نشوء حزب البعث العربي وتطوره -د. مدحـت البيطــار(2)
مقابلات /
سياسية /
1983-04-18
المقابلـة الثانيـة
مع د. مدحـت البيطــار
حول تجربته الاجتماعية والسياسية والقومية
الزمان والمكان: 18 نيسان 1983 ـ دمشق
أجرى المقابلة: الأستاذ جورج صدِّقني
تفريغ التسجيل والتلخيص: د. مصطفى دندشلي…
* * *
…. لنتابع الآن الفكرة التي وصلنا إليها في المقابلة الأولى: فيقول د. مدحت البيطار إن أشخاصَ (أو قيادات) عصبة العمل القومي لم أكن أعرفهم كلهم، وإنما كنت أعرف بعض الأشخاص ولم تكن لي ثقة بهؤلاء الأشخاص. ولكن مع الأسف، لم أكن أعرف الباقين وعلى رأسهم المرحوم عبد الرزاق الدندشي، وما كنت قد سمعت عنه إلاّ نادراً. لو كنت أعرفه في ذلك الحين، حتماً لكانت رَجَحت كفة الانتساب إلى عصبة العمل القومي، لأنه كان من الشباب القوميين البارزين والصادقين وكان هناك غيره أيضاً من الأشخاص الذين شكلوا "عصبة العمل القومي"، عرفت أشخاصهم فيما بعد، كان من الممكن للإنسان أن يشتغل معهم وأن يثق فيهم. ولكن كان هناك قسم أيضاً من الموتورين من عصبة العمل القومي، لم تكن لي أي ثقة فيهم ولا في أشخاصهم. هذا هو السبب الذي دفعني لكي أبتعد عن عصبة العمل القومي. بعد ذلك تأكد لي هذا الشيء، أنه بعد المعاهـدة لعام 1936 وتشكيل أول وزارة بعد إبرام المعاهدة من قبل سورية، أو حتى قبل إبرام المعاهدة، ذلك أن المعاهدة عُرضت على المجلس النيابـي بعد الانتخابات النيابية، فكان المرحوم عبد الرزاق الدندشي قد استشهد في حادث ترامواي في دمشق، وهو حادث مؤسف معروف، فانتخب مكانه المرحوم صبري العسلي، رئيساً أو سكرتيراً عاماً، لا أذكر التسمية بالذات، لعصبة العمل القومي. فعندما أجريت الانتخابات النيابية، بعد عام 1936، رأت عصبة العمل أن يدخل في هذه الانتخابات النيابية صبري العسلي، بناءً على رغبة واقتراح الكتلة الوطنية لانضمامه إليها ودخوله في قائمتها الانتخابية، فقيل له: إذا كنت أنت تركت عصبة العمل القومي وانتسبت للكتلة الوطنية. ففعل ذلك.
ويقول الدكتور مدحت البيطار: فتأكد لي آنذاك بأن بعض أعضاء "العصبة" سوف يتخذون المبادئ فرصة للوصول إلى الزعامة، وليس إلى تحقيق هذه المبادئ. وبالطبع، بعد أن انتسب صبري العسلي إلى الكتلة الوطنية وترك عصبة العمل القومي، تلاشت "العصبة" نفسها وما عاد لها تلك المكانة التي كانت لها في السابق. فتضعضعت عصبة العمل القومي، وهي التي كانت مدعومة من ثلاثة أشخاص: أوّلهم إبراهيم هنانو، ذلك أن عصبة العمل القومي قد تشكلت وكان إبراهيم هنانو لا يزال على قيد الحياة. والمعروف أنه كان زعيماً سياسياً، والزعيم الروحي للكتلة الوطنية. ولكن بعـد ما أشتـرك جميل مردم في الوزارة وعلى غير رغبة من إبراهيم هنانو، فكان يستغل إبراهيم هنانو تقرُّبه أو رعايته لأشخاص في عصبة العمل القومي من أجل إجبار جميل مردم على ترك الوزارة. والشخص الثاني الذي كان يبارك ويؤيد عصبة العمل القومي هو المرحوم هاشم الأتاسي، حيث إن أحد أولاده، عدنان الأتاسي، كان عضواً في عصبة العمل القومي، وهو (أي هاشم الأتاسي) الذي كان مبعداً عن رئاسة المجلس النيابي، وذلك كان تقليداً بالنسبة إليه، من اللازم أن يكون دائماً هو رئيساً، والحق معه في أن يكون هو الرئيس. وبعد انتخابات عام 1932 وعدم فوز قائمة هنانو في الانتخابات، بقوا أعضاء الكتلة الوطنية أقلية، لذلك لم ينتخب هاشم الأتاسي لا لرئاسة المجلس النيابي ولا لرئاسة الجمهورية. فكان يشجع عصبة العمل القومي، وهو رئيس الكتلة الوطنية…. وكذلك السيد شكري القوتلي الذي كان معارضاً في ذلك الوقت ولم يكن من أعضاء الكتلة الوطنية، وإنما كان معارضاً لها، لذلك كان أيضاً يؤيد عصبة العمل القومي.
وبالطبع، بعد انتخاب شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية عام 1943 ووفاة إبراهيم هنانو وهاشم الأتاسي لم يعد في (موقع الزعامة السياسية وابتعد إلى حد ما (عن المسرح السياسي)، وشكري القوتلي في سدة رئاسة الجمهورية، لم يعد يؤيد عصبة العمل القومي أو يدعمها. فتضعضعت عصبة العمل القومي ولم تعد الساحة السياسية ساحتها، وكثيرون من أعضائها، أذكر مثلاً عبد الكريم العائدي الذي أخذ يدعم شكري القوتلي، وكان أيضاً شفيق سليمان يؤيد ويدعم رئيس الجمهوريـة في شخص القوتلي ـ وهو محامٍ لامع ـ والمحامي أبو الهدى السيافي كان كذلك يدعم رئيس الجمهورية شكري القوتلي، بمعنى آخر، فقد تحول أبرز أعضاء عصبة العمل القومي وانتموا إلى الكتلة الوطنية. وهكذا، فقد أصبح أعضاء عصبة العمل القومي ذيولاً للعهد الجديد الذي ترأسه السيد شكري القوتلي.
لهذه الأسباب جميعها، على ما أعتقد، وعندما كنت قد عدت من العراق، في ذلك الحين حاول الأستاذ ميشال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار، بعدما أتوا بفكرة "البعث"، فلم يحاولوا أن يتصلوا بعصبة العمل القومي كهيئة سياسية، وإنما اتصلوا ببعض الأشخاص منها: أذكر أنهم اتصلوا بعدنان الأتاسي، اتصلوا بشاكر العاص ـ لا أعرف الان ما هو وضعه ـ والذي كان هو أيضاً من أعضاء عصبة العمل القومي، لقد اتصلوا به، ولا أعرف إذا كانوا قد اتصلوا بآخرين. ولكن ما أعرفه هو أن الأستاذ ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار اتصلا بهذين الشخصين ـ أذكر ذلك تماماً ـ وحضرت جلسات مناقشة عامة حول الأوضاع التي كانت سائدة، آنذاك. وكذلك جلال السيد كان عضواً في عصبة العمل القومي، وقد عرفته فيما بعد، عرفته عندما أخذنا نتحدث في "البعث"، في تأسيس "البعث العربي". فكانت عصبة العمل القومي منتهية، تقريباً منتهية ولم يكن هناك شيء اسم عصبة العمل القومي…. حتى زكي الأسوزي انتسب إلى عصبة العمل القومي.
والسؤال المطروح: هو أن زكي الأسوزي كان رئيس (؟؟) عصبة العمل القومي في أنطاكية وأن الأعمال السياسية التي قادها في لواء الاسكندرون كان تحت مظلة عصبة العمل القومي واتهم صبري العسلي بخيانة عصبة العمل القومي وكلام من هذا النوع… فالسؤال: المواقف المختلفـة والخلافات بين الأسوزي وبين عفلق والبيطار، هل ناتج ذلك عن أن جذورهم مختلفة: واحد، الأرسوزي كان من عصبة العمل القومي، وعفلق والبيطار يحاولان أن يبنيا لهما علاقة بالكتلة الوطنية؟!… فيجيب مدحت البيطار قائلاً: لا، لا، ما أظن أن هذا صحيح… وإنما الأرسوزي حسب ما يتخيل لي، وعرفته من الاحتكاك أكثر مما أعرفه صراحة: إن الأرسوزي كان يعتبر نفسه بأن كل فكرة قومية هو غارسها في نفوس الناس. وبالمناسبة أنهم اتصلوا به (أي عفلق والبيطار ورفاقهما) وأنه هو الوحيد الذي غرس هذا النوع من الأفكار القومية الوحدوية حتى إنني أذكر أنه نحن (حزب البعث العربي) أقمنا مؤتمراً في اللاذقية لحزب البعث، وكان ذلك طبعاً بعد تأسيس الحزب (ولربما بعد عقد المؤتمر التأسيسي الأول عام 1947) وارتأى بعض الأخوان في اللاذقية، من رفاقنا بأن ندعو الأستاذ الأرسوزي أن يحضـر. وأنا، كما قلت سابقاً، لم أكن مجتمعاً مع زكي الأرسوزي، إلاّ عندما زرت لواء الاسكندرون عام 1933 ومن يومها لم أجتمع معه إطلاقاً. وحضر الأرسوزي هذا الاحتفال الذي دعوناه إليه والذي دعاه إليه بعض رفاقنا من البعثيين في مناسبة انعقاد هذا المؤتمر في اللاذقية. وبالطبع، طلبوا منه إلقاء كلمة في هذا المؤتمر العام، فألقى خطاباً قال فيه بأن حزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي الذي كان يرأسه أكرم الحوراني، هذان الحزبان تشكلا من نتيجة أفكار الأرسوزي. طبعاً، نحن صفقنا لهذا الكلام الذي نطق به الأرسوزي، ليس اقتناعاً بالفعل بأنه هو كان السبب في تأسيس حزب البعث العربي وتأسيس الحزب العربي الاشتراكي الذي يرأسه الأستاذ أكرم الحوراني، وإنما يعني مسايرة للأرسوزي وبابتسامة ظاهرة، حينما كنا نقوم بهذا التصفيق، وكلنا عارفون أن الأستاذ الأرسوزي ما كان له أي ضلع لا بتأسيس حزب البعث العربي ولا بتأسيس حزب الأستاذ أكرم الحوارني، وهو حزب العربي الاشتراكي. هذا الاحتفال الذي أقامه حزب البعث كان انعقاده في عام 1951 أو بالأحرى المؤتمر العام الذي عقد في اللاذقية، وقد يكون عقد هذا المؤتمر في اللاذقية ربما، بعد انقلاب أديب الشيشكلي، (واستلامه زمام السلطة الفعلية). على أي حال لا أذكر تماماً السنة بالذات. وهذا الاجتماع أو المؤتمر في اللاذقية قد يكون عقد في عام 1951، لأن الشيشكلي في نيسان 1952 حلّ الأحزاب…
ثم يُطرح السؤال وفيه عودة إلى الوراء، وهو أن هناك تنظيماً كشفياً في الثلاثينات اسمه "الكشاف العربي"، وهذا لم نأت على ذكره. وكنت سمعت أكثر من مرة أن بعض الفرق الكشفية كان لها برامج زيارات إلى الأقطار العربية الأخرى لتمتين العلاقات بينها وما شابه ذلك. حبذا لو حكيت لنا شيئاً من ذكرياتك في هذا الموضوع. يجب د. البيطار فيقول: الحقيقة، أنا لمّا أسست أول حركة كشفية بالنسبة إلي، كانت "فرقة ميسلون الكشافة"، وبقيت ضمن هذا الإطار فترة طويلة جداً، كانت الفرقة يكبر عددها أحياناً، ويتضاءل أحياناً أخرى على حسب ظروف الأشخاص المنتسبين. وبقي الوضع بهذا الشكل، وإنما ألحقتها بتأسيس فرقة للأشبال الذين سنهم أقل من سن الأربعة عشرة سنة، سميناها فرقة "أشبال" وبقي الوضع على هذا الشكل حتى أُبرمت المعاهدة أو أُعلنت نصوص المعاهدة في عام 1936، بعد عودة الوفد المفاوض من فرنسا. حينئذ، خطر في بال أولي الأمر بأن يتبنوا الحركة الكشفية، فأسَّسوا حركة سموها "كشاف سوريا". وبالطبع لقد كان هناك شيء من المنافسة بيني وبين الفرق الكشفية الأخرى التي أعطوها رخصة باسم "كشافة سوريا". لذلك أنا بالمقابل، ونظراً لوجود فكرة سابقة عندي بالنسبة إلى البلاد العربية الأخرى، فأسست وأنشأت بالإضافة إلى "فرقة ميسلون" "حركة الكشاف العربي". وكان هناك بالإضافة إلى "فرقة ميسلون"، توجد "فرقة قاسيون"، وهي فرقة من طلاب مدرسة التجهيز، وفرقة أخرى تابعة لمدرسة "اللاييك"، فاجتمعنا نحن الفرق الثلاث تحت اسم: "الكشاف العربـي". وفعلاً أسسنا هذا الكشاف، وقمنا فإشادة مخيم في بلودان، دعونا إليه فرقاً كشفية من أقطار عربية مختلفة. فوفدت إلينا فرقاً من لبنان ومن فلسطين ومن العراق… وكان اسم المخيم في بلودان: "مخيم الكشاف العربي". وعلى الأثر خابرت الحكومة العراقية للقيام بزيارة إلى العراق لأنني كنت أنوي أن أقوم بزيارات في كل عام إلى قطر من الأقطار العربية. وبدأت بالعراق، مثلاً، لأن الفكرة العربية كانت متوهِّجة، متأجِّجة، وإن الصحراء التي بيننا وبين العراق لم تكن عاملاً للتفرقة، في رأينا وفي رأي العراقيين. لذلك، فبدأت برحلة إلى القطر العراقي الشقيق، لأجل القيام باتصلات مع الشباب المناضلين في هذا القطر. وعقدنا اجتماعات مع "نادي المثنى" وكان ذلك في عام 1932 وكانت رحلة موفقة جداً، واستقبالاتنا كانت استقبالات