محاولة لتأريخ حزب البعث العربي - أديب اللجمـي
مقابلات /
سياسية /
1989-10-23
مقابلـة مـع
الأستاذ أديب اللجمـي
من الرعيل الأول في حزب البعث العربي
الزمان والمكان: 23 تشرين الأول 1989 ـ دمشق
الموضوع: محاولة لتأريخ حزب البعث العربي
من خلال التجربة الشخصية
أجرى المقابلة: د. مصطفى دندشلي
* * *
د. مصطفى دندشلي: … لقد ذكرت لي في دردشة سابقة أن الأفكار القومية العربية أثناء الحب العالمية الثانية، كانت عندكم جميعاً وموجودة لديكم…
الأستاذ أديب اللجمي: نعم، كانت هذه الأفكار القومية العربية موجودة في أذهان وفي نفوس هؤلاء الشباب الذين كانوا في ذلك الحين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والعشرين سنة. لقد كانت هذه الأفكار على درجة من الوضوح كبيرة جداً. وكانت هناك، لنقل، علامات بارزة في تكوين تفكير هؤلاء الشباب. على الصعيد الأجنبي، فإن من كبار الذين أثروا في تفكيرنا في ذاك الحين، يأتي في الطليعة "برغسون"، كفيلسوف آنذاك، فلسفته الروحانية، هذه الفلسفة المعنوية ليست مثالية، ولكن فلسفة روحانيـة تعتمد على ما كان يسميه هو بـ "الدافع الحيويّ" l´élan vital، وعلى ما يسميه هو أيضـاً بـ "الحَدْس" بنوع من الكشف، إلخ… وهي تعتمد طبعاً على هذا التفكير المعنوي. وكان "برغسون" أقرب إلى الشعر منه إلى النثر. وكان كاتباً كبيراً جداً، ولم يكن فيلسوفاً بالمعنى المادي للكلمة وحسب. ومن جهة ثانية، فإن الذي أثّر فينا، نحن، في جيلنا حينذاك بلا منازع، وقد يكون بنفس القسط من الأهمية وربما أكثر كان "دوستويفسكي". وأنا أذكر في ذاك الوقت تماماً، في عام 1940 كنت قد لخَّصت بحثاً كبيراً جداً من بحوث "برغسون" في كتابه الذي كان عنوانه "المدخل إلى الميتافيريقا" Introduction à la métaphysique . وأيضاً في ذاك الحين أذكر تماماً أنني شرعت في ترجمة "الجريمة والعقاب" لـ دوستويفسكي". وشرعت وترجمت ما لا يقل عن مائة صفحة. ولكنني تركتها بعد ذلك. وهذه الترجمة رأيتها لأول مرة، ربما، بعد انقضاء هذا الزمن الذي قد يصل إلى حوالي خمسين (50) سنة، رأيتها منذ شهرين، عندما عدت إلى بيتي وبدأت أرتِّب وثائقي وأوراقي وإلى آخره، ووجدت أمامي ما سبق أن ترجمته من رواية "دوستويفسكي" في "الجريمة والعقاب" في حدود مائة صفحة، ثم تركتها. وكذلك وجدت أيضاً حوالي سبعين أو ثمانين صفحة ترجمة كنت قد شرعت فيها آنذاك. وكنت قد تخرجت من المرحلة الثانوية البكالوريا القسم الثاني. وأنا من مواليد سنة 1921، وقد تخصَّصت في الفلسفة، في جامعة باريس (السوربون) ليسانس ودبلوم في الدراسات العليا في الآداب Diplome d'études supérieurs des lettres. وكنت قد درست على "ميرلو ـ بونتي" (Maurice) (Merleau - Ponty و"لاغاش" (Lagache) و "غورفيتش" (Gurvitch) - في علم الاجتماع بصورة خاصة ـ "بياجي" (Piaget) في علم نفس الطفل، وأيضاً "ريمون أرون" (Reymond Aron) الذي تتلْمذت عليه وسجلت أطروحة الدكتوراه في علم الاجتماع معه طبعاً. لقد كنت في ذاك الوقت، في الأربعينات، ومجموعة من الشباب نتحدث في ما سمي فيما بعد "حزب البعث".
