مهنة النجارة في مدينة صيدا من الماضي إلى الحاضر- محمد أحمد البلولي
مقابلات /
إجتماعية /
1984-05-29
مقابلة مع
السيد محمد أحمد البلولي
بتاريخ 29 أيار 1984
الموضوع: مهنة النجارة في مدينة صيدا من الماضي إلى الحاضر،
ومـن ثمَّ الحيـاة الاجتماعيـة فـي المـدينـة منـذ
الحـرب العالمية الأولـى…
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفـى دندشلـي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … أودّ بداية أن تحدثني عن مهنة النجارة في مدينة صيدا، كمهنة أساسية وذات أهمية ولعبت دوراً تاريخياً في المدينة منذ القِدَم.
السيد محمد أحمد البلولي: … كان جوابه بكثير من التفصيل حول مهنة النجارة في مدينة صيدا، فأشار إلى أنها من المهن الضرورية وهي أوسع مهنة وأبرزها في المدينة. وهي تنقسم إلى قسمَيْن: المنجور والموبيليا. وكانت في الماضي العربيات كذلك تدخل ضمن مهنة النجارة: عربيات الحناطير والطنابر (ج طنبر)، بالإضافة إلى الدواليب المصنوعة من الخشب والحديد….
ولكن ما كان من ضرورات الحياة للإنسان إنما هو "المنجور"، وهو عبارة عن الأبواب والنوافذ لحفظ البيت، ويدخل من ضمنه بالضرورة: السقف والتَّكنات القرميد. فكان لصناعة أو لبناء السقوف والتَّكنات اختصاصيون في مهنة النجارة، كذلك للأبواب والنوافذ اختصاصيون. وهناك معلمون في مهنة النجارة اختصاصيون في المهنتَيْن أو القسمَيْن.
وعلى العموم، لقد كانت صناعة النجارة أو مهنة النجارة على أنواعها في صيدا، من أشهر الصناعات وأحسنها في جميع المناطق المحيطة بنا كافة. فقد كان معلم النجارة في مدينة صيدا له سُمعة حسنة ويتمتع بشهرة واسعة، لذلك كانت الناس تأتي من الجولان، من الشوف، من حاصبيا، وخصوصاً من جميع القرى المجاورة، إلى صيدا ويقوموا بتنفيذ أعمالهم وأشغالهم وبناء منازلهم. فقد كانوا يفضلون شغل معلمي صيدا عن بقية البلدان الأخرى.
طبعاً، في المناطق الجبلية حيث البرد والثلوج، فقد كانوا يفضلون تكنات القرميد، فيأتون على سبيل المثال من الجولان أو من المناطق الجبلية النائية إلى صيدا، ويعودوا وبصحبتهم معلمون اختصاصيون في المهنة، ويحملون معهم ما يلزمهم من الخشب والمعدات الأخرى الضرورية. وتستمر ورشة عملهم مدة شهرَيْن أو ثلاثة شهور متواصلة، حتى ينتهوا من إقامة التَّكنة والمنجور والسقف وإلى ما هنالك، ثم يعودوا أدراجهم إلى مدينتهم صيدا. كانت عندنا هذه الأعمال وهذه الورش من المعتادة والمعروفة والمشهورة حينذاك..
لقد كان في صيدا في ذلك الحين معلمون في مهنة النجارة على أنواعها ذات شهرة واسعة ومعروفة، والمهنة مرموقة ونشطة وعريقة. ومن المعلمين المشهورين في المهنة ـ على سبيل المثال ـ محمد ومصطفى الددا: لقد كانا بالأساس نجاريْن. ثم توسَّعت مصلحتهما، فأصبح محمد الددا تاجر خشب واختص بهذه التجارة، في حين أن مصطفى الددا اختص بالنجارة والتِّكنات والسقف، والتَّوجه نحو العمل في المناطق الجبلية النائية نوعاً ما، ويتعهد بالتزامات في تلك المناطق التي كان يذهب إليها على فرس له، ذلك أنه في تلك الفترة، لم تُعرف بعد وسائل النقل الحديثة من عربات وخلافه. وهكذا توسَّع عمله وازدادت أشغاله وتحوّل أيضاً إلى تجارة الخشب الذي كان يستورده من الأناضول ومن رومانيا: مثلاً خشب القطرون وخشب الشوح الذي كان يستورده كله….
هذا، وقد كان لكل حِرفة، لكل صنعة، لكل مصلحة تجارية أو خلافه، شيخها. وكان شيخ النجارين، أو طائفة النجارين، الشيخ بدوي البساط، ومعه حسن البساط وأخوه خليل. والمعلمون النجارون المشهورون حينذاك يأتي في المقدمة: حسن وحسين ومحمد أبو زيد، وديب الصفدية، وتوفيق حجازي (ويُقال له شرارة)، والعبد نجيّا. هؤلاء مثلاً هم نجارو المنجور، منجور البيوت. وعملهم وشغلهم بواسطة "اليد"، بمعنى دون استخدام الأدوات أو الآلات الأخرى التي سوف تُستخدم فيما بعد.
وكما قلت، فكان البدوي البساط هو شيخ النجارين، لأنه كان كبير السن، فكانوا يحترمونه ويتشاورون معه شؤون مصلحتهم ويأخذون رأيه. إنني كنت أعرفه شخصياً وأنا صغير السن، وهو كان في آخر أيامه ولم يعد يعمل أو يشتغل في النجارة، إذ إنه أصبح كبير السن. وأنا كنت أعمل في محل المعلم علي أبو علفا، أتعلم مهنة النجارة عنده، وهو البدوي البساط، يأتي ويجلس عنده في كثير من الأحيان. البدوي البساط كان معلماً في النجارة وشغله نظيف ومتين وكان مقصوداً من الناس. كذلك المعلم أبو زيد. وتوفيق حجازي شرارة معلم ممتاز: الخشبة تخرج من تحت يديه وكأنها مصبوبة صبّاً. فقد كان متخصِّصاً في المنجور، وكان في الوقت نفسه يشتغل التَّكنات، تكنات القرميد… وديب الصفدية، كان لديه ورشة نجارة كبيرة كذلك وهو معلم مشهور كان قد تعلم على يديه أبو مصطفى الزعتري. وهناك عدد كبير من معلمي النجارة المشهورين في مدينة صيدا ولهم جميعاً سمعة في المهنة ممتازة.