شعبية رائعة وبقيت هناك تقريباً مدة عشرة أيام، تبادلنا فيها الآراء حول القضايا العربية. ومن الطبيعي، كنا نتطرق إلى موضوع الوحدة العربية. وكان رأينا بأنه أول قطرين يمكن أن يتحدا مع بعضهما معاً هما القطر السوري والقطر العراقي بصورة خاصة، لأن العراق كان في معاهدة بينه وبين الإنكليز، وكانت المعاهدة في نظرنا على وشك أن تعقد بيننا وبين فرنسا، مما يسمح لنا بأن نتصرف بحرية في هذا النطاق. وبعد ذلك، في عام 1939 أيضاً، قمت برحلة بعد الاتصال ببعض الهيئات في مصر، وأذكر منهم الدكتور عبد الحميد سعيد، الذي كان رئيس جمعية الشبان المسلمين، والاتصال بالمملكة العربية السعودية للقيام برحلة مشتركة تجمع بين مصر وبين المملكة العربية السعودية، لقد قمنا بهذه الرحلة في عام 1939 أيضاً. واتصلنا ببعض الشبان المسلمين وبعض الهيئات الأخرى التي بالفعل لم تكن تفكر بقضية وحدة عربية أو شيء من هذا القبيل. وكذلك، بعد انتهاء رحلتنا إلى مصر، توجهنا إلى المملكة العربية السعودية واستغلينا الفرصة التي يجتمع فيها الحجاج ويمكثون أطول فترة وهي المكوث في "منى" حيث قمنا بإنشاء مخيم في "منى" ودعونا إليه كل الشخصيات العربية التي كانت موجودة هناك في ذلك الحين والتي كانت قد هاجرت من بلادها نظراً للاضطهاد: مثلاً المرحوم الدكتور بشير بك السعداوي وكان موجوداً أيضاً الشيخ يوسف ياسين من سورية والدكتور مدحت شيخ الأرض والدكتور خالد الحكيم وشخصيات أخرى كنا نجتمع بها دوماً. وبعد أن عدنا إلى سورية بفترة وجيزة بعد هذه الرحلة قامت الحرب العالمية الثانية التي منعتنا من إكمال هذا البرنامج الذي نود أن نقوم به برحلات إلى كل البلاد العربية وعقد صلات مع كل المشتغلين بالقضية العربية والقضية الوطنية والقضايا المحلية أيضاً. لهذا السبب انقطعت كل الزيارات. والحرب الثانية، كما تعلمون، استمرت حتى نهاية عام 1945. هذا كل ما أذكره عن هذه المرحلة.
سؤال آخر مهم أيضاً: كان هناك فرق كشفية أخرى، كشاف سوري، كشاف مسلم، الكشاف العربي، هذه الفرق الكشفية هل كانت مجرد فرق كشفية بالمعنى الحقيقي للكلمة، أم أن هذه التسميات كان لها معنى آخر، معنى سياسي، أم أنكم انفردتم بجعل العمل الكشفي مناسبة أو شعاراً للتوعية السياسية أو للنشاط السياسي؟ الجواب من د. مدحت البيطار يشير إلى أن الرغبة في القيام بالزيارات إلى الأقطار العربية، الواضح منها تماماً هو استغلال فكرة الكشفية للقيام بأعمال وطنية محلية وعربية في آن معاً. بينما الفرق الكشفية الأخرى، كانت عبارة عن مجرد حركة كشفية لها طابعها الخاص، كما وضعه لها مؤسسوها. وهنا سؤال يُطرح، على ذكر العراق: لقد كان للعراق مكانة خاصة في نفوس السوريين، على أنه مركز الفكرة العربية. ففي الثلاثينات، كان معروفاً أن السوريين أنظارهم تتجه نحو العراق وأنهم يأملون بأن يستقلوا على غرار العراق وأن يساعدهم العراق على الاستقلال. وكانت هذه الكتلة الوطنية وعصبة العمل القومي التي يروى عنها أن صلتها بالعراق كانت متينة ويروى بأن زعماء الكتلة الوطنية انصرفوا عن فكرة الوحدة بين سورية والعراق أو يتهمون من قبل العصبويين بأنهم تخاذلوا عن هذه الفكرة. ماذا تذكرون عن هذه المرحلة وعن هذه الصلة السياسية بين النشاط الوطني في سورية وبين العراق كدولة أو كمركز للاتجاه العربي في الثلاثينات؟!…
يقول د.مدحت البيطار بأن الذي يذكره هو أن الحركة الوطنية في سورية بالذات كـان يوجـد فيها قسم من المشتغلين بالسياسة من العناصر الوطنية المتقاعدة، وهؤلاء شكلوا جبهة ولكن لم يكن لها تأثير كبير في مجرى الحياة السياسية في سورية. وكانت الرغبة في أن يعود الملك فيصل الأول ملكاً على القطرين. وبالطبع، كانت الدعاية الشعبية للملك فيصل الأول ونظرة المجتمع له سواء في سورية أو في العراق على أنه شبه منقذ وأنه يستطيع ويريد أن يحقق أحلام العرب بصورة خاصة، لأنه كان على رأس الجيش، جيش الثورة العربية، الذي دخل إلى دمشق (عام 1918). فكانت آمال الناس متعلقة بهذه الفكرة وبأن يعود ويحققها الملك فيصل. وكان زعماء الكتلة الوطنية، على ما أذكر، هم على صلة بزعماء العراق. ولكن هذه الصلة، كانت مجرد صلة تاريخية سابقة، لأن الملك فيصل، عندما كان في سورية، كان قسم من رجالات العراق الذين تسلموا الحكم فيما بعد في العراق، كانوا موجودين في مراكز أيضاً بمعيّة الملك فيصل في سورية، كالمرحوم ياسين الهاشمي، نوري السعيد وغيرهما من رجالات العراق الذين كانوا موجودين في سورية، ولهم مناصب سياسية فيها. فهذه الصلة لم تنقطع، إلاّ أنه لم يكن يعوّل عليها في القيام بأي عمل مشترك، عندما تأسست عصبة العمل القومي في عام 1933، على ما أذكر، أجروا بعض الصلات ـ زعماء "العصبة" ـ مع العراقيين، ولكن بقيت عبارة عن صلات ليس لها تأثير في السياسة العامة لا في العراق ولا في سورية. واستمر الأمر على هذا المنوال دون أن يتحقق أي شيء من وراء هذه الاتصالات التي قام بها العصبويون مع أخوانهم الشباب في العراق. هذا كل ما أذكره من هذه الناحية.
وبعد أن نالت سورية الاستقلال في عام 1943 أيضاً كان هناك صلات بين بعض الحكام في سورية وبعض الحكام في العراق، نوري السعيد وقسم من إخوانه في العراق: صالح جبر صالح الذي كان له صلات طيبة مع لطفي الحفار. نوري السعيد كان له صلات طيبة مع جميل مردم. ولكن هذه الصلات لم تكن تعني لا سلباً ولا إيجاباً لقيام أي وحدة فيما بين العراق وسورية، على الرغم من أن شكري القوتلي عندما تولى رئاسة الجمهورية، كان يعارض قيام أي وحدة بين العراق وبين سورية، أو بين العراق وبين الأردن، هذان المشروعان اللذان أطلق عليهما "الهلال الخصيب" أو "مشروع سورية الكبرى". فكان دائماً حجر عثرة دون أي وحدة بين هذه الأقطار الثلاثة: العراق والأردن وسورية… وهنا تنبغي الإشارة إلى أنه في الثلاثينات القرن العشرين كان العراق يتمتع بمركز معنوي في سورية، نظراً لأنه يوجد معاهدة بينه وبين الإنكليز. فكان المطلب السوري هو أن تعقد أيضاً معاهدة بين فرنسا وبين سورية على غرار المعاهدة التي عقدت بين العراق وبين الإنكليز والتي جعلت للعراق شبه استقلال ليس استقلالاً بالمعنى الكامل، لأن الجيش كان بيد الإنكليز وإنما كان هناك نوع من الحرية سمحت لبعض لرجالات العرب، حتى السوريين منهم بأن ينتقلوا إلى العراق ويقوموا ببعض الأعمال. مثلاً، عندما قامت حركة رشيد علي الكيلاني اشترك فيها الحاج أمين الحسيني وفوزي القاوقجي وبعض السوريين الذين كانوا موجودين في العراق. لقد كان يوجد شيء من الحرية يسمح للمشتغلين بالسياسة أن يقوموا ببعض الأعمال التي لم يكونوا يستطيعون القيام بها في سورية التي كانت تحت الانتداب الفرنسي والتي لم تعقد المعاهدة بينها وبين فرنسا في ذلك الحين.
سؤال آخر: بعد تأسيس الحزب في عام 1947، كان في مكتب الحزب، في حيّ "السبكي"، في صالون المكتب يوجد تمثال نصفي صغير للملك فيصل الأول ظل في صالون مكتب الحزب إلى أن حُلَّت الأحزاب في عهد الشيشكلي. عندما عاد الحزب بعد سقوط الشيشكلي لم يعد هذا التمثال (إلى مكانه)، فالسؤال الموجه إلى د.مدحت البيطار، إذا كان يذكر هذه الواقعة وما هو تفسيره لها. ويجيب د.مدحت البيطار موضحاً بأنه كان الجو العام أننا كنا نرغب في قيام أي وَحدة بين أي قطرَين عربيَّين. وما كنا نرى بأساً من قيام وحدة بين سورية وبين العراق مطلقاً، على أن لا تكون هناك قيود القيود نفسها التي قيَّدت بها المعاهدة القطر العراقي، أي أن نكون نحن خارج هذه القيود. وبالطبع، لقد كان هذا شيئاً نظرياً، لم تُتَّخذ أي خطوات إيجابية لا للدعوة إلى الوحدة بيننا وبين العراق ولم تكن توجد أيضاً اتصالات في هذا السبيل مطلقاً. الاتصال الوحيد الذي جرى هو بعد قيام انقلاب حسني الزعيم حيث حضر إلى سورية السيد نوري السعيد بهدف إقناع القائمين بالانقلاب بتوحيد القطرين، وفشل نوري السعيد في هذه المحاولة. وحضر أيضاً بعض الأخوة العراقيين أذكر منهم صديق شنشل وشخص آخر، حضروا لإقناع كل من اتصل بهم للضغط وتشكيل حكومة واحدة أو إقامة وحدة أو نوع من الوحدة الكنفودرالية أو فيدرالية، ولكن هذه الجهود كلها ذهبت أدراج الرياح. وتنبّه في ذلك الوقت بعض الذين يخشون على استقلال سورية. وبالطبع، نحن كنا في رأس الذين يخشون على استقلال سورية. ولكن ما كنا نمانع بقيام وحدة تجنبنا المساوئ التي كانت تنص عليها المعاهدة العراقية ـ الإنكليزية. واغتنم العقيد أديب الشيشكلي هذه الاتصالات التي جرت، لأجل أن يقطع كل صلة بالعراق وكل تفكير بقيام أي وحدة، بيننا وبين العراق. وأظن أن دوافعه هي أيضاً وطنية، خوفاً من أن تنتج هذه الصلات بيننا وبين العراق أن نتورط في المساوئ التي كانت تحتويها المعاهدة العراقية الإنكليزية، وأنه تذرع بهذا السبب ليقوم بانقلابه.
وحول سفر مدحت البيطار إلى العراق، فهو يقول: لقد ذهبت في رحلة كشفية إلى العراق، ومن ثم أقمت ثلاث سنوات في العراق ويضيف: الحقيقة، بعد قيام الحرب العالمية الثانية، لجأ الفرنسيون في سورية إلى إلقاء القبض الاحترازي على بعض المشتغلين بالقضية الوطنية في سورية. فقاموا باعتقال كثير من الشباب وكثير من الزعماء أيضاً. أذكر من الزعماء السياسيين، اعتقلوا السيد نبيه العظم، السيد يوسف سيف الدين المأمون واعتقلوا آخرين. وخفت أن يلحقني الدور. وهذا الاعتقاد لم يكن نتيجة عمل قام به هؤلاء المعتقلون إطلاقاً، وإنما كان احتياطاً من السلطة الفرنسية خوفاً من قيام أيِّ عمل ضدها. فرأيت الأنسب أن لا اُعتقل دون أن أقوم، أو أن أكون قد قمت بعمل يوجب هذا الاعتقال. وكان يأتي دائماً المستشار الفرنسي إلى مركز عملي في "الزاوية" في بلدة "فيق"، ويسأل القائمقام عني وعن نشاطي وغير ذلك. فاعتقدت بأن الوقت أصبح مناسباً لأن أتوارىَ عن الأنظار، فلجأت إلى القطر العراقي وعملت هناك في مدة أقل من ثلاث سنوات وعاصرت ثورة رشيد علي الكيلاني. وأنا بالطبع لم أكن موجوداً في بغداد في ذلك الحين، وإنما كنت موجوداً في لواء "الناصرية". كنت بعيداً عن الأحداث، لذلك لم أشترك في هذه الحركات، حركة رشيد علي الكيلاني إطلاقاً، لا من ناحية الدفاع السلبي كطبيب ولا من غيره… إذن، فذهبت إلى العراق عام 1940 وعدت في عام 1943، حيث بقيت ثلاث أو أقل من ثلاث سنوات.
سؤال: لقد كان في دمشق، لا أدري في أيِّ وقت: في أواخر الثلاثينات أو في أوائل الأربعينات، كن هناك نادٍ اسمه "نادي فيصل"، كان يقوم بنشاط، فحبذا لو أعطيتنا فكرة عن هذا النادي: متى تأسس هذا النادي؟.. ومَن هم المؤسسون؟.. وهل كان طابعه أدبي، ثقافي، سياسي، ما هو نشاطه؟… وهل استفاد الحزب، حزب البعث من هذا النادي؟…
جواب د.مدحت البيطار: طبعاً، بعد سفري إلى العراق، إخواني في الكشفية الذين لم يعودوا يمارسون أي عمل كشفي، وكانت السِّن قد تقدمت بهم، بمعنى أنهم لم يعودوا يرون بأن لُبْس الألبسة الكشفية يليق بسنِّهم. هذا يعني أنه لم يعد يتناسب مع سنِّهم ارتداء الملابس الكشفية. لذلك فكروا في أن يقيموا لهم رابطة يخدموا بها بلادهم. من هنا، فقد رأى قسم منهم أن يقوم بتأسيس نادٍ ثقافي باسم "نادي فيصل"، وهو نادٍ ثقافي، "نادي فيصل الثقافي". طبعاً، فأنا لم تنقطع الصلات بيني وبين هؤلاء الأخوان. لهذا، كان فكرهم دوماً بأنه عندما أعود إلى دمشق، يجب أن أستلم أنا رئاسة هذا النادي. وبالفعل بمجرد عودتـي إلى دمشق، اجتمعوا ودعوني إلى الانتساب إلى هذا النادي، وفي القسم الثاني اقترحوا وصوّتوا على انتخابي رئيساً لهذا النادي.وكان مقرّ النادي في مقابل البناية التي يقطن فيهـا "النادي الثقافي العربي" الحالي الذي لا يزال موجوداً حتى الآن. ومن هناك بدأت صلتي بيني وبين الأستاذين ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار، وكنت أدعوهما لإلقاء المحاضرات. وأنا كنت أدعو الأستاذين عفلق والبيطار لتسهيل مهمتهما في عقد الاجتماعات مع طلابهما الذين يُدعوْن إلى العمل الوطني. فكانا يجتمعان عندي في النادي وأحضر أنا شخصياً اجتمعاتهما، بعضها أو كلها. فهذا قد كان من الدواعي التي مكّنت الصلات بيني وبين الأستاذ عفلق والأستاذ البيطار. وقد تأسس "نادي فيصل الثقافي" بعد أو عند ذهابي إلى العراق في "الأربعين"، أو بعد الأربعين بقليل (1940) تأسس النادي واستمر في نشاطه الثقافي فقط لا غير، بمعنى أنه لم يأخذ طابعاً وطنياً. ولكن، عندما تأسست الصلات بيني وبين الأستاذين عفلق والبيطار، وقررنا أن نقوم بتأسيس حركة البعث العربي، حصل خلاف بيني وبين أعضاء النادي الذين لم يرغبوا في الانتساب معي إلى حرب البعث، لذلك أنهينا وجود النادي بالمرَّة، وبالتمام، وبقي فترة وجيزة من الزمن ومن ثمَّ أنهى أعماله. بمعنى آخر، إن البعثيين في هذا النادي كانوا قد مارسوا في البداية نشاطهم، من ناحية الاجتماعات فقط لا غير. وعندما قام حسني الزعيم بحركته الانقلابية العسكرية الأولى (1949) لجأت أنا إلى هذا النادي لكي أتوارى عن أنظار حكم حسني الزعيم، وقد كنت بدأت بإصدار النشـرات الحزبية، بعد اعتقال الأساتذة عفلق والبيطار والسيد والغانم وغيرهم، واستمريت أنا في نشاطي في النادي بالذات. بمعنى، كما يُفهم، أن "نادي فيصل الثقافـي" كان لا يزال قائماً، لكن دون أي نشاط. لقد كان المقر موجوداً، لذلك استغليت وجود المقر لأجل أن أتوارى فيه وأن لا أذهب إلى البيت حيث كان البيت مراقباً، وأنا شخصياً أيضاً كنت مراقباً. وبالطبع، لم يستطيعوا أن يعرفوا مكاني، ومن هناك كنت أصدر النشرات وأعمل على توزيعها وأندِّد فيها بحكم حسني الزعيم وانقلابه العسكري. وكنت قد أصدرت نشرتَين حزبيتَين فقط. وسيأتي البحث فيما بعد عن السبب في التوقف هذا.
وهنا السؤال يعود ويطرح على الدكتور مدحت البيطار: كيف تعرّف على ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار وما هي البدايا الأولى في ذكرياته عن هذه المرحلة؟!… فيقول د. مدحت البيطار : في البدايات، أنا كانت دوماً تصلني الصحف السورية إلى العراق. وبالطبع، كنت أتابع الاطلاع على كل ما يجري في سورية. وعلمت من اطلاعي على الصحف بوجود نشاط (سياسي) للأستاذ عفلق. فكنت أجلس في "مقهى الطاحونة الحمراء"، وكان في الوقت نفسه يجلس الأستاذ عفلق والأستاذ البيطار، يجلسان في هذا المقهى ذاته، وتعارفنا… ونظراً لأنه كان عندي فكرة عن نشاط الأستاذ عفلق، فلذلك بعد أن تعارفنا صرنا نتطرق إلى الأحاديث عن الوضع (السياسي) في سورية وعن النظرة إلى المستقبل وعن فكرة الوحدة العربية وكل هذه الأهداف الوطنية (والقومية) التي كنا نضعها نصب أعيننا سواءً كنا في حركتَي الكشفية السابقتين أم في ما نهدف إليه بعد عودتي إلى سورية. فوجدنا انسجاماً فيما بيننا، أنا والأستـاذ عفلق والأستاذ البيطار. وصدف في تلك الأثناء أن أقدم أحد أفراد الشرطة، إثر مباراة كرة القدم التي حصل فيها مشادة بين فريق الجيش الفرنسي وفريق الشرطة السورية، أهان أحد لاعبي الفريق الفرنسي سورية ممثلة بفريق الشرطة السورية، فلم يتمالك نفسه أجد أفراد الشرطة، أذكر أنه من عائلة "أنارة"، ولا أذكر الاسم الأول لهذا الشرطي، أقدم على إطلاق الرصاص على أحد أفراد الفريق الفرنسي فأرداه قتيلاً، وتوارى عن الأنظار. وكانت هناك شائعة بأن الحكومة السورية تريد تسليم هذا الشرطي إلى السلطات الفرنسية لإنزال فيه العقاب أو لإجراء محاكمته والحكم عليه بالإعدام. لذلك، خوفاً لحدوث مثل هذا الأمر الذي حتماً ستكون له نتائج وخيمة جداً، كنت قد نظمت مظاهرة وخطبت في المسجد الأموي وطلبت من الحاضرين أن يتوجَّهوا معي إلى السراي، لننذر الحكومة حتى لا تقوم بعمل من هذا القبيل وحتى لا تسلم الشرطي القاتل دفاعاً عن شرف سورية. وكان رئيس الجمهورية في تلك الأثناء يقوم لليوم الثاني بزيارة للمحافظات السورية. كان قد وصل إلى حمص فقط مع رئيس الوزراء السيد سعد الله الجابري وكان نائب رئيس الوزراء هو المرحوم نصوح البخاري والذي استحصلت منه على رخصة للقيام بهذه المظاهرة. وعندما وصلنا إلى السراي كان هو موجوداً في السراي. خطبت هناك وحذرت الحكومة من أن تقوم بتسليم الشرطي المذكور الذي بقي متوارياً عن الأنظار والذي لم تنفذ به بعد ذلك أي ملاحقة أو أي عقاب بهذا الشرطي. الحادثة وقعت في بداية عام 1944، على ما أعتقد، واضطر حينئذ رئيس الجمهورية شكري القوتلي لإعادة رئيس الوزراء سعد الله الجابري إلى دمشق لأجل أن يتصل… ذلك أنه بعد أن قامت المظاهرة، حصل إضراب أيضاً، فخاف السيد القوتلي من أن يستمر هذا الإضراب وأن تكون له عواقب تؤثر على الوزارة كلها وعلى العهد، لذلك أعاد السيد سعد الله الجابري إلى دمشق، الذي طلب الاجتماع بي ورجاني أن أُنهي الإضراب… وبالطبع، لم أكن أنا بمركز يسمح لي بأن أدعو إلى عدم الإضراب وأستطيع تنفيذه ولا أستطيع الوقوف ضد الإضراب وإعادة فتح المحلات، ولكن المظاهرة بعد أن أتت ثمارها ونجا الشرطي المذكور، لم يعد هناك أي حاجة لاستمرار الإضراب وقيام مظاهرات أخرى. وهكذا، انتهى هذا الحادث بهذا الشكل. وإنما نتيجة هذا الحادث زادت صلتي بالأستاذ ميشـال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطـار. وعلى أثر ذلك فاتحني الأستاذ عفلق من أجل تأسيس حزب تحت اسم "حزب البعث العربي" ووافقت على الفكرة. وبالفعل، باشرنا بتأسيس الحزب بعد الاتصال بالدكتور وهيب الغانم في اللاذقية والأستاذ جلال السيد في دير الزور. واعتبرنا أنفسنا نحن الخمسة المؤسسين والقيادة الأولى لحزب البعث. وأول مكتب حزبي أنشأناه في دار قديمة في "حي القنوات"، وأظن أن هذه الدار عائدة لأحد أفراد عائلة العجلاني، وأظن أن الدار لا تزال موجودة حتى الآن، وإن كان من الصعب عليَّ أن أعيِّن مركزها تماماً، وإنما أعرف الجوار كله وأعرفه إذا ذهبت إلى "حي القنوات" من المحتمل أنني أستطيع تحديد أو الاهتداء إلى الدار بالذات.
سؤال: في هذه المرحلة بالذات جرت انتخابات نيابية عام 1943، أعقبها انتخابات رئاسة الجمهورية. وفي بيان صدر من عفلق والبيطار بتأييد شكري القوتلي في انتخابات رئاسة الجمهورية، وكذلك في الوقت نفسه ترشيح الأستاذ عفلق في هذه الانتخابات النيابية، ماذا تذكر عن هذه الانتخابات وعن المواقف التي اتخذت فيها، سواءٌ ما تعرفه من ذكرياتك بالذات أو ما تعرفه منهما أنت فيما بعد؟!…
جواب د. مدحت البيطار: والله، عندما أُجريت انتخابات عام 1943، على أثر وفاة الشيخ تاج الدين الحسيني الذي كان معيَّناً كرئيس للجمهورية من قبل الفرنسيين دون أي انتخابات، أنا في ذلك الحين كنت ما أزال في العراق، لم أكن موجوداً في سورية، وإنما حضرت بعد أن تمَّ انتخاب شكري القوتلي وبعد الانتخابات النيابية كلها، حضرت إلى سورية بعد ذلك. واتصلت وعلمت من الأستاذ ميشال عفلق أنه رشّح نفسه للنيابة في تلك الانتخابات ولكن لم يأخذه شكري القوتلي في قائمته التي شكلها. فما كان من الأستاذ عفلق إلاّ أن خاض الانتخابات النيابية بصفته الشخصية كمرشح مستقل. وكان هذا الموضوع، موضوع المرشحين المستقلين، كان موجوداً دائماً، مرشحين مستقلين في كل انتخابات نيابية وهو كان أحد هؤلاء المستقلين. وكانت الانتخابات تجري في ذلك الحين على درجتين: ينتخب في الدرجة الأولى ناخبون ثانويون، ثم هؤلاء الناخبون الثانويون هم الذين ينتخبون أعضاء المجلس النيابي. وأظن أن الأستاذ عفلق حاز في تلك الانتخابات في الدرجة الأولى على عشرين (20) صوتاً من الناخبين الثانويين. وبالطبع، فقد كانت بداية لا بأس بها، بالنسبة إلى كونه مستقلاً وغير معروف حينذاك، ولم يكن له ماضٍ في النضال الوطني في تلك الأيام. لذلك فإن حصوله على عشرين (20) صوتاً كان يُعتبر بداية مشجعة.
أما من ناحية كونه خاض الانتخابات بصفته مستقلاً تماماً أم باسم البعث العربي، فإن د. مدحت البيطار يقول بأنه لا يستطيع ولا يقدر أن يحدِّد هذا الأمر تماماً، وإنما طبعاً البيان الذي صدر، قد صدر باسم "البعث العربي"، لا كحزب وإنما كفكرة (أو كتجمع من الشباب)، لأنهم كانوا يُصدرون بعض البيانات باسم "حركة البعث العربي" دون أن يكون هناك مؤسسة حزبية (بالمعنى الحقيقي للكلمة).
وحول السؤال إذا كان التأييد لترشيح القوتلي في تلك الآونة يُعتبر أمراً غريباً أو أنه يُعتبر أمراً طبيعياً، فإن جواب الدكتور مدحت البيطار هو التالي: في الحقيقية، كانت الحركة الوطنية محصورة تقريباً زعامتها في شخص شكري القوتلي الذي كان له بعض المواقف الواضحة تجعل له شعبية. فهو كان قد استقال من حكومة جميل مردم بعد عام 1936، لمّا أبرم الملحق جميل مردم، الذي ينتقص من استقلال سورية المالي. فهو لم يصدر بياناً عن سبب استقالته حتى لا يحرج جميل مردم، وإنما قدَّم استقالته وسافر إلى المملكة العربية السعودية تحت حجة أداء فريضة الحج، ولكن الناس عرفوا سبب الاستقالة أنه رفض هو أن يشارك مردم في الموافقة على الملحق التابع للمعاهدة السورية الفرنسية، والذي وافق عليه مردم والذي كان ينتقص من استقلال سورية المالي. وأظن أن هذا الملحق هو بالنسبة إلى المصرف السوري الذي كان مرتبطاً بالفرنك الفرنسي. فالناس حفظوا للسيد القوتلي هذا الصنيع من جهة، ومن جهة أخرى، كان جميل مردم وسعد الله الجابري ولطفي الحفار وشخص آخر من حلب جميل إبراهيم باشا وبعض الوطنيين الآخرين، كانوا قد اُتهموا بأن لهم ضلعاً في المؤامرة التي استهدفت اغتيال المرحوم د. عبد الرحمن السهبندر. وسافر هؤلاء الأشخاص إلى العراق هرباً من ملاحقة السلطة وبقي شكري القوتلي وحده في الساحة في سورية، وهو الذي يقوم بالعمل الوطني نيابة عن الكتلة الوطنية. فهذا الظرف بالذات هيأ له شعبية، اعتبرته كل الأوساط بأنه الشخص المناسب في ذلك الحين لقيادة الحركة الوطنية ضد الفرنسيين.