س: … سؤال لو سمحت، لو أردت أنا أن أعرف: أين كنت قومياً أو بمعنى آخر من أيِّ تلاميذ كنت: زكي الأرسوزي أو من جوّ الأستاذ ميشال عفلق؟
ج: … من كليهما… من كليهما بلا شك… الواقع، أنني وفي تقديري الشخصي وبشكل موضوعي، هذه الفكرة، فكرة البعث لم تكن مبَلْورة في ذاك الحين لا في رأس زكي الأرسوزي وعلى شكل مذهبي، على شكل نظري Doctrinaire ولا في رأس ميشال عفلق ولا في رأس صلاح الدين البيطار. لقد كانت هناك أفكار في هذا السياق، أفكار تتعلق بالتحرّر وبأن العرب "أمة"، وبأن الأمة العربية ذات هذا التاريخ المجيد. وقد كانت أمة واحدة، وقد كانت دولة واحدة إلى آخر ما هنالك… من حقِّها أيضاً أن تعاود سيادتها على نفسها وأن تعاود تحرُّرها… أن تعاود ما يسمى بلقاء أبنائها بعضهم مع بعض، في ما سميَ بعد ذلك الوحدة العربية أو الأمة العربية الواحدة…، إلخ… إلخ…
في ذاك الوقت، فإن التيارات التي كانت أيضاً موجودة في الشارع، موجودة في رؤوس الناس من الشباب حينذاك، أفكار أيضاً الحزب القومي السوري. لا يستطيع أحد أن ينكر هذا. وفي هذا السياق كان جيلي أيضاً يتلذَّذ بقراءة "فخته" وبخاصة كتابه: "خطابات إلى الأمة الألمانية"سواءً كانوا يقرأونه أولئك الذين يتقنون اللغة الفرنسية، فيقرأونه بالفرنسية، أو يقرأون النتف التي كانت مترجمة إلى العربية من هذا الكتاب. وكان يتحدث عن "نيتشه" وعن "شبنجلر" وبخاصة عن كتابه "انحلال أو انهيار الغرب." في هذا السياق، يعني في سياق أن هناك وعياً لدى شباب أو شبَّان أبناء الثامنة عشرة وأبناء العشرين وأبناء الخامسة والعشرين، هذا التفتّح على ما يجري في الدنيا من أن هناك طبعاً هُويَّة عربية. وهذه الهُويَّة العربية لا تُحدّد، كما يقول علم النفس، إلاّ بوجود الآخر. إن هُويَّة الذات، الأنا، ليس أنا إلاّ لأن هناك غير أنا موجودة. وبالتالي هذه الهُويَّة، أو الذاتية، أو الخصائص الخاصة لنا، هي موجودة لأن ليس أنا إلاّ لأن هناك غير أنا موجودة. وبالتالي هذه الهُويَّة، أو الذاتية، أو الخصائص الخاصة لنا، هي موجودة لأن ثمة هُويات أخرى خارجة عنا، هي ليست منا، وليست لنا.
في هذا السياق، أتصور أو بالأحرى يبدو لي الآن، مثلما كان يبدو لي في ذاك الحين، أن عملية ما يسمَّى بـ "فكرة البعث العربي الاشتراكي"، طبعاً هذه التسمية تلي ذلك، هذا تالي، لكن هذه الفكرة: فكرة بعث الأمة العربية، لم تكن في تقديري قط من إبداع شخص واحد، وإنما هي فيما أتصور الآن، هي بنت هذا الظرف التاريخي الاجتماعي الثقافي في ذاك الحين الذي منه أو نجم عن هذا التفتّح للوعي لدى الشباب عشية بداية الحرب العالمية الثانية. وهذه النقطة لها أهمية كبيرة جداً، لأن العملية تمَّت بالبداهة في ذاك الحين. وفرنسا دخلت الحرب وفرنسا خسرت الحرب في أيام قلائل في وجه الجيوش النازية الألمانية. مثل هذا (الحدث التاريخي)، كان قد ساعد وساهم مساهمة كبيرة في تفتيح وعينا، نحن الشباب، على أن فرنسا أولاً قُهرت واُذلَّت وأهينت وكانت بذلك سعادة كبيرة لنا، لأنها بلد نعتبره بلداً محتلاً، احتل أرضنا واغتصب هُويتنا أو أراد تشويه هُويتنا، وكنا رافضين لوجوده حتى ونحن أطفال، رفضنا وجود فرنسا في بلادنا، عندما كنا في المدارس الابتدائية، ثم في المدارس الثانوي، ثم لما انتقلنا إلى الجامعة، كنا دائماً نرفض هذا الوجود الفرنسي في أرضنا، لا بصفته العسكرية وحسب، بل أيضاً بصفته الثقافية بالمعنى الحضاري (التاريخي ـ السياسي)…
س: … هل تأثرت بالأفكار القومية الألمانية، الفكر القومي الألماني؟….
