مشروع وثيقة الإصلاح الإداري للدكتور بزري
ندوات /
إدارية- وطنية - طائفية /
1991-07-22
نـدوة حول
مشروع وثيقة الإصلاح الإداري
(مقدَّم من وزيـر الدولة للإصلاح الإداري المحامي زاهر الخطيب)
وذلك في الساعة الرابعة من بعد ظهر الإثنين الواقع فيه 22 تموز
1991، في قاعة محاضرات غرفة التجارة والصناعة والزراعة في
صيـدا والجنـوب.
تسجيـل وتحريـر: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
عرض ونقد ومناقشة
مشروع وثيقة الإصلاح الإداري
للدكتور نزيه البزري
إن مشروع الإصلاح الإداري ـ كما قرأتم في هذه الوثيقة ـ ليس هو المشروع الإصلاحي الأول، بل جرت في السابق محاولات عديدة، ويمكن اختصارها بمحاولات ثلاث. ولكن، في الحقيقة، في السابق وقيل الاستقلال، كانت تجري محاولات، مدة بعد مدة، ويعلن عنها، دون أن يكون هناك حصانة، ويحصل بعض التغييرات وبعض التشكيلات الإدارية، وفي بعض الأحيان لجأوا إلى قضايا جذرية، مثل التطهير وعملية تطهير الإدارة إلى غير ما هناك.
ولكن الإصلاح الإداري بمعناه الصحيح، فإن المحاولة كانت في عهد اللواء فؤاد شهاب. وقد جرت محاولة ثانية في عهد الرئيس سليمان فرنجية. وبعد ذلك جرت أيضاً محاولة للإصلاح قام بها الدكتور علي الخليل تتمحور حول دراسة الإدارة. وقد استمر ذلك إلى أن أسندوا إلى وزير الدولة للإصلاح الإداري، زاهر الخطيب قضية الإصلاح الإداري.
هناك شـيء جديـد، أو شيء لا يأتـون على ذكره أو الحديث عنه، ورد في هذه الوثيقـة، وهو:
أن الإصلاح الإداري ليس مسؤولية الدولة فقط، بل هو مسؤولية وطنية، تخصّ المؤسَّسات والأفراد والبيوت والمدارس والجامعات. فليست القضية قضية مسؤولية فرد بمفرده ولا مسؤولية مؤسَّسة واحدة بعينها، وإنما المسؤولية، في الحقيقة، هي مسؤولية مشتركة. وهو يريد دون أن يذكر هذه المسألة، أن يكون ثمة نوع من التعاقد بين المواطنين والدولة، بالنسبة إلى الإصلاح الإداري. وكلما أخذ المواطنون (والرأي العام) يشتكون (من سوء أوضاع الإدارة)، يطالبون بالتغيير والإصلاح. بمعنى أن اقتراح التغيير والإصلاح كثيراً ما يأتي من قِبَل المؤسَّسات، وكثيراً ما يأتي من جهة الأفـراد. ولكـن في الغالـب فإن الدولـة هي التي تعِدُّ الدراسات اللازمة وتقوم بمحاولات التغيير.
وعلم الإدارة كعلم، فهو حديث العهد ولا يزيد عن الخمسين سنة من حيث الدراسات والأبحاث الجامعية. ذلك أن علم الإدارة، كعلم، يعود الفضل في وجوده وتطوِّره، لا إلى قانونيين أو كتبة أو محرِّرين، وإنما إلى مهندسين الذين هم وجدوا ثمة حاجة إلى وجود علم الإدارة، وهم الذين وضعوا بعض الأسس لإدارات مستقلة، إلى أن أصبح علماً مستقلاً. وحتى في الدول الأنجلو ـ سكسونية، فهو لا يُعتبر من الفنون الثقافية، وإنما من الفنون العلمية. فلهذا السبب، بدل من أن يُقال في السابق B.A، أصبح يقال الآن B.S. وM.S.، بمعنى بكالوريا علمية scientifique في الإدارة، ذلك لأنه كان قد دخل على الإدارة قضايا عديدة من تجهيزات حديثة: كمبيوتر، حاسبات، آلات تصوير، إلخ…
أما الإصلاح، والإصلاح الإداري، في الحقيقة، إنما هو رؤية سياسية، ذلك لأن السياسة كما هي سائدة في المجتمع، تحتاج إلى إدارة، إلى تنظيم إداري، كي يكون لها مجهودها ومردودها. ولكن، أنا شخصياً، أعتقد أن الإدارة، منذ أن وُجِدَ الإنسان، كان يشعر أنه بحاجة إليها. غير أن نشوء الدول، فيما بعد، أضحت الإدارة هي رؤية سياسية لها قيمة، في حين قبل ذلك كانت حاجة اجتماعية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الإصلاح الإداري لا يجوز أن يكون موسمياً، بمعنى أننا نقوم بعملية إصلاحية فترة بعد فترة، ثم بعد مدة من الزمن، نقوم بإصلاح آخر وهكذا… لا، إن الإصلاح ينبغي أن يكون مستمراً ومتواصلاً، ذلك لأن التغييرات في المجتمع أو في الدولة، هي تغييرات دائمة ومستمرة. فعندما يتطوَّر المجتمع ويتغيَّر، ولا تتطوَّر معه الإدارة، فيحصل في الإدارة تخلُّف عن الركب وعن التطوُّر والتقدم. فالإدارة مَهمتها هي الخدمة العامة بالدرجة الأولى: خدمة الوطن وخدمة المواطن.
