كلمـة النائب المحامي أحمد سويد - في احتفال مقاصدي
لقاءات /
قانونية /
1999-05-27
كلمـة
النائب المحامي أحمد سويد
هذا يومُ لقاء للتعارف بين الأجيال المتعاقبة للخريجين
يوم للذكريات… فاسمحوا لي أن أتذكر كل هذا، واغفروا لي إن استغرقت وإن طغت الأنا أحياناً على السرد: فالشخصية، هي دوماً من ضرورات التذكر(*).
وبعد، كلما دخلت حرمها أو تذكرتها تأخذني رعشة التوق والحنين فيوم جئتها تلميذاً في الصف الخامس ـ تكميلي ـ شعرت وأنا القادم إليها من مجاهل الجنوب، من أقصى القطاع الشرقي من الجنوب، شعرت بأنها البديل عن الأم، وبأني ألج عالماً جديداً سوف يشذب بدائيتي وسذاجتي القروية وسوف يرعى ذلك البرعم الطفل الذي كنت أحسه في داخلي، شديد التطلع للتفتح، وشديد النهم للخروج إلى الشمس.
كانت كلية المقاصد يومذاك هي المنارة العلمية الوحيدة في الجنوب كله، وكان إشعاعها لا يقتصر على الجنوب وحده، بل كانت تتسع لطلاب تجتذبهم سمعتها فيأتونها من مناطق مختلفة ومن أنحاء خارجية شتّى، فهي لم تكن صرحاً علمياً فحسب، بل كانت مدرسة للوطنية الصحيحة، ومعقلاً للعروبة الصافية، ولا أبالغ إذا ما قلت، أنني تلقيت فيها ألفباء الوطنية والوعي القومي، وتدرجت فيها على أسلوبين أساسييْن من أساليب التعبير عن الذات: الخطابة والكتابة.
الخطابة عن طريق المنبر الأسبوعي الذي كانت ترعاه جمعية الخطابة فيها، والكتابة، عبر مجلة " وحي الكلية" التي رشحني أستاذ اللغة العربية، على الفور، لأن أكون واحداً من محرريها على الرغم من أن الإشراف على تحريرها وإصدارها كان محصوراً بطلاب الصفوف الثانوية.
هذه المجلة كانت ذات نكهة خاصة، وتتكشف عبر صفحاتها مواهب الطلاب، وتمارس حرية الكلام بلا قيود، ولم تكن نشرة متزمتة بل كانت خفيفة الدم، وأطرف باب فيها كان بعنوان: "محط كلام"، كنا من خلاله، نتلطى لأساتذتنا ونسجل عليهم بعض التعابير التي يكثرون من تردادها أثناء شرح الدروس، فهذا أستاذ يردد كلمة "بالطبع" عشرات المرات، وآخر لا ينفك يردد عند كل جملة Par Conséquent وثالث يتوكأ باستمرار على كلمة "مفهوم"، ورابع محط كلامه الدائم "Mais Oui" وقد صدف أن أحصينا بمكر لأستاذنا في اللغة الفرنسية عدد المرات التي ينزلق هذا التعبير الأخير على لسانه خلال ساعة مدرسية، فبلغ ثلاثين مرة، وعندما نشرنا هذه "الاحصائية" في باب "محط كلام" حنق أستاذنا وراح يقرعنا بشدة:
أهكذا تقضي اللياقة أن تهزأوا بأساتذتكم على صفحات المجلة، وتفبركوا عليهم؟ وتنسبوا إليهم ما لا أساس له من الصحة؟
ولكننا لم نفبرك يا أستاذ، وعلى كل حال فهي مجرد دعابة فهل أزعجك ذلك؟
فهز الأستاذ متى كتفيه وغمغم:
"Mais Oui"
وانفجر الصف بالضحك، وشارك الأستاذ "متى" حتى أغرورقت عيناه.
* * *
في أواخر عام/1943 كانت كلية المقاصد على موعد مع استحقاق خطير. كانت الحكومة الوطنية قد قررت تعديل الدستور متجاوزة بذلك سلطات الانتداب.
وكان الجو الشعبي في البلاد متحمساً للخطوة، مؤيداً بحرارة للقرار الوطني الشجاع.
