطرح قضايا قومية استقلالية ...
لقد بدأ الأرسوزي عمله القومي كعضو في عصبة العمل القومي ... وكانت له تجربة في أنطاكيا تمثل خطاً قومياً عربياً جديداً نوعاً ما في حينه ، يحمل شعار :
1 ـ وحدة الأمة العربية
2 ـ رسالة الأمة العربية
ومن جملة الشعارات في تلك الفترة :
ـ العربي سيّد القدر
ـ القومية العربية مصدر المقدسات الإنسانية
ولقد كان اللسان المعبّر ( في أنطاكيا وفي لواء الاسكندرون عموماً) عن هذه الأفكار والشعارات السياسيّة في تلك الفترة ، جريدة "العروبة" التي كان يشارك فيها الأرسوزي ... وعندما شعر الأرسوزي بتآمر الحكام في سوريا بالتواطئ مع الأجنبي على قضية الأسكندرون . وبعد زوال "العصبة " كحركة عن المسرح السياسي. حوّل فرعها في أنطاكيا إلى نادي العروبة في الأيام الأخيرة من عام 1937 ـ 1938... ولقد أُنشت مكتبة صغيرة في النادي أطلق عليها اسم " البعث العربي ".
وقد ترك الأرسوزي أنطاكيا وجاء إلى دمشق بعد ضمّ اللواء إلى تركيا ... وقد حافظ الأرسوزي على هذا الاسم " البعث العربي "، إذ كانت تصدر من عام 1939 ـ 1944 مجلة بخط اليد تحت اسم : " البعث العربي "... ولقد استقطب الأرسوزي ، عند مجيئه إلى دمشق ، مختلف المثقفين : جمال الأتاسي ، سامي الجندي ، عبد الحليم قدور ، علي حيدر ، وهيب الغانم ، جلال السيّد ، عبد الخالق النقشبندي ...
وبعد حركة نصرة العراق ، التي نشأت بعد محاولة انقلاب علي الكيلاني في العراق عام 1941 ودعماً لها ، كانت كانت هذه الحركة حركة سياسية وطنية وقومية وتياراً عاماً في سوريا دفعت مختلف فئات الشعب للتطوع ولحمل السلاح تأييداً للعراق وإن بقي كل ذلك على الصعيد التأييد المعنوي ... ولأول مرة تنشأ حركة أخرى تحت اسم الإحياء العربي بعد عام 1941 (حركة الأحياء تكوّنت أواخر عام 1939 ثم نصرة العراق ).
وفي نفس الفترة ، أي منذ عام 1937 ، كان في حماه صراع بين الكتلة الوطنيّة وبين الشباب . قسم منهم من عصبة العمل القومي وقسم آخر كوّن حركة تحت اسم الشباب الوطنيّ ... وهو صراع محلي بين جيلين : قديم وحديث ...
والصفة العامة لهذه الحركة المحلية هي الاهتمام بالقضايا المحلية والإقليميّة والقضاء على نفوذ الجيل القديم ... وهناك صفة عامة تشمل الحمويين أنفسهم ، إذ إنّ طبيعة أهل حماه الحادة تدفعهم إلى استعمال الرصاص في خلافاتهم السياسيّة ، وذلك بصورة أصبحت مع الزمن اعتياديّة... ومن جهة أخرى ، فإنّ حماه كانت أوّل بلد في سوريا أعطت الحركة الوطنيّة والقوميّة طابعها الثوري الواقعي ... في هذه الفترة ، برزت مجموعة من الشباب من بينهم وأبرزهم أكرم الحوراني الذي لعب دوراً رئيسياً وسياسياً في سوريا بعد عام 1943 .
* وسبب الالتقاء الرئيسي بين الأرسوزي وعفلق هو سوء الوضع الداخلي ومساوئ الحكم الأجنبي ... وكذلك أيضاً تحت عامل الدفاع عن الحرية ، لاعتبار الأجنبي وصياً على الحياة الديمقراطية ويشرع قوانين للاستبداد ...
في عام 1943 ـ 1944، ابتدأت المقاومة ضد الإفرنسيين، وقد لعب دوراً المثقفون من كلا الحركتين : حركة الإحياء وحركة الأرسوزي ... ولقد كان هناك صداقات وثيقة بين شباب الأرسوزي وجماعة عفلق ... وقد حصل الاندماج عملياً من أجل التطوع لحوادث عام 1945... أي أنه خلال الفترة بين عام 1944 ـ 1945 ، كانت هناك محادثات والتقاءات وصداقات ، وفي حوادث عام 1945 حصل التقاء عملي بين مجموعة عفلق ومجموعة الأرسوزي وآخرين للمقاومة والتطوع : في شهر أيار ، حركة التطوع ، وفي شهر نيسان تقريباً من السنة نفسها، ظهرت لأول مرة بيانات تحت اسم حركة البعث العربي ... وهي أي البيانات نتيجة حركات وتحركات في المدارس ... وقد لعب فيها دوراً بارزاً عبد البر عيون السود ...
