الدكتور نزيه البزري، كطبيب وسياسي - زهير النقوزي
مقابلات /
إجتماعية /
1989-05-21
مقابلـة مع
السيد زهير النقوزي
( في البداية شغيل وفيما بعد صاحب محل نقولات وشوكولاته ومعمل راحة الحلقوم)
التاريـخ: 21 أيار 1989
الموضوع: الدكتور نزيه البزري، كطبيب وسياسي،
مـن خـلال المعـرفـة الشخصيـة
الإشراف والتوجيه: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
س: … متى كانت بدايات معرفتك بالدكتور نزيه البرزي؟..
ج: … الحقيقة أن معرفتي بالدكتور نزيه البزري قد بدأت في الخمسينات. فقد كانت عيادته في المرحلة الأولى من حياته الطبية في المبنى نفسه الموجود فيه محلنا (محل عمه، إذ إنه كان يعمل آنذاك لدى محل عمه، لصناعة الراحة الحلقوم والنقولات وما شابه…)، وذلك في بناية الزعتري قرب السراي (قصر العدل) القديمة، وفي شارع الشهداء السابق. فكانت معرفتي بالدكتور نزيه البزري الأولى كطبيب إنساني، قبل أن أعرفه كسياسي. فأول ظهوره في مدينته صيدا بشكل عام، قد كان في مجال الطب والطبابة والخدمات الطبيَّة، واشتهر شهرة كبيرة، مما أمَّن له رصيداً كبيراً في أوساط الشعب الصيداوي وفسح له مجال دخول الانتخابات لأول مرة.
س: … هل يمكن أن تحدثنا عن بدايات الدكتور نزيه البزري السياسية، وماذا كان موقفك منها، وما هي ظروف تلك المرحلة كما تذكرها؟..
ج: … من وجهة نظري، فإن الدكتور نزيه البزري كان قد دخل مجال السياسة (بمعناها السائد في لبنان) بشكل أو بطريقة عفوية. ولكن رصيده الشعبي بالنسبة إلى مهنته، أعطاه رصيداً في السياسة، كي يكون له مركز جيد. وكان ترشيحه على اللائحة العسيرانية أو ضمن هذه القائمة، التي كانت تضمُّ أربعة عشر (14) مرشحاً ضد لائحة أحمد الأسعد التي كانت تضم نفس العدد ومن ضمنها رياض بك الصلح (ملاحظة: لائحة عسيران لم تكن مكتملة، المسلم السني الوحيد فيها كان الدكتور نزيه البزري، في حين اللائحة الانتخابية الأخرى تضم رياض الصلح وخالد شهاب من حاصبيا…).
وعندما ظهرت نتيجة انتخابات عام 1951، فقد فاز الدكتور نزيه البزري، بالنسبة إلى مدينة صيدا، بعدد الأصوات، على رياض الصلح. أي أن الأصوات تقريباً، على ما أذكر وأعتقد، كانت كما يلي: حصل الدكتور نزيه البزري على 4500 صوت، في حين حصل رياض بك الصلح على 2500 صوت. ولكن صيدا آنذاك لم تكن مفصولة عن محافظة الجنوب التي كانت دائرة انتخابية واحدة. ولأن اللائحة العسيرانية كانت قد خسرت المعركة الانتخابية في محافظة الجنوب، فخسر معها الدكتور نزيه البزري على صعيد الجنوب، في حين أنه كان الفائز في صيدا. وكان رياض الصلح رجلاً سياسياً مهماً ولكن اعتماده على بعض الأشