القومية العربية من خلال كتاب دستور العرب القومي- العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي
مقابلات /
فكرية /
1990-07-17
مقابلـة مـع
العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي
الموضوع: القومية العربية من خلال كتاب دستور العرب القومي
تحليل ومفاهيم قومية..
الزمان والمكان: 17 تموز (يوليو) 1990 ـ بيروت
أجرى المقابلة: د. مصطفى دندشلي
* * *
د. مصطفى دندشلي: … سؤالي الأول، إذا سمحت، يتعلق بكتابك: "دستور العرب القومي". من المعلوم أن الشيخ عبد الله العلايلي هو أحد أبرز أعلام الفكر القومي. ومؤلفه المشهور وهو دستور العرب القومي كان قد نُشر، فيما أعتقد، عام 1941. أودّ أن تحدثني عن مصادر هذا الكتاب القيِّم والمهمّ، مصادره الفكرية والقومية، وعن مصادر فكر الشيخ عبد الله العلايلي السياسي والقومي…
الشيخ عبد الله العلايلي: … باديء بَدء، أتكلم عن مناسبة التأليف. مناسبة التأليف، كانت ما بين سنة 1940 ـ 1941، عندما كانت أَزْمة الاعتراك بين القوى الديغولية والقوى الفيشيَّة الفرنسية. ويوم تعرَّضت بيروت للقصف بالطائرات بشكل عنيف من الجيش الفرنسي، لجأنا كما لجأ سوانا إلى المناطق الجبلية القريبة من بيروت. وكان من حظّي، ربما أقول، أني لجأت إلى قرية وادعة هادئة تسمى "شويت" في منحدرات "عاليه"، فوق "عاريّا". في هذه البلدة الوادعة المطمئنَّة، وضعت هذا الكتـاب، لا سيما بعد أن رأيت تياراً من الفكر القومي، من الفكر القومي العربي غير المحدَّد. ولكنه نوع من نزعة جيّاشة للقومية، وإنما غير محدَّدة. فأسِفت أن لا يكون هناك مجال لتحديدها، يعني بشكل شبه موضوعي. وأردت أن أقوم بهذا النقص الذي رأيته نقصاً، أو خُيِّل إليَّ أنه نقص. فوضعت هذا الكتاب لمعالجةٍ يمكن أن تسميها علمية، لا سيما أنني كنت معجباً في الواقع بكتاب لصديق لي أشهر من أن يُعرَّف: د. قسطنطين زريق، وكتابه تحت عنوان: "الوعي القومي"، الصادر عام 1938. وكان هذا الكتاب من الكتب المحبَّبة إلى نفسي. ولكن، يحاور القومية محاورة وليس ينفذ إليها نفوذ الباحث فيها وإنما حولها. ولذلك قلت في مقدمة "دستور العرب القومي"، بعد أن أَثْنَيت على الكتاب، قلت: أوْلى أن يسمى "في الوعي القومي"، وليس "الوعي القومي"…..
فانجلدّت وانصرفت إلى بحث القومية في ذاتها، القومية كبحث مستقل، القومية في ذاتها، ثم القومية العربية كفكرة…. القومية في ذاتها، قوميتنا وقومية غيرنا (من الأمم) ـ زيّ بعضها ـ أي القومية في ذاتها كموضوع. ثم القومية العربية، وهي بيت القصيد… فعالجتها بحسب ما لديّ من طاقـة لا أكثر. فكان هذا الكتاب: دستور العرب القومي وأما المصادر التي رجعت إليها، فلا تحسب، فهي تبلغ تقريباً شبه مكتبة، إذا لم أبالغ بكلمة مكتبة. ولا شك أنني اعتمدت فيها على مراجع عديدة، منها ما هو في البحث القومي المطلق، ومنها ما هو في البحث القومي العربي أو الحلقات التي أدَّت إلى تبلور هذه الفكرة…. وقد أشرت في هوامش الكتاب إلى مراجعي في كل بحث وفي كل موضوع… وكذلك لا يُنكر، ومن الخير انصافاً للموضوع، لا يُنكر أن هناك في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات، قد كان تطلّع عربي من كل قبيل، وليس في قطر دون قطر، لا، الكل: في العراق، في مصر، في سورية، في فلسطين، في المغرب العربي… لقد كان سائداً هذا النوع من التَّطلع العربي… ذلك لأنه قد صارت قضية القومية ترادف العمل الاستقلالي. فإن اختلاط المفهومَيْن أدّى إلى شيوع الفكر القومي.
س: … سؤالي في هذا السياق هو التالي: كيف اهتدى الشيخ عبد الله العلايلي إلـى الفكر القومي العربي، وهو طالب في الأزهر الشريف في مصر؟… هل كان قد اهتدى إلى هذا الفكر القومي العربي قبل ذلك، أي قبل ذهابه إلى الأزهر، كفكر قومي، كحركة، كتيار سياسي ـ أقصد ـ أم أثناء إقامته في مصر، أم بعد ذلك؟!…
ج: … لقد راودتني الفكرة وأنا ـ كما تقول ـ طالب (في الأزهر) وإخلاصي للبنان اللُّغوي وللبنان أيضاً التاريخي الحضاري العربي، حملني هذان: التعلُّق باللغة والتعلُّق بالتاريـخ، حملاني على أن أعشق كل الأبحاث القومية وما إليها. وقرأت كل الكتابات إن كانت من كتب أو مقالات مما تسنّى لي الوقوف عليه من خلال العشرينات ومن الثلاثينات.