ثم يتحدث عن وسائل النقل المتاحة آنذاك: الطنبر والحنطور: ذلك أن الطرقات كانت ما زالت رملية. كما أن الأبجور، كانت هذه الصناعة تتم باليد، قبل دخول المنشار الحديد الذي يشتغل على موتور المازوت، فلم يكن هناك كهرباء. ودخل أيضاً الرابوخ والمكنات التي تعمل الأبجور والتي جاءت إلى بيروت عام 1924 ـ 1925، ومن ثم جاءت إلى صيدا بحدود 1930. وكانت تنتقل المصلحة ومهنة التجارة أباً عن جد، ويتعلمها الصانع من المعلم عن طريق التجربة والمراقبة…
وللنجارة فرع ثانٍ، أولاً هو صناعة المراكب. وصيدا كانت منذ قديم الزمان مشهورة بصناعة المراكب. وكانت هذه الصناعة تتم دون وجود خارطة أو أي شئ من هذا القبيل،وإنما عن طريق التصوُّر العقلي والنَّظر والخيال الفطري والتجريبي. وصناعة المراكب كان مطلوباً لواقع مدينة صيدا على البحر وملاصقة له، ولأنه الوسيلة الضرورية لنقليات البضائع عبر البحار وبين المرافئ البحرية. وكان في صيدا مَن يشتغل بصناعة المراكب ومراكب الصيد الصغيرة، أي المبطَّنات، وهم بالتحديد آل العاصي، آل حفوضة، آل السن، آل الترياقي. هذه هي العائلات الأربع التي كانت معروفة ومشهورة بهذه الصناعة.. فحسن العاصي كان يشتغل بصناعة المراكب الكبيرة، وكذلك رضا حفوضة. ولكن، في الحقيقة، كلهم كانوا معلمين في هذه الصناعة، صناعة المراكب في صيدا. كان هناك صناعة المراكب في أرواد، ولكن صناعة السفن والمراكب الشراعية في صيدا كانت أكثر شهرة واتقاناً وأجمل شكلاً وأسرع. وكانوا يأتون بالخشب من الأناضول للمراكب. ومن هنا، نأخذ خشب الصنوبر والسنديان والزنزلخت. أما خشب الألواح، فيأخذونها كذلك من السَّرو.
وهذه السفن، المراكب الكبيرة المبّطنات، هي للاستهلاك المحلي في صيدا، وكذلك يأتي تجار البحر من الخارج لشرائها. فهي وسيلة النقل البحري لصيدا ولغير صيدا. فقد كان يأتي أشخاص من بيروت، من صور، ومن عكا، لكي يوصّوا على المراكب من صيدا. ذلك أن موديل مراكب يافا ومصر هو موديل اسمه "الشقيف"، شكل المراكب مختلف عنه شكل المراكب هنا في صيدا. فقد تطورت مراكبنا بطريقة سهلة ومنظرها جيد وجميل…
هناك المراكب الكبيرة. ولكن المركب الصغير يتسع لـ 10 أو 20 طناً، وهو يسمى "كيك". ثم يأتي مركب الصيد ويسمى: "مبطَّنة" و"سُنبك". والسنبك مثل المبطَّنة، لكن المبطنة مقدمتها عالية، والسنبك مقدمته واطئة، الحجم واحد، ولكن الشكل مختلف قليلاً. فكان التجار يذهبون إلى الجبل ويأتون بالخشب المناسب من هناك، مثلاً من "روم"، وينشرونه ويصنعون منه ألواحاً. ولكن، بعد ذلك، صاروا يأخذون خشب سواد مثل خشب الشّوح 4 سنتم، يأتون به كألواح خالصة، منسَّقة، وهي في ما يخص صناعة المراكب. وكانوا يشتغلون المراكب أول بأول: في البداية، شغل نصف المركب، وينتهي منه، وبعد ذلك، يتتبعون ما بقي منه تتبيعاً متتالياً، يُظبِّطونه، تضبيط المركب إلى الوراء، ومن ثم إلى الأمام وهكذا حتى يصبح بالشكل الذي يريده.
كان هنا في صيدا مَن يعمل في صناعة المراكب محمود السن، والد محمد السن. وهو قد أخذ المهنة من خارج صيدا أو من الأجانب الذين كانوا يعملون الضلوع كلها. فقد قام ببناء المراكب من أوله حتى آخره، كان يعمل هو الخارطة وهم يعملون الضلوع كلها. ولكن، وبعد فترة من الزمن، وعندما وقعت أحداث فلسطين، جاء كيلو إلى صيدا، وهو في الأساس من أهالي صيدا. كيلو في حيفا كان قد أخذ المهنة، صناعة المراكب، من الإنكليز والألمان الذين اشتهروا بهذه الصناعة. فكانوا يأتون باللّنشات من إنكلترا من أجل خدمة "البور" (المرفأ) في حيفا. فأخذ كيلو هذه الصناعة من الإنكليز والألمان. وقال بأنني أنا أستطيع أن أصنع أحسن من هذه اللِّنشات. ولكن الإنكليز استخفوا به واستهتروا منه. وبالفعل، كان، بعد مدة من الزمن، قد أقام بناء لِنْش أحسن من ذلك الذي جاؤوا به من إنكلترا. وعندما جاء إلى صيدا بسبب الأحداث التي وقعت في فلسطين، تخصَّص في هذه المهنة وأصبح يشتغل في صناعة اللِّنشات في بداية الأمر، وليس في بناء المراكب الكبيرة التي تتسع لـ 100 طن.
في ذلك الحين، كان في صيدا رُيّاس بحر وكان هناك مركبان: أحدهما للريِّس محمد النقيب، الملقب بالأمير. وليس هو محمد النقيب الذي نعرفه اليوم، وإنما عمه. وقد لقّبوه بـ "الأمير"، لأنه كان شاطراً ومعلماً مشهوراً. وثانيهما: للريِّس حسن سليم وهبي ـ جدّ مصطفى عبد الحليم وهبي ـ هذان المركبان الكبيران لم يكن لهما مثيل ولم يوجد مثلهما في كل الساحل. مركبان لهما قلوع عريضة، راندات، وسفرهما يصل إلى المغرب العربي وإلى الأناضول، وسفرهما يتمان دون خريطة، ولكنهم كانوا يهتدون في سفرهم بواسطة البوصلة. إلى جانب ذلك، كان هناك مراكب أصغر حجماً، وهي لا تذهب في هذه الرحلات الطويلة، وإنما يبقى عملها الأساسي الانتقال على طويل الساحل، من ساحل يافا إلى مرفأ طرابلس واختصاصها بصورة عامة هو نقل البضائع على طول هذا الساحل الذي كان يُسمَّى ساحل "برّ الشام"، أو الساحل السوري…
ونأتي الآن إلى حركة البحر التجارية في ميناء صيدا. وهذه الحركة التجارية البحرية وعمل المراكب الشراعية كانت محصورة في فترات المواسم. وتشتغل هذه المراكب ويدبّ الحركة والنشاط في المرفأ حسب المواسم الإنتاجية. مثلاً في موسم الحمضيات، وبعد "نوَّة الحصون"، يتهيأون ويحضّرون عملهم ويجهزون مراكبهم ويقومون بعمليات نقل الحمضيات وخاصة البرتقال إلى مصر.