السؤال الآن هو التالي: في عام 1943، التأييد لترشيح شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية وانتخابه رئيساً للجمهورية، فمتى بالضبط بدأ حزب البعث العربي يعارض شكري القوتلي؟!.. وما هي الأعمال التي قام بها شكري القوتلي وشعر معها حزب البعث العربي أن شكري القوتلي ليس بمستوى الطموحات، بمعنى أن شكري القوتلي لم يعد على مستوى الطموحات والآمال التي عُلِّقت عليه؟… يا هل تُرى بدأت المعارضة مع محاولة تعديل الدستور، أم بدأت قبل ذلك؟!… وما هي الأمور التي دفعت حزب البعث العربي إلى المعارضة، علماً بأنه في عام 1943 وجد بأنه هو، شكري القوتلي، المشرح المقبول؟!…
يقول د. مدحت البيطار: بالطبع، كان المطلوب بعد فوز السيد شكري القوتلي وفوز قائمته الكاسح في كل محافظات القطر، المطلوب بأن تنال سورية استقلالها الكامل وأن يغادر الفرنسيـون سورية ويدعونها تتمتَّع باستقلالها. وأول مظهر من مظاهر هذا الاستقلال هو عودة الجيش السوري إلى ممارسة أعماله تحت إشراف الحكومة السورية وحدها دون أي تدخل أجنبي. وكنا نشعر بأن الفرنسيين لم يستجيبوا إلى تسليم الجيش إلى سورية. وهذا أول مظهر وأكبر مظهر يدل على أننا نحن أصبحنا مستقلين. ولم نشعر بأن هناك تشبُّثاً فعلياً (بهذه القضية) من قبل رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة، الرئيس شكري القوتلي والرئيس سعد الله الجابري. فإننا حينذاك لم نشعر أن هناك تمسكاً جديّاً واستمراراً لمتابعة ولمناهضة الفرنسيين والتشبُّث باستلام الجيش وغيره من مظاهر الاستقلال وبصورة خاصة النقد السوري الذي كان تابعاً للنقد الفرنسي، بالإضافة إلى السياسة الداخلية التي اتبعها شكري القوتلي وهي تقوم على تقريب الاتباع وأغلبهم من الأميّين، بمعنى آخر تقريب المحاسيب لأجل دعم نظامه. وكان على الرغم من وجود مجلس نيابي ووزراء ومؤسسات دستورية، لقد كنا نلاحظ بأن الرئيس شكري القوتلي يتدخل في الكبيرة والصغيرة من شؤون البلاد ويتدخل حتى في تعيين جوال في البلدية أو حارس في منطقة من المناطق. وكان المتسلط على عقل القوتلي في تلك الفترة فئة من شبه الأميّين أحدهم كان شرطياً متقاعداً وأذكر من الأسماء: أمين القباني وأمين راعي الصغرة وشخص آخر كان شرطياً أيضاً برشكجي. وكنت أشعر أنا شخصياً نظراً لصلاتي السابقة مع رجال الكتلة الوطنية والذين شكل قسم كبير منهم الوزارة، فمن هؤلاء ومن هذه الصلات كنت أشعر بأن السيد القوتلي يتدخل في الكبيرة والصغيرة وفوق الدستور، متجاوزاً ما يتيحه له الدستور ويقوم بألاعيب مختلفة حتى بات تصرفه وكأنه دكتاتور، وليس رئيساً للجمهورية منتخباً من الشعب. فكان بعض الوزراء يشكون من هذه التدخلات. وبالطبع، هؤلاء المحاسيب فقد كان تصرفهم وتدخلهم في شؤون الدولة وتعيين الأنصار وقبضهم الرشاوي من أجل تعيين بعض الأنصار وإقصاء الآخرين. وكذلك، كانت هناك تلاعبات كبيرة في "وزارة الإعاشة"، استفاد منها وأثرى من ورائها بعض الأشخاص، إثراءً كبيراً، حُرم منها المستحقون من أخذ استحقاقهم، كل هذه التصرفات كان لا بدّ من فضحها. ولا يمكن فضح هذه التصرفات إلاّ بقيام جبهة معارضة. ولم يكن في ذلك الوقت جبهة معارضة إلاّ حزب البعث العربي الذي لم توافق الحكومة آنذاك على إعطائه "الرخصة" وأن يقوم بعمله كحزب سياسي مرخص له. فهذه الأسباب مجتمعة هي التي دعتنا إلى المعارضة. وأذكر على سبيل المثال أنني بعد أن قمت أنا والأستاذان ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار بإصدار بعض النشرات وحاولت الحكومة وقتذاك اعتقالنا نحن الثلاثة، وبالطبع كان هناك شبه إحجام عن اعتقالي، نظراً لصلاتي السابقة مع الكتلة الوطنية، فأرادوا أن يعتقلوا فقط الأستاذين عفلق والبيطار وأن أكون أنا بمنجاة من الاعتقال، على الرغم من أن الأعمال التي قمنا بها، قمنا بها بصورة مشتركة نحن الثلاثـة بإصـدار النشرات أو مهاجمة الوضع أو بإلقاء الخطب (التي تنتقد الحكم). وفي ذلك الحين، لم تكن الجريدة، جريدة "البعث" قد صدرت بعد، فحاولوا أن يلقوا القبض فقط علينا نحن الثلاثة، ولكن حاولوا أن يبقوا الأستاذ عفلق والأستاذ البيطار معتقلين، بينما يفرجوا عني أنا… واتبعوا شتى الأساليب التي فشلت. عندما وجدوا بأنه لا سبيل إلاّ إلى اعتقالنا نحن الثلاثة، أرادوا أن يأخذوا مني إفادة وأن يبرزوا هذه الإفادة بأنني أنا بريئ، بريئ من كل التهم التي نُسبت إلى السيد عفلق والبيطار. وبالطبع، لم يكن من الممكن أن أقرّ بذلك، فأصررت لا على عدم البراءة، وإنما أصررت على الاعتراف والإقرار بكل شيء، لقد قمنا بكل شيء سويّة، مما يعني أنه كان هناك خشية بأن اعتقالي قد يسبب بعض المشاكل، لأنه يوجد جماعة من مؤيدي أعضاء الكتلة الوطنية ومن الشباب الوطني (يقفون إلى جانبنا)، لذلك أفرجوا عنا نحن الثلاثة. واجتمعت ورئيس الوزراء وكان على صلة بالاستجواب الذي جرى معنا… ورئيس الوزراء آنذاك كان سعد الله الجابري. وعندما اضطر، حتى لا يعتقلني، إلى الإفراج عن الأستاذين عفلق والبيطار، وإنما حصَّني بمقابة شخصية دون أن يقابل الأستاذين. في هذه المقابلة أخبرني بأن الفرنسيّين موافقين على كل شيء بالنسبة إلى استقلال سورية فيما عدا الجيش. وقال بأن الفرنسيّين لا يمكن أن يسلموا الجيش، ولم يدع لي مجالاً للردّ على كلامه هذا، وإنما قال فقط: أنا بصفتي رئيس وزارة، إذا زرت مثلاً مقر الجيش، فتؤخذ لي التحية الرسمية ويُعزف النشيد السوري، ولكن الجيش يبقى تابعاً للفرنسيّين. طبعاً، أنا اعتقدت ذلك ونقلت الحديث إلى إخواني بأن معنى ذلك أن استقلال سورية منقوص، بما قَبِل به الفرنسيون وبما منحه الفرنسيون، ما دام الجيش وقيادته فرنسية، هذا يعني أن الاستقلال كله لم تعد له أي قيمة وأي معنى. وعندما تنتهي الحرب التي لم تكن قد انتهت بعد، سيعود الفرنسيون إلى التشبُّث ببقائهم في سورية ويرفضون مغادرتها ويتناسون كل الوعود التي قطعوها على أنفسهم بإعطاء سورية استقلالها. بالطبع، كان هذا يزيد من رغبتنا في المعارضة حتى لا نصل إلى هذا الدرك من قبول بقاء الجيش تحت سيطرة الفرنسيين. هذا الكلام نقله لي وأخبرني به السيد سعد الله الجابري وبالحرف الواحد تقريباً. هذا التحقيق أو الاستجواب، بعد ذلك، أن الفرنسيين مستعدين أن يعطونا كل شيء إلاّ الجيش، فالجيش سيبقى بقيادة السلطات الفرنسية، بهذا النص صرح لي الجابري. وكان هذا الاستجواب في حدود 1944 ـ 1945…
ثم يطرح السؤال حول ظروف إصدار جريدة "البعث" وذكريات د. مدحت البيطار في هذا المجال وكيف بدأت الفكرة وما هي الأشياء التي قاموا بها من أجل إصدارها والأموال التي استطاعوا أن يحصلوا عليها بهدف إخراج إلى حيّز التنفيذ هذا الإصدار… سؤال أيضاً إذا كانت لديهم موارد مالية في ذلك الحين!!