س: … أثناء ذلك، وفي تلك الفترة، هل كان اسم ساطع الحُصْري معروفاً كمفكر قومي عربي؟…
ج: … نعم، هو كشخص معروف وهو من أوائل الذين اشتغلوا بالثوريّة العربية، صاحب الحركات الانقلابية وغيرها، إن كان في "الاستانة"، أو كان في العراق وفي كل حياته…
س: … إنما ككاتب قومي عربي؟…
ج: … ككاتب قومي عربي جاء بعد ذلك، لقد بدأ يكتب في عام 1943، عندما أقام في بيروت. كان هنا في لبنان موجة من الكتابات القومية السورية، حملته حملاً على أن يكتب في "القومية العربية". بدأ بحركة ردٍّ، قبل كل شيء حركة ردّ. لأن نشاط القوميين السوريين بالذات في أوائل الأربعينات كان بالغ الأوج. لقد كان هذا حاملاً لساطع الحُصْري على أن يدافع ويدفع كل شائبـة مما يُقال من القوميين السوريين، على القومية العربية. ثم رأى بعد ذلك عام 1944ـ وهذه كتاباته الأولـى في سنة 1943، تحت تأثير موجة القوميين السوريين، تدلّ على ذلك ـ بدأ يكتب في صميم الفكر القومي العربي. أما قبل هذا التاريخ، لا، فلم يكتب (في موضوع القومية العربية)… لا…
س: … ما مدى تأثير الحركات أو المؤتمرات الإسلامية التي عُقدت في مختلف العواصم العربية ابتداءً من عام 1926 وعام 1931، ما مدى تأثير هذه المؤتمرات الإسلامية في بلورة الحركة القومية العربية؟
ج: … لا، الفكر الإسلامي شيء، والفكر القومي شيء آخر، لقد بدآ متناحرَيْن منذ البداية. إن الذين يؤمنون بالفكر الإسلامي كانوا يعتبرون هذه (القومية العربية) بدعة أقرب لأن تدمر بالهرطقة وكانوا يعتبرون كل تفكير قومي منافٍ للإسلام.
س: … منذ ذلك الحين!!… وفي عام 1926 وعام 1931!!… مثلاً مؤتمر القدس الإسلامي الذي عُقد في القدس…
ج: … لا، هذه ليست قضية قومية، وإنما هي دفاع عن مقدَّس إسلامي، وكونه واقعاً في بلاد عربية، شيء آخر. لقد عُقد مؤتمر القدس من أجل مقدس إسلامي. ولذلك انعقدت هذه المؤتمرات تحت شعارات (عربية ـ إسلامية) أجل… المسجد الأقصى في القدس: أوُلى القبلَتيْن وثالث الحرمَيْن.
س: … هنا، أريد أن أوضّح سؤالي: في تلك الفترة، مطلع العشرينات والثلاثينات، ألم يكن من تفاعل، أو بمعنى آخر هل هناك من تناقض بين الفكر الإسلامي أو الحركة الإسلامية وبين الفكر العروبي أو الحركة العربية؟
ج: … ليست القضية قضية تناقض: مَن تمسك بالإسلام جوهرياً يأبى أن يفكر بفكر قومي، "محلّي" (أو إقليمي)، لأنه يعتبر هذه المحليّة منافية للشمولية الإسلامية. لذلك، بدآ متعارضَيْن، بعد ذلك بزمن طويل انسجما… انسجما في الستينات من القرن العشرين.
س: … شخصية على سبيل المثال كشخصية شكيب أرسلان…
ج: … هو بدأ عدوَّ الفكر القومي. فقد كان منذ البداية كل تفكيره إنما هو تفكير إسلامي بحت. في المدة الأخيرة وفي أواخر أيامه، انجرّ انجراراً إلى الفكر القومي العربي والكتابة القومية. بل إنه كمفكر أو ككاتب كتابة قومية خالصة لم يكتب. أما كتاباته مثلاً "الحُلَل السندسية"، الموسوعة عن بلاد الأندلس وتقع في عدد من المجلّدات، فهذه ليست بغاية كونها عربية، أو مجد عربي، لا، في محتواه إسلامي بحت. لذلك هو لم يتمحَّض للفكر القومي، وإنما ظل إسلامياً يبارك الفكر القومي العربي مباركة، لا يتحاشاه. كما أنه لا يناصره المناصرة من أول الطريق. وكما قلت لك: بدأت الفكرة الإسلامية والفكرة القومية العربية متعارضتَيْن.
س: … الشيخ رشيد رضا، الاتجاه نفسه أم هناك نوع من الاختلاف؟…
ج: … الاتجاه نفسه… كلهم كانوا كذلك … والبرهان على أن الشخص الذي يمكن أن يسمّى بأنه قومي عربي في الدرجة الأولى، هو عبد الرحمن الكواكبي. في الوقت الذي تطالع له طبائع الاستبداد تأتي وتجد له أمّ القرى.… فإذن، معنى ذلك أن الروح القومية العربية موجود في "المؤتمر الإسلامي" أي في مؤتمر "أمّ القرى"، وقد كان أشدّ المتمسّكين بفكرة قومية عربية، بيد أن عبد الرحمن الكواكبي هو من تغازله الفكرة الإسلامية، أو في خلفيته ـ أو ما يسمّى الأفكار القَبْليَّة ـ الفكرة الإسلامية. وتجد هذه الفكرة واضحة وجليَّة في رجل مثل رفيق العظم مؤسس حزب اللامركزية الذي لعب دوراً هائلاً، عندما أُسِّس هذا الحزب في مصر… وكان من أهم الأحزاب القومية العربية، حزب اللامركزية… وهو، رفيق العظم، من أهم مَن كتب أيضاً في البطولات الإسلامية وكتابه: حُماة الإسلام وهو من أجلّ الكتب في هذا الموضوع. لم يكتب: حماة العروبة، وإنما كتب حُماة الإسلام.
س: … إذن، عند هذين المفكرين: عبد الرحمن الكواكبي ورفيق العظم، هناك تلاحم، تزاوج ما بين الفكرة القومية العربية والفكرة الإسلامية…
ج: … لقد بحثت هذا الموضوع في مقال كبير كان قد نُشر في مجلة "الأديب". لأنه من كثرة ما كنت أكتب في "الأديب" في كل عدد، فكنت أوقِّع على بعض المقالات والبعض الآخر أضع نقاط….. وبعضها أوقِّع "أبو مُضر"، أو أحياناً "أبو حيّان" وهلمّ جرّا… منها مقال أعالج فيه هذه القضية: وأنا من كثرة إيماني بالذات بالقومية العربية، قلت بأن الإسلام معطى من معطيات القومية العربية. أجل… عندما درست درساً موضوعياً الإسلام وانبثاقاته الأولى، إنما هي وبوضوح تام انبثاق قومي عربي. فإذن في هذه الحالة هو معطى من معطيات القومية العربية… وكرّرت ذلك مراراً، وهو عكس ما يفكر فيه الآخرون الإسلاميون. وقد نقلتْ بعد ذلك هذا المقال مجلة الكاتب المصري، في أوائل صدورها في القاهرة. فكانت تنقل عن المجلات التي تصدر هنا في الشهر الواحد، وتلخّص بعض المقالات منها، ومن جملة ما لَخّصت، فقد لَخّصت هذا المقال. ولا أذكر تماماً السنة التي صدر فيها هذا المقال، ولربما يكون في سنة 1945 أو 1946 أو ما يقرب من ذلك… لماذا؟!… لأنه يومها كنت قد كتبت مقالاً كبيراً أردُّ فيه على نزعة أو النَّزعات اللبنانية هنا بشكل خاص، كتبت تحت هذا العنوان: حكاية شاخَت، أعني الذين يتعلّقون بقوميات دون القومية العربية: القومية الفينيقية، والقومية الفرعونية، والقوميات المحليّة… وهي كلمات فارغة. لذلك سمَّيْت هذه المسألة: حكاية شاخَت: أي أنها قوميات احتُضِرت، ولم يعد لها أيُّ قيمة… ثم نشرت مقالاً طويلاً تحت عنوان: لماذا أنا قومي عربي؟!… ولمّا دعوت إلى طراز من الوحدة، فقد كان الموضوع مطروحاً وهو الدعوة إلى شبه اتحاد عربي. ذلك أنه اتحاد أو وحدة، فكانت فِكَر مطروحة يومذاك: اتحاد أو وحدة أو تضامن… وهنا أكدت على فكرة مهمَّة كثيراً أن تبرز، وهي تنطلق من ردة الفعل في ما يتعلق بفلسطين. هنا أكدت على فكرة: معنى أن نعيش آلام فلسطين، أن تغدوَ همَّنا اليوميّ. وهمُّك اليوميّ مثل خبزك اليوميّ، كلاهما يطالبك بالتفكير على أن تجهد والتشديد على أن تشقى، يطالبك وبعَنَفٍ أيضاً لأن تجنِّد كل ما استوى في نفسك من فكر وما اجتمع لأعصابك من قوى. التأكيد على أن يكون لنا "مبكى"… لهذه الدرجة!!… وأعني: أن تغدو فلسطين لنا همَّا يوميّا، مثلما غدت لإسرائيل على مرِّ التاريخ همَّا يوميّا… فكانت مثلاً يحتلّ مكانه، أن الطلب به له مكان في قلوبهم وعند أعينهم. وكانت مبكى يغتسلون عنده بدموعهم، واغتسالك بالدمع تجديد بنائك وتعميق مراس اهتمامك. وكانت فلسطين أبداً لإسرائيل مبكىً ينتهي بالدمع ينطفىء. فالدمع عند الأقوياء، لو تعلم، رشح حرارة أعصاب، وليس ذوبان أعصاب، كشأن عديد الضعفاء.
س: … سؤالي الآن هو عودة إلى "دستور العرب القومي"، هذا الكتاب القومي المهم والذي كان له تأثير كبير: لقد لاحظت أن الفكرة الأساسية في هذا الكتاب أنكم تؤكدون على أهمية اللغة وتأثير اللغة في تكوين الفكر القومي، هل يمكن أن تفسروا لنا وتوضحوا هذا المفهوم: اللغة؟!…
ج: … اللغة ليست هنا الكلام أو الكلمات أو المفردات، لأنها تصبح عند ذاك بمثابة معجم. لا، هي شيء آخر. اللغة تعني ثقافة كاملة وحضارة كاملة. ولذلك في الاشتقاق نفسه، لغا يلغو، في الاشتقاق نفسه تجد: كيف تحيط بكل نشاط الإنسان وتبلوراته، في مصغّرات، منمنمات، فصارت تسمى لغة. المنمنمات صارت تسمى لغة. أما هي في ذاتها الشاملة، فإنها تُعتبر "الحضارة"، النشاط الإنساني الكامل لهذه الشعوب الموسومة بالعربية. وهذا التفسير بيِّن في كتابي دستور العرب القومي. وكذلك، في عدة مقالات في مجلة "الأديب" تحت عنوان: اللغة بين الفكر والخيال، أو شيء من هذا النوع… سلسلة مقالات في الأديب موجودة… مثلاً صدرت سلسلة مقالات بعنوان: قديم من الأدب الحيّ، وفيها مجموعة من الأبيات التي قيلت في الجاهلية وأوائل العهود الأموية وغيرها، وهي تحمل قضية إنسانية كبرى: هذه سميتها: قديم من الأدب الحيّ، أُثبت القطعة، ثم أنثرها بنثر بيانيّ. وهذه إذا جُمعت ونُشرت اليوم تُعتبر كتاباً مستقلاً وبنفس العنوان… "قديم من الأدب الحيّ… وأنا كما قلت لك، من كثرة ما كنت أكتب في مجلة الأديب، كنت أنشر مثل هذه الأشياء بإمضاء: أبو مُضر، أو أبو حيان…
س: … هناك بعض الكتّاب القوميّيين يؤكدون على أهمية اللغة في تكوين القومية. فالسؤال الذي يُطرح ـ مثلاً إننا نعرف أن ساطع الحُصْري يؤكد على اللغة كمقوِّم للقومية العربية. وهناك كذلك كاتب آخر زكي الأرسوزي يعطى أهمية كبرى إلى اللغة وكذلك الشيخ عبد الله العلايلي ـ فالسؤال الذي يُطرح في هذه الحالة هو التالي: ما هو الفرق أو الفروقات بين هذه المفاهيم المتعدِّدة حول اللغة كعنصر أساس للقومية العربية؟…
ج: … فقط في مسألة الإفراط، الإفراط والمبالغة في الإفراط.. وتجعلها المقوِّم الأول….