ج: لا، لا، لم يكن هناك أيُّ تأثير من هذا القبيل. وإنما، كما قلت لك، تفكير "فخته"، تفكير "فخته"، نداءات "فخته" أو "رسائل فخته إلى الشعب الألماني"، من أين يستعيد هُويته، ذاتيته، كانت بمثابة المهيب لنا، أهابت لنا، أيقظت بنا ـ إن صحّ التعبير ـ مثل هذا النداء أيضاً، نداؤنا أو نداء هُويتنا العميقة لنا، لكي نستفيق ونحدِّد مكاننا في هذا العالم في ذاك الوقت طبعاً. هذا التحديد بالبداهة في ذاك الحين، كان أقرب إلى أن يكون نوعاً من الاندفاع، نوعاً من الحماسة، نوعاً من الهوى أكثر بكثير مما كان نوعاً من العقلنة أو نوعاً من التعقيد الفكري أو الأيدويولوجي بالمعنى الجديد للكلمـة. من هنا جاء ـ وهو ذات تعبير كبير ـ جاء عنوان كتاب زكي الأرسوزي الأول. عبقرية الأمة العربية في لسانها. وهو يستعمل لأول مرة تعبير "عبقرية الأمّة"…
س: هنا يُطرح سؤال أودّ أن أستوضحه من حضرتكم: هناك لغط بأن مؤسس الحركة، مؤسس حزب البعث، "خالق" البعث هو الأستاذ زكي الأرسوزي. هذا جانب أريد أن أستوضحه منكم. وكذلك وفي السياق نفسه، أودُّ أن أستوضح منكم بعض الملامح عن شخصية زكي الأرسوزي، عن فكره، ثم عن كتاب "عبقرية الأمة العربية في لسانها". وسأتوقف لحظة عند النقطة الأخيرة: ألا تعتقدون ـ كما أنا كنت قد وجدت ذلك في كتاب فخته "خطابات إلى الأمة الألمانية" ـ بأن نفس التعبير الذي يستعمله الأرسوزي عبقرية الأمة العربية في لسانها، هو موجود في كتاب "فخته"، إنما بصيغة: عبقرية الأمة الألمانية في لغتها. فهناك تأثير واضح جداً "لفخته" في هذا الكتاب، ثم وجدت من خلال تنقيبي وبحثي بأن ما يقوله عن عبقرية اللغة، وعن اشتقاقات اللغة العربية وأهميتها هو تقريباً يكاد أن يكون منقولاً نصاً أو حرفياً من كتاب "الخصائص" لابن جنيِّ… فأنتم أكثر أهلية مني لكي توضِّحوا لي هذا الجانب…
ج: أنا، يبدو لي أن زكي الأرسوزي قد تأثَّر بالبداهة بتفكير "فخته"، هذا أمر لا أعتقد أن هناك من يماري فيه من جميع إخواننا الذين عايشوا تلك الفترة. زكي الأرسوزي تأثر بتفكير "فخته"، هذا أولاً. ثانياً قراءات زكي الأرسوزي، فيما يبدو لي أنا أو فيما أعلم، وعلمي في هذا المجال لا بدّ أنه محدود، عن ثقافة زكي الأرسوزي باللغة العربية، لا أتصور ولا أعتقد أو أن علمي يتوقف على أن زكي الأرسوزي لم يكن يقرأ كثيراً كثيراً التراثيّين العرب. لم يكن يقرأ كثيراً هؤلاء التراثيّين. لكن ربما كان تفكير "فخته" بمثابة عود الكبريت أو بمثابة تماماً الفتيل الذي عندما اشتعل أيقظ في ذهن زكي الأرسوزي عندئذ الكثير الكثير من هذا التوجّه نحو اللغة… إضافة إلى ذلك، وهذه نقطة تستحق كثيراً من التفكير، فإن زكي الأرسوزي في ذاك الوقت، في بداية الأربعينات، كأنه أفاق على "اللغة العربية". لقد كان في أنطاكية قبل أن يأتي إلى سورية، كان في أنطاكية يناضل ويكافح ضد الوجود التركي بالمعنى الحضاري (الثقافي) للكلمة وبالمعنى السياسي. ولكن كان إخواننا يقولون لي إنهم هناك كانوا كلهم يتحدثون باللغة التركية. فزكي الأرسوزي كان متقناً ـ إذا صحَّ التعبير ـ اللغة التركية أكثر من إتقانه للغة العربية، عندما كان في أنطاكية.
س: هل كان زكي الأرسوزي يعرف ويتحدث اللغة التركية؟
ج: بداهة، هكذا قيل لي… المهم أن زكي الأرسوزي، عندما كتب كتابه عبقرية اللغة العربيَّة في لسانها، سواءٌ هو تأثر باين جنيِّ أو بغيره، وفي هذا يبدو لي أن الأمر مشكوك… يبدو لي، يبدو لي… وإنما المؤكد أنه تأثر بـ "فخته"، وثانياً أعطى في كتابه هذا نوعاً من الاندفاع، عندما يقرأ الإنسان هذا الكتاب، وقد قرأناه، وإننا ساعدنا على بيعه، وصحّحناه، كنا كثيرين جمال الأتاسي ومحسن الشيشكلي وأنا وكثيرون غيرنا… المهم أنه ما من أحد تعرَّف على زكي الأرسوزي في ذاك الوقت إلاّ وساهم بشكل أو بآخر بترويج هذا الكتاب، لأن كل واحد منا رأى في هذا الكتاب شيئاً من شخصيته. ليس شخصية زكي الأرسوزي فقط، وإنما شيء من شخصيتنا. بمعنى وكأنه أيقظ فينا جميعاً هذا النوع من العودة إلى الذات، أو العودة إلى الهُويَّة، أو العودة إلى الأصالة إلى آخر ما هنالك… لكن، هذا الذي كتبه زكي الأرسوزي، إذا أُخذ بالمعنى الحديث للكلمة، قد نجد فيه دائماً الكثير من الثغرات، من المآخذ، غير أنه إذا فُهم على أنه هو نوع من اندفاع عاطفي وفكري في آن واحد، نجد عندئذ في هذا العمل كأنَّ يقظة الوجدان العربي لدى زكي الأرسوزي هي التي أملت هذا النوع من الكتابة، وهذا النوع من الصياغة.
س: … مَن صاغ الكتاب، لقد قيل لي بأن الصياغة النهائية لم تكن لزكي الأرسوزي؟…
ج: زكي الأرسوزي…
س: … تقولون بأن زكي الأرسوزي عندما جاء إلى دمشق لا يتقن اللغة العربية…
ج: … ولكن، زكي الأرسوزي لا يختلف كثيراً عن ساطع الحُصْري…
س: لا، هناك فارق كبير، لأن ساطع الحصري لم يكتب باللغة العربية إلاّ بعد أن تعلم اللغة العربية ودرسها وأتقنها في مدة زمنية طويلة. وكان مرات عديدة وزيراً للمعارف ولم يكتب باللغة العربية إلاّ متأخراً… في حين عند مجيء زكي الأسوزي إلى دمشق في عام 1939، يقولون لي بأنه كان يتحدث باللغة التركية واللغة العربية الدارجة الركيكة، وأحياناً الفرنسية…
ج: … كان يتحدث باللغة العربية الدارجة، وكانت كثيراً من مفرداته عربية صحيحة. وكانت صُوره… أو كتابته تشبه كلامه، لأنه كان كلامه صُوراً، صُوراً متلاحقة، كأنك ترى نوعاً من الصُّور على الشاشة، إلى هذا الحدّ، الصُّور تتلاحق. والحسّ والتصور فيها متلازمان. وهذه الأفكار وصورها كانت حسّيّة وتصوّريّة في آن واحد. في هذا المعنى، هناك شيء من التشابه بين وضع زكي الأرسوزي وساطع الحصري، أي أنَّ كلاهما لم يكن في البداية متقناً للكتابة باللغة العربية. فلما غاص كل منهما في الكتابة باللغة العربية، وأتقن التعبير والإعراب بهذه اللغة. وأنا كنت قد دعوت في وقت من الأوقات، دعوت سنة 1960 ساطع الحُصْري إلى المشاركة في موسم المحاضرات الذي نظمته أنا في ذاك الحين في إطار وزارة الثقافة. وكنت آنذاك مدير النشاط الثقافي في وزارة الثقافة، ومن مؤسسي وزارة الثقافة في هذا القطر، فأخونا العزيز رياض المالكي، وقد كلَّف لأن يكون أول وزير للثقافة، كلفنا لأن نتصور عندئذ بنيان هذه الوزارة، بنيان الفكر الثقافي… المهم، في سنة 1960 دعوت أنا ساطع الحصري ليشارك في الموسم الثقافي، في موسم محاضرات وزارة الثقافة، فجاء الرجل من القاهرة بدعوة من وزارة الثقافة. فألقى ثلاث محاضرات: إثنتان هنا في دمشق وواحدة في حلب. وقدمته في المحاضرات الثلاث أنا بنفسي. عندما كان ساطع الحُصْري يتحدث في محاضراته عن القومية العربية بالمناسبة، كان يتحدث بلهجة اللغة العربية ولكن بلكْنة تركية. فكان فهم الناس لأقواله قليلاً، إنما عندما كان يكتب هذا باللغة العربية، يكتب (بسلاسة وببساطة ووضوح تام)…
ولكن، لكي نعود إلى تلك الحِقبة، أنا أتصور في ذاك الوقت، نحن الشباب، كنا أمام عدة تيارات: هذا التيار القومي ـ كما قلت ـ ومعه كان يوجد التيار الديني السلفي، بالمعنى السلفي فعلاً للكلمة، لأن تياراً فيما يسمى بـ "الإخوان المسلمين" ظهر فيما بعد، لأنه فُذْلك كثيراً وفُلسف و، و، إلخ… لكنه في بداية الأربعينات كان تفكير التيار الديني السلفي "تفكير خام"، مثل ما كان هناك ما يسمى بجمعيات الشبان المسيحيين، كان هناك أيضاً جمعيات الشبان المسلمين. والتيار الإسلامي إنما إسلامي، بمعنى سلفي ومطعّم على شيء من الثقافة، ويضمّ مثقفين وسواهم. وفي الوقت نفسه، كان هناك التيار الشيوعي، وكان هذا التيار الشيوعي في سورية آنذاك في بداية الأربعينات ليس ضعيفاً أبداً، فهو موجود وموجود بصيغة كبيرة، حتى إنه وبالبداهة وليس هذا سراً أبداً، أن الأستاذ ميشال عفلق تأثر كثيراً، قبل أن يفكر في هذه الصيغة العربية، تأثر بالفكر الشيوعي تأثراً كبيراً، أو أثَّر فيه هذا الفكر الشيوعي. وبالمقابل، كما قلت، هناك أيضاً تيار الحزب القومي السوري في هذا المفهوم القومي الضيِّق، المفهوم الخاص الذي ترسَّخ وتبلور فيما بعد أكثر ضيقاً وكأنه نوع من العرقية، إلخ.. واتهم الحزب القومي السوري في ذاك الحين في الأربعينات والخمسينات، اتهم اتهامات كثيرة… إضافة طبعاً إلى تيارات سياسية أخرى كانت تعبِّر عن نوع مما يسمى الآن بالبرجوازية، في ذلك الوقت لم نكن نستعمل تعبير "البرجوازية" قطعاً، وإنما التيارات السياسية العربية التقليدية من نوع ما يسمى بحزب الكتلة الوطنية، بحزب الشباب، إلى آخر ما هناك، تيارات سياسية عديدة لهؤلاء الذين يعملون في السياسة وبعضهم مستنير…. طبعاً لا ننسى تيار ما كان يسمى بـ "عصبية العمل القومي"، والذي كان عبد الرحمن الشهبندر معبراً عنه تعبيراً متألفاً، وهو طبيب مثقف وكاتب.