وبعد انتهاء هذا الموسم الخاص بموسم البرتقال، يبتدئ موسم البطيخ وإنتاجه الغزير الذي يأتي من فلسطين ويُصدر كميات كبيرة جداً منه عن طريق السفن الكبيرة إلى مصر كذلك. أما المراكب الصغيرة، فإنها تأتي إلى صيدا وبيروت ويستمر موسم البطيخ على هذا المنوال حوالي ثلاثة أشهر متواصلة ويقوم بذلك مراكب صيدا وصور وطرابلس.
وبعد انتهاء هذا الموسم، يدخل موسم الرُّمان والعنب وتقوم هذه المراكب بنقل البضائع من قبرص إلى مصر. وفي فصل الخريف، وتحديداً في تشارين، فيتمُّ استيراد البلح من مصر، وكذلك موسم الرز والسكر وما شابه حيث بدخول فصل الشتاء، يقومون بالتموين لهذا الفصل الذي يستمر أشهراً تتوقف فيه المراكب عن العمل والسفر. والريّاس الكبار لا يتحولون إلى الصيد في هذا الوقت، ولكن بعض الريّاس ينتقلون إلى صيد الأسماك بين الحين والآخر حتى نهاية فصل الشتاء. وهكذا تستمر حياة البحر وعمل المراكب والسفر وعمليات الاستيراد والتصدير. (ملاحظة أخيرة: كان يأتي التِّبن من غزّة بكميات كبيرة إلى صيدا، ومن هنا يعود ويُشحن ويُصدَّر إلى الخارج…)…
* * *
وإذا عدنا إلى النجارة، فقد كان هناك مصلحة معروفة وهي مصلحة أو مهنة صنع الطنابر. ومصلحة النجارة هذه، كان لها نجارون خصوصيون، وهم يقومون بصناعة الدواليب، من ناحية عمل "البطيخة" حيث يضعون أصابع الدولاب فيها، فهي التي تربط الأصابع. كما أن هؤلاء النجارين الاختصاصيين يقومون كذلك بمهنة أو بالأحرى صناعة الحناطير والبوسطات. ولهذه المهنة كان في صيدا نجارون خصوصيون معروفون ومشهورون والدولاب الذي يقومون بصنعه في صيدا، لا مثيل له ولا أحد غيرهم يمكنه أن يقوم بعمل يشبهه: فهو دولار قوي، متين، ويتحمل "دعك"، والطُّرق الوعرة، لأنه في ذلك الوقت لم تكن الطرقات قد تحسَّنت، بل كانت بقيت على طبيعتها. صناعة الدولاب أولاً: صنع الدائرة، وأن تكون الدائرة مبكَّلة بحديد. ويعملون الدولاب ربعاً بربع وهكذا، ثم يجمعونه ويأتون بطوق حديد يكمش الكل. فهذه العملية كلها إنما هي من جملة مهنة النجارة.
بعد ما توصل الإنسان إلى بناء البيت والإقامة فيه وإنجاز منجوره بالكامل، أصبح هذا البيت بطبيعته يحتاج إلى لوازم متعددة ومتنوعة. فأخذ الإنسان في ذلك الوقت يرى بأنه من الضروري لحفظ طعامه ومأكله وجود "النَّمليَّة"، ولأجل تحضير الخبز من العجين إيجاد الطبليَّة، وشوبك والمدقَّة للثوم وهكذا… وهذه الأشياء ومختلف لوازم البيت للأكل والنوم كان لها معلمون مخصوصون، ولهم سوق خاص بهم وهو سوق النجارين. في هذا السوق كان يصنع أيضاً "مطبعة" للمعمول وقرص بسمن، تحفر باليد. فهذه الأشياء ومثيلاتها لها اختصاصيون. والنجار الذي يعمل في صناعة النملية والطبلية والمدقة والقبقاب وما شابه، لا يحسن القيام بعمل المنجور الذي له اختصاصيوه. وكانت النظرة له أنه نجار من الدرجة الثانية. وهناك أيضاً نجار يقوم بعمليات التصليح، تصليح ما يكون قد حصل في البيت من أعطال. فالنجار المعلم لا يقوم بعمليات التصليح، والذي يشتغل بأمور التصليح لا يعرف وليس من عمله ما يقوم به المعلم النجار. لكلٍ عمله واختصاصه. وفي سوق النجارين كان يُصنع أيضاً أفراشاً (ج فرش) للخبز وكراسي خشب بدل كراسي الخيزران.
س: … هل يمكن أن تحدثني الآن عن نجارة الموبيليا؟..
ج: … جدودنا، لم يكونوا يعرفون الموبيليا، والموبيليا لديهم كانت تُسمَّى خزائن: وهذه الخزائن هي عبارة عن حبلة تُنصب في إحدى الزوايا أو في عرض الغرفة ويُعلق عليها الثياب.
س: … الأغنياء من السكان أو الموسرون، ألم يكن لديهم نوع مخصوص من الأمكنة لكي يضعوا فيها ثيابهم؟
ج: … لقد كان لديهم ما يشبه صندوق مخصوص يسمونه "سبت". الغني من السكان كان يشتري صندوقاً خصيصاً لكي يضع فيه ثيابه وهو ما يشبه إلى حد ما شنطة كبيرة.
س: … ألم يكن هناك خزائن في داخل الحيطان؟
ج: … لا، لم يوجد هذا النوع من الخزائن، ذلك أن الحائط سمكه 30 سنتم، وهو مكوَّن من الحجر الرملي. بل كانت "المونة" توضع في إحدى الغرف التي تسمَّى "غرفة المونة".