ثم تأتي الوثيقة ونشرح أسباب الفساد وضرورات الإصلاح: فليس هناك من إنسان إلا ويتحدُّث عن الفساد والرشوة. قد تكون هناك مبالغات، وقد لا تكون. ولكن لمجرد الاستمرار في الحديث عن الفساد والكلام الدائم عنه والمنتشر، فهذا دليل على أنه موجود ومُنتفشٍ. أما الإدارات العامة في الدولة اللبنانية، فإننا كنا قد ورثناها واعتمدناها. مثلاً، اضطراد زيادة عدد الوزارات إلى أن وصلت إلى سبع عشرة وزارة وهناك من يطالب إلى زيادة هذا العدد. وهذه الإدارات العامة، فهي تحتاج إلى إعادة نظر….
ثم هناك المؤسَّسات العامة، وهي مؤسسات بالفعل أخذت مكانها، لأن الدولة لم ترغب في التوسُّع في الإدارات العامة. ولهذا السبب عمَّمت المؤسسات العامة ووضعت لها قوانين خاصة. وهذه القوانين أعطت المؤسسات العامة نوعاً من الاستقلالية، ونوعاً من العمل السريع المنتج لأن الإدارة العامة (أي الدولة) لا تستطيع أن تقوم بالأعمال ذاتها وبالسرعة ذاتها.. ومن ضمن هذه المؤسسات العامة، تأتي البلديات. فأنا أعتقد أن البلديات هي من أهم المواضيع، الذي يجب أن يتطرق إليه الباحث ويبحثه ويتوقف عنده طويلاً، وهو موضوع أساسي يجب أن نبنيَ عليه ديمقراطية هذا البلد: ذلك أنه يدخل في البلديات وفي صميمها، المشاركة الديمقراطية الصحيحة في الشؤون الحياتية للإنسان وللمواطن. وإذا كنا فعلاً نريد أن نبنيَ مجتمعاً ديمقراطياً ونريد أن نعلِّم الناس الديمقراطية الحقيقية، فعن طريق البلديات.
وحول قضايا الاستغلال وإساءة استعمال السلطة، فهي أشياء كثيرة. ولكن هناك شيء وهو أن الإدارة بحالتها الحاضرة يكثر فيها المخالفات السافرة في ما يتعلق بحقوق الإنسان: فلا مساواة بين المواطنين ولا حرية متوافرة. هنا، يجب أن يُعاد النَّظر فيها حتى تتطابق مع حقوق الإنسان. فالمواطن الذي يسعى إلى تأمين عيشه باطمئنان وسلام، فلا يستطيع الحصول على هذه الحياة، الهادئة والعيش بسلام، إلاّ إذا كانت حقوق الإنسان محفوظة له ومُصانة: حقوق أيّ إنسان وفي أيّ مكان: فهناك صفات وقِيَم يجب أن تتحقَّق للمواطن وهي: الاستحقاق والجدارة والمساواة والأخلاق. ولكن، والحق يقال، فنحن رغم كل ذلك لسنا بحالة ينبغي فيها الانطلاق من الصفر، والعمل على إعادة بناء إدارة جديدة، وإنما نحن في صدد عملية إصلاح إدارة موجودة. قد يكون بعض هذه الإدارة صالحاً ويحتاج إلى شيء من "الروتوش" (الترميم)، وبعضها الآخر يتطلب إعادة بناء من جديد. إننا لم نصل بعد إلى هذا الحدِّ، ولكننا ندرس كلَّ جانب من الجوانب على حدة.