س: … أريد أن أعود إلى طرح السؤال حول اللغة: مثلاً من الواضح أن زكي الأرسوزي ينظر إلى اللغة بكثير من القداسة ويجعلها أو حتى يرفعها إلى مرتبة الألوهية…
ج: … هذه مبالغة كبيرة… لقد أصبحت هذه من خيال الشاعر… صارت خيال شاعر، وليست بحثاً (علمياً) أو فكر باحث. لا، خيال شاعر… عندما يأتي هو، زكي الأرسوزي، في محاولته: عبقرية اللغة العربية في لسانها، هي محاولة جيدة. لكن، في كثير منها نوع من الإفراط، من الادعاء، تحميل اللغة ما لا تحتمل في سبيل أن يقدِّم هذا المفهوم الذي أخذه على نفسه، لتبيان عبقرية اللغة العربية. ولكن هو في حد ذاته، ينبغي أن تعرف الأرسوزي: الأرسوزي، عندما ركب مركبَه الإيمانيّ واتجه كمثَلِ باعث، كمن يبيع المؤمن وينجلب من كل شيء في سبيل عقيدته، لما فعل ذلك في منطقة اسكندرونة، منطقته الأساسية، وجاء إلى سورية، فلم يجد في الموطن الذي ضحّى في سبيله بأغلى الأشياء، متنفساً له إلاّ اللغة. تماماً صدق عليه قول المثل العربي القديم: تخيَّل ثمّ خال. تخيَّلتَ أنت بأنك عنتر، ثم مشيتَ بخُيَلاء عنتر. لكن الواقع، لا أنت عنتر ولا إنك تستطيع أن تمشي بخُيَلائه. لقد كان هذا المثل جميلاً جداً عند العربيّ: تخيَّلَ ثمَّ خال… كمن يتخيّل الواحد أنه أكبر مفكر، ويمضي يتخيَّل كيف يكون المفكر الكبير واضعاً يده على رأسه بإطراقة متأمِّلَه….. هذا كله من باب الخيالات. تحيَّل في البداية ثم خال، أي أخذته الخُيَلاء. بمعنى أخذته خُيَلاء ما تخيَّله… واحد تخيَّل أنه أغنى الأغنياء، وآخر تخيَّل أنه أكبر المفكرين، وثالث تخيَّل أنه أشجع الشجعان وهلمّ جرّا. فالأرسوزي تخيَّل باللغة جوهر كل شيء، جوهر كل ما يحلم به، فأعطاها من خياله ما وسعه كتابه: عبقرية اللغة العربية.
س: … هل هذا يمثل تراثاً في الأدب العربي أو في الفكر العربي، بمعنى آخر هل كان هناك كتَّاب تراثيّون كانوا ينظرون إلى اللغة العربية هذه النظرة الاستعلائية؟!…
ج: … أجل… هناك كثير في الماضي كانوا ينظرون إلى اللغة العربية نظرة استعلائية. وهذه المسألة ليست غريبة وهي دون ريب شىء من التُّراث. مثلاً عندما تأخذ شخصاً كالمعرّي، يغضب أن تحرِّف في نقطة من حرف، وليس بحرف، لأنه كان يرى كل تجديف في هذا التحريف. أجل، هذا نوع من الاستعلائية… وهذا تماماً يصدق عليه ما كان يسمى عند القدماء: المضنون به على غير أهله. وكان تعبير المضنون به على غير أهله عند الحكماء، والمضنون به على غير أهله عند الصوفيّة وكذلك المضنون به على غير أهله عند رجال الحكم وهلمّ جرّا. هذا كان المضنون به على غير أهله، المبخول، من الضنّ أي البخل. ولذلك ألَّف فيه كل العلماء تحت هذا الاسم. الغزالي في التصوُّف ألَّف فيه كتاباً المضنون به على غير أهله. المتفلسفون ألَّفوا فيه فلسفياً المضنون به على غير أهله، الباطنيون ألَّفوا في المضنون به على غير أهله…..
س: … ما مدى تأثُّر أو تأثير النُّحاة أو اللغويين العرب في فكر الأرسوزي؟ أقصد وهنا يتبادر إلى الذهن ابن جنِّي على سبيل المثال وغيره…
ج: لا، زكي الأرسوزي لم يكن مدرسيّاً (بمعنى اختصاصياً في اللغة العربية)، فقد كان في الأساس فيلسوفاً، فدراسته في فرنسا الفلسفة. لذلك هو فيلسوف وليس بـ "قواعديّ" حتى يتأثر بابن جنِّي وأبو علي الفارسي. لا، ليس هو من مدارس النُّحاة، لا، لا، هو من مدارس المفكرين.
س: … إذن، تنظرون إلى اللغة من جانبَيْن كما يتبادر إلى ذهني: من جانب لُغويّ نحويّ بحت ومن جانب فكري حضاري فلسفي.
ج: … الجانب الفكريّ الفلسفيّ هذا من نظرة مثل زكي الأرسوزي… وهذه النظرة لا تهتم بما وصل إليه القاعديون، لأن أرباب القواعد لهم منحى ولهم هدف آخر يختلفون في الأهداف. ولذلك ما يُعجبني عند القدامى المؤلفين المناطقة عندنا، عندما يفرِّقون بين موضوع علم ما وبين غايته. موضوعي كذا، أما غايته فهي تختلف كثيراً. الباحث القواعدي أمثال إبن جِنِّي وأبو علي الفارسي وغيرهما من طبقتهما، الباحثون القواعديون، أي الباحثون في قواعد اللغة، هؤلاء لهم غاية، لا الموضوع… الموضوع قد يتفق فيه مع المفكر أو الفيلسوف، ولكن يختلفان في الغاية. هذا يبحث عن الرؤى الفكرية ـ الباحث الفكري ـ وذاك يبحث عن القاعدة كيف تطبق فيما بعد. عندا يأتي ويقول النحويّ: "لا يجوز الابتداء بالنَّكرة ما لم تُفد عند زيد نمرة"، هذا بيت من ألفية بن مالك في القواعد. والتي هي ألف بيت في النحو والصرف، ما هي النَّكرة؟.. يجب تحديدها.. هنا تحديد النَّكرة عند النحويّ، ثق تماماً بأنها تحتاج إلى مجلد فكريّ عند النحويّ. ليست النَّكرة التي ليست محلاّة بألف التعريـف أو الإضافة. هذا تطبيق. ولكن ما النَّكرة؟.. ليس هذا تعريفها وإنما الضابط لها. هناك فرق كبير بين التعريف والضابط. وهنا يقول: إن النَّكرة هو الشىء الدائر، الشىء الافتراضي الدائر مع الاحتمال في مشخّصات عديدة. فهذا ما يسميه المنطقيّ الجزئيّ المندرج تحت كليّ، وقاعدة كل كليّ جزء لجزئيِّة. ماذا تفهم من ذلك؟ هذا النحويّ، عندما يريد أن يبحث في النَّكرة: النَّكرة هو الأحد الدائر في مشخّصات أي كمشخّصات: الكليّ في الجزئيّ وقاعدته، كما قلتا، كل كليّ جزء لجزئيِّة… ماذا يعني ذلك؟ أنت مصطفى، عند المنطقيّ والنحويّ، شيئان: أنت الإنسان كليّ، والمشخّصات من حُلى يقوم بشعر أسود ووجه أسمر وقامة كذا إلى آخره، هذه تمسى مشخّصات، هي جزئيّ. كل كليّ إنسانية مصطفى جزء لجزئية المشخِّصات…
لذلك أتت القاعدة المنطقية تقول: كل كليّ الإنسانية جزءٌ لجزئيَّة. جزئيّ الكليّ جزؤه مصطفى ذو المواصفات الخاصة. إذن، النحويّ، عندما يقول: النَّكرة يريد الأحد الدائر الصادق على احتمالات عديدة. عندما يقول رجل الذي هو نكرة، كتاب الذي هو نكرة، يصدق على كليّ، على احتمالات الاشكال، أو على احتمالات كل ما تحويه مكتبة الكونجرس في واشنطن وهي أهم مكتبة وأوسع مكتبة في العالم.
س: … سوف أعود مرة أخرى، إذا سمحت لي، إلى "دستور العرب القومي"، عند صدوره عام 1941، ما مدى الصدى الذي أحدثه هذا الكتاب في الصحافة وفي الفكر القومي ولدى المثقفين العرب القوميين؟…
ج: … كان له صدىً واسعاً، وكانت ردة الفعل كبيرة إن كان في لبنان أم في سوريا أم في غيرهما من البلاد العربية، ردة الفعل كانت قوية جداً. وكُتبتْ عنه كتابات عديدة. ثم بعد ذلك ما من كاتب في الفكر القومي إلاّ وتأثر به من قرب أو من بعد. وعندما دعيت أنا ـ وقد تستغرب ـ في عام 1944 إلى يافا من قِبَل إذاعة "الشرق الأدنى" التي كان مركزها يومئذ في يافا،…. لقد دعيت للإقامة هناك مدة عشرة أيام وإلقاء عشرة أحاديث من الإذاعة. وأذيعت هذه الأحاديث العشرة بعد تسجيلها في المناسبات اللاحقة. النوادي الموجودة من أغرب ما تكون: النادي الثقافي العربي، مثلاً، وكان رئيسه علي الدجاني، من أروع ما تكون روحيته وروحية الشباب فيه. وأُقيمت لي عدد من الحفلات، ومنها حفلة نادي الروم الأرثوذوكسي، وهي حفلة من أروع ما تكون، وحفلات أخرى عديدة. حتى إنه بعد أن رجعت إلى بيروت لم يسعنِ إلاّ أن كتبت سلسلة مقالات بعنوان: لونٌ من حيويّة الروح في فلسطين. وهي مقالات من أهم ما تكون، فقد رسمت فيها كل ما رأيت في فلسطين.
س: … وفي سورية؟..
ج: … وكما قلت لك، وفي سورية أيضاً. وقد ذكر لي تأثير كتابي في سورية ميشال عفلق. وهو كان قد قرأ إعلاناً في الصحف السورية، فلم ينتظر حتى يرد الكتاب إلى سورية، فذهب إلى بيروت حتى يقتني نسخة من هذا الكتاب دستور العرب القومي. هذا ما شافهني بذلك مشافهـة، وكان موجوداً معنا الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي. فكنت ألتقي أنا وميشال عفلق وأحمد الصافي النجفي في مقهى الكمال في دمشق. وقد كتب القوميون كتابات عديدة عن هذا الكتاب. ولقد بيَّنت فيه لأول مرة كيف نشأ الفكر اللَّحظيّ أو النهضويّ ـ بزيادة الواو في كل شىء في الآخر: سلطويّ، نهضويّ، وهذا كلام فارغ، فإنهم يضعون الواو بدون داعٍ. ولكن، يعني… ـ الفكر الوحدويّ كذلك، مع أن الصحيح: الوَحديّ ـ ومهما يكن، فإن الفكرة النهضويّة اتسمت أول ما اتسمت، كما ذكرت في الكتاب: دستور العرب القومي، بسمة إسلامية مناهضة للاستعمار. فأول التحرّك لهذه الفكرة كان كذلك: إسلامية مناقضة للاستعمار. ثم دارت على نفسها مناقضة للاستعمار ومتعرِّفة إلى ذاتها في صلة بالإسلام. ثم دارت بها الأيام لأسباب ذكرتها في الكتاب، فصارت فكرة دافعة للاستعمار، بطبيعة الحال، لكل تدخّل (خارجي) وإيمان بالذات العربية (وإحياء) الفكرة العربيّة الكاملة في صلة رمزيّة بالإسلام، إلى أن كانت الحرب العالمية الأولى، فكانت نتائجها حتى الصلة الرمزيّة بالإسلام توقفت. الإيمان بذاتها (الفكرة العربية). لقد ذكرت هذه الوَحدة كيف كانت: بدأت إسلامية كاملة. وكيف انتهت قومية عربية كاملة.
س: … أما الآن ففيما يبدو أن القومية العربية تلتقي مع "الإسلامية"، حتى الأستاذ ميشال عفلق…
ج: (مقاطعاً) لا، شذّبوا من مفهوم الإسلام، شذَّبوا من مفهوم الإسلام المستنفذ لكل الانتسابات. الإسلام يجعل الناس سواسية: لا فضل لعربيّ على عجميّ إلاّ بالتقوى. جعل مقياسـه والتراتب عنده ـ أي التراتبيَّة ـ ليست إلاّ التقوى، والوجدان المَثَل الأعلى: عندئذ، لا يبقى قومية ولا شىء آخر… فالقوميات هي بحكم الملغاة.
س: … هنا يُطرح سؤال: هل استطاع الإسلام (كدين وكثقافة) أن يمحو الفوارق القومية بين الشعوب الإسلامية؟
ج: … يا ليت!! عندما تكون هناك إسلامية، إسلامية حقيقية، تنمحي هذه الفوارق. فأنا قبل كل شىء مسلم، قبل أن أكون شيئاً آخر، ثم عربيّ، ثم إنكليزيّ، ثم فرنسيّ، ثم، ثم وهكذا. هذا هو حال المفكر الإسلاميّ. أما المفكر القوميّ، لا… فهو ينطلق كما قلت في المقال الذي أشرت إليه: الإسلام معطى من معطيات القومية العربية، لمّا تأنَّقت (تألّقت) القومية بشكل عالٍ جداً، فقد كان أن أفرزت ومن إفرازاتها التِّجوهر الإسلاميّ، العقيدة، وهذا شىء آخر.
