مفاتيح الباستيل
إعلام وصحافة /
فكرية /
1989-07-15
"مفاتيح الباستيل"(*)
السفير صلاح ستيتية
قبل يومين أعاد الرئيس بوش مفاتيح سجن الباستيل للرئيس متيران وكانت تلك المفاتيح قد أهداها الجنرال الفرنسي لافاييت عام 1799، إلى جورج واشنطن بطل استقلال الولايات المتحدة وأول رئيس لها، كرمز لتضامن فرنسا، وبشكل أخص، لتضامن الثورة الفرنسية مع الديموقراطية الأميركية الفتية.
وتجدر الإشارة إلى أن الجنرال لافاييت قد شارك على رأس حامية فرنسية، في حرب الاستقلال التي أعلنها جورج واشنطن، وأن أمة كالأمة الفرنسية المتألقة، يومذاك يثوب الديموقراطية الجديدة، كانت تشعر بأن عليها واجباً هو إعانة الأمم الأخرى لكي تلتزم هي أيضاً مبادئ الحرية والمساواة والآخاء، التي انبثقت من الأمة الفرنسية لتصبح مبادئ عالمية. واليوم أيضاً ثمة شعوب ودول ومناطق تنتظر من فرنسا، في نهاية هذا القرن، وبعد مئتي عام على الرابع عشر من تموز 1789، وهو يوم سقوط الباستيل، المساعدة للتغلب على حتمية التاريخ ولكي تتمكن بعد تحقيق العدالة والآخاء، من الصعود إلى مرتبة الحرية الحقيقية.
وفي الواقع ليس هناك من حرية في المطلق وليس هناك من حرية مجردة، والحرية ليست ذلك التمثال الحجري حامل المشعل، وإنما هي كائن حي قدماه على الأرض، وهما قدمان حيتان، تتابعان سيرهما فوق أرض البشر.
إن البشر الأحرار، الأحرار فعلاً، هم أولئك المتضامنون، والذين يريدون أن يكونوا متضامنين في مواجهة جميع التحديات، الناشئة سواء عن الماضي أو عن الحاضر أو عن المستقبل، وللتغلب على تلك التحديات، فإن المدافع والصواريخ، لا فائدة منها: ليس هناك من وجود في التاريخ لمجتمع بني بواسطة المدافع، بينما نجد أن مجتمعنا منفتحاً ومبنياً على أساس من التماسك الداخلي ومن المرونة لدى عناصر بنيته المتحاورة في ما بينها والمتكاملة، يستمر أكثر قوة من جميع "اللاءات" التي تجابهه ولا يمكنه أن يمتلك تلك القوة إلاّ بالتنشيط الكامل لجميع طاقاته الحيوية التي تقوم كل واحدة منها بدورها، مهما كانت أهمية هذا الدور في التركيب البنيوي الشامل، إن المساواة الحقيقية هي في إعطاء كل عضو من أعضاء المجتمع أو كل هيئة من هيئاته ما تستحقه من أهمية ومن أحقية في نطاق المصدر الموحد للروابط والتفاعلات. وبقدر ما يكون الجسد معقد التركيب، وبقدر ما يكون المجتمع متطوراً، بقدر ما تكون المساواة التي تعطي لكل ذي حق حقه، ضرورة قصوة. وعندما يكون المجتمع بدائياً، وعناصر تركيبة عناصر مبسطة للغاية، فلا حاجة عندئذ لهذا التوزيع "الجوفي"، من التناغم والتجاوب، بل لا حاجة له حتى للتحاور.
وفي هذه الحال نستطيع القول بأن المدفع يكون كافياً بالفعل، كافياً لنفي الحوار، كافياً لنفي التناغم، كافياً لنفي الحياة.
وبما أننا نؤمن بأن المجتمع اللبناني مجتمع ذو بنية مركبة، وأن الشعب اللبناني ليس كوناً من كائنات بدائية، وبما أن هذا الشعب وهذا المجتمع، قد برهنا خلال التاريخ، على مقدرة فائقة في الحياة وفي التطور، وانطلاقاً من إيماننا هذا، لا يمكن إطلاقاً أن نقبل لهما بالمنطق الأعوج الساعي إلى فرض الحلول بالقوة. القوة لا تبرهن عملياً عن أي شىء لأن الحياة تفرض، على العكس من ذلك، التفاوض، والتجانس، والذهاب بعيداً، والتخلص بمرونة وذكاء من جميع العقبات حيث وجدت والحياة تدرك جيداً أن الزهور لا تنبت في الصخور، ولو كانت تلك الصخور أجمل صخور العالم، ومعدة الناس تدرك أيضاً أن طحن الصخور لا يعطي خبزاً، وأما قلب الإنسان فإنه يدرك إدراكاً كاملاً بأن هناك اسماً آخر للحب، هو الآخاء أن الآخاء بين الإنسان وأخيه الإنسان هو الذي يثبت أن المساواة ليست شعاراً أجوف، ولا مادة للاستهلاك الداخلي أو الخارجي، ولا خدعة كلامية.
وكما أن المساواة هي القاعدة الحيوية والمنطقية للمجتمع فإن الآخاء هو ضمانة المجتمع المعنوية والعاطفية. وإذا كان المجتمع، كمجتمعنا هذا، متحدراً من عقائد دينية مطبوعة، في الأصل، بروح الإخاء، فإن مجتمعنا أكثر المجتمعات جدارة للتشبث بالآخاء وممارسته".
أما بالنسبة للحرية فإنها خير جوهري لنا، نجده في ملتقى المساواة والإخاء باعتباره حصيلتهما الحتمية.
إن جسداً اجتماعياً قوياً بتكامله العضوي القائم على أساس من المساواة، وبتماسكه الروحي والمعنوي القائم على أساس من الإخاء، لا بدّ له أن يكون قابلاً للحرية ومهيئاً للمارستها بصورة مطلقة.
ولمناسبة ذكرى مرور مئتي عام على الثورة الفرنسية، وهي من أبرز أحداث التاريخ البشري، فإننا نطلب من الديموقراطيات الكبرى في العالم، وبصورة خاصة من فرنسا بأن تمد لنا يد المساعدة على تحقيق الإصلاحات والتطورات التي لا غنى عنها لكي تغدو ذلك المجتمع المتماسك والعادل والأخوي الذي نحلم به بل نلح في الطلب بتحقيقه. وإننا نطلب من تلك الديموقراطيات، في نطاق هيئة الأمم المتحدة، وخارجه، بتنفيذ القرار 425، والقرار الرقم 426 لكي تستعيد كلمة "الحرية" معناها الكامل.
وإننا نطالبهم لا بأعطائنا مفاتيح الباستيل، بل بإعارتنا إياها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) ـ جريدة "السفير"، بتاريخ 15 تموز 1989.