محاولة تأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي - مصطفى بكّور السيد
مقابلات /
سياسية /
1991-08-31
مقابلة مع
الأستاذ مصطفى بكّور السيد
بتاريخ السبت 31 آب 1991 ـ في منزله ـ حلب
الموضوع: محاولة تأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي
من خلال التجربة الشخصيَّة في حلب
أجرى المقابلة: د. مصطفى دندشلي..
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … أودّ، صديقي العزيز، أن تحدثني عن تجربتك الشخصيَّة في حزب البعث العربي الاشتراكي وبخاصة البدايات الأولى التي مررت بها: في أيِّ سنة كان انتسابك إلى حزب البعث وكيف تمَّ ذلك ولماذا اخترت هذه الحركة السياسية ولم تختر حركة حزبية أخرى؟!…
الأستاذ مصطفى بكّور السيد: … إنني أعتقد أن "قصة" الاختيار، لم يكن اخيتاراً بالمعنى الحقيقي للكلمة، ذلك لأنّ البيئة التي عشت فيها هي التي دفعتني لذلك (وهي بيئة وطنية عروبية). لقد كنا في سورية ـ كما هو معلوم ـ قد تخلصنا من الانتداب الفرنسي عام 1946، وكنت صغير السن، أتابع دراستي في ثانوية المأمون والتي كانت تسمّى التجهيز الأولى في حلب. وكان هنا مجموعة من المثقفين الذين أتوْا من الخارج، من خارج حلب، في مرحلة الاستقلال الوطني. وكنا نحن شباباً صغار السن نتطلع إلى مستقبل وطنيّ مستقل ـ وأنا من مواليد عام 1934 وفي الهوية 1932 ـ . وإنني أذكر فيما أذكر، عندما ترك الجيش الفرنسي حلب وخرج من هذه القلعة، قلعة التُّرك، ذهبنا نحن الطلاب إلى هناك ورأينا كيف الجنود الفرنسيون يتركون أماكنهم ويغادرون مدينة حلب. فعدنا إلى المدرسة وحرقنا الكتب الفرنسية وكل ما له علاقة بفرنسا. والجوّ العام هو جوّ وطني وغليان وحماس، وتحوّلنا في دراستنا إلى اللغة الإنكليزية.
س: … وأنت من أيِّ بلد؟!..
ج: … أنا من بلدة "دركوش". وهي عبارة عن قرية، كان لها، فيما يبدو، تاريخ قديم، وفيها جسر يقال إنه من العهد الروماني وفيها حمّام قديم من أيام الظاهر بيبرس. وهي تبعد عن حلب نحو 130 كلم وتقع شمالاً على الحدود التركية وآخر نهر العاصي عند دخوله لواء الاسكندرون. وعدد السكان بحدود 3000 نسمة. لقد درست فيها المرحلة الابتدائي، ومن ثمَّ انتقلت إلى حلب لمتابعة دراستي في المرحلتين الاعدادية والثانوية. وفي هذه الفترة، عندما كنت في الصف السابع سنة 1947 ـ 1948، كان لي رفيق وزميل في المدرسة اسمه أمل رأفت كيالي ـ وهو ليس من آل كيّالي حلب ـ وعلى العموم آل كيّالي أصلهم من "كفر تخارين" ومن محافظة إدلب…. لقد أطلعني زميلي في الصف على بيان أو كراس صغير وقال لي: هذا الحزب هو حزب عروبي ناشىء جديد، وهذا هو "دستوره". فأخذت منه هذا الكراس الصغير. وفي الصيف القادم، عدت إلى قريتي "دركوش" وقرأته مع رفاقي في القرية وهم من جيلي ووجدناه جيِّداً، حزباً يدعو إلى الوحدة العربية وإلى الحرية والتحرّر وإلى الاشتراكية وإلى الأمة العربية. فأخذنا ندعو بعضنا بعضاً ونجتمع سرَّاً في "دركوش". واستمر ذلك ما يقرب من السنة حتى وصلنا إلى عشرة أو إثني عشر شخصاً، دون أن يكون لنا أيُّ ارتباط مع الحزب. عندما شعرنا أننا أصبح لنا وجود شخصي، أتوا ونظّمونا رسمياً وأرسلوا لنا، فيما أذكر، من "جسر الشغور" كمال شحادة. في البداية كان عددنا إثني عشر عضواً وبعدها ازداد حتى أصبح ما بين الأربعين ـ الخمسين عضواً. وفتحنا مكتباً لنا نجتمع فيه في "دكوش".
ولكن المشكلة التي كنا نعانيها هي أهلنا، الذين كانوا يتّهمون حزب البعث أنه حزب "لاديني" (بمعنى إلحادي)، حتى إن واحداً من رفاقنا اسمه جميل الدّبل ـ توفي، رحمه الله ـ والده حلف بالطلاق، إذا دخل حزب البعث، فهو يطلِّق أمه!!…. لماذا؟… لأن هذا الحزب هو حزب كافر، إلحادي، رئيسه ميشال عفلق. فأنا، في تلك الظروف بالذات وفي تلك المرحلة، خطر ببالي أن آخذ محاضرة "ذكرى الرسول العربي" التي ألقاها ميشال عفلق في جامعة دمشق، وأن أحوِّلها إلى اللغة العامية واللجهة المحلية، وجميعنا جمهوراً كبيراً حوالي 200 ـ 300 شخص وألقيت أنا هذه المحاضرة ولكن باللَّهجة العامية. وكان ذلك بحدود عام 1949…
س: … في قريتك "دركوش" والمنطقة عموماً، ما هي الحركات السياسية والحزبية التي كانت موجودة آنذاك؟!… بمعنى آخر، ما هي الخيارات السياسية أو الحزبية التي كانت مطروحة أمامكم في تلك المرحلة وظروفها؟!…
ج: … الواقع، وكما هو الحال في كل قرية من هذه القرى في زمن الانتداب الفرنسي، فكان دائماً السكان منقسمين قسمين: وطنيون، أي ضد الانتداب الفرنسي، وآخرون إذا لم يكونوا مع الفرنسيين ولكنهم يماشون الحكم القائم في ظل الاحتلال. فهم مَن كنا نسميهم "الأغوات"، أي الملاكين الكبار، الذين يتبعون للمستشار الفرنسي ويؤيدونه ويدعمونه، وكانت الفئة الأخرى وخصوصاً عائلتنا، من جماعة الوطنيين، من جماعة إبراهيم هنانو. وعندما حصل الاستقلال، كان هناك حزب وطني عام (أي الكتلة الوطنية)، فحلّ محلّ هذه الفئات الوطنية جميعها. ثمّ انشق من الحزب الوطني حزب الشعب. ولكن ليس لهما تنظيمات حزبية شعبية، وإنما عبارة عن زعامات شخصية وعائلية كبيرة…. وهذان الحزبان هما في الواقع تياران انتخابيان. فمن يرغب في ترشيح نفسه للانتخابات فلا بد من أن ينتمي إلى هذا الحزب أو ذاك. ولكن، كأساس، الحركة الوطنية هي التي كانت ضد الانتداب الفرنسي. ومعقل إبراهيم هنانو منطقة جبال دركوش: محافظة إدلب، "كفر تخارين"، "حارم"، "سلفين"، "دركوش"، وهي منطقة كلها جبلية. وكان هناك مَن يُسمى "التشتا" وهم المتمردون على الحكم. وهم بمثابة الثوريين ويتبعون إبراهيم هنانو وهو زعيمهم ويعيشون في الجبال. وكانوا ينزلون إلى القرى والمدن ويفرضون على الأغوات مبالغ من المال لكي يعيشوا أو يخطفون لهم ولداّ من أولاد الأغنياء الكبار، أو يهدِّدون بخطفه إذا لم يحصلوا على مبلغ من المال الذي يطلبونه….
ليس في منطقة "دركوش" حزب شيوعي ولا جمعية إخوان مسلمين، كذلك فلا وجود لها آنذاك. ولكن، عندما ابتدأ البعثيون يتحركون، ظهرت حركة الإخوان المسلمين، وأذكر عندما جاء شيخ ماراً من هنا وهو يلقي محاضرات دينية في الجوامع ضد حزب البعث وتأييداً للإخوان المسملين، فتجمعنا نحن البعثيين ودخلنا إلى الجامع، وعندما ابتدأ في الهجوم على حزب البعث، تصدينا له وأسكتناه وخرجنا بمظاهرة وأخرجناه من الجامع… وكان ذلك حوالي 1949 ـ 1950 على وجه التقريب.
س: … مَن هي العائلات السياسية في المنطقة؟!…
ج: … العائلات السياسية التي كانت تمثل الانتداب الفرنسي وتسير في ركابه هي: عائلة رستم وعائلة حاج بكّور… والبقية عامة الشعب… ونحن عائلة آل السيد… (وهي عائلة تنتمي إلى الحركة الوطنية ضد الانتداب الفرنسي).
س: … هل أنتم من طبقة زراعية؟!…
ج: … كما نعلم، فإن سكان المنطقة هناك، إما هم عمال زراعيون وإما ملاكون. فنحن ملاكون، ويمكن أن نعتبر أنفسنا من الطبقة البرجوازية الوطنية الزراعية. بمعنى أننا لدينا أملاك زراعية ونعيش منها. وفي الأربعينات والخمسينات، الأوائل من الشباب الذين تعلموا ودرسوا بعد الشهادة الابتداية وتركوا دركوش هم من عائلتنا. يعني، أنا، عندما سافرت إلى فرنسا، أذكر أنه رافقني وفد من رفاقي إلى بيروت لتوديعي. وأنا تخرجت من المرحلة الثانوية عام 1951.
س: … في تلك الفترة وأثناء دراستك في التجهيز الأولى، ألم يكن هناك تيارات سياسة أو حزبية؟…
ج: … في تلك الفترة، كان هناك طلاب ينتمون ويؤيدون الحزب الوطني وطلاب ينتمون ويؤيدون حزب الشعب. ولكن ليس لهم تنظيمات حزبية بمعنى الكلمة، تربطهم فيما بينهم، وإنما انتماؤهم هو لعائلاتهم أو لشخص العائلة بعينه: مثلاً رشدي الكيخيا، أو عبد الرحمن الكيالي. ولكن حركة حزبية منظمة فعلاً، لم يكن هناك سوى البعثيين.