س: … وماذا يعتقد الشيخ عبد الله العلايلي؟!…
ج: … لا، أنا الآن أتحاشى كثيراً الإغراق الذي كنت أُغرقه في يوم من الأيام في القوميّات. لقد صار لديّ فكرة الآن: الإسلام في رفعته وتألّقه الإنسانيّ، هذا هو… وأؤمن بحديث وإن كان عند علماء الحديث ليس قوياً كل القوة ـ يعني في رتبة الضعف ـ لكن جوهره هائل: يقول النبيّ: العرب مادة الإسلام… حتى إنه قد ألّف الحافظ العراقيّ رسالة جميلة جداً جمع فيها الأحاديث التي تذكر قيمة العرب و(اللغة) العربيّة في الإسلام، لا سيما هذا الحديث الذي ارتفع بالعربيّة هذا الارتفاع الكبير إلى درجة أنه يصبح أشبه بـ "أرسوزي" تماماً. الحديث: يُحبُّني العرب لثلاث: لأنيّ عربيّ ولأن القرآن عربيّ ولسان أهل الجنَّة في الجنَّة عربيّ. هذا حديث حسن… فأنا أؤمن في هذا النطاق القوميّ بهذا المقدار وليس أكثر من هذا، ليس الإمعان. بينما كنت في الماضي لا، على العكس، كانت القومية يخيَّل إليّ أنها "ديانة" حتى إنني أنا كنت قد سمَّيتها "الدين الطبيعيّ". هناك فصل من فصول كتابي "دستور العربي القومي" تحت عنوان: "الدين الطبيعي".
س: … نعود إلى موضوعنا الأساس: الكتَّاب القوميون الأوائل ومنهم قسطنطين زريق على سبيل المثال، هل كان له تأثير في رأيك، على صعيد الحركة القومية العربية في نشوئها؟…
ج: … هناك فئة كبيرة من الشباب الذين أصبحوا بعد ذلك ملزمين (ملتزمين) وأصحاب مدارس (في القومية العربية) نشؤوا على كتبه وعلى فكره. فضله هائل، من هذه الناحية. وهو نشيط كثيراً ومؤمن كبير كقوميّ عربيّ من الأوائل وظلّ كذلك.
س: … كنتَ قد حدثتني في المرة السابقة عن الكتب أو المجلات أو الدوريات الممهِّدة للفكر القومي. وكنتَ قد ذكرت لي مجلة "العُروة الوثقى"، هل كان للعروة الوثقى ـ في رأيكم ـ تأثير في تنمية ونموّ الفكر القومي؟.
ج: … العروة الوثقى" لجمال الدين الأفغاني مجلة إسلامية، أما "العروة الوثقى" للجامعة الأميركية في بيروت، فقد كان لها بالفعل أثر كبير جداً، كانت هذه المجلة "مدرسة" (في القومية). عندما يُجمع جميع أعداد هذه المجلة، تجدون منهج "العروة الوثقى" وأثرها (في المرحلة الزمنية التي كانت تصدر فيها)، منهج الكتاب الفلاني للمؤلف الفلاني وأثره في تنشيط الحركة القومية (العربية) وفي الناس. فيكون هذا عملاً كبيراً جداً في تأريخ القومية العربية.
س: … ميشال عفلق، مدى قيمته الفكرية والفلسفية في الفكر القومي؟…
ج: … هو في الأساس يجب أخذه والنظر إليه كمؤرخ. هضم فكرة التاريخ بمفهومها الأحدث، وليس من حيث الوقائع (التاريخ الحدثيّ)، وإنما بمفهومها الحضاريّ. فهو أساساً دراسته تاريخية ومجاز بالتاريخ، فهو يهضم التاريخ بهذا المعنى، بالمفهوم الحضاريّ الكامل الشامل: هذا هو التاريخ. وهذا ما أقوله أنا كذلك إن هذا المفهوم تجسِّده اللّغة. اللغة تجسِّد هذا المفهوم (الحضاريّ) بشكل هائل. وأنا كنت، وهذا أهمَّ شىء كنت أتمنّاه، أو تراودني فكرته في أيام نشاطي، في سنة 1953 ـ 1954، عندما أسَّست "المعجم الكبير"، (هو أن أقوم بذلك)…
س: … من الملاحظ أن الأستاذ ميشال عفلق، وهذه نقطة أساسية، يرفض ـ كان في السابق ولا يزال وقبل وفاته ـ يرفض تعريف الأمة أو القومية. ولا يعرِّفها بمقوِّماتها أو بعناصرها. ومن أحد أقواله، وكان دائماً يردِّده، أن الأمة العربية هي موجودة، هي وجود موضوعيّ ماديّ، هي واجب الوجود يجب أن نؤمن به بداية وقبل أيّ شىء آخر. ثم بعد ذلك ـ وبعد ذلك فقط ـ يأتي التعريف. فما هو رأيك وأنت كأحد أعلام الفكر القومي، بهذا النموذج، بهذا الموقف من الفكرة القومية؟..
ج: … فهو يأبى التحديد، لأنه لا يريد أن يضعها (الأمة العربية) في أُطُر. ذلك لأن كلَّ تكيُّفات إنما هي تغيُّرات وكلَّ فكرة خاضعة للتغيُّرات. وجودك أنت الآن يختلف عنه بعد (مثلاً) ثلاث ساعات وهلمّ جرّا. وكذلك الأمة وكذلك كل ما يحيط بالكائن (الحيّ والأمة العربية هي كائن حيّ)، إن كان جماعة أو فرداً: التِّغيّر الدائم. لذلك يأبى المخلص ضميرياً لفكر ما أن يحدِّده التحديد القطعيّ، أي وضعه في حدود، في أبعاد. وهذا بديهيّ، وهو أشبه بشىء بسيط جداً، من كلاسيكيّة نيوتن: تقرَّرت الأبعاد من نيوتن إلى أول مفكِّر هندسيّ، تقرَّرت الأبعاد بأنها ثلاثة. وكان كل الفكر يصدر عن ثلاثية الأبعاد: الطول والعرض والعمق. إلى أن كان عام 1905، وبرزت الأبعاد الأربعة: حيث دخل البعد الزمنيّ، المكان ـ الزمنيّ، الزمكان للعالِم أينشتين.
إذاً، لماذا التحديد (القطعي وبخاصة في الأمور النظرية والفكرية) التحديد القاسي الذي يمكن أن نستعمله بالصرامة، لأنه مع الصرامة يصبح تحديداً فجاً. عندما تعتمد على دقَّة تامة بالتحديد، تكون قد وقعت في فجاجة، في فجاجة التحديد. وهذا صحيح.
س: … وهذا يتناقض مع المدرسة القومية التي تنطلق من التحديدات أو من التعريفات للقومية: اللغة، التاريخ، إلخ..