فجواب مدحت البيطار يشير إلى أنه ما كان لدينا موارد مالية بالمرَّة. وأذكر أنه قد كان في "نادي فيصل الثقافي" بعض الوفر. وعندما قرَّرنا إغلاق "نادي فيصل"، توزعنا الأموال الباقية في النادي وهي ليست كثيرة ولا تتجاوز بضع ليرات ذهبية، تقاسمناها وهذه فيما أذكر كنت أصرف منها على البيانات التي كنا نطبعها ونصدرها… يعني حوالي عشر ليرات ذهبية مثلاً، وبهذا الحدّ وأكثر من هذه القيمة، ولكن كانت الطباعة رخيصة والورق رخيص أيضا، ولم يكن غالباً. نعم، كنا في تلك الأيام نستطيع أن نصدر البيانات بما تبقى لنا من رصيد من "نادي فيصل الثقافي"، وذلك قبل العدوان الفرنسي على سورية بقليل، أصدرنا بياناً هاجمنا فيه السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية، وكما قلت قبل العدوان الفرنسي على دمشق أي قبل 29 أيار 1945، أصدرنا بياناً هاجمنا فيه شكري القوتلي بتوقيع صلاح الدين البيطار. وكنا في تلك الأيام نعدّ البيان نحن الثلاثة عفلق والبيطار وأنا. وكل مرة يضع أحدنا توقيعه على البيان باسم حزب البعث العربي، وهو البيان الذي هاجمنا فيه شكري القوتلي كان بتوقيع صلاح الدين البيطار، فاعتقلته الحكومة ونفته إلى الرِّقَّة، على ما أذكر. وفي مناسبة هذا البيان، تلك هي الأعمال التي ذكرتها:الوضع الداخلي والوضع الخارجي أيضاً، بمعنى أسباب هذا البيان إنما هو الوضع الداخلي في سورية على وجه الخصوص والوضع الخارجي أيضاً بوجه عام. (ويجب التنويه إلى أننا) لم نكن نقتصر على مهاجمة الوضع الداخلي فقط، وإنما دوماً كان هدفنا تحقيق الاستقلال الكامل بالدرجة الأولى، لذلك كل شيء كان يمسّ الاستقلال كنا نفضحه. إذن، قبيل العدوان الفرنسي اعتقل الأستاذ صلاح الدين البيطار ونُفي إلى الرِّقَّة، كما ذكرنا سابقاً، ولم يفرج عنه إلاّ قبيل العدوان الفرنسي على دمشق (29 أيار 1945) بليلة واحدة أو ليلتين، وكنا آنذاك لا نزال في مقرنا في "القنوات". بعد العدوان حاولنا إصدار جريدة تحت اسم "البعث"، وألححنا على ضرورة إعطائنا رخصة بتشكيل الحزب. عندما حصلنا على رخصة بتشكيل الحزب ورخصة بإصدار جريدة، عندئذ حاولنا أن نجمع الدراهم لمتابعة إصدار الجريدة. فكنا نأخذ التبرعات من كل الأشخاص الذين يناصرون الحزب. وبالطبع، لم يكن هناك أعداء للحزب بالمعنى الذي حصل فيما بعد، لأن العدو الوحيد للحزب في ذلك الوقت كان الحزب الشيوعي. طبعاً، كان هناك حركة الإخوان المسلمين، ولكن لم يكن بيننا و"الإخوان المسلمين" منافسة قوية، وما كانت هي حزباً بالأصل، كانت عبارة عن حركة سنية دينية وإنما كانت تتداخل بالسياسة وتصدر بيانات. أما الحزب الشيوعي فهو الحزب الوحيد الذي كان بيننا وبينه عداءً. بالإضافة إلى الدولة (أو الطبقة السياسية الجديـدة) التي ما كانت ترغب في قيام حزب آخر (معارض) وبالأخص حزبنا الذي كان مناهضها ومعارضها. وأذكر أنني جمعت بعض التبرعات من أشخاص أصبحوا فيما بعد مناهضين للحزب، من أعضاء "الشركة الخماسية". مثلاً المرحوم عبد المجيد الربّاط، أذكر أنني أخذت منه ألف (1000) ليرة كتبرع ليس للحزب وإنما للجريدة. وقال بالحرف الواحد: هذه الألف ليرة أنا أعطيها لمدحت البيطار شخصياً، وهو بعد ذلك حرٌّ أن يعطيها لجريدة أو يعطيهـا للحزب أو كيفما يريد أن يتصرف بها. وبالطبع، هذا المبلغ بمجموعه سلمته للجريدة لإصدارها. هذا ما حصل بالنسبة للجريدة، وكانت قد صدرت الجريدة بالفعل.
ويذكر مدحت البيطار حادثة وهي: أنه أكثر ما شعرت به إنما هو بشيء من الامتعاض، لأنه بعد أن صدرت الجريدة لم يذكر فيها اسمي إطلاقاً، على الرُّغم من أن الذين عملوا لإصدار الجريدة، جريدة "البعث"، أولاً للحصول على الرُّخصة نظراً لصلتي مع أركان الكتلة الوطنية… إذن، جهودي الشخصية للحصول على الرخصة لإصدار جريدة "البعث"، وكذلك جهودي للحصول على رخصـة للحزب، كلها كانت لصلاتي السابقة مع أعضاء الكتلة الوطنية: فضل لا ينكر للحصول على رخصة الحزب أو على رخصة الجريدة، ومع ذلك فإن الأستاذ صلاح الدين البيطار لم يذكر أسمي في عداد مصدري أو مؤسسي الجريدة، بل لقد سجلت باسمه، ولا أذكر بعد تماماً ماذا كانت صفة الأستاذ ميشال عفلق، مدير التحرير أو رئيس التحرير أو شيء من هذا القبيل… ولذلك ابتعدت دون أن أبدي أي ملاحظة حول هذه الأمور حرصاً على وحدة الحزب، معنى ذلك حتى لا يُقال بأن هناك خلافاً، لكني بالفعل ابتعدت عن الحزب فترة من الزمن غير قصيرة، ولم أجتمع مع عفلق والبيطار ومع غيرهما. ولقد كانت عندي عيادة في بلدة "نوى" في حوران، فعندما أردت الابتعاد، استمريت في البقاء فترة طويلة حتى أخذت علماً بأن أحد الحزبيين توفي والده وهو زهير المارديني، فأتيت للتعزية. ولاحظ الأستاذ ميشال عفلق، قال: هل تريد دائماً أن يكون اجتماعنا معك بموت أحد أقرباء (البعثيين) حتى نجتمع بك. كان هذا بمثابة عتاب وجه إليّ من قبل الأستاذ عفلق نظراً لتخلفي (عن ا