س: … كم كان تقريباً عدد البعثيين في ذلك الوقت، هل كان كبيراً أم قليلاً؟
ج: … لا، لقد كان قليلاً… والعدد الاجمالي لا يتجاوز الثلاثين أو الأربعين عضواً منتسباً إلى حزب البعث.. وعندما كان يأتي ميشال عفلق ويعقد لقاءاته ويلقي محاضراته، فقد كان يتم ذلك في أحد البيوت الصغيرة وعدد الحضور بين الثلاثين والأربعين شخصاً…
س: … إن المرحلة التي تتحدث عنها هي مرحلة إثارة القضية الفلسطينية والحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى لعام 1948 والهزيمة العسكرية التي مُنيت بها الجيوش العربية في حرب فلسطين وانعكاسها في مجمل الأوضاع العربية، أَلَم يكن لهذه الهزيمة صدى سياسي وطني في أوساط الطلاب والمثقفين في حلب؟!… وما مدى مشاركة الطلاب في هذه الأحداث؟!..
ج: … طبعاً، كان لهذه الأحداث الفلسطينية صدىً واسعاً في صفوف الطلاب والمثقفين وفي الأوساط الشعبية قاطبة…. بل أكثر من ذلك وقبل ذلك، لنأخذ مثلاً ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، فإن حزب البعث برز فيها ولعب دوراً وطنياً أثنائها وأنا أذكر أن خالي محمد (السيد) قد ذهب إلى العراق. وكذلك عندما وقعت النكبة في فلسطين عام 1948، كان لها ردود فعل عامة في أوساطنا كبعثيين وكثيرون من البعثيين التحقوا بجيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي..
س: … إذن، كان للحرب الفلسطينية والهزيمة العربية لعام 1948 أثر في تهييج الرأي العام الشعبي، فهل استطاع الطلاب البعثيون وحزب البعث الناشىء في حلب أن يستفيدوا من هذه الأحداث في المنطقة ويزيدوا من انتشارهم وتوسُّعهم بين أوساط الطلاب والمثقفين؟!…
ج: … لقد كان نشاطنا بالنسبة لنا كطلاب عبارة عن تعبير عن سخطنا واستنكارنا عبر الخروج بمظاهرات الاحتجاج والصدام مع عناصر الشرطة… وليس أكثر من ذلك. وفي الحقيقة، لم يستفد من هذه الأحداث حزب البعث لتقوية تنظيمه وتوسيعه.
س: … في هذه الفترة الدراسية في المرحلة الثانوية، كنت قد تعرفّت على أستاذ لك زكي الأرسوزي. هنا، فعلاً، ما يهمني أن ترسم لي قدر الإمكان وقد ما تسمح به الذاكرة، صورة عن هذه الشخصية: متى تعرَّفت عليه وما هي المادة التي كان يدرسها وأسلوبه في التدريس، وأفكاره؟!…
ج: … لقد جاء الأستاذ زكي الأرسوزي إلى هنا ـ إذا كنت أذكر ـ سنة 1949. وكان يدرِّس مادة المنطق والفلسفة. وعندما دخل علينا، بدا وكأنه كان غريباً عن حلب. هذا هو شعوري. لماذا؟… لأنه آتياً إلى هنا حديثاً ويريد أن يشرح لنا مَن هو؟.. ففي درسه يبدأ في كتابة موضوع الدرس على اللوح، والحديث عنه، ومن ثمَّ يخرج تواً عن موضوع الدرس نهائياً، إما أن يحكي عن نفسه عندما كان يعيش في "أرسوز" ـ من هنا جاء اسمه نسبة إلى قرية أرسوز ـ في لواء الاسكندرون، وإما أن يحدثنا مطولاً عن اضطهاد الفرنسيين له وكيف أهانوه وعذبوه وألزموه أن يمشي سيراً على الأقدام بين الجبال. يعني ما أريد أن أقوله إن دروسه إنما هي عبارة عن تعريفه بنفسه، مَن هو. أنا سمعت منه عندما كان يحدثني نتفاً من حياته: كيف كان في لواء الاسكندرون وكيف جاء إلى منطقة اللاذقية وكيف قبل ذلك ذهب إلى باريس وحياته فيها. وأنا هنا أتذكر فكرة تمرّ دائماً في خاطري وهو يردِّد ويقول: أنا عندما أجلس في المقهى في "بولفار سان ميشال" في الحيّ اللاتيني، والبنات على الطاولات من حولي، يلتفتون نحوي ويستمعون إليّ. فأنا عندما أجيىء، لديَّ دائماً حديث جديد ومعلومات جديدة. لهذا، كان يحثنا دوماً على أن نطَّلع ونعرف أشياء جديدة لكي يكون لدينا مادة للحديث، ويضيف: "تستطيعون هكذا وبهذه الطريقة أن تجذبوا الناس إليكم ومن حولكم…". وكان يقول لنا: يجب أن تكتبوا مذكرات، وتصبحوا في اليوم التالي وتمزقونها. ولكن من الواجب أن يكون لديكم القوة أن لا تمزقوها ـ أن لا تمزقوا هذه المذكرات التي كتبتموها ـ لأنكم تمسون على خجل منها. ولكنه أكثر ما يكون شديداً وعنيفاً، إنما هو على السلطة الحاكمة، على الحكام. مثلاً، مرة سألناه، لا أذكر عن أيّ رئيس حكومة جديد، ما رأيك في هذا الاتجاه الجديد في الحكم. فأجابنا: "في سوق الدعارة، هل هناك غير الغانيات وبنات الهوى، فأيُّ منهن أشرف من الثانية، كلهن من صنف واحد؟!…"
س: … وهل كان يتحدث حول القومية العربية؟!..
