المنطلقات الثقافية
إنَّ كلمة "ثقافيّ" التي اتخذها "مركزُنا" لم تأتِ مصادفةً، وإنّما كان لها معانيها الحقيقيّةُ والبعيدة آنذاك. وإذا أردنا أن نُشير إلى الخلفيّة الفكريّة ـ الثقافية لتأسيسِ المركز الثقافيّ، فيمكن اختصارُها بالنقاط التالية:
1 ـ الانطلاق من ملاحظة استقرائية عامةٍ تشيرُ إلى أنَّ الفكر العربي بمجمله، والفكرَ هنا في لبنان على الأخص، هو فكرٌ مجرّدٌ عامٌّ، بعيدٌ إلى حدٍّ صارخٍ أحياناً عن الواقع الحيّ والموضوعيّ الذي نعيش فيه. فهناك فِراقٌ وبعدٌ أو "طلاقٌ" ما بين الفكر والواقع المحسوس.
فتجربتنا هنا في صيدا، ومن خلال المركز الثقافيّ، تقوم على أساس محاولة إعادة هذا "التفاعل الخلاّق" و"الوفاق" ـ إذا جاز التعبير ـ بين مجال الفكرِ ونطاق الواقع الاجتماعيّ. ذلك أنَّ الأساس في كلِّ تحرُّكٍ اجتماعيّ إنما هو الواقع الماديّ المحسوس ومعالجة قضاياه الحقيقيّة.
2 ـ ينتج من الملاحظة الأولى فكرة كانت ولا تزال محور أهداف المركز الثقافي ونشاطاته الاجتماعية والثّقافية وهي: أنّ أيَّ عمليّة إصلاح حقيقيّةٍ للمجتمع مهما كانت جزئيّةً، ينبغي أن تنطلق من من فهم واقع هذا المجتمع بجوانبه المتنوّعة.
فالإصلاح أيّ إصلاح ومهما كان جزئياًّ، يجب أن يسبقه ويلازمه استيعاب ذلك الذي نحن بصدد إصلاحه، ولمصلحة الإنسان.
فلا يمكن تغيير، ما لا نفهمُه وندركُه. فالإنسان، كما يُقال، عدوّ ما يجهل.
3 ـ لذلك فإنّ عمليات التحوّلات الفكريّة والثقافيّة هي الأصعب بالنّظر إلى التّحولات الماديّة للمجتمع، من شقِّ طرقٍ وبناء مصانع وعماراتٍ وشوارعَ.
إنّما المعضلة الأساسيّة تكمن في بناء الإنسان بتحوّلاته الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة.
فالتّغيير الماديّ مع أهمّيته القصوى، ينبغي أن يرافقه في الوقت ذاته أو أن يسبقه وعيٌ فكريٌّ ومعرفةٌ علميّةٌ وثقافيّةٌ، حتى تكون رؤية المستقبل لنا أوضح.
ومحور هذه الرؤية المستقبلية هو الإنسان.
4 ـ إذن، الثّقافةُ هنا بمعناها الحقيقيّ، هي تلك التي تلتصق بظروف المجتمع في الماضي والحاضر ، وتُعالج قضاياه المحسوسة وتتّخذ من الإنسان غايةً لها.
فالبعدُ الثقافيّ، بهذا المعنى، يجب أن يدعمَ ويوجِّه التَّطوّر الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
لهذا، فإنَّ الثّقافة كما فهمناها، هي في الأساس موقفُ التزامٍ، التزامٍ حقيقيّ، وقراءةٌ عميقةٌ لقضايا المجتمع بهدف تغييره نحو الأفضل. والهدفُ النهائيّ لهذا الالتزام هو الإنسان.
لذلك كنّا نرى ولا نزال، ربّما أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، أن للمثقّفين عموماً وللفكر الاجنماعيّ الواقعيّ على الخصوص، دوراً أساسياًّ ورئيساً في مرحلة التغيّر الاجتماعيّ وفي مرحلة التحرير : تحرير الوطن والأرض والإنسان.
* * *
لقد جاءَ في إحدى وثائق المركز منذ البدايات الأولى ما نصُّه حرفياًّ :
إنَّ مشروعنا الثقافيّ الذي نعملُ بثباتٍ وعزمٍ على تحقيقه منذ عشر سنوات،
إنّما هو في الحقيقة والواقع:
*تحدٍّ للظروف العامة، الصّعبة والسيّئة، التي تحيط بنا من كلّ جانب،
*تحدٍّ لهذا الانهيار العام، من أجل بناء المستقبل،
انطلاقاً من الثقافة والفكر والاجتماع والواقع المُعاش،
*إنّنا نعلمُ علمَ اليقين بأنّنا نسير بمشروعنا هذا،
في اتّجاهٍ يعاكسه كلُّ ما يحيطُ بنا،
*غيرَ أنَ يقيننا الراسخ أنّنا نحملُ شعلة الأمل والمستقبل،
في وقت يُخيِّم فيه اليأس والقنوطُ في النفوس،
*إنّنا نحمل فكرة الإقدام، في ظرفٍ يعمُّ فيه الهروب والاستسلام،
إنّنا نؤمن بالعمل الفكريّ، الثقافيّ، الديمقراطيّ، الحواريّ،
في وقتٍ قلَّ فيه من يؤمنُ بذلك أو يعتقد بجدواه،
حتّى بين المثقَّفين والمتعلِّمين أنفسهم.
*إذا كانت الأجواء، العامةُ والخاصةُ، غيرَ مهيأةٍ الآن
لتحقيق مشروعٍ فكريّ وثقافيّ واجتماعيّ كمشروعنا،
إلاّ أنّنا نعتقد أنَّ من هذا الانهيار العام تحديداً، ننطلق بعزمٍ وإرادةٍ، بصبرٍ وأناةٍ،
حتّى نهيّء لقيامِ حركة التغيير الديمقراطيّ، والبناء المعرفيّ،
أقلّه على صعيد الفكر والثقافة والاجتماع.