وكان التوقع أن مواجهةً ما لا بدّ منها سوف تقع، وقد لا تكون ذات طابع سياسي فقط، بالنظر لما اشتهرت به السلطة المنتدبة من حمق ونزق.
وكنا في كلية المقاصد نراقب التطورات باهتمام بالـغ،
… وذات صباح استيقظنا على النبأ المذهل: لقد اعتقلوا زعماء البلاد وساقوهم إلى قلعة راشيا.
لا تستطيـع العبـارات أن تصـف بدقـة، وأن تنقـل بأمانـة جو الغليان الذي ساد الكليـة.
لقد اندفعنا إلى الملاعب مهتاجين نردد الأناشيد الوطنية والهتافات، يشاركنا أساتذتنا، وتشجعنا الإدارة التي كان على رأسها يومذاك المرحوم قبولي الذوق، وعندما ترامى إلينا أن صيدا تحركت، وقررت فعالياتها إعلان الإضراب المفتوح، رحنا ننطلق في مظاهرات صاخبة تجوب شوارع المدينة، ونردد الهتاف الذي أصبح لازمة التحرك الوطني الثوري:
بدنا بشارة، بدنا عادل، بدنا رياض.
كانت صيدا قوية الشكيمة فلم ترهبها تحديات السلطة المنتدبة التي حشدت ونشرت المئات من الجنود السنغال في سائر أرجاء المدينة، وكانت المظاهرات لا تنقطع، وكنا نحن، طلاب المقاصد، نعوج على مدارس المدينة ندعو طلابها إلى مشاركتنا، وتحدي إداراتها التي كانت شديدة التحفظ، تراقب التطورات دون انفعال، وبعضها يراقب بحيادية، وربما بتعاطف مع سلطة الانتداب، وكثيراً ما كان تحريضنا يحمل زملاءنا في هذه المدارس على الانتفاض على رصانة هذه الإدارات وعلى حياديتها غير المبررة. وربما مشبوهة.
وظلت مظاهراتنا اليومية ترفد وتؤجج الحيوية النضالية في الشارع الصيداوي، وتوفر الدعم والرفد للجو الثوري السائد الذي كان يمخض البلاد، إلى أن كان اليوم المشهود، حين تصدت قوات الانتداب لإحدى مظاهراتنا، وأطلقت علينا نيرانها، فسقط رفاق لنا شهداء وجرحى، عندها انكفأنا إلى داخل المدينة، وإلى حرم كليتنا.
وترامى للإدارة ذات يوم أن ثورية المقاصد ودورها التحريضي قد أصبحا مصدر إزعاج وقلق للسلطة، وأن هذه السلطة تنوي اقتحام هذه القلعة للسيطرة عليها وتعطيل دورها، فرحنا نستعد للمواجهة.
لم نكن نملك سلاحاً بالطبع. ولكننا كنا نملك نحن وإدارتُنا وأساتذتُنا تصميماً حازماً على الدفاع عن متراسنا الوطني، وعلى أن نجعل للاختراق إذا تمت المحاولة ثمناً غالياً.
صممنا على أن نواجه الاقتحام بالحجارة التي سهرنا الليالي الطوال في تجميعها على الأسطح، لعلنا أول من فُكر بانتفاضة سلاحها الحجارة، وبجيوش النحل التي أعددنا خلاياها كسلاح من الأسلحة السرية للمعركة المنتظرة، وبأعدادٍ من أصص الفخار نهيّؤها ونلقيها من علٍ على رؤوس الجند المقتحم.
ولكن العدو لم يجرؤ على المغامرة. كانت صيدا تتخفر وتستعد لحماية "منارتها" وكانت أزقتها الداخلية مستعدة لأن تبتلع وتغيّب كل من يلجها مثقلاً بنواياه الشريرة، لذا استُبعدت خطة الاقتحام ـ كما يبدو ـ واعتُمدت خطة بديلة هي "الحصار".
كنت في هذه الفترة طالباً خارجياً أعيش مع شقيقي الذي يصغرني في غرفة متواضعة تقع في واحد من تلك الأزقة المظلمة، فقررنا أن نخوض تجربة نضالية جديدة، بعد أن استحال علينا الخروج في مظاهرات خارج الأسوار.