إذن، في هذا الجو، في هذا الإطار، في هذا المُناخ، في جو الحرب، في جو التقنين، في جو الحرمانات الكثيرة، في جو الأمل في أن تهان فرنسا إهانة كاملة وأن تُسقط، تفكير شبابنا أو تفكيرنا نحن الشباب في ذاك تكوَّن قومياً في هذا السياق. لذلك، حتى يدرس الواحد كيف تكوّن هذا، يحسن أن يدرس كل هذا الإطار (السياسي الاجتماعي الثقافي) الذي فيه نبت هذا النُّزوع القومي العربي. وبدون ذلك، إذا أخُذ موضوع حزب البعث كـ entité، (ككيان مستقل)، وكأنه شيء قائم بذاته، فأتصور أن ذلك خطأ كبير، لأننا نفقد عندئذ النُسغ والأرض التي منها اغتذى وفي نطاقها قام ونبت وترعرع. لأنه كما يقال بالفرنسية: Ex nihilo(1) لم يقم "البعث" من العدم. وخطأ كبير أن نتصور: نحن، جيلنا أو ميشال عفلق أو زكي الأرسوزي أو صلاح الدين البيطار هم الذين أبدعوا، كوّنوا، خلقوا ما يسمى بـ "فكرة البعث". لا، هناك أيضاً روّاد، هناك الكواكي وغيره وهناك أجيال سبقتنا وكتبت كثيراً في هذا السياق.
س: … من أين أتت كلمة "البعث"؟
ج: … هذا التعبير هو من عند ميشال عفلق وزكي الأرسوزي فعلاً. "البعث، بعث الأمة العربية، هما تحدثا في بعث الأمة العربية، وهما تحدثا عن حزب أسمه "حزب البعث". كان التفكير منصباً على ما أسمياه، وهو تعبير صحيح، بعث الأمة العربية، بعثها، بمعنى (نهضتها، خلقها من جديد، نشوئها، قيامها من بين الأنقاض).
س: … هل تعتقد بأن الأستاذ زكي الأرسوزي كان شخصياً أو فكرياً مهيأ لإنشاء وتكوين حزب سياسي أم لا؟… شخصيته هل هي فعلاً شخصية سياسية بحسب معرفتكم له؟…
ج: … في حدود معرفتي للأستاذ زكي الأرسوزي وقد عرفته منذ سنة 1940 إلى شهر وفاته، تكاد تكون علاقتنا مستمرة ومتواصلة، ويومياً تقريباً… إلى سنة وفاته عام 1968، يعني ثماني وعشرون سنة… وقد شاركت في تأبينه… كان زكي الأرسوزي يحرص، يرغب في أن ينشىء حزباً سياسياً نضالياً. وتلك كانت أمنيته منذ أيام أنطاكية، فيما يبدو. لكن زكي الأرسوزي كان في صميمه مفكراً سياسياً، بل مفكراً… هو مفكر أيضاً أكثر من مفكر سياسي. مفكّر بالمعنى العميق والأصيل للكلمة . في هذا المعنى، زكي الأرسوزي أنا أعتبره مبدعاً فكراً وتفجّرت عنه أفكار تقديرات وحتى نظريات، وإن لم تكن نظريات بالمعنى "المتمذهب" للكلمة، بالمعنى الفكري المذهبي للكلمة. لكن صدرت عنه تقديرات وتصورات ورؤى بهذا المعنى جداً طريفة، فيها جدَّة لا حدود لها، لأنه تعمَّقت هذه معه فكرة الهُوية العربية من خلال الفكر، وليس من خلال الممارسة السياسية…
س: … أستاذ، إذا سمحت لي، من الملاحظ أن ما أشرتم إليه هو حقيقة وكنت قد سمعته مراراً من الأشخاص، من أصدقائه الذين كانوا يحيطون به. ولكن، من خلال كتبه، لا نجد إطلاقاً هذه اللَّفتات الفكرية العبقرية. وحتى كتابه عبقرية الأمة العربية في لسانها، لو قرأناه قراءة نقديـة، بإمعانٍ وعلى مختلف المستويات، وقد حصل ذلك، نجد فيه الأفكار مفكّكة، مشتَّتة، وفيه صفحات غير مفهومة على الإطلاق… طبعاً، نجد فيه هنا وهناك شيئاً من الطرافة، شيئاً من المحاولات… أما عملية الإبداع، فأيُّ كتاب من كتبه تجدها عليه، على سبيل المثال؟!
