السفير- أسئلة أمام السينودس - الفضل شلق
إعلام وصحافة /
دينية /
2010-10-22
الجمعة 22-10-2010
أسئلة أمام السينودس
الفضل شلق
يُعقد في روما سينودس الشرق منذ أسبوعين. سوف ينتهي بعد بضعة أيام. انعقاد المؤتمر لا يشكّل، للأسف، خبراً مهماً لدى الإعلام الإيطالي والغربي، ولا حتى في بلادنا. وعلى كل حال، فإنّ النقاشات المهمة التي تحدث في السينودس لا تصل إلى الإعلام، وما يصل منها أخبار مختصرة توحي كأنّ النقاشات تسير بهدوء تام، كأنّ الجو أكاديمي رتيب.
ما تمكن الإشارة إليه أنّ المسيحية الشرقية، وهي تتشكل من المونونيزيين (اليعاقبة والنساطرة)، ازدهرت بين عامي 500 و1500 بعد الميلاد، وأنّها ازدهرت في سوريا والعراق ومصر والحبشة ثم اتجهت إلى شبه القارتين الهندية والصينية، وكان لها باع طويل في التأثير على هاتين الديانتين. وكان عدد مسيحيي الشرق في عام 800 (عام تنصيب شارلمان امبراطوراً رومانياً مقدساً) يفوق عدد مسيحيي أوروبا. كان مسيحيو الشرق يخضعون لحكومات غير مسيحية، وكان مسيحيو أوروبا يخضعون للكنيسة والإمبراطور، وكان الازدهار انتشاراً وأعداداً هو لصالح المسيحيين المشرقيين لا الأوروبيين.
الأمر الثاني الذي تمكن الإشارة اليه، أنّ الأديان والثقافات تتعايش عموماً في بيئة غير مناسبة. البيئة غير المناسبة يمكن أنها هي ذاتها تموت وتتلاشى (الازيتك والانكا، دفنتا في الرمال أو الغابات، واكتشفتا في ما بعد: ماتت الثقافات والأديان والناس؛ وغير ذلك حضارات أخرى). ويمكن للديانة أن تهاجر مضطرة أو لأسباب جاذبة، في ظروف معينة، مثلما حصل للإسلام واليهودية في الأندلس الإسبانية، أو مثلما حدث للبوذية التي هاجرت على طريقين إحداهما إلى الصين وكوريا واليابان، والثانية عبر سيريلنكا وما يسمى الآن الهند الشرقية وصولاً إلى جزر غرب الهادئ في اندونيسيا والفيليبين وغيرهما. تحولات الهند هي التي أدت إلى اقتلاع البوذية، وتحولات الصين والهند الصينية هي التي أدت إلى ازدهارها وتوسّعها هناك.
الأديان تتوسع بالتبشير، (ولا حظَّ للمسيحية في منطقة إسلامية)؛ أو بالهجرة، وهذا ما يحدث فعلاً، لكن أعداد المسلمين الذين يهاجرون ربما كانت أكثر من المهاجرين المسيحيين. وهذه مشكلة عامة للمنطقة.
هل النقاش الدائر في روما هو حول أوضاع المسيحيين في المنطقة، أو هو حول أوضاع المنطقة؟ إذا كان الأمر يتعلّق بوضع المسيحيين بغض النظر عن أوضاع المنطقة، فإن النتيجة لن تصل إلى شيء، لأسباب عديدة. أما إذا كانت النقاشات تدور حول أوضاع المنطقة فالأمر يصعب الوصول به إلى نتيجة مُرضية لأسباب عديدة، أهمها الاحتلال ووجود اسرائيل. إن أوضاع المنطقة التاريخية تدلّ على أن اعداد المسيحيين لم تتغيّر كثيراً من قبل، من قبل الاحتلال ووجود اسرائيل؛ أما بعد ذلك فأوضاع المسيحيين ساءت وهاجر الكثير منهم ومن غيرهم. فهل سيتعرض السينودس لأوضاع المنطقة؟ هذا سؤال مهم، وعليه تترتب نتائج مهمة وعملية.
كانت المسيحية التي ازدهرت في الشرق، هي الكنيستين الشرقيتين اللتين أدينتا في المجامع المسيحية، الأولى خاصة في مجمع نيقية عام 335 ومجمع خلقدونية في العام 451. في المجمع الأول، أدين اليعاقبة بتهمة الإيمان بوحدانية شخص المسيح الإلهية. في المجمع الثاني، أدين النساطرة بحجة إيمانهم بطبيعتين للمسيح: واحدة بشرية وواحدة الهية، تصل بينهما الأسرار. اليعاقبة نسبة إلى يعقوب البرادعي، ما يزالون في مصر والحبشة، كنيسة مزدهرة، أما في سوريا فقد انخفض عددهم. والنساطرة كانوا هم الكنيسة المعتبرة في العراق، التي كان مجالها التبشيري يمتد من العراق الى أقاصي آسيا حتى الصين والهند. كانت الكنيستان، لمدة ألف عام، أفضل حالاً وأكثر عدداً من المسيحية الأوروبية، وكانت الأمور تبشّر بتوسّع تشهده الكنيستان لن تصل إليه أوروبا المعزولة. كانت الكنيستان، اليعقوبية والنسطورية، تخوضان نقاشات فكرية ولاهوتية مع السكان المحليين، بمن في ذلك الخليفة، وتمارسان سلطة روحية على أعداد بشرية تفوق عدداً المسيحيين في أوروبا، التي كان بعض سكانها يَدين بالوثنية حتى عام 800، وكان بعضهم لا يعتنق المسيحية إلاّ بالقسر والإكراه (بما في ذلك قطع الرؤوس أحياناً).
افترقت المسيحية الكاثوليكية والارثوذكسية عن المسيحية النسطورية واليعقوبية لفترة ألف عام، بعد العام 1500، ازدهرت الثانية أكثر من الاولى، لكن الاستمرار كتب للأولى. فقد عاشت الكاثوليكية في كنف الامبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت روما البابوية تزودها بالايديولوجيا وكل ما يدعم الإيمان. أما الثانية فقد تراجعت بعد ازدهار. إذا كان الازدهار قد حدث بسبب وجودها في دول لا تمانع في تعدد الأديان، فإنها تراجعت في ما بعد لأنها لم تجد دولة تتبناها (علماً بأن التبني الناقص لفترة وجيزة جرّ على الكنيسة الشرقية الويلات، لا العكس). لا الأرض ولا السماء تحميان الدين دون أن تكون الحماية مصدرها الدولة، أية دولة، ومن أية نوع كانت. يصعب أن تبقى الأديان الكبرى وأن تستمر بغير وجود الدولة، سواء أكانت الدولة علمانية (فتحمي جميع الأديان) أم دولة منحازة دينياً (فتحيي أدياناً دون أخرى).
إن الطريق إلى السماء، إلى الخلاص، متعرجة جداً. ليست خطاً مستقيماً. لا تقتصر على الإيمان وحده. تمر عبر الدولة. الدولة تحمي الأديان أو تبيدها. تضمن بقاءها أو تلاشيها. تحالفات الدول تؤدي إلى هذه النتيجة أو تلك. كم من دين واسع الانتشار مثل المانوية (انتشارها كان يعادل المسيحية في قرونها الأولى) التي وصلت من روما إلى الصين، ولا نجد أثراً لها الآن. الكاثار والالبيجنسيون والبوغوميليون في بداية القرون الوسطى اندثروا لأنّ الدولة كانت ضدهم (ليس فقط ما اعتبر الإيمان القويم). الآرية بدعة آريوس، كان لها أتباع كثر في الشرق وفي أوروبا (بعض القبائل الجرمانية كانت آريوسية)، لكنها اندثرت بسبب تحولات الدول. الدول شاءت فناءها.
مثلما يتعرّض مسيحيو الشرق للاندثار، يتعرّض مسلمو الشرق لما يشبه ذلك. يتعرّض المسلمون لإعادة تشكيل، لمشاريع ثقافية وعسكرية، تعيد إنتاجهم وتعيد إنتاج إسلامهم لإخراج إسلام جديد مفبرك. بعض ما في الأمر حرب إبادة؛ بعض ما في الأمر إعادة خلق من جديد. المهم أن لا يختاروا هم الحياة التي يريدونها. ما يتعرض له المسلمون هو أن يبقوا على أرضهم ويعيشوا حياة لا يختارونها، بل يختارها غيرهم. وما يتعرض له المسيحيون هو الاقتلاع وأن لا يعيشوا الحياة التي يختارونها، سواء هنا أو هناك.
يحتاج الناس إلى عيش مشترك. نحتاج إلى جواب إيجابي عن السؤال: هل نريد، أو هل نستطيع العيش معا؟ الدولة هي العيش المشترك، الدولة هي العيش معا. هي هذه الإرادة. شرطها كي تكون كذلك أن تكون هي، أي الدولة، عقداً اجتماعياً لا كياناً مفروضاً بالاحتلال أو الاستبداد.