لِمَ لا نلجأ إلى "حرب المناشير"؟
فكرة لمعت في رأسي. وتواً رحت أجسدها.
اتفقت مع بعض رفاق الصف أن يوافوني إلى غرفتي كل ليلة، ورحنا نصوغ، كل ليلة، نص منشورٍ يتضمن التحريض على الصمود وتشديد العزائم، ولم يكن لدينا مال لنطبع. إذن، فلنتوكل على الله، ونعمل جميعاً على النسخ بخط اليد، حتى إذا انتجنا عشرات النسخ، انطلقنا تحت جبة الليل، نغافل الجنود السنغال، ونلصق هذه المناشير على مداخل الأزقة وعلى جدران الشوارع إذا ساعدتنا غفلة الجنود، حتى إذا استفاق الناس في الصباح، فاجأتهم مناشيرنا، وهي تحمل التحدي وتمرد الثورة، والتحريض على المقاومة.
… ويبدو أن عيون السلطة قد تنبهت لنا، فراح زوّار الليل يداهمون غرفتي التي كان الحذر قد فرض عليّ أن أتركها لأنام ليلتين في مئذنة الجامع الكبير ثم لأنتقل بعد ذلك إلى منزل المرحوم "الشيخ أبو الهدى القواص" محتمياً بحصانته الدينية.
وفي هذه الأثناء كانت صيدا قد قررت الزحف إلى مقبرة المدينة، إحياءً لذكرى شهدائها، فتسللت من المنزل كيلا يفوتني ثواب المشاركة في المناسبة، وعلى الرغم من الرقابة الأمنية المشددة على المكان ألقيت خطاباً نارياً، انتقلت بعده، على الفور، بتدبيرٍ مدروس وحذر من بعض الشبان لأستقر في منزل أحد الأصدقاء من آل عسيران في حي الأربعين.
كانت صيدا تتعرض بالفعل إلى حصار شديد، وقد توهم أحد ثعالب السياسة، من صيادي المناسبات، أن الحصار قد ليّن من موقفها خصوصاً بعد أن سال الدم البريء وفُجعت المدينة بعدد من الشهداء والجرحى، فاغتنم السياسي الثعلب مناسبة مظاهرة داخلية كان مكان تجمعها المحدد ساحة السراي القديم، فتسلل إلى الساحة، وانتصب خطيباً يحاول أن يقنع صيدا بأن استمرارها في الإضراب المفتوح لن يكون من ثمراته سوى الخسائر المادية والشلل الاقتصادي، وإن مجابهة صيدا لفرنسا هي كمقاومة العين للمخرز.
ولا أدري من أين هبطت علينا شجاعة "عنتر" أنا وبعض الرفاق تغامرنا ووثينا، لأقفز إلى المنصة ورحنا نشد الخطيب من ذيل سترته صارخين به "إنزل… إن صيدا تعرف كيف تدافع عن كرامتها، وهي لا تتحمل الانهزامية والانهزاميين".
ودوَّى التصفيق، واضطر الداعية الانهزامي إلى الانهزام وهو يلملم خيبته.
وعلى ذكر ساحة السراي القديم لا بدّ من ذكر مكتبة الجمعية المجانية التي كانت تقوم في إحدى زوايا الساحة، ولا أدري ما إذا كانت هذه المكتبة ما تزال تتابع رسالتها الجليلة. ولكم أتمنى؛ إذا كانت ما تزال موجودة: أن أزورها… وأؤدي لها فروض الوفاء.
إلى هذه المكتبة كنت أدلف كل مساء بعد الدرس، وفي جوها الهاديء، تعرفت إلى قمم الفكر العربي. جالست طويلاً طه حسين، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، والمنفلوطي ومخيائيل نعيمة ومارون عبود والأخطل الصغير وغيرهم وغيرهم من نجوم الأدب في تلك الحقبة.
وفي جوها الملهم هذا وُلد الكاتب الناشيء "ابن حرمون" وعلى صفحات مجلة سورية أسبوعية كان اسمها "الصباح".
والقصة تتلخص بالتالي: في إحدى ساعات التجلي نظمت على أحد مقاعد هذه المكتبة أول قصيدة نثرية، وقررت على الفور إرسالها إلى مجلة "الصباح"، وكنت من السذاجة وصدق البراءة بحيث ذيلتها باسمي "أحمد سويد الطالب في الصف الثالث التكميلي بكلية المقاصد الإسلامية في صيدا".