س: … ولكن، أين كانـت توضع فرش النوم أثناء النهار، ألم يكن هناك مكان مخصوص لها؟
ج: … كانت توضع على طاولة صغيرة أو على لوح من الخشب مرتفع عن الأرض في إحدى زوايا الغرفة أو شئ من هذا القبيل..
س: … فهذا يعني أنه لم يكن للسكان الأغنياء أو الموسرين أسرَّة من الخشب أو أنه لم يكن معروفاً حينذاك سرير الخشب!!
ج: … حتى ذلك الوقت، لم يوجد بعد سرير الخشب. فالناس جميعهم ينامون ويضعون فراشهم على الأرض.
س: … الأغنياء والفقراء على حد سواء!!
ج: … الأغنياء والموسرون، كانوا يأتون بسرير حديد، ويطلقون عليه اسم: إز بيدران.
س: … من أين كانوا يأتون بهذا السرير الحديد؟!
ج: … يأتون به من الخارج (أي من خارج صيدا). بعد ذلك، أخذت صناعة سرير الخشب تنتشر تدريجاً، ومع تطور الزمن البطيء. وبدأت مع الوقت تحتاج الناس إلى الخزائن والكنابيات. والكنابيات كانوا يصنعونها من ألواح من الخشب ويضعون فوقها "طراحة" ويستخدمونها للجلوس.
س: … متى بدأ دخول موبيليا الخزائن لصيدا تقريباً؟
ج: … أظن أنه ابتدأت موبيليا الخزائن تدخل إلى صيدا قبل الحرب العالمية الأولى تدريجاً. في البداية، كان بيت الرويساني ولقبه الطنيش مشهوراً بهذه الصناعة. وكان أيضاً البدوي العارفي، مثل الطنيش تقريباً، يقوم هو بصناعة خزائن بثلاثة عواميد ومرآتان، وللخزانة تاج حفر. وهذا التاج الحفر يحفرون عليه زهوراً أو طيوراً، ويضعونـه على رأس الخزانة. وارتفاع الخزانة ثلاثة أمتار تقريباً.
بدأت الموبيليا تترقى مع الوقت ودخل عليها الموديلات الأوروبية. يعني، فبدل العواميد في الخزائن، وإدخال الحفر عليها، مما يؤدي إلى تراكم الغبار بصورة دائمة فيها، والاهتمام المستمر في تنظيفها ومسح الغبار عنها، جاءت عمليات التلبيس في الموبيليا والمعاكس، فصارت من حيث الشكل أنعم وأملس، ولم يعد يتجمع فيها الغبار كالسابق… وهنا، أخذت تأتي موديلات عديدة من هذا النوع. البداية بطبيعة الحال كانت في بيروت حيث المعلمون الاختصاصيون في هذا المجال يشتغلون علىالخارطة. وفي صيدا أخذ النجارون هذه الخارطة عنهم وبدأوا في نقلها. ولم يكن لدينا هنا في صيدا معلمون في هذه المصلحة. بل كانوا يشتغلون على الخارطة التي يأتون بها من بيروت. ينظرون إلى القطعة ويتأملونها ومن ثم يحفظونها لكي يعملون مثيلاً لها تماماً. وهكذا، فكنا هنا في صيدا نأتي بألواح من الخشب وننشره، ثم بعد ذلك نعرضه لفترة معيَّنة للشمس حتى "يُطقطق" جيِّداً. إلى هنا، نأتي كي نمسحه ونشتغله ونجمعه ونركِّبه بعضه ببعض.
س: … مَن هم النجارون الأوائل في صيدا بحسب معرفتك؟
ج: … البدوي عارفي ـ والد مصطفى عارفي ـ بعده الرويساني: هؤلاء كانوا من أقدم النجارين لصناعة الموبيليا في صيدا. ثم بعد ذلك جاء أو علفا (علي) والحاج محمد سنجر. توفيق الأنيس (الديراني) كان قد اشتغل لدى البدوي عارفي، ملتزماً الحفر، وذلك قبل أن ينفصل عنه ويستقل بعمله الخاص.
لقد كان هناك أثناء ذلك العبد محجوب (أرقه دان) الذي هو عمله الأساسي القيام بعمل وشغل عدة النجارين، مثلاً: فارة كبيرة، وفريز، إلخ… كان عمله هو صناعة عِدَّة النجارين من خشب السنديان، وكان عمله ممتازاً، النجارون كلهم يشترون منه عِدَّة عملهم وشغلهم وما يلزمهم من أدوات النجارة.
انتشرت معامل الموبيليا في بيروت: معمل زبيز، معمل كرم عون، حتى أنها أصبحت هذه المعامل كبيرة جداً حيث إنهم أخذوا يأتون بمكنات للشغل والتشغيل. وقد بدأوا بذلك بعد الحرب العالمية الأولى، بين أعوام 1927 ـ 1930 تقريباً. ولكن في صيدا، كان الاعتقاد أن "توصاية" الخوانة لدى النجار أحسن وأقوى بكثير من صناعة المعامل. فكان النجارون في صيدا يأخذون موديلات مختلفة من بيروت. وفي بيروت أصبح هناك مهندسون اختصاصيون مهمتهم وضع الخرائط للموبيليا على أنواعها وموديلات عديدة ويقومون برسم الخزانة ويعطونها للمعلم النجار الصيداوي كي يشتغل على أساسها ويصنع مثيلاً لها.
في الحقيقة، نحن في صيدا، كنا نشتغل على الطبيعة، وقد استمر ذلك حتى دخل علينا "المعاكس"، فسهل كثيراً عملنا في النجارة. مثلاً، كانت الخزانة الواحدة تأخذ شغل شهرَيْن متتاليين، فصرنا مع دخول المعاكس ننجزها بعشرين يوماً. فالمعاكس يسهل العمل كثيراً. لنأخذ مثلاً صناعة الخزانة الواحدة: نبدأ بجانب هذه الخزانة، نقوم بطرح الخشب فيه، ثم نأتي ونطرح فوقه الشوح ونعود ونمسحه وننظفه ونمعجنه حتى نضع القشرة فوقه. بينما المعاكس، لا يلزمه كل هذا العمل المتتالي ولا هذا الشغل كله، إنك تضع المعاكس في مكانه ثم تأتي بالقشرة وتضعها فوقه وهكذا. وهناك موديلات عديدة. مثلاً، كذلك الكنبيات كانوا أولاً يقومون بصنعها ومن ثمَّ ينجدونها تنجيداً جيداً وبعدها يأتون بقش عربي وقش إفرنجي ويضعون فيها القطن، إلخ… أما اليوم فقد وصلوا إلى صناعة الكنبيات من الإسفنج ويضعون الراسّورات، وهذا عمل أسهل بكثير من السابق.