ج: … لا، ليس هذا تناقضاً… وإنما يعني أنه لا ينبغي الوقوف عند عملية التحديد الصارمة، بل هي تقوم بعملية تحديد تقريبيّ. والتحديد التقريبيّ يقول به هو (ميشال عفلق) وغيره. فهو يعتبر كلَّ تحديدات هي مقاربة للإفهام، للتفهيم. أما القضية الفكرية الخالصة، فلا. ينبغي أن تترك مجالاً مُتَّسعاً لقبول أشياء أخرى.
س: … هناك أيضاً تعريفات للقومية تنطلق من مفاهيم ماديّة. هنا يخطر ببالي تعريف رئيف خوري للقومية الذي يستند إلى التعريف الستاليني، ما هو تقييمك وما هو رأيك في هذا الموضوع؟..
ج: … لا، هذا النوع من التعريفات متأثر بما يسمونه بـ "الأفكار القَبْليّة". أنت آمنتَ بـ "الزردشتية" مثلاً، وقلت لك عَرِّف لي هذه الجريدة. فتقول لي: إنه بالشكل الزردشتي، فيها شىء من تكبير للأحرف. فمن الضروري أن تكون منمنمة أكثر من ذلك. فأنت لا تعرِّف الجريدة، وإنما أنت تفكر فيها بعقل زردشتي. وهكذا رئيف خوري، عندما ينطلق من منطلق حزب (شيوعي)، من ماركس، معناه أنه هو ماركسيّ قبل كل شىء، ثم قومي. إن منطلقه الفكري غير منطلق القومية، بمعنى أنه يفهم القومية بفانوس، كما لو أنك أنت تحمل في وسط الدُّجنَّة الحالكة مصباحاً، تجد الشىء منحرفاً أو مستقيماً أو قائماً أو منبطحاً، إنك ترى كل هذه الأشياء بحسب موقفك مما ترى بواسطة الفانونس. لو كان عندك مصباحيّة أقوى، قد تراها بشكل آخر. فإذاً، أنت ترى الأشياء بشكل قَبْليّ أو بشكل أداة، الفانوس أداتيّ أو الإيمان بفكرة سابقة، أفكار قَبْليّة. فهو، (رئيف خوري) ينظر للقومية من منظار ماركسيّ. لذلك لم يكن يؤدي القومية في جوهرها.
س: وفي ردِّه على قسطنطين زريق في كتابه "معالم الوعي القومي"… هل أصاب في نقده؟…
ج: … لم أعد أتذكر المواضيع التي أخذها على قسطنطين زريق. ولكن أعتقد أنها تدور جميعها في مدار ماركسيّ أكثر مما هو شىء آخر.
س: … هنا، أودّ أن تحدّني عن عبد الرحمن الشهبندر وتأثيره الوطني والقومي في سورية وفي المنطقة، إن أمكن ذلك؟.
ج: … عبد الرحمن الشهبندر، دون ريب، كان له نشاط كبير. لكن الظروف التي أحاطت به جعلت الأسس والمنطلقات سياسية، أكثر من التأثير الفكري. وإلاّ فإنّ مجموعة الأفكار التي طرحها في المجلات الكبرى مثل: المقتطف أو الهلال أو الصحافة مثيلها في مصر، هذه قد أثَّرت تأثيراً بعيداً. حبَّذا لو كان عنده هدأة أكمل ليؤثر بأفكاره التي يمكن أن نسميها: الخالصة، الأفكار الخالصة، لكان تأثيره هائل. لكن لقد قُيِّد له أن يكون عاملاً سياسياً أكثر مما هو شىء آخر.
س: … كذلك كنت قد حدثتني في المرة السابقة عن الكتِّاب الذين كان لهم تأثير يجب أن يُشار إليه في الفكر القومي وهم ليسوا معروفين الآن: مثل داود مجاعص وغيره كثير أيضاً…
ج: … تأثيرهم في الحركات الفكرية… فهؤلاء يجب أن تراجع في شأنهم النّوى (جمع نواة) الأولى للأفكار القومية التي مرّت. وهذا حتماً، عندما تدرس الحركة في لبنان، تجد أمثال داود مجاعص، أو الحركة الفكرية في المهجر. مجاعص عاش مدّة في لبنان، ثم ذهب إلى مصر ومن بعدها إلى المهجر. وكذلك مثله الآخرون: فيلكس فارس الذي كان له تأثير كبير على صعيد الفكر من خلال مجلته التي كان لها تلاميذ أيضاً وأعطت أثراً كبيراً. وكذلك إميل الحايك وهو من أحسن المفكرين، وكان له زاوية في جريدة "الأهرام" في مصر، يحلِّل من خلالها السياسة العربية وهو من أحسن الباحثين….
س: … حدثتني كذلك عن أسعد داغر وقراءتك لكتابه.
ج: … (مقاطعا) أسعد داغر الذي كتب في البداية تحت اسم وتوقيع مستعار: مقدِّمات ونتائج، ثم توسَّع فيها وزاد عليها ونشرها باسمه… وهو من أحسن دعاة القومية العربية (في زمانه) في مصر، والذي نمّى الفكرة القومية العربية في مصر هو أسعد داغر، والذي "اصطاد" أكثر المفكرين المصريين مثل محمد علي علوية باشا، وانتماؤه (إلى القومية العربية) بسبب أسعد داغر. وكذلك أمين سعيد من سورية، كتب كتابات عديدة.