إننا نتحدث كثيراً عمّا فعلت الحرب الأهلية وما قبلها بالإدارة العامة من فساد في الأخلاق والرشوة والسرقات، وانتهاكات لحقوق الإنسان، ذلك يعني، بمعنى ما، أننا نريد أن نعود بالإدارة العامة إلى ما قبل الصفر، ثم نعود ونبنيها من جديد. ولكننا في الواقع لسنا نحن في صدد بناء إدارة أو مؤسسات عامة جديدة، وإنما ما نص إليه وما نطمح هو أن نصلح ونصحِّح إدارة عامة ومؤسسات عامة موجودة وقائمة. إن المقصود أنه إذا كانت الإدارة لا تريد ولا ترغب في تحقيق النفع العام والخدمة المستمرة للمواطنين وللإنسان، فإنها ستكون فاشلة. لهذا السبب، في الوثيقة المطروحة للنقاش، تُقدِّم أو تضع عدداً من الأهداف:
1 ـ محاربة الفساد السائد،
2 ـ زيادة الفاعلية الإنتاجية،
3 ـ تخفيف من عرض البيروقراطية،
4 ـ تحديث الآلة الإدارية بإغنائها بأجهزة حديثة، كما أشرت سابقاً: كمبيوتر وغير ذلك.. وأهم من ذلك كله، الاهتمام بالعنصر البشري، لأن مَن سيقوم بهذا الواجب الإصلاحي هو العنصر البشري. ولتأهيل العنصر البشري، فهو يحتاج إلى ثلاث (3) مسائل: (1) تعليمه، (2) تدريبه، (3) الانتقاء (بمعنى حسن الاختيار). والانتقاء، يجب أن يكون سليماً خيِّراً. والتدريب ينبغي أن يكون مستمراً، لأنه لا يجوز أن يبقى الموظف على طريقة واحدة دون تعديل أو تبديل، إذا كانت الإدارة تحتاج إلى تطوير. ولهذا السبب، بما أن الإدارة تتطوَّر، كذلك فإن الموظف يجب أن يتطوَّر معها. والتدريب يجب أن يبقى مستمراً أيضاً….. وإذا لم يكن ثمة حاجة إلى وجود لجان مراقبة موقتة دائمة، ذلك أن مكتب الخدمة المدنية والتفتيش، فهما موجودان، وإن كان يجب تحديثهما حتى يبقى عملها دائماً ومستمراً. وعملية الإصلاح عملية مستمرة، فلا يجوز في هذه الحالة الإكثار من اللجان، ونحن نشكو منها ومن كثرتها..
هذا، ولا يمكن للإدارة أن تسير سيراً حسناً، إلاّ إذا كان على راس كل إدارة مدير كفوء، وفوق المدير، الوزير الذي يرسم السياسة ويتمتع بالحزم اللازم والجرأة والشجاعة الضرورية. فإذا لم يكن هناك حزم كافٍ وتصميم على إنجاح العمل الإداري من قِبَل الوزير نفسه، فإنه يعرقل أكثر مما يفيد… والوثيقة في هذا الصدد تشير إلى أنه في الإدارات العامة لا وجود للتخطيط، لذلك فهي تأكد أهمية إنشاء وزارة من أجل التخطيط. فأنا أوافق على هذه الناحية وليس هناك من دولة في العالم المعاصر الحديث، إلاّ وتضمّ في إداراتها وزارة للتخطيط. ومجلس تنفيذ المشاريع الإنشائية ومجلس تنفيذ مشاريع بيروت ومجلس الإنماء والإعمار، هذه المجالس كانت قد أُعطيت حق التخطيط. ولكن، أعطيت حقَّ التخطيط في قضايـا إنمائيـة وإعمارية، ولم تعط حقَّ التخطيط في الأمور الإدارية ووضع الدراسات والمشاريع اللازمة والضـروريـة. ولهذا السبب، أنا أقول إن وزارة التخطيط لا يجوز أن تتدخـل في ما يتعلـق بالتنفيـذ، وإنما أن يقتصر عملها، كما يدل عليه اسمها، فـي التخطيط، ومن ثمَّ ضمّ هذه المجالس جميعهـا إلى مجلس واحد وهو مجلس الإنماء والإعمار.
ثم هناك قضايا الازدواجية في الصلاحيات بين مختلف الوزارات، مثلاً فإن الأمور التي تتناولها وزارة الصحة تتناولها وزارة الداخلية، وتتناولها وزارة الاقتصاد وتتناولها وزارة الخارجية أحياناً.. وما تتناوله وزارة الاقتصاد تتناوله وزارة الخارجية ووزارة المالية وحتى أحياناً البنك المركزي، يتدخل في شؤون لا تعنيه مباشرة. وهناك في كل المواضيع المطروحة، عيب رئيسي وهو عيب: التنفيذ. النصوص قد تكون جيِّدة وخيِّرة، ويمكن اختصارها، ولكن ما ينبغي الاهتمام به هو تحديث آلية العمل الإداري. وكذلك، العنصر البشري، وهو ما تحدثنا عنه أعلاه، وقلنا إنه هو الأساس في الإدارات. وغير أن هذا العنصر البشري، مهما كان يحمل من شهادات وكفاءات علمية، إلاّ أنه يحتاج إلى عمليات التطوير والتغيير الدائم. فإذن، قضية التدريب وقضية التأهيل، فهما من الضرورات الملحَّة لتطوير العمل الإداري الدائم، ويجب أن تبقيا مستمرتَيْن.
وفي ما يتعلق بالموظف، فإنه محظورٌ عليه الانتماء الحزبي والنقابي. فالقانون اللبناني الذي يتحدث عن الموظف وواجباته، يمنعه من الانتساب إلى الأحزاب أو إلى النقابة. فهذا الجانب من حقوق المواطن، مخالف أيضاً لشرعة حقوق الإنسان. فلا يجوز حرمانه من هذا الحقِّ: فكما هو ينتمي إلى طائفة معيَّنة، فكذلك له الحقُّ أن ينتمي إلى أيِّ حزب (يمارس عمله بصورة قانونية وشرعية). ولكن، لا يجوز له أن يسيِّس الوظيفة. وهناك اقتراحات بأن لا يكون مسؤولاً سياسياً في الحزب الذي ينتمي إليه. فأنا لا أرى ذلك: وقد يكون مسؤولاً كبيراً أو صغيراً في الحزب، فذلك لا يُسقط عنه حقُّ الانتماء الحزبي أو النقابي، ما دام أنه لا يحقُّ له أن يُسيِّس عمله الوظيفي. فأنا أعتقد ـ وأعود وأكرر مرة أخرى ـ أن حقَّ الموظف الانتماء إلى حزب سياسي أو إلى نقابـة، فهذا حقٌُّ من حقوق الإنسان، لا يجوز لنا أن نتخلَّى عن هذا المبدأ أبداً. فهذا حقٌّ من حقوق الطبيعية.
وكذلك الانتساب إلى النقابة: فما دام هناك عمل وربُّ عمل، فوجود النقابة وشرعية عملها والانتماء إليها، يصبح حقاً من حقوق المواطن. أما الإضراب عن العمل، فإنني أعتقد أنه، وبالنسبة إلى الدولة وبما أنها ترعى مصالح عامة ولكل الناس، ولا ترعى مصالح مؤسَّسة بعينها، يجوز الإضراب (والإضراب حقٌ مشروع لكل مَن يعمل)، ولكن الحكومة أو الدولة غير ملزمة أو مجبرة على أن تدفع أجر أيام الإضراب، وذلك حتى يكون المضرب: المعلم أو الموظف أو الطبيب أو المهندس أو العامل، إذا أراد وقرَّر القيام بالإضراب العام، فإن أيام الإضراب غير مدفوعة الأجر. هذا، مع العلم أن الدول التي تسمح بالإضراب مدفوع الأجر أو حتى الشركات في العالم، ليست كثيرة. فيقع بين الفريقيْن نوعٌ من التراضي ويتوقَّف الإضراب.