ج: … نعم، كان دائماً يركِّز على فكرة القومية العربية، وقد كانت معركة "ذي قار"، وهي معركة مهمة جداً بالنسبة إليه، معركة القادسية، وفيها تميَّز العرب من الفرس وأثبتوا وجودهم… وهو في حديثه جذاب جداً. في البداية، تكون انطلاقة فكرته واضحة وبعد قليل يخرج عن الموضوع وينتقل من فكرة إلى فكرة وتختلط الأمور بعضها بالبعض الآخر ويقتطف زهرة من كل بستان، دون أن يكون أيُّ رابط بين فكرة وأخرى. (بمعنى هناك تشتت في الأفكار). وكان لديه هاجس دائم ومستمر أنه ملاحق وأن أنظار الاستعمار موجهة إليه، حتى إنه عندما نُقل من التجهيز الأولى للبنين إلى التجهيز الأولى للبنات، والمسافة بينهما لا تتجاوز المائتي مترٍ، قلت له مرة عند مرافقتي له: إننا نحن طلابه قد اشتقنا إليه وإلى أحاديثه. فأجابني على التوّ: أرأيت، إنهم ـ أي الأعداء والخصوم أو حتى الاستعمار ـ إنهم لا يتركوني، ومن غير المعقول أن يتركوني. أنتم الطلاب الشباب كنتم قريبين إليّ كثيراً، ولكن مع هؤلاء البنات، ماذا أستطيع أن أفعل وبماذا أحدِّثهن وعن أيِّ شىء؟!… هذا يعني أنه اعتبر هذا الانتقال إلى ثانوية البنات "مؤامرة حيكت ضده"…
س: … هل تعلم سبب نقله؟ هل لإبعاده عن الشباب؟
ج: … قد يكون ذلك، ربما، أو لخروجه عن المنهاج المقرَّر والتطـرُّق إلى أمور سياسية أو قومية أو إلى أيِّ شىء آخر لا علاقة له بموضوع المادة المقرَّرة: المنطق والفلسفة… ولكنه في كل الأحوال، فقد كان كأستاذ ناجحاً… بمعنى أن المادة المقرَّرة والتي ينبغي تدريسها، ليست في الواقع هي المهمة بالنسبة إليه، وإنما هو وجوده وحديثه، فيما يخصّ طلابه أو مستمعيه.
س: … هذه هي الناحية، إذن، التي كانت تُلفت انتباهكم وأنظاركم إليه..
ج: … في الصف، أثناء التدريس، لا يسكت أبداً عندما يتحدث، لا يتعب ولا يملّ… وحديثه كله يتركَّز على الأمة العربية وعلى نفسه وانتقاداته للمجتمع ولنظام الحكم في سورية…
س: … طبعاً، هناك رأي شائع بين بعض الأوساط ـ وقلة قليلة من البعثيين مريديه السابقين ـ يزعم أنه من مؤسسي حزب البعث العربي أو حتى هو مؤسسه الأول، هل كان يقول شيئاً حول هذا الموضوع أو يتطرَّق إليه أثناء حديثه إليكم، وما هو رأيك الشخصي في ذلك وحسب معلوماتك السابقة؟!…
ج: … بحسب معلوماتي، ونحن كنا حزبيين، لم نكن نشعر أنه مؤسس حزب البعث. بل كان يعتبر "أنهم سرقوا الحزب منه". وكان يتَّهم دائماً ميشال عفلق وصلاح الدين بالبيطار بالعجز والقصور، وإذا كانت الأمة ستنتصر بـ "أبويّ الطربوشين"، فعليها السلام. أما القومية العربية والبعث، كما كان يردِّد دائماً على مسامعنا، فإن الفكرة في الأصل له، فهو منشئها وخالقها. ولكن وفي الوقت نفسه، لم نلاحظه قط أن له كياناً حزبياً معيَّناً… وكذلك، عندما جاء إلى حلب أدهم مصطفى وسليمان العيسى، لم يكن هناك أيُّ رابطة تربطهما به. فكانا مدرِّسين في التجهيز الأولى: أدهم مصطفى أستاذ مادة الجغرافيا وسليمان العيسى مادة الأدب العربي…
س: حدثني عنهما: هل كان لهما أثر حزبي وقومي وكبعثيين أقصد، بين أوساط الطلاب؟!…
ج: … طبعاً، كان لهما أثر وتأثير كبير جداً… وكانا في الفترة نفسها التي كان يدرِّس فيها خليل الهنداوي مادة الأدب العربي لصف الفرع العلمي وسليمان العيسى للفرع الأدبي… فأنا كنت أحبهما كثيراً، للإثنين، ونذهب باستمرار إلى بيتهما. وكانا يعلنان صراحة عن نفسيهما أنهما بعثيان، وكنا نشعر وبخاصة مع أدهم مصطفى أن هناك علاقة (حزبية) فيما بيننا، نحن الحزبيين البعثيين في الصف. عادة الأستاذ الملتزم حزبياً لا يُظهر للآخرين أن هناك ارتباطاً حزبياً بينه وبين بعض الطلاب، ولكن الأستاذ أدهم مصطفى كان يُظهر للآخرين هذا الارتباط وهذه العلاقة الحزبية فيما بيننا. بمعنى أننا كنا مميَّزين بالنسبة إليه.