س: … "يقظة العرب" لأنطونيوس،
ج: … هذا الكاتب والكتاب يعطيك المعالم الأولى للقومية المتفتِّحة، هذه هي اليقظة الأولى. بالفعل، كتابه جليل…
س: … ما هي نصيحتك لي من الناحية المنهجيّة؟.. وكيف أعمد لكتابة أو لمحاولة تأريخ الحركة القومية من خلال المؤلفات؟
ج: … تأريخ الحركة القومية من خلال المؤلَّفات والمؤلِّفين (بمعنى البدايات الأولى: الفكرية والسياسية لنشوء الفكرة القومية العربية من خلال الكتب والكتابات في المجلات ومن خلال أعلام المؤلِّفين والمفكرين الأوائل غير المعروفين الآن وكتاباتهم موزّعة ومتفرِّقة هنا وهناك في مختلف الأقطار العربية: مصر، العراق، فلسطين، لبنان، سورية، المغرب العربي، إلخ…). وهذا عمل جيد ويكون شيئاً جديداً، (التأريخ لنشوء الفكرة القومية) من خلال الكتب، وليس فقط من خلال الوقائع. الوقائع تؤرخ للحركة القومية. لكن من خلال الكتب، معناه: كيف تكاملت النَّواة التي ستصبح شجرة مُعطية، مثمرة، كي تصبح تماماً كمثل الأبيات لصديق لي وهو مفكر قوميّ، مفكر قوميّ أخيراً: سيّد حبيب العبيدي الذي كان بادىء بَدء مفكراً إسلامياً وهو عراقيّ. إنه مفكر إسلاميّ هائل وأحد خطباء العالم العربي الكبار. انتهى مفكراً قومياً. ألَّف فيما بعد كتاباً سماه النَّوى في حقول الحياة. وهو عضو في مجلس الشيوخ، أي الأعيان في العراق، وهو أيضاً رجل دين ومفتي الموصل. له هذان البيتان الجميلان اللذان وضعهما شعاراً لكتابه: النَّوى في حقول الحياة. يقول:
في حقول الحياة أَلْقَيتُ للنشء نواةً بها تطيـب الحيـاة
أملي أن يعيش بعدي سعيـداً ورجائي ألاّ تخيش النَّواة
وكذلك من المفكرين العرب الكبار، الشيخ محمد رضا الشبيبي، وهو أيضاً عراقي…
س: … متى كان نشاط هؤلاء المفكرين؟
ج: … أواخر القرن التاسع عشر وأوائل وأواسط القرن العشرين… مثل محمد رضا الشبيبي وهو من هذه الأنواع… ويقول هذه القصيدة الرائعة عندما سقطت القدس بيد "اللّنبي" وبعدها دمشق بيد الفرنسيين
ماذا بنا وبذي الديـار يرابـي سقطت دمشق وبعدهـا بغـداد
من موطن الميعاد قامت مجِّعاً خَيْل لهـنّ بجلّـق الميعـادي
ساءت وقائعها فلا سُرّت بهـا لا الهجرة الأولى ولا الميلادي
(..إلخ…)
وهنا يروي الشيخ عبد الله العلايلي بعض القصائد الجميلة لمفكري الحركة الأدبية والفكرية والقومية السابقين وهم الآن غير معروفين من جمهور المثقفين.. مثل:
الشيخ فؤاد باشا الخطيب، من شحيم (إقليم الخروب، الشوف ـ جبل لبنان) وله قصيدة تسمى "الثورة"، قصيدة الثورة العربية الكبرى.. قيلت عند اندلاع الثورة بقيادة الشريف حسين عام 1916… وفيها يقول:
إلـى الشآم إلـى أرض العـراق إلى أقصى الجزيرة سيروا وارفعوا العلمَ..
س: ، فإذاً، كانت الموجة القومية تياراً جارفاً.
ج: … كانت الحركة القومية رائدة آنذاك…
س: … هنا أريد منك أن تحدِّثني عن دور عصبة العمل القومي في سياق تطوُّر الحركة القومية العربية…
ج: … عصبة العمل القومي دورها أنها ركَّزت الفكر القومي العربي. وأنا كنت قد استفدت منها ـ قبل تأليفي دستور العرب القومي ـ بتحديداتها. ثمّ، لمّا رغب إليّ سنة 1942 تجديدها، فأحييتها مرة ثانية، أنا وأحد المؤسِّسين الكبار المرحوم علي ناصر الدين. علي ناصر الدين هو المؤسِّس الأول (ربّما في لبنان) من أوائل المؤسِّسين وهو المفكر القومي العربي الكبير والمُضيَّع… بمعنى: مَن يدرسه ومَن يفكر فيه الآن. وهو من أكبر القوميين العرب في زمانه. وعندما أحيينا مرة ثانية عصبة العمل القومي، وضممنا إلينا بعض الشباب منهم كلوفيس مقصود، وكان لا يزال شاباً يدرس في الجامعة الأميركية في بيروت وكان معنا في حركة التجديد. وبعد ذلك، انتسب أيضاً إلى حركة التجديد محمد علي الرزّ وهو تربويّ والأستاذ رمضان لوند، وكان خطيباً جيداً…
س: … ثم جاء حزب البعث…
ج: جاء حزب البعث تأوّجاً، تأوّج الحركة القومية العربية، بمعنى أنه بلغ به تقريباً الأوج، أو يحاول بلوغ الأوج… أما إلى أيّ مدى وُفِّق أو لم يوفَّق، هذا شىء آخر.. ولكن انضمّ إليه وشكل بعد ذلك تيار مدرسة، انضمّ إليه مفكرون كُثُر، والجوانب التي هو لم يوضحها، أوضحوها هم…
س: … لماذا لم تستهويك فكرة البعث وتكون في عداد مؤلفين أو مؤسِّسين لحركة البعث العربي وهي في بداياتها الأولى؟…
ج: لا، لقد دعاني ميشال عفلق (لأن أشارك معه) وكانت حتى بيني وبينه لقاءات. وكنت أنا موحي له باسم البعث. عندما كان يحاورني للقيام بحركة سياسية بين الشباب، قلت له لو كُلِّف بحركة من هذا النوع، ينبغي أن تسمى "البعث".. وكان كذلك قد تبنّى هذا الاسم. وهذا منذ سنة 1942 (بعد أن نشر العلايلي كتابه دستور العرب القومي عام 1941)، ذلك أنه كان "نزولي" (ذهابي) إلى الشام كثيراً… ولقاءاتي كثيرة معهم وقد دعيت إلى الشام لإلقاء محاضرة في النادي الثقافي العربي، وكان ميشال عفلق أستاذاً في مدرسة التجهيز هو وزميله صلاح الدين البيطار، وكنا نلتقي كثيراً. وكان كذلك للأرسوزي شبه ندوة في مقهى "البرازيل"، طلعة المهاجرين، كنا نتلاقى أيضاً في هذا المقهى…. ومن جملتهم كذلك مفكر كبير اسمه شكري فيصل، وكان له تأثير كبير في الجو القومي، وفكره القومي العربي نقيّ، وهو يُعتبر أحد المفكرين الكبار، وله كُتب من أجلّ الكتب في حِقبة من التاريخ الإسلامي…
(هنا توقفت عن الحديث وطرح الأسئلة، بعدها لاحظت بوادر التعب والإرهاق على وجه شيخنا الجليل العلامة الشيخ عبد الله العلايلي، وكان في سن السادسة والسبعين من عمره يجلس على الأرض وأمامه طاولته المعهودة في مكتبته التراثية الغنية، وهو يتمتع بحدَّة ذكاء وذاكرة قويّة يقظة في مثل سنِّه…).