ورحت أنتظر صدور المجلة بلهفة العاشق، وكم كانت خيبتي موجعة ومرة حين كانت الأعداد تأتي، وهي خلو من "رائعتي البكر"، ولكن مرارة الخيبة علمتني أول درس في المكر، فكتبت القصيدة التي كنت واثقاً من مستواها بخطٍ منمق، وأعدت إرسالها بعد أكثر من شهرين إلى مجلة الصباح مذيلة بتوقيع مستعار:
"ابن حرمون المحامي"
وكم كانت دهشتي حين وقعت عليها بعد أسبوعين منشورة في الصفحات الأولى من المجلـة.
ومنذ تلك اللحظة كانت مجلات بيروت، ومجلة المعهد في "صور" تنشر النتاج الإبداعي لهذا الفارس المقنع "ابن حرمون" الذي لم يخلع قناعه إلاّ بعد أن تخرّج من كلية المقاصد.
وما دمنا، أيها الأخوة، في هذا الجو الحميم للدردشة الحميمة واستعادة الذكريات، فلا بأس من أن نلجأ إلى أسلوب تداعي الأفكار، فحديث الشعر يذكّرني بأستاذنا في الأدب العربي، وهو شاعر كبير ما زال حتى اليوم يبدع وينتج، أمدّ الله في عمره، وأكثر من عطائه الإبداعي.
كان أستاذنا يحب أن يقرأ لنا في صف البكالوريا أحدث قصائده، وكان يتعمد أن يتوجه إليّ طالباً رأيي باعتباري أديب المستقبل كما كان يدوّن على دفتر فروضي مشجعاً.
وذات يـوم تلا قصيدتـه، وكانـت رمزيـة، وسألنـي كالعـادة عن رأي، فقلت: لم نفهمها يا أستـاذ.
فأعاد قراءتها وأعاد السؤال، وكررت الجواب:
ـ لم نفهمها يا أستاذ.
فحدجني غاضباً وقال:
ـ إنها ليست مكتوبة لكم يا بني، إنها مكتوبة للأجيال القادمة.
ـ ولِمَ تتلوها علينا يا أستاذ. دعها إذن للأجيال القادمة.
… غضب الأستاذ، وعاتبني بعد "الصف"، ولكن قلبه الكبير لم يسمح له أن يخفف من تشجيعه المستمر لي، وتولي قلمي الناشيء بالرعاية والتوجيه.
* * *
… وفي عهد مدير الكلية المرحوم شفيق النقاش كان إحداث صفٍ للبكالوريا الثانية حدثاً مهماً. لقد صممت الإدارة على أن يكون إنشاء هذا الصف تحدياً حقيقياً لنا كناجحين في البكالوريا الأولى، وقد قبلنا نحن التحدي.
كنا نخبة بالفعل، وكان التنافس بيننا على أشده وكان رهان الإدارة علينا لنثبت تميز المقاصد كمعهدٍ علمي متفوق.
… ويوم أعلنت النتائج الرسمية للامتحان كانت الإدارة تباهي معاهد لبنان كلها، فلقد ربحت الرهان ونجح طلاب الصف المستحدث جميعاً ما عدا زميل واحد خانه الحظ في الدورة الأولى، وقد شاءت الإدارة أن تحتفي، وأن يكون توزيع الشهادات عرساً حقيقياً لصيدا التي تعودت دوماً أن تحتضن منارتها، فأقيم احتفال جماهيري احتشدت فيه فعاليات المدينة، وتولى توزيع الشهادات علينا رئيس الوزراء رياض الصلح الذي اصطحب معه ضيف لبنان يومذاك الأمير سيف الإسلام عبد الله، ولي عهد اليمن، وقد اختارتني الإدارة لإلقاء كلمة المتخرجين، فألقيتها، وخصني الأمير الضيف بساعة ذهبية، وأنعم على كل من الزملاء بساعة، ولعلني لا أبالغ إذا ما زعمت أن "المجموعة" دخلت معترك الحياة بعد التخرج ونجحت بتميز، نكاية بأمير الشعراء شوقي الذي كان له رأيٌ مغاير حين قال:
… وكم منجبٍ في تلقي الدروس تلقـى الحيـاة فلـم ينجـب
واسمحوا لي هنا بمناسبة الحديث عن حفلة التخرج أن أروي تجربة خضتها قبيل هذه الحفلة، وأبكتني مرتين: مرة قبيل الحفلة ومرة بعدها.