س: … كيف توصف لي شخصية أدهم مصطفى؟
ج: … والله، أنا كنت معجباً به كثيراً. ولكن فيما بعد وبعد سفري إلى فرنسا، وُصف بصفات واتهامات في شخصيته، بعدما تحوَّل إلى الناصرية وأصبح ناصرياً. وإنما أنا شخصياً ما أعرفه عنه أنه ذو شخصية جذّابة وناجح كأستاذ في تدريسه مادة الجغرافيا. وسليمان العيسى كشاعر وأديب، كنت تشعر معه أنه جدِّي كثيراً في تدريسه، وأنه إنسان ذو إحساس رقيق ومرهَّف ومهذب إلى أبعد حدَّ في علاقاته مع الطلاب والآخرين ويتمتع بجاذبيَّة وإحاطة وقوة في إلقاء درسه. وأسلوبه في تدريس الأدب هو أسلوب قديم، بعكس أستاذي الآخر، عبد الكريم الأشتر الذي درست عليه الأدب العربي، بعد مجيئه وتخرجه من السوربون في باريس وحصوله على درجة الدكتوراه، فكان أسلوبه في التدريس هو أسلوب علمي في تدريسه الأدب العربي. سليمان العيسى تشعر معه أنه هو الأديب الشاعر، ليس له برنامج أو منهج في إلقائه الدرس. يبدأ في الشرح والتوضيح دون أن يكون هناك تسلسل علميّ في إلقاء الدرس…. فهو، إذن، من الواضح أنه يتمتع بكثير من العفوية والتلقائية.
س: … أَلَمْ يكن بينهما وبين الأرسوزي أيُّ علاقة صداقة أو زمالة؟
ج: … لا، أبداً… لقد كان أدهم مصطفى وسليمان العيسى في الوقت ذاته الذي كان فيه زكي الأرسوزي مدرِّساً في التجهيز الأولى في حلب، وجمعيهم في الأصل من لواء الاسكندرون، ولم نكن نشعر نحن الطلاب أن بينهم أي صداقة تجمعهم…. وهناك ملاحظة لا بدَّ من إبدائها في هذا المجال وهي أننا كنا نؤكد دوماً أن سلوكية البعثيين ينبغي أن تمثِّل حزبهم، حزب البعث العربي، وأن تكون هذه السلوكية أخلاقية، وأرفع مستوى من الأخلاق، وقمة في الأخلاق والنزاهة والصدق مع الذات وقدوة للجميع. مثلاً، في قريتي "دركوش"، كان لنا مكتب للحزب نجتمع فيه ونلتقي دائماً والبعض يتعاطى شرب الخمر. فكنت أنا أتضايق منهم كثيراً وأستنكر وأغضب. وكنت أرى أنه لا يجوز أن يكون الواحد منا بعثياً ويعرف الناس أنه يشرب الخمرة. إذا كان يشرب الخمر، فجب أن يكون ذلك في السرِّ: إذا بُليتم بالمعاصي فاستتروا. ولكن لا يجوز بأيِّ حال أن يظهر الواحد منا أمام الناس ويبدو أن البعثيين "سُكَرْجية". فلم نكن نقبل ذلك قطعاً، وكنا نؤكد دائماً على سلوكية البعثي وأخلاقيته. فكنا نتمسك إلى أبعد الحدود بالأخلاقية الفردية والجماعية وبسلوكية أخلاقية للحزبي البعثي.
س: … هناك نقطة أخرى أودّ أن أستوضحها منك: ما هي كتابات حزب البعث التي أثَّرت فيك تأثيراً كبيراً على صعيد الفكر والسياسة؟!..
ج: … في البدايات الأولى، كانت تأتينا يومياً جريدة "البعث" من حلب إلى قريتي دركوش. وكنا نقرؤها من أولها إلى آخرها. وأنا أتذكر "العامود" الذي كان يكتبه سليمان الخش ومخصَّص لإمجاد العرب. وأذكر حتى الآن مقالة مفادها، في الزمن الماضي كان الزعيم أو الخطيب يصعد إلى المنبر ويحمل في يده سيفاً حقيقياً، أما الآن فإنه يصعد وفي يده سيف من خشب.