س: … متى حدثت حركة الموبيليا في صيدا وفي أيِّ فترة من الزمن كانت قد انتشرت أكثر فأكثر؟!…
ج: … نحن، هنا في صيدا، ابتدأنا نشتغل الخزائن "توصيات". وكان من المعروف عندنا محرم الذي كان يذهب من بيت إلى بيت كي يصلح الخزائن. وكلما ينتقلون من بيت إلى بيت آخر، كانوا يأتون بالنجار الذي اشتغل الخزانة من أجل القيام بفكها وتركيبها… في أيامنا هذه، بطلت هذه العادة التي كانت جارية. ومن ناحية أخرى أخذت الطلبات تكثر في فلسطين للخزائن الشعبية بوجه عام. فأنا كنت حينها تركت شغل الموبيليا للتوصيات، لكنني وجدت أنه وجع راس. وأخذت أعمل في شغل الخزائن لفلسطين، خزائن بمرآتين ومرآة في الوسط وترسل هذه الخزائن إلى عكا. وكنا نتعامل مع أحد النجارين هناك.
س: … متى ابتدأت أنت في صناعة الموبيليات وشغلها في صيدا، حدثني عن ذلك من خلال تجربتك الشخصية وأين تعلمت مهنة النجارة؟!..
ج: … تعلمت مهنة النجارة في بداية الأمر لدى المعلم النجار علي أبو علفا.. وهو كمعلم في الموبيليا إنسان ذكي ونصوح وليس لديه أيّ نوع من الغش. وعنده تقوى وضمير مهني قوي. مثلاً، عندما يقوم بشغل خزانة وينتهي من عملها، ينظر إليها ويتأملها، فإذا لم تعجبه يضعها على الأرض ويخبطها ويكسرها. كان شغله متقناً، نظيفاً قوي الصنعة والموديل جيد جميل. كان يتمتع بذوق جميل في مهنته. ولكنه لا يشتغل على الخارطة. لقد تعلمت عنده وبقيت لمدة سنتين تقريباً. وكنت قد اشتغلت عنده سنة ونصف السنة دون مقابل. وأخذ يقول لي مرة: نحن لا ندفع أجرة العامل، فكرك نحن نتلهى بذلك؟.. أنك أثناء هذا الوقت تتعلم، إنك تعلمت في هذه السنة ونصف السنة أشهر مصلحة في صيدا وختمتها..
س: … في أي سنة بدأت العمل عند المعلم النجار علي أبو علفا؟
ج: … في أعوام 1925 ـ 1927 تقريباً. كنت أفكر آنذاك أن صيدا محيطها ضيِّق، والمجال في بيروت أوسع بكثير. وإذا كانت الموديلات في شغل النجارة ليست بالجودة مثل ما عندنا، إلاّ أن هذه الموديلات في بيروت هي "مودرن" (أكثر حداثة) من تلك التي لدينا. هنا فكرت أن أذهب إلى بيروت لأتعلم هذه المهنة. أقنعت الوالد واشتغلت في بيروت بمعمل الربيز، البيت كان في البرج والمعمل بالزيدانية. وكان يعمل لدى ربيز محمود عوكل، والد سعد الدين عوكل، وهو معلم في المهنة وعلى معرفة بوالدي وعمي. وعن طريقه اشتغلنا في معمل ربيز أنا وابن عمي حسن.
وهكذا عملنا في هذا المعمل لمدة سنة خبرة وتجربة في مهنة النجارة الحديثة. ومن بعدها أتينا إلى صيـدا وأقمنا لنا مصلحة النجارة، وصار لنا شهـرة في المدينة. وأذكر تماماً فيما أذكر أنني اشتغلت غرفة نوم لصبحي سليم حمود والد غسان حمود. وهي ما زالت موجودة عنده حتى الآن: سريران وخزانة وتواليـت. وكان في حينه قـد دخلت في مهنة النجارة قشرة الصدف. وهذا ما تعلمته أنا فـي بيروت كيفية تركيبه وتفصيلـه. فعملت له طقم من الموبيليا لا يزال موجوداً لديهم حتى اليوم، وتنظر إليـه فتراه وكأنك اشتغلتـه اليوم بالذات. لقد كان عملنا في مهنة النجارة وفي صناعة الموبيليـا جيد جداً. ولكن بعـد ذلك رأيت أن شغـل "التوصية" في الموبيليا محصور وضيق ومرهـق ومتعـب. لذلك صرنا نشتغـل لفلسطين وإنما من نوعيـة درجة ثانية من أصناف الخزائن.
وبما أنه كان لنا ديون في فلسطين وفي الوقت نفسه أقيم معرض القدس، قلنا نذهب ونشاهد هذا المعرض ونعرج على يافا حيث أولاد عمي محمد. عمومتي أربعة، أكبرهم هو محمد جده لخضر البلولي. استقبلنا عمي محمد ووجدنا عنده منشرة صغيرة وهو من جهته رأى فينا معلمين في النجارة، وهناك معلمو النجارة قلة قليلة آنذاك. فقال لنا: يا أولاد عمي، تعالوا نشتغل هنا سوية ونقيم شركة معاً والشغل هنا كثير والإفادة كبيرة… وهذا ما حصل. وكنا قد حققنا شهرة ونجاحاً وجمعنا مالاً كثيراً. ولكن الاضطرابات الأمنية والأحداث السياسية جعلتنا نخسر تقريباً ما كنا ما بنيناه وهرباً من الاصطدامات المسلحة، نقلنا المعدات والماكينات لدينا عن طريق البحر. وفتحنا هنا في صيدا منشرة وركبناها تركيباً حديثاً. واشتغلنا بالمنجور. فأنا كنت معلماً بالمنجور. وذلك أثناء شغلي عند أبو علفا، كنت قد عملت مدة من الزمن وتعلمت صناعة المنجور.