في المرة الأولى بكيت قهراً
وفي الثانية بكيت فرحـاً.
كانت الإدارة قد قررت أن يرتدي كل متخرج منا بذلة بيضاء، ولم يكن باستطاعتي أن أحصل على مثل هذه البذلة لضيق ذات اليد، فجئت يوم الاحتفال بثيابي العادية، ولم يخطر ببالي على الإطلاق أن ذلك سوف يثير مشكلة بروتوكولية.
هل يجوز ان يكون مظهر المتكلم باسم الخريجين كعنزة جرباء في قطيع معافى؟
بدأت الوشوشات والاقتراحات بحثاً عن حل.
اقترح أحدهم أن تُعطي الكلمة التي أعددتها لزميل مترف معروف بأناقته ليلقيها على الرغم من أنه سوف يحطم أضلاع سيبوبه نظراً لضعفه في اللغة العربية، ونقل الاقتراح إليّ، فأذعنت وسلمت الخطاب كمن يتخلى عن جزء من لحمه وذاته، ثم انتحيت زاوية ورحت أبكي بصمت، وشاهدني الناظر المرهف الحس فهرع إلى مكتب المدير ليفضح المؤامرة وليبطلاها بإصرارهما معاً على تسفيه الاقتراح ورفضه، وعندما سلمني رياض الصلح شهادتي ومكافأتي. فرّت من العين دمعة لم يكن طعمها مراً كالأولى، بل كانت بحلاوة النجاح الباهر بعد الجهد المضني والسهر الطويل.
* * *
… وكنا في كلية المقاصد لا نترك مناسبة وطنية أو قومية إلاّ ونحتفل بها بمباركة وتشجيع من الإدارة والأساتذة، وذات مرة خرجنا لنحتج على "وعد بلفور" وكان هدف مظاهرتنا سراي الحكومة للتأكيد لسعادة المحافظ بأننا لا نقبل بأن يستولي الصهاينة على أرض فلسطين العربية، وكنت أخطب في حضرة المحافظ، مندداً بالصمت العربي، فإذا بشرطي يتصدى لي محاولاً أن يمنعني من متابعة "التهجم" على الدول الشقيقة، وما كاد يقترب مني حتى تصدى له معروف سعد، ودفعه بعيداً عني وخاطبني:
ـ أكمل أكمل ولا تخف.
… ودوّي التصفيـق، تصفيـق الرفـاق، وارتفعـت نبرتي وازدادت حماستي وأكملـت.
أيها الأخوة:
إن شريط الذكريات المقاصدية طويل طويل وممتع كذلك، ولا تحيط به جلسة واحدة كهذه الجلسة الحميمة، لذا فإني قبل أن أختم حرصاً على وقتكم لا بدّ من أن أزجي التحية لهذه المدينة التي أباهي بأني خرجت منها بثروتين:
ـ شهادة علمية وخلقية زودتني بها منارتها المتلألئة على هذا الشط الجنوبي، فكانت لي سلاحاً لا يُفل في مواجهة الحياة العملية، وعاملاً مؤثراً ومؤسساً في تكوين شخصيتي الثقافية والاجتماعية.
ـ والثروة الأخرى، هي تلك الذخيرة من المبادئ الوطنية والقومية التي خزّنتها في وجداني، فوهبتني حصانة في كلا المجالين تعصمني من الانزلاق أو الانحراف.
فتحية لصيدا الغالية. تحية لبحرها الشاهد على الحضارات. تحية لسمتها الجليل كحارس يقظ على بوابة الجنوب. تحية كعبير برتقالها لروحها، لصفائها القومي ونقائها العربي، ونضالها الوطني، تحية للمقاصد، وكليتها…
وتحية لكم جميعاً أيها الأخوة وشكراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) ـ كلمة ألقيت في احتفال مقاصدي عام بتاريخ 27 أيار 1999.