هذا جانب والجانب الآخر، هناك دارسة حول رسالة كان قد كتبها الدكتور معن زيادة تحت عنوان: "الرحمانية"، ويقول كاتبها بأن الأرسوزي متأثر بالفكر الباطني، بالفلسفة الباطنية (أو المذهب الديني العلوي). أنا لم أقرأها ولم أطلع عليها، ونُشرت هذه الدراسة باللغة الفرنسية والذي كتبها هو الدكتور معن زيادة أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية حينذاك… أنتم اختصاصكم هو الفلسفة وقد عرفتم عن قرب زكي الأرسوزي، وأنا أحاول فعلاً بصدق وكباحث موضوعي أن أظهر الحقيقة. لأنه، كما تعملون، هنا ومنذ عشر سنوات حتى الآن، بل وبعد حركة 8 آذار 1963 وتحديداً بعد حركة 23 شباط 1966، نُظهر زكي الأرسوزي وكأنه مؤسِّس حقيقي لحزب البعث العربي… فكل هذه الأشياء يجب أن تُجلي بشكل علمي خدمة للحقيقة وللتاريخ…
ج: … أنا شخصياً لا أهتم، فعلاً لا أهتم، ولا يهم كثيراً فعلاً أن نعرف ما إذا كان زكي الأرسوزي مؤسِّساً فعلياً لحزب البعث أم لا!!… لكن، أنا ، ما يهمني هو إيضاح نقطة أساسية في شخصية زكي الأرسوزي: زكي الأرسوزي إذا حوكم فيلسوفاً، أعني إذا دُرس فيلسوفا، فقد فشل. وتفشل دراسته. زكي الأرسوزي لم يكن فليسوفاً، بمعنى أننا نفهم من كلمة فيلسوف مفكراً له صيغة في تفكيره، هذه الصيغة يحاول بها تفسير ما يُسمى بالوجود أو بالكائن أو إلى ما هنالك… ويحاول أن يجعل من هذه الرؤية، رؤية موحَّدة. بهذا المعنى، زكي الأرسوزي لم يكن فيلسوفا. لكن، زكي الأرسوزي كان مفكراً، ومفكراً حَدْسياً، بمعنى أنه كانت الأفكار تتكوَّن عنده تكوّناً معنوياً أكثر بكثير مما كانت تتكوّن تكوّنا منطقياً. لذلك، فإن منطقية زكي الأرسوزي هي موضوع بحث، لكـن إلهامات زكي الأرسوزي أو إشراقات زكي الأرسوزي، لم تكن موضوع بحث. يعني أنت حرٌّ في أن تأخذ بكل ما يقول، أو تقدّره أو لا تقدِّره. لكنك لا تستطيع أن تمتنع عن الاعتراف بأن هناك نوعاً من التوقُّد الذهني عند زكي الأرسوزي، وبخاصة في تلك الصور التي يريد أن يعبِّر بها عن مضمون تفكيره. بهذا السياق، لم يفكر زكي الأرسوزي في أطر Catégories ومضامين، بقدر ما كان يعتمد عندئذ على الصورة، على الخيال ليعبّر بها. وهذا ما أسميه أنا فعلاً بفذاذة زكي الأرسوزي وطرافته في تفكيره. وبهذا المعنى، كثيرون من إخواننا، كثيرون وممن تتلمذوا عليه، كانوا يرون في زكي الأرسـوزي عبقريته تتجلَّى بأحاديثه أكثر مما كانت تتجلّى في ما يكتب. وبهذا السياق أيضاً، ليس سراً أن نقول إن زكي الأرسوزي أحياناً في بعض نصوصه، كان يُخطىء في بعض الأخطاء النحوية، وكانت هذه الأخطاء تصحَّح، وليس في ذلك ضير…
س: … حتى إنه في كتاب عبقرية الأمة العربية… قلم صدقي إسماعيل واضح جداً في عملية التصحيح والتنقيح وإعادة صياغة بعض الجمل أو الصفحات…
ج: … لكن، لا صدقي ولا وهيب الغانم ولا أنا ولا أيّ منا شارك في تقويم هذه الصور التي كان يبدعها زكي الأرسوزي.
س: … وما تقول في ما يقال بشطحات زكي الأرسوزي الذي كان فيها ينتقل بصورة مفاجئة من البحث الجدّي الفكري أو الجانب اللغوي أو الفلسفي، إلى أشياء لها علاقة بالحياة اليومية الجارية وإلى نقد هذه الشخصية السياسية أو تلك، وإلى التهكم على فلان أو السخرية من الآخر، هذا الانتقال من بحث مهمّ جّدي إلى الأحاديث الهزلية أو التصوُّرات اللامعقولة… كيف يمكن أن تُفسِّر ذلك وما هو تفسيرك لهذه الشخصية غير المستقرّة، إذا لم نقل غير المتزنة فكرياً أو عقلياً..؟؟!!