س: … في أيّ سنة حدث ذلك كله؟
ج: … في عام 1936. وفي صيدا فتحت المنشرة عام 1937 واشتغلت أنا وابن عمي حسن…. والمناشر الخشب الموجودة في صيدا وأصحابها الذين كانوا موجودين قبل الحرب العالمية الثانية هم: أبو مصباح العاصي ومحمد سوبرة ومحمد الددا ومحمد المرئي (البزري). وبعدها، نحن، فتحنا منشرة. عندما جاء سوبرة بمنشار إلى المنشرة من بيروت واشتغل عليه، كنا نحن ما زلنا في فلسطين. فجاء سوبرة إلى فلسطين من أجل أن يشتري منشاراً ثانياً. اشترينا له هذا المنشار الثاني من فلسطين وأتى به إلى صيدا. بعد ذلك فتح محمد المرئي منشرة أخرى إلى جانب سوبرة والددا. وأصبح هناك ثلاث مناشر. وعندما جئنا نحن من فلسطين وفتحنا المنشرة، فصرنا أربعة. بعد ذلك، أقام عبد الودود أبو ظهر منشرة بمنشار وراء الحسبة القديمة، ثم جاء حسن العاصي ـ وبعدما توقفت مصلحة البحر والمراكب ـ وأقام منشرة هو والحاج مصطفى المجذوب. والمعلم في هذه المصلحة هو أبو سميح البيساني الذي جاء من الشام كي يعمل معهم وهو كان يشتغل في السابق لدى حسن العاصي ومن ثم انتقل إلى العمل مع الحاج مصطفى المجذوب. ولما جاء محمد بطاح الذي كان ينشر عندهما بالإيجار، خلص العاصي وأخذ النصف التابع له، وبعدها أيضاً أخذ حصّة الحاج المجذوب. وهكذا توسع في هذه المصلحة وأصبحنا أنا وهو نشتغل بالصندوق، والآخرون يشتغلون بالمنجور.
لقد كانت صناعة الصناديق عن طريق المناشر ضرورية وخصوصاً صناديق البرتقال التي كانت تصدَّر إلى فرنسا. وأخذت هذه الحركة تنشط وتوسعت في عملها، إلى أن اختلفت أنا وابن عمي واستقليت بالمصلحة لوحدي إلى أن دخل معي كشريك كرم عطا الله. ومع موسم البرتقال، أخذنا نشتغل صناديق في موسم الأكيدنيا. وكنا قد حققنا أرباحاً وافرة في ذلك الوقت. وعندما اشتريت أنا بستاناً، تفتحت العيون علينا وأخذ بعضهم يفتح أيضاً منشرة للصناديق. وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية.
س: … أين كان تصريف الإنتاج بالمنجور وبالموبيليا، هل في صيدا ومنطقتها، أم أنه كان هناك تصريف للإنتاج في الخارج؟..
ج: … كان تصريف الموبيليا يتم هنا في صيدا والمنطقة، وكنا في الوقت نفسه نشتغل خزائن شعبية ويتم تصريف الإنتاج في فلسطين.
س: … متى دخل تلبيس الصدف إلى الموبيليا في صيدا؟
ج: … الصدف في الموبيليا، ليست هذه المهنة من عندنا، نحن أخذناها من الشام، الشوام هم الذين كانوا يشتغلونها ومعلمون فيها. إنما نحن هنا في صيدا، كنا نلبِّس قشرة الصدف. وتلبيس قشرة الصدف لم يستمر وقتاً طويلاً…
س: … كيف تطورت مهنة النجارة وصناعة النجارة عندنا في صيدا، من الشغل اليدوي إلى فتح محلات "الغاليري"، ومتى بدأ فتح أو غاليري في المدينة؟
ج: … كان الواحد مثلاً عندما يريد أن يشتري خزانة. يوصي عليها توصية. وهذا ما كان شائعاً. وهذا يأخذ وقتاً طويلاً في العادة. والإنسان المستعجل أصبح يريد أن يشتري ما هو جاهز وحاضر. فأخذت المعامل بطبيعة الحال تشتغل كميات جاهزة، وتعطي إنتاجها لأصحاب محلات الغاليري. وأصحاب الغاليري هؤلاء، منهم مَن كان صاحب المصلحة، وسّع مصلحته ووضع إنتاج شغله في محله. وبعدها أدخلوا في مصلحة النجارة المنشار ومن ثمَّ دخلت أيضاً الآلة عند النجار بدل من أن يذهب وينجز عمله في المنشرة، فصار يشتغل القطعة ويصنعها في محله. فزاد الإنتاج وزاد التصريف والمبيع. وبالتالي ازداد فتح محلات الغاليري مع الوقت وتطور الأوضاع العامة. وكما قلنا، فقد كان أصحاب محلات الغاليريهات هم أصحاب المهنة ووسَّعوا مصلحتهم ومنهم النجارين العاديين الذين يشترون الإنتاج ويضعونها في محلاتهم. وهكذا توسعت هذه المصلحة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.
س: … هنا أود أن أطرح سـؤالاً حول صناعـة النجارة منذ ما قبل الحرب العالمية الأولـى، فكم كان عدد العائـلات التي تشتغـل في مصلحة النجـارة وعدد العمـال الذين يعملون فيها؟..
ج: … يبلغ عددهم التقريبي أكثر من عشر عائلات. فقد كان هؤلاء معلمون، يشتغل لديهم أكثر من مائة عامل بالمنجور مثلاً، سوق النجارين، تجاوز عدد العمال فيه ما يقرب من 300 إلى 400 عامل يشتغلون بالمنجور بصورة عامة. مصلحة النجارة وتجارتها واسعة وكان الطلب في ازدياد حتى وصل إلى الضفة الغربية في فلسطين وإلى الجولان في سوريا…
س: … مهنة النجارة، انتقلت من عمل يدوي وبدأت بعدها تدخل الآلة فيها حتى أنها توسعت بشكل سريع فيما بعد، كيف تم ذلك؟..
ج: … دخلت الآلة مصلحة النجارة أول ما دخلت في أعوام 1923 ـ 1924 وأول مَن أدخلها في محله هو أبو مصباح العاصي. بعد ذلك، أصبح هناك مناشر. ولم يكن يوجد حينذاك هذه القطع الآلية المتنوعة والكثيرة، كما هو الحال اليوم وكما هو موجود لدى النجارين. هذا التطور في النجارة السريع إنما قد حصل بعد الحرب العالمية الثانية ومَن ثمَّ ابتدأت الآلة وأخذت تنتشر في مصلحة النجارة. ليس في الإمكان القول إن الآلة كانت قد دخلت قبل عام 1939. بل أستطيع أن أقول إنه منذ أعوام 1942 ـ 1943 وبعدها، دخل المنشار وربور صغير. أما من حيث مناشير الكهرباء، فدخلت وابتدأت في التوسع قليلاً قليلاً من بعد عام 1943، إذ إنه في البداية كانت المناشر على موتور مازوت قبل أن تنتقل وتتحول إلى الكهرباء.