ومنذ ذلك الحين ، نشأت حركة البعث بشكل عفوي ومن غير تنظيم ... وبعد الجلاء عام 1946، بدأت الحركة الداخلية ، وبدأ معها البعث العربي يصدر بيانات عفوية منتقداَ الأوضاع السياسيّة والفئات الحاكمة في سوريا ، من غير أن يكون هناك أي نوع من التنظيم ... وهذه البيانات تارة يوقعها ميشال عفلق وتارة أخرى صلاح الدين البيطار ...
وفي هذه الفترة ، ظهرت أيضاً شخصية سياسيّة : أكرم الحوراني ، كنائب في البرلمان.. وسياسته ومواقفه من مختلف القضايا كانت تسير في خط متوازن مع سياسة البعث العربي ، لذلك كان من الطبيعي أن تكثر اللقاءات بين شباب أكرم الحوراني وشباب البعث ...
* سياسة أكرم الحوراني العنيفة في البرلمان وهجومه المستمر ضد الفئة الحاكمة والإقطاعية .. أثّرت في نفوس كثيرين من العسكريين ...
المؤتمر الحزبي الأوّل
لقد ظهر في أوّل مؤتمر للبعث العربي اتجاهان عامان : الاتجاه الأول الذي يمكننا تسميته تجاوزاً بالاتجاه اليساري أو الاتجاه المتطرف والذي كان يضم : وهيب الغانم ، عبد البر عيون السود ، عبد الخالق النقشبندي ، عبد المنعم الشريف ، جمال الأتاسي ، صدقي إسماعيل ... والاتجاه الثاني ، اتجاه يميني محافظ وهو يضمّ : جلال السيّد وجماعة دير الزور ، وصلاح الدين البيطار فيما يتعلق بالاشتراكية ... أحمد بدر الدين ..
أما موقف ميشال عفلق من هذا الصراع ، فكان موقف التحفظ والمراقب ، ولم يؤيد أي اتجاه على آخر ... والقضايا الأساسيّة التي أثيرت في هذا المؤتمر الأول والتي أثارت جدلاً وصراعاً عنيفاً هي موضوع الاشتراكية . أي الملكية العامة والملكية الخاصة والإرث ، إلخ ... فقد كان رأي الاتجاه المتطرف مثلاً إعادة النظر بالملكية العامة في ما يتعلق بالزراعة ، أما وجهة نظر الاتجاه الآخر ، فهي أنه لا يجوز التطرق إلى هذه الناحية خوفاً من إثارة الضجة الكبيرة ضدنا ...
أما المشكلة الثانية التي أثارت جدلاً أيضاً فهي مشكلة المرأة . فقد كان رأي الاتجاه المحافظ أن وظيفة المرأة هي في البيت... وهو في هذه الناحية متأثر بآراء الأخوان المسلمين ... وقد كان الاتجاه المتطرف العكس طبعاً ...
اندماج البعث والاشتراكي
إنّ السبب المباشر والآني الذي دعا الحركتين إلى الاندماج هو الضغط الخارجي والظروف السياسيّة الداخليّة والصراع مع الحكم الديكتاتوري والفئة الحاكمة ... والذي لعب الدور الرئيسي في عملية الدمج هم اللوائيون وبخاصة : وهيب الغانم ، صدقي إسماعيل ومعهم أيضاً منصور الأطرش ، عبد البر عيون السود .
ولكن مع هذا الاندماج ، ومع وجود هذه الظروف الخارجية ، لم يستطع ذلك أن يوحِّد بين الأشخاص الثلاثة : عفلق ، البيطار ، الحوراني ... أكرم الحوراني مثلاً كان دائماً يضع علامات استفهام حول ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار كعملاء ... وذلك لسببين :1 ـ موقفهما من الشيوعيين ، 2 ـ عطفهما على العراق ... أما ميشال عفلق ، فقد كان يضع بدوره أيضاً علامات استفهام حول أكرم الحوراني ، واتهامه مثلاً بالانتهازية السياسية ...
وهناك ناحية أخرى وهي أن ميشال عفلق كان يشعر دائماً بالنقص بالنسبة إلى أكرم الحوراني... ويمكن أن نجد تبريراً لموقف ميشال عفلق من أكرم الحوراني بسبب نجاح الأخير السياسي : فهو نائب في البرلمان منذ عام 1943 ... وكذلك أيضاً اتصال أكرم الحوراني المستمر بالعسكريين ، وميشال عفلق يكره العسكريين وكان يرى أنّ الحركات العسكرية كانت موجَّهة من الخارج أو ربما يعود ذلك لكونه مثقفاً ...
أما أكرم الحوراني ، فلم يُدِن في يوم من الأيام العسكريين وحتى الآن ، مع أنه لا يوافقهم في سياستهم ، بل وهو في صراع معهم ...