ولكن حقوق الموظف، فهي تحتاج إلى تنظيم: مثلاً، الإجازات التقليدية: الإدارية والمرضيَّة، فهذا حقٌ من حقوقه. إنما في ما يتعلق بالإجازات المرضيَّة، فهي تحتاج إلى تنظيم. فيجب أن يكون لدى الدولة مؤسَّسة مسؤولية عن صحة التقرير المرضي للموظف. وهناك شيء في الدولة أخّر كثيراً عملية الحزم في الوظيفة، وهو الترقية الحُكْميَّة: كلُّ سنتيْن ترقية وهكذا دواليك. لا، يجب أن تكون الترقية نتيجة استحقاق وجدارة. وأما من ناحية راتب الموظف ومعاشه، فيجب أن يخضع الراتب أو المعاش المقرر لكل مواطن بحيث يكون المواطن في مقدوره أن يعيش بالاعتماد عليه في حالة من الرفاهية يساوي حالة البلد الذي يعيش فيه. فلا يمكن للمواطن اللبناني أن يعيش بمستوى من الرفاهية، كما هي حالة، مثلاً، الياباني أو الأميركي أو السويسري أو السعودي أو الكويتي. وذلك بالنسبة إلى وضعه الاقتصادي وبالمقارنة معه. ولكن يمكن للحكومة أن تؤمِّن له ما يكفي من الحقوق ما تستطيع أن تتحملها في هذا الوطن بالنسبة إلى الدخل العام في الدولة. ولكن الترقية في الوظيفة وفي العمل، فهي تعود إلى الجدارة وإلى الاستحقاق. ولكل عمل، بحسب الجهد، ثوابٌ… وفي ما يتعلق بالراتب، فإننا نحضِّر دراسة وسنصل إلى نتجية قريباً، وذلك لتحسين قيمة الرابت بقدر ما يمكن أن يتحمَّل لبنان بوضعه الحاضر.
ومن ناحية التقديمات الصحيَّة، أكانت تعاونية أو غيرها، كذلك تُدرس عن طريق وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية، وعن طريق وزارة المالية، حتى تصبح هذه التقديمات الصحيَّة في المرحلة الآتية كامنة. ومن ثمَّ ينبغي وضع لها ضوابط حتى لا تُستغل من قِبَل قسم من الموظفين: وهناك ما هو شائع في حاضرنا، وهو تبرير الرَّشوة بسوء الأوضاع الاقتصادية. ولكن الرَّشوة تنبع من القِيَم، من مبدأ القِيَم والأخلاق، فلا تقرِّرها الحالة الاقتصادية. وكذلك الانتماءات: فلا يجوز أن يحوَّر الانتماء، ولا أن يُدفع ثمن الانتماء، بمعنى أنا أخصُّ الزعيم الفلاني أو الوزير الفلاني أو المطران أو المفتي أو أيٍّ كان. فلا يدفع ثمنه الوسيط، فيجب أن يُحظّر كلّ ذلك ويُمنع بتاتاً.. ثم هناك في مشروع الوثيقة، تنظيمات كثيرة تحتاج إلى اختصار وإعادة نظر، فهي متشعِّبة كثيراً.
هذا، ومن جهة أخرى، فلم يتمّ الرأي أو التوافق على إنشاء وزارة للإصلاح الإداري. ولست أدري لماذا، ولكن إلى الآن، لم يتمّ الرأي حول هذا الموضوع. ولكنني، أنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن الإصلاح الإداري ينبغي أن يبقى مستمراً ولا يجوز أن تقوم به وزارة معيَّنة لوحدها. وإنما الإصلاح الإداري تقوم به الإدارة العامة ذاتها، سواءً كان ذلك عن طريق التوجيه أم عن طريق الخدمة وخلافه، أم بما لدى كل إدارة على حدة وفي كل وزارة من اقتراحات إلى غير ما هنالك. في حين أنه إذا أنشئت وزارة للإصلاح الإداري، وقعت في الروتين والبيروقراطية وهي لا لزوم لها. أنا هذا هو اعتقادي ووجهة نظري.
ثم، بعد ذلك، هناك في مشروع الوثيقة، اقتراح إنشاء وزارات عديدة تزيد عمّا هو مطلوب: مثلاً المطالبة بإنشاء وزارة للتعليم والبحث العملي، في حين أننا نحن كنا قد اقترحنا إنشاء وزارة للتعليم العالي والجامعة. ولكن الجميع تقريباً كان قد وافق على إنشاء وزارة للثقافة والشباب والرياضة. أما إنشاء وزارة للبيئة، فلم يحن الوقت بعد، ـ بكيِّر ـ لإنشائها، رغم أهميتها. فيمكن أن تُناط مهماتها وأعمالها بوزارة التخطيط والتصميم في جزء كبير منها، ووزارة الصحة العامة. وحتى تُنشئ وزارة للبيئة مع كل الأهمية لوجودها، إلا أن الوقت سابق لأوانها، خصوصاً وأننا الآن في ظروف الخروج من الحرب وعدم الاستقرار بعد. فهناك مرسوم وزاري، ولكنه لم يصبح بعد قانوناً، وفي الوقت الذي توجد فيه الدولة ضعيفة ومفككة ومهلهلة وهناك أيضاً أسباب عديدة جداً أهمها كثرة الموظفين في الإدارات العامة والذين لا لزوم لهم وفائدة منهم وهناك متعاقدون وأجراء كُثُر، وأجراء في وزارة الإعلام "متعاملون" وأجراء يوميون وأجراء موسميون، إلخ… كما أن سلسلة الرتب والرواتب سلسلةٌ طويلةٌ جداً تصل إلى سبع أو ثماني درجات وهي كثيرة جداً. وكذلك سلسلة التعويضات للموظفين، فيجب وضع قاعدة معيَّنة لحسن توزيعها. هذه المسائل لا يظنَّينّ أحد أنها سهلة أو هينة المنال….
وفي هذا الصَّدد، فإنني هنا أقترح أنه يجب إيجاد في كلِّ وزارة مرشداً أو مُرَشِّداً، وهو الذي له علاقة مع الناس (مع المواطنين)، لا مع الموظفين، وإنما مع الناس: وهم الذين يقولون له للمرشد إننا قدمنا معاملة في الوزارة، فإننا نريد جواباً عليها، فمن الواجب عليه أن يجيب عن طلباتهم. فيجب أن يُدرس هذا الموضوع ويوضع بشكل قانوني ودائم. وإنني كذلك في هذا السياق، كنت قد اقترحت وجود مراقب للإنتاج، ومَهمته الأساسية مراقبة إنتاجية الموظفين، كلُّ في دائرته، وهل إنتاجه يوازي عدد الساعات التي يداوم فيها؟
أما السلطة التنفيذية فيجب أن تُوسَّع في ما يتعلق بالمؤسَّسات والبلديات حتى لا يلتجئ كلُّ مواطن في كل معاملة إلى المركز، فيُختصر من الوقت وخدمة لجهود المواطنين أكثر. كذلك يحضِّر لهذه الناحية القوانين اللاّزمة والضرورية…. أما الرقابة، فلست أدري إذا كنا سنصل إلى زيادتها، ولكن من الأهمية تفعليها، وهناك شروط كثيرة جداً في ما يتعلق بالتفتيش من حيث زيادته أو تغييره حتى لا يصبح بيروقراطياً…. وكذلك التوجيه في الإدارات لخلق تحسين في الإدارات تحسيناً دائماً. كما أنه لا يمكن لأفراد الشعب (للمواطنين) أن يتواصلوا مع الحكومة أو مع الإدارات العامة، إذا لم تُؤدَّ لهم الخدمات الأساسية والضرورية: مياه، كهرباء مستشفى، طبابة، طُرُق، تلفون، مواصلات.
هنا، في هذا المجال، أنا لا أعرف لماذا الدولة اللبنانية، عندما يتوجه إليها الرأي العام مطالباً بتنفيذ هذه القضايا، يكون دائماً جوابها إصراراً على المبادرة الفردية والحرية الاقتصادية. ثم تعود وتأخذ على عاتقها قضايا مهمة مثل: الكهرباء والمياه والهاتف، وتصرُّ على أن تبقى هذه الخدمات العامة ضمن سلطتها. صحيح أن هذه المصالح، من الضروري أن تبقى في خدمة الإنسان، ولكن كانت الإدارة العامة قد فشلت في إدارتها لهذه المصالح الحيوية للمواطنين وتسييرها في الطريق الصحيح.
بالإضافة إلى أن الدولة اللبنانية مهلهلة، مفككة بشكل لم تستطع أن تقوم بأيِّ عملية تغيير وإصلاح. مَن منا مَن لا يعرف أن شبكة مياه بيروت لم تتغيَّر منذ سبعين سنة إلى الآن. فهذا غير معقول. والمياه ملوثة في كل بيروت بسبب اهتراء الشبكة. فالمجلس، يجب أن ينظر في جميع هذه القضايا المطروحة وأن يدرسها: هل يجب أن تبقى هذه المؤسَّسات والمصالح العامة حكومية محض أو أن تكون مشتركة، أو أن يُفتح الباب ويفسح المجال فيها للقطع الخاص؟!…
هذا هو الإصلاح الإداري بوجه عام: أساسه الإنسان، ويجب أن يبقى محوره الإنسان. وطُرُق تطوير الإنسان وتغيره، يجب الاهتمام بها والعناية الكلية من حيث التدريب والانتقاء وحسن الاختيار وتكافؤ الفرص وبروز الإمكانات والكفاءات وفسح المجال الكافي للتعليم حتى يكتسب الموظف ويستوعب جميع التغيُّرات الضرورية. هذا هو ملخص ما طرحه مشروع وثيقة الإصلاح الإداري.