* * *
س: … بعد هذه الجولة حول مصلحة النجارة في صيدا وتطورها، أودّ أن تحدثني عن موقع ما كان يُسمّى "باب الخان" من الناحية النجارية. وما هي علاقة النجارة بالبحر؟ ومن ناحية أخرى مَن هم أصحاب المصالح التجاريـة والمهنية في "باب الخان". ومَن هم التجار وما هو نوع التجـارة المعروفـة حينـذاك، وذلك منـذ الفتـرة الزمنيـة التي تمتد من قبل الحرب العالمية العامة وإلى ما بعدها؟…
ج: … "باب الخان"، في الأصل هو الذي كان يسمَّى "خان الراهبات"، أو "خان الفرنج". وكان قد بني على جانبه محلات تجارية ومهنية متنوعة. وكان يوجد ساحة صغيرة في وسطها بركة ماء. وكانت تُعتبر هذه الساحة الصغيرة وفي الوسط البركة، كما هو الحال بالنسبة إلى ساحة النجمة اليوم. بمعنى أن ساحة "باب الخان" يُنظر إليها آنذاك على أنها المركز التجاري الأساسي في صيدا، والقريب بعدد قليل من الأمتار الجهة الغربية من المرفأ وميناء الصيد. وهذه الساحة، ساحة باب الخان، يتفرع منها شرقاً سوق الكندرجية وشمالاً سوق اللحامين وسوق الخضار وغرباً سوق الميناء. ويتفرع منها من الناحية الجنوبية ما كان يسمّى "بحر العيد" وحمام المير وصعوداً إلى ساحة باب السراي بمحـاذاة شارع يحيط خان الفرنـج. ساحـة باب الخان كانت المركز التجاري (أو أحد المراكز التجارية المهمة) في صيدا، المحلات تحيط بهذه الساحة الصغيرة وفي وسطها بركة الماء: محلات الحلاقين والخياطين والنجارين. وأذكر تماماً أن الحاج محمد بعاصيري كان تاجراً يبيع بالجملة رز وسكر. وكان هناك الخياط العربي أبو بهاء البساط، وبعده، قريباً منه محل حدادة صاحبه خليل العكاوي الذي يهتم ويقوم بأشغال ولوازم البحر والبحارة. وإلى جانبه تقع دار طبيب الأسنان عبد الصمد. ومن الجهة الغربية لساحة باب الخان كانت تقع "ميرة السمك". وبالقرب منها كان هناك مقهى لآل الجوهري، بجانب حلمي الحلاق النجار التاجر.
هذه الساحة، كانت جامعة لكل المصالح المعروفة في المدينة القديمة. ففي هذه البقعة من الأرض، كان يوجد كثافة سكان. ومَن ليس لديه محل كان يأتي بحصيرة عكاوية ويفرشها على الأرض ويضع عليها بضاعته في جانب من جوانب هذه الساحة مثل: الذبيب، تين يابس، لوز، جوز إلى غير ذلك.
وأذكر تماماً أن ديب الديماسي كان يبيع لبن ولبنة. وقبل سوق اللحامين، كان الجويدي يبيع الطرشي. وكان والدي وعمي الحاج صالح لديهما محلان في هذه الساحة ويقومان بتأمين لوازم البحرية وتجار البحر وحساباتهم وما يحتاجون إليه. فكان جميع البحرية يأتون إليهما لإجراء ميزانيتهم، المدخول والمصروف لهم، وكان هذان المحلان بالقرب من محل إبراهيم البيطار (الملقب بـ "النحّا") وهو مختص لبيع جميع لوازم الصيد والصيادين. وبالقرب من مدخل باب الخان، هنـاك محل الكندرجي أبو ديب عكرة، الـذي كان هذا المحل للحلاق نسب الذي انتقـل إلى مكان آخر وترك محله للكندرجـي عكرة. وهناك أيضاً محل ثانٍ، صاحبه الددا ياسين وكان حفاراً…
س: … كان هناك أيضاً محل للحلاق رمضان؟
ج: … هذا المحل كان لعميّي الذي هو صاحبه واسم عمي محيي الدين البلولي، تزوج ولم ينجب الأولاد. فكان محل الحلاقة عنده يجتمع فيه يومياً يوسف بك الزين، يوسف الجوهري، محمود كالو، الحاج عزو المجذوب وآخرون. يعني ما كان يسمَّى آنذاك أبناء العائلات المعروفة. مثلاً، يوسف بك الجوهري والد مصطفى وممدوح، كان من المداومين في المجيئ إلى محل عمي. ثم جاء بعده الحلاق رمضان، يعني، ما أريد أن أقوله، في ساحة باب الخان في تلك الفترة من الزمن، إنك على تواصل وتماس مع الحركة التجارية وحركة الناس والبيع والشراء، وتكثر أيضاً الأحاديث السياسية والاجتماعية.
وبما أن هذه الساحة قريبة من البحر، من المرفأ والميناء، ومصلحة تجار البحر والصيادين مع والدي وعمي، فكنت تجد حركة دائمة طوال النهار، بحري رايح وبحري جاي. وبما أن "ميرة السمك" على بعد قليل من الأمتار، فالذين يريدون أن يشتروا السمك في العادة كثيرون: عشرون أو خمسة وعشرون الذين كانوا يشتغلون ببيع السمك، فيحدثون عجقة ما بعدها عجقة منذ الصباح الباكر. وهنا، نسيت أن أذكر أنه قبل ذلك كان يوسف القبرصلي له محل بقالة. ومحل اللحام المشهور أبو علي حبلي، يقع في ساحة باب الخان على مدخل سوق اللحامين.
أستطيع أن أقول إن مَن كان مهيمناً على ساحة باب الخان تجارياً، هو والدي وعمي. لقد كانت أشغالهما كثيرة، ويبيعان مختلف لوازم البحار والبحر حتى الحبال. لقد كانت حركة البلد التجارية (وبخاصة حركة البحر التجارية والأسواق التجارية) مركزها ساحة باب الخان. فهناك، كما قلت وأكرر، سوق اللحامين وسوق الخضار وسوق الكندرجية. أما "بحر العيد" الذي كان يقام في الجهة الغربية لخان الإفرنج على شاطئ البحر، فقد كان يجري أيضاً ولفترة معينة في باب السراي، وفي فترة أخرى في حي القملة. و"خان الفرنج" وسيع من الداخل وفيه محلات وهي مخصَّصة لخزن دخان الدولة. وكان يفتح الباب الواسع في الصباح، ويأتي الناس ويحدث الشراء. وكان يُستعمل كمستودع للدخان. لقد كان يلتقي جميع تجار صيدا هناك.
ولكن بعد ذلك توسعت التجارة أكثر فأكثر وانتقل التجار الكبار الذين يبيعون بالجملة إلى مكان يُسمى "القمّاحة"، ومحلة القمّاحة تقع في مكان البلدية قديماً. فهناك ساحة صغيرة ويأتي القمح إلى هذا المكان، ومِن هنا جاءت التسمية "القمّاحة". وهناك تقع محلات التجار الكبار: بكار، شماع، زنتوت، الجبيلي وغيرهم. فهؤلاء التجار في ساحة القمّاحة أكثر بيعهم هو للداخل، لداخل البلد. وكانت ساحة باب الخان مركز البلد التجاري حينذاك.
س: … هنا وفي هذا المجـال، هل لك أن تحدثني ولو بشكل مختصر عن "خان الرز"، وما هو الفـرق بينه وبين خان الإفرنـج؟.. لقد قلت لي فيما سلـف إن خان الإفرنج كان مستودعاً للدخان….
ج: … خان الرز، تسميته جاءت من العمل الذي كان يقوم به. مثلاً التاجر، كان يضع بضاعتـه من الرز في تشريـن، وهي مقطوعيتـه نحو 10 طن، فيضعها في أحد محلات خان الرز، كي يبيعها في فصل الشتاء حيث تنقطع المواصـلات.. على هذا الأساس أطلقوا عليه اسم "خان الرز".
س: … ثم، هل لك أن تحدثني عن علاقة باب الخان بريّاس البحر، الريّاس المشهورين، وعن تجارة البحر التي كانت تجري حينذاك؟..
ج: … كان هناك صاحب المركب الكبير محمد النقيب، وحسن سليم وهبي وأبو علي المعضم وعبده الصباغ والحاج حسن الحلو والحاج يحيى ناصر ومحيي الدين بِربر والد الأستاذ محمد بربر. وبعدما توفي والده، ذهب الأستـاذ بربر سفرات عدة مكان والده في المركب. وكان هناك أيضاً الحاج بدوي النقيـب والحاج عثمان سنتينا ومحمد البواب وخليل النجار وإبراهيم سليم وهبي وهو ابن حسن وهبي، ومحمد النقيب الريّس وهو ابن الحاج بدوي النقيب.
س: … ما هي الأشياء التي كان تصدّر من صيدا إلى الخارج والأشياء التي كانت تستوردها من الخارج؟
ج: … صيدا، كانت تصدر البرتقال، والمشمش إلى حيفا، والحمضيات (أي الليمون الحامض) لفلسطين ومصر، والتين يصدر في أواخر تشرين وآخر سفرة. والريس محمد النقيب وإبراهيم سليم وهبي كانا من المغتربين في مصر، يأخذان من القرى المجاورة في آخر سفرة لهما، وهي تُسمى سفرة تشرين، التين والزيتون وزيت الزيتون. ونحن كنا نستورد من مصر السكر والرز والبلح، والبطيخ من فلسطين، والحبوب من الخارج: القمح من حوران عن طريق البر حيث تأتي القافلة المكونة من مائة أو أكثر من البغال. وإننا كنا نستورد من سوريا السمن من الإنتاج السوري. وفلسطين كان يصدر منها الشعير إلى لندن….
س: … ما هو عدد المراكب الإجمالي ـ إذا ما زلت تتذكر ـ بعد الحرب العالمية الأولى، الرقم التقريبي من حيث المراكب الكبيرة والمراكب الوسط؟.
ج: … تقريباً أكثر من مائة مركب من حمولة 20 طناً إلى 120 طناً، والمراكب الصغيرة أكثر من 200 مركب ومبطَّنات.
س: … عائلة العلايلي، يتبادر إلى ذهني أنها تتعاطى تجارة الحصر وعلى مختلف أنواعها…
ج: … أحمد ومحمود العلايلي، فقد كانا من تجار الرُّز والسكر وغيره. والحاج علي العلايلي كذلك كان من جملة التجار وتجارة الحصر داخله من ضمن تجارتهـم. عائلة زنتوت وعائلة بكار لا تدخل في تجارتهما تجارة الحصر وإنما هي من اختصاص آل العلايلي فقط.
س: … ومن أين تأتي الحصر؟
ج: … إنها كانت تأتينا حنذاك من الصين.
س: … أَلَم يكن لدينا صناعة محلية للحصر؟
ج: … لا، كانت الصناعة المحلية هي الحصر العكاوية ـ السميكة، وهي التي يشتغلونها في الضفة الغربية في فلسطين وفي النبطية وعكا. ولكن القش أكثر وجوده بالضفـة الغربيـة. أعود إلى تجار صيدا للتوضيح: جاء بعد ذلك كتاجر الحاج حسن قاسم وبعده التاجر مصطفى البساط. لكن آل زنتوت وآل بكار كانا قبلهما..
س: … أخيراً، وسؤالي هو للتوضيح، في صيدا ساحات عامة، ومنها ساحة باب الخان. باب الخان للنشاط التجاري جملة أم مفرق؟
ج: … ساحة باب الخان كان مخصصاً لتجارة المفرق. في حين أن ساحة باب السراي المعروف بالمقهى، كذلك مقهى الإزاز، وساحة ضهر المير معروفة بمقهاها وليس مكان للتجارة العامة. ساحة المصلبية بالقرب من جامع الكبير، يتفرع منها أسواق ومحلات تجارية لبيع المفرّق. وهي قد كانت مركز البلد، بما أنها المدخل الأساسي والرئيسي لجامع العمري الكبير، وخصوصاً في أيام المناسبات الدينية والوطنية والأعياد وأيام رمضان وبخاصة أثناء الليل….