وطبعاً، أنا شخصياً تأثرت كثيراً بالأحاديث التي كان يلقيها الأستاذ ميشال عفلق، عندما يأتي إلى حلب. فكلامه كان له تأثير كبير فيَّ شخصياً، كلامه الأدبي الجميل، وأنا أحب هذا النَّوع من الكلام الأدبيّ. وكنا نكتب المحاضرات التي كان يلقيها علينا، وجميعها كانت تُلقى بصورة عفوية، فيها كثير من الاسترسال والخيال والصورة المحبَّبة إلى نفوسنا الشابة والأخلاقية…
س: … وما هي المنشورات أو الكراسات الحزبية التي أُعجبت بها وتركت أثراً في نفسك؟!…
ج: … طبعاً، المنشورات والكراسات التي صدرت آنذاك أثناء معركتنا الطاحنة مع الحزب السوري القومي الاجتماعي… فأخذت من جهدنا وقتاً كبيراً. وأذكر في هذه المناسبة الكراس الذي كتبه شاكر مصطفى تحت عنوان: العرب في التاريخ… وكذلك وعلى وجه الخصوص ذكرى الرسول العربي، محاضرة الأستاذ عفلق على مدرَّج الجامعة في دمشق. وكراس، القومية العربية وموقفها من الشيوعية، كذلك للأستاذ ميشال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار….
س: … ننتقل الآن إلى الحديث عن الاندماج الذي حصل بين حزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي، فما هو تقييمك لهذا الاندماج بين الحزبين وبالنسبة إليكم أنتم الشباب البعثيين، فهل لك أن تشرح لي وتفسَّر ردّات الفعل لديكم؟!…
ج: … في هذه الفترة ، أنا كنت قد تركت سورية وذهبت إلى باريس لمتابعة دراستي. غير أن انطباعي قد كان هناك آنذاك تململ بين صفوف البعثيين وأوساطهم وأنهم لم يكونوا مرتاحين تماماً لهذا الاندماج، وإن شعروا في الوقت نفسه بنوع من القوة (الشعبية والجماهيرية) لوجود معهم أكرم الحوراني. ولكن سلوكية أكرم الحوراني السياسية لم تكن لتلاقي استحساناً أو قبولاً في نفوسهم. يعني، على سبيل المثال، عندنا في حلب، عبد الفتاح الزَّلط لم تكن سلوكيَّته هي نفسها سلوكية البعثي: أنا هنا أُعطي انطباع شباب صغار السِّن من القاعدة البعثيَّة، طبعاً… إننا نحن البعثيين نختلف عنهم: نحن حزب بعث عربي وهم حزب اشتراكي. نحن، صحيح أننا اشتراكيون، ولكننا، نحن، ننطلق قبل أيِّ شىء آخر من مبدأ: أمة عربية واحدة، هذا هو الأساس بالنسبة إلينا. ومن ثمَّ شعارنا: وحدة، حرية، اشتراكية، بمعنى أن هناك تسلسلاً في الأهداف. فليست الاشتراكية في المقدمة أو في البداية وبعدها تأتي الحرية والوحدة. لا، الوحدة هي أساس كل شىء في عقيدتنا الحزبية البعثية. مرة، جاء في مقال نُشر في جريدة"الموند" الفرنسية يقول عن حزب البعث أنه arabisant وليس socialisant، أي أنه حزب عروبي وليس حزباً اشتراكياً… وهذا، فعلاً، فإن الاشتراكية بالنسبة إلينا لم تكن الهدف الآنيّ الملحّ، وإنما الهدف الأساسي هو الوحدة العربية وتحقيقها، والوحدة العربية هي النموذج والإطار لتحقيق الاشتراكية ولاقتصاد معيَّن وإعادة توزيع الثروات والأراضي من مخلفات الإقطاع من العهد العثماني…. نحن البعثيين في الأساس لم نكن اشتراكيين بقدر ما كنا بالأحرى عروبيين: أهمَّ هدف بالنسبة إلينا في تلك الحِقبة من الزمن هو، العروبة، العروبة…
فاندماج الحزب العربي الاشتراكي مع حزب البعث العربي، نظرنا إليه على أنه من المعروف للجميع أن أكرم الحوراني لديه عسكر وضباط وهو في صراع سياسي واجتماعي مع الإقطاعيين في حماه وريفها. أما نحن فقد كان همُّنا ترسيخ قواعد حزب البعث وعقيدته وانتشاره في قواعد الشعب، ولم يكن هدفنا أن نظهر وفي الآن على مستوى الصراع السياسي رأساً. هذا هو شعوري الخاص ـ وليس بالضرورة أن يكون شعور البعثيين جميعهم ـ وإنما شعور الشباب صغار السِّن مثلي الذين كانوا يفكرون هذا التفكير بصورة عامة. أو من ناحية أخرى، شعورنا كذلك أن أكرم الحوراني قويّ سياسياً وشعبياً، وسوف يهيمن علينا ويستوعبنا جميعاً. فكان موقفنا الحذر منه أو حتى الرفض، إنما هو ربما نوع من الدفاع عن وجودنا وعن شخصيتنا وهُويتنا الحزبية المستقلة. وقد يكون أيضاً في أذهاننا أن ميشال عفلق هو الأساس، فوجود أكرم الحوراني في حزب البعث قد يطغى عليه ويهمِّشه.