ج: … هذا هو الذي يدعوني إلى أن أقول إن زكي الأرسوزي لم يكن فيلسوفاً بقدر ما كان مفكراً فناناً. وبهذا الإطار، هو أقرب إلى الفنان منه إلى المتمذهب فلسفياً. لقد كان ولا يزال في ذهني أن زكي الأرسوزي فنان مبدع، ولو أن زكي الأرسوزي كان يملك هذه القدرة على مسك ريشة الرسامين، لكان نوعاً ما قريباً من "بكاسو"، لو أنه كان عليه أن يرسم لكان لا على غرار "رامبرانت" ولا على غرار "رينوار" أو "مونييه". لكن على غرار "بكاسو"، لأن "بكاسو" يرى الواقع بمنظاره الخاص (المقلوب المشوّه) وقد مرّ بمراحل عديدة جداً. وزكي الأرسوزي مرّ كذلك بمراحل عديدة جداً. إذن، فهو أقرب إلى الفنان منه إلى المفكر. ثم، هناك نقطة أخرى لا يصحّ أن تُهمل في شخصية زكي الأرسوزي، وهي أن زكي الأرسوزي لم يكن ذلك الإنسان الذي كان يطمح لأن يكون له ما يسمى المقام السياسي أو الشخصية السياسية أو الهُويّة الإدارية. لقد كان في قناعته وفي أعماقه، عنده إحساس على أنه هو فوق حتى رؤساء الجمهورية، هو فوق الملوك. ورغم قبوعه في ركن ضيّق بل متواضع في المقهى وحياته المتقشّفة، كان عنده نوع من الاكتفاء الذاتي، الاكتفاء المعنوي يعني، وبزخم لا حدود له. يعني هو من النوادر الذين عرفتهم ممن لا يحسدون أحداً على منصبه أو جاهه أو ماله أو، أو، إلخ… كان يعتبر نفسه فوق كل هذا، فوق كل هذا…
س: … يقال بأنه كان لديه نوع من التصور بشيء من "النبوّة" أيضاً… هو يتصور نفسه أكثر من زعيم، وإنما هو "نبيّ"…
ج: … إلى حدِّ ما… ولا أستبعد هذا إطلاقاً… لا أستبعد أبداً هذا الشعور لديه. لكنه هو لم يمارس هذا الدور.
س: … بمعنى أنه كان يعطي صورة عن نفسه توحي بأنه "نبيّ ملهم"…
ج: … هو هذا سلوكه الحقيقي. يعني نحن عشناه. زكي الأرسوزي جاء إلى بيتي مئات المرات، مئات المرّات… زكي الأرسوزي، لا، في هذا السياق، كان على كميّة من العفّة لا أستطيع أن أجد لها مثيلاً…
س: … الأستاذ زكي الأرسوزي كان يتمتّع بعدد من الصفات وهي معروفة: أولاً: إنه كان يميل إلى الحديث إلى الطلاب وإلى الشباب. ثانياً: لقد كان لا يطيق النقاش، يريد هو وحده أن يتحدث في أي جلسة أو لقاء أو جماعة… فهو المتحدث الوحيد والباقون يجب أن يستمعوا إليه… ثالثاً: إن تأثير زكي الأرسوزي انحصر في ما يمكن أن نسميه بالمجتمع الطلابي أو الشبابي في مدينة دمشق. فأين هنا يمكن أن نجد تأثير الأستاذ زكي الأرسوزي؟!…
ج: … زكي الأرسوزي فعلاً أثّر أكثر ما أثّر في الشباب (صغار السن، الطلاب الثانويين أو الجامعيين إلى حد ما) وهذا أمر طبيعي. هذا أمر طبيعي، لأنه لا شخصية الرجل ولا طموح الرجل كانا يحملان على أن يزجَّ نفسه بالحياة السياسية اليومية، لأنه هو كان يرى في هذه الحياة السياسية اليومية الكثير الكثير من الملابسات المقلقة وغير النظيفة. يعني: هو رجل مثالي… زكي الأرسوزي، إن لم يُقارَب أو إن لم يُفهم على أنه رجل مثالي، تفشل الصورة التي تتكوَّن عنه، بمعنى أنها لا تكون دقيقة. لكونه مثالياً، كان دائماً يستمتع في أن يتحدث إلى شبان، لأنهم هم يستمعون إليه، ويستمعون إليه بانشداد، كانوا ينشدُّن إليه. كانت لديه هذه القدرة العفوية في أن يشدَّهم جميعاً إليه بهذه الصُّور المتلاحقة التي يقدِّمها، ثانياً، بهذا النوع من المثالية والتعفُّف اللذين كانا في سلوكه، بل أيضاً في حياته اليومية، ثالثاً، بهذا العزوف منه: كان عازفاً فعلاً عن الدخول في هذه اللّعبات، حتى لا على الصعيد السياسي وحسب، بل على الصعيد العلاقات الاجتماعية. يعني كان تكوينه لا يساعده على أن يتعاطف تعاطفاً مطلقاً مع ما يسمى بالأحداث اليومية وحتى الاجتماعية. وكما تعرف أن زكي الأرسوزي لم يعش قط حياته الجنسية. وإذا قلنا إنه لم يعش حياته الجنسية (وحياته العائلية)، فقد يخطر على البال أن مثل هذا سبَّب له كبوتاً أو مشكلات (جنسية) أو غير ذلك، لا، لا، لا، زكي الأرسوزي كان يتحدث، كان يطرق إلى اللقاء بالمرأة، لكن أيضاً كان يقارب المرأة مقاربة فيها من الروحانية، وفيها من العفوية ما لا حدود له، ما لا حدود له، دون ما ذرَّ تعقيد. يعني لا يستطيع أيّ إنسان أن يأخذ على زكي الأرسوزي أن عنده ما يسمى باشتهاء المرأة بالمعنى الجنسي أو المادي للكلمة. في الوقت نفسه، كان هو أيضاً لم يكن خصماً للمرأة، لم يكن عازفاً عن اللقاء بالنساء، وإنما كان يلتقي بهن بشكل عفوي تماماً، وكم وكم من جلسات عندي في بيتي وعند أصدقائه وعند الأستاذ صدقي إسماعيل، جميع إخواننا وأحبابنا كان يلتقي زكي الأرسوزي السيدات والرجال موجودون بشكل تلقائي، وكان هو يندفع وينطلق، وطبعاً يحسّ بنشوة عندما يرى الآخرين مشدودين إليه وإلى حديثه، هذا بالنسبة إلى شخص مثلي أنا.
برهان أيضاً آخر وهو أن زكي الأرسوزي لم يكن شخصاً طامحاً في زعامة سياسية بالمعنى المادي والشائع والمألوف للكلمة، بقدر ما كان طامحاً لقيادة روحية أو قيادة فكرية، ليس طامحاً حتى لهذا، وإنما ذو رسالة فكرية ومعنوية، بهذا المعنى تصوري أنا…
س: … سؤال آخر أيضاً في هذا السياق، إذا سمحت، لقد كان المثقفون الناضجون أو المثقفون الكبار في السن، لا يطيقون الاستماع إلى زكي الأرسوزي، وهذا ما قيل لي… عكس صغار السن من الطلاب والشباب الثانويين أو الجامعيين… كانوا يتضايقون (أي المثقفون) من أحاديثه وحتى من الصور التي يقدمها عن أفكاره، أحياناً هذه الصورة تكون جميلة وأنيقة وأحياناً أخرى يكون فيها ـ إسمح لي التعبير ـ شيء من الإسفاف… عندما يقول مثلاً عن فلان: طربوشه أطول منه، ومسبحته تصل إلى قدميه وغير ذلك الكثير الكثير من المساس بالشخصيات والتي يعرفها الجميع…
ج: أنا أتصور أن موقف زكي الأرسوزي من معاصريه وملاحظاته السلبية في حقِّهم هي ناشئة في الواقع من هذا التكوين المثالي لشخصيَّته، بالبداهة… يعني هو يتصور الزعيم السياسي إنساناً متكاملاً وكاملاً. زعيم سياسي شره، لا يجوز أن يكون زعيماً سياسياً. زعيم سياسي ويحب الأناقة ويحب النساء ويحب المال والشهوات والسيارات، إلخ… هذا ليس بزعيم سياسي. فهؤلاء القوم المعاصرون له، كل واحد منهم له شهواته اليومية. وزكي الأرسوزي يعيش في غرفة متواضعة عند سيدة عجوز مسكينة وبائسة. وأولئك الآخرون كل واحد منهم يبحث عن قصر أفضل وعن بيت أحسن، إلخ… يعني: عن فيض من الملذات بكل المعاني. فزكي الأرسوزي، إذن، يرى في مثل هذا سقوطاً ما بعده سقوط. وطبعاً مخيلته الهادفة وخياله المبدع الهادف يتحوَّل عندئذ لا إلى نقد منهجي لهم، بل إلى نقد فني. لذلك كان يحمل عليهم كاريكاتورياً، أكثر مما كان يحمل عليهم بهذا المعنى. فلم يكونوا خصوماً سياسيين بالمعنى المتمذهب للكلمة، بقدر ما كانوا، على حدَّ تعبيره، "قشمرة"، كانوا صغاراً، قشمرة بمعنى تصغير.. أو تشويه…
س: … الآن، الأستاذ ميشال عفلق، بعد أن رسمنا صورة كافية ووافية من وجهة نظرك عن زكي الأرسوزي، كيف ترى إلى الأستاذ عفلق؟!…
ج: … والله، أنا مع الأستاذ ميشال عفلق، كانت صلاتي أقل، في الأربعينات كانت صلاتي تقريباً يومية، ولكنها بعد ذلك ضعفت فعلاً، يعني بقيت على اتصال معه حتى عام 1954، وبعدها صارت صلاتي به تكاد تكون نادرة… أما تكوينه الفكري فهو واضح. مقوياته الفكرية هي الماركسية من جهة، وطبعاً التراثيات: لأن ميشال عفلق كان قارئاً، فهو قارئ… ميشال عفلق يقرأ، يقرأ كثيراً. زكي الأرسوزي كان يقرأ ولكن من المستحيل أن يقرأ كتاباً من أول صفحة إلى آخر صفحة، يستحيل ذلك. زكي الأرسوزي كان يأخذ الكتاب ويقرأ فيه من هنا ثلاثة أسطر، ومن الصفحة الأخرى بعض الأسطر وهكذا… كان يتلقط تفكير المفكر من خلال فقرات قليلة مما يقرأ. وفي هذا، كان يُسقط ربما على باحث أو على كاتب أو على كتاب، كان يُسقط عليه من عندِه أكثر مما في الكتاب نفسه…
لا، ميشال عفلق، لقد كان إلى حدِّ كبير في هذا المجال منهجياً، كان يقرأ، يطالع… لكن، واضح في تكوينات ميشال عفلق المؤثِّران العملاقان في شخصية ميشال عفلق: "هنري برغسون" من جهة، والماركسية من جهة ثانية. لا أشك في ذلك أبداً، طبعاً بالإضافة إلى التراث الإسلامي. لقد تفاعل أثناء ذلك في هذه المؤثرات الفكرية والفلسفية والثقافية جميعاً. في التراث الإسلامي: ميشال عفلق هو منّا وفينا. يعني هو في سياق مجتمعنا. وإن يكن الأستاذ ميشال عفلق مسيحياً، وإنما هو عايش معنا (مندمج فينا). كان يعيش مع المسلمين أكثر من عيشه مع المسيحيين……..