وفي كل الأحوال، فإن تقييمي النهائي لعملية الاندماج بين الحزبَيْن، إنما تكمن هنا المشكلة الرئيسة في حزب البعث العربي الاشتراكي. عندما دخل أكرم الحوراني واندمج بالحزب، دخل معه ضباط وابتدأت سلسلة الانقلابات العسكرية في سورية، ولكنه في الوقت نفسه كان قوياً شعبياً وجماهيرياً في حماه ومنطقتها، لا شك في ذلك. وإنما الفكرة التي أتى بها هي الانقلابات العسكرية التي هي، في رأيي، كانت قد هدَّمت حزب البعث وخرَّبته.
س: … بالإضافة إلى ذلك، ألا تعتقد أنه مع وجود أكرم الحوراني دخل إلى حزب البعث العربي عنصر جديد، وهو عنصر الفلاحين وانتشار الحزب في الأرياف في مخلف المحافظات السورية؟!.. هذا من جهة ومن الجهة الأخرى، ألا ترى أن انطلاقة حزب البعث من العمل بين الطلاب والمثقفين إلى الأوساط والبيئات الشعبية والجماهيرية الواسعة كان بفضل اندماج الحزبَيْن في الظروف السياسية الداخلية والخارجية التي نعرفها؟!…
ج: … لا، مثلاً، نحن في قريتي "دركوش"، صحيح أن انطلاقة الحزب في البداية كانت من بين الأوساط الطلابية، ولكننا فيما بعد، رأساً، توجهنا نحو الفلاحين وذلك قبل وقوع الاندماج بين الحزبَيْن. وكان كثير من العمال الزراعيين انتسبوا معنا إلى حزب البعث. وأنا أذكر تماماً أننا كنا نتحدث معهم ونشرح لهم الاشتراكية في مفهوم حزب البعث وماذا تعني: الاشتراكية تؤمن لكم الشيخوخة، متى تصبحون كبار السِّن. حتى إنني أذكر مرة أحد الحضور، وكان كمال شحادة موجوداً وهو يشرح لهم معنى الاشتراكية، قال له أحد الحضور من الفلاحين: أستاذ، ما معنى هذه "الشخشوخة"… أسمعك تردد كثيراً هذه الكلمة، ما معناها؟!…. لا، ما أريد أن أقوله إن حزب البعث العربي قبل الاندماج مع الحزب العربي الاشتراكي، ونحن الطلاب البعثيين في الأرياف، كان لنا ارتباط وثيق بجماهير الشعب من العمال الزراعيين والكادحين في الأرض، ولكن الوقت كان قصيراً جداً. لقد ابتدأ وجود الحزب الفعلي بعد انعقاد المؤتمر التأسيسي الأول عام 1947 والأعوام التالية 1948 ـ 1950 وأخذ يظهر تدريجاً، بمعنى أن الانتقال من المرحلة الطلابية إلى مرحلة العمال والفلاحين وعامة الشعب كانت قصيرة جداً.
س: … صحيح، فقد كانت سورية مسرحاً لأحداث ضخمة كبيرة وواسعة وعميقة جداً: معركة مع المحتل الأجنبي ومعركة الاستقلال الوطني، حرب فلسطين وأحداثها الداخلية والعربية عام 1948، الانقلابات العسكرية المتتالية في سورية ابتداءً من آذار 1949 حتى شباط 1954، ولم يستقر الوضع السياسي في الداخل نسبياً حتى تأزَّم على الصعيد العربي: حلف بغداد، الاعتداء الثلاثي على مصر، حتى حصلت الوحدة السورية ـ المصرية عام 1958… هذه الظروف السياسية الداخلية والعربية والدولية، لم تكن لتفسح المجال لحزب البعث ولاستقرار الأوضاع حتى يستطيع أن يقوم ويتمكن من مراجعة ذاتية، من مراجعة تجربته السياسية والايديولوجية والتنظيمية. من هنا، فيما أرى، تراكم الأزمات الداخلية، السياسية والتنظيمية على حدٍّ سواء.
ج: … هذا صحيح… ولكن، بالإضافة إلى ذلك، فإن توجُّهات أنظار الشعب من الناحية السياسية في البداية بين مَن هو وطني ومَن هو غير وطني في زمن الانتداب الفرنسي ومرحلة معركة الاستقلال، وبعد ذلك طُرحت القضيَّة بين فلسطين العربية وإسرائيل المدعومة من الغرب…. لم تكن الظروف والأوضاع لتسمح لبلورة رؤية سياسية شمولية بعيدة المدى، ثم برزت شعارات الوحدة العربية أو عدم وحدة عربية، أي برزت هذه الثنائية: عروبة أو لا عروبة، استقلال وطني أو أحلاف غربية، وهكذا… ولا يجوز أن يغيب عن أذهاننا صراعنا مع الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان منظماً تنظيماً قوياً، والشيوعيون كذلك كانوا منظمين ولهم خبرة كبيرة في التنظيم والإعلام بشكل جيد. والأخوان المسلمون كتيار إسلامي متديِّن واسع إنما هو موجود وفاعل ومؤثر….
هنا أذكر حادثة عندما جاء أستاذ مدرسة ابتدائية من "دركوش" وهو شيوعي، ونحن كنا طلاباً في التجهيز الأولى في حلب، ففي العطل الصيفية نلتقي هذا الأستاذ الشيوعي. فلم نكن نعرف ما هي الشيوعية لكي نناقشه ونبرهن له أن اشتراكية حزب البعث هي أفضل لنا من الاشتراكية الماركسية. فكنا نتضايق كثيراً في نقاشنا معه: فلم يكن من شىء لدينا نواجهه به سوى القول: إنهم عملاء، في حين أن حزب البعث إنما ينبع من صميم وجودنا العربي، وإن النظرية الشيوعية والماركسية هي دخيلة علينا… يعني، هذه هي مفرداتنا لا نعرف شيئاً أكثر من ذلك ولا نستطيع أن نفنِّد الاشتراكية الشيوعية، لأن اشتراكيتنا لا نعرف عنها شيئاً ولا ما هي أكثر مما جاء في "دستور" الحزب حول اشتراكيتنا العربية التي هي تأميم المرافق العامة وإعادة النظر في توزيع الأراضي، إلخ… فليس لدينا من نظرية اشتراكية. فكان سلاحنا الفكري أو الأيديولوجي ضد الشيوعيين ضعيفاً جداً. وفي كل الأحوال، لم نكن نحن بحاجة إلى هذا السلاح الأيديولوجي، ذلك أننا كنا نركِّز كل فكرنا وجهدنا حول الوحدة العربية.
س: … وحول المخيَّم الذي أقامه حزب البعث العربي، واعتبرته أنت كنقطة انطلاق، حدثني عنه…
ج: … إنني أذكر، أو هكذا خُيِّل إليّ، أن قيادة البعث دعت بعثيين من جميع جهات الوطن العربي وجميع أنحاء سورية وذلك من أجل تدريب وتهيئة قياديين وكادرات قيادية للحزب. وأنا شاركت في هذا المخيم الذي كان في بلودان في شهر آب، وقد لبسنا جميعاً لباساً موحَّداً على نمط اللِّباس الكشفي… وكان المخيَّم عبارة عن مجموعة من الخِيَم. وكان عددنا نحو مائة مشارك من الأردن، من اليمن، من العراق، ومن لبنان الدكتور علي جابر الذي كان طبيب المخيَّم.
س: … ما هو البرنامج العام للمخيَّم، هل كانت تُلقى محاضرات وندوات تثقيفية للأعضاء المشاركين؟!…
ج: … البرنامج اليومي، في الصباح الباكر التدريبات الرياضية، وبعد ذلك الفطور، ومن ثمَّ إلقاء محاضرة أو عقد ندوة. وفي الغالب، كان المحاضر الوحيد هو الأستاذ ميشال عفلق الذي يحضر يومياً من الشام ويبقى معنا عدة ساعات. وكان يلقي محاضرته تحت الخيمة ونحن متحولقون حوله.
س: … مَن هي الوجوه البارزة المشاركة في هذا المخيَّم، كما تذكرها والتي لعبت دوراً فيما بعد؟!…
ج: … هذا الشىء، من العجيب، لا أذكره أبداً. مثلاً، لا أتذكر إطلاقاً مَن هم العراقيون أو مَن هم الأردنيون، وإنما لم يبق في ذاكرتي سوى علي جابر. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنني كنت صغير السِّن ولم يتجاوز عمري السادس عشرة سنة…. ولكن، فيما يبدو لي، فقد كان من المثقفين البارزين المشاركين: عبد الرؤوف الكسم، جلال فاروق الشريف، أبو النور طيّارة وهو يُعتبر المرافق أو الحارس للأستاذ ميشال عفلق. وهو مدرِّس من حمص ويقف دائماً خلف الأستاذ عفلق عند إلقاء محاضرته… بعد ذلك، أصبح سفيراً لسورية في بلاد متعدِّدة وأظن أنه توفاه الله منذ فترة من الزمن.
وكما أذكر، كما قلت، أن المحاضر الوحيد في هذا المخيَّم هو الأستاذ ميشال عفلق. وفي مرة من المرّات ذهبنا إلى بلودان في نزهة جماعية حرَّة، ورأينا في أحد المقاهي الأستاذ جلال السيد يدخِّن النرجيلة. فتعجبنا وأنا شخصياً حزَّ في نفسي كثيراً، كيف أنه عندما نعدُّ قياداتنا، فنقول إن من قادتنا في اللاذقية وهيب الغانم، وفي دير الزور جلال السيد… فنُصدم حين نجد جلال السيد في بلودان يدخن النرجيلة ولا يزورنا في المخيَّم ويحيينا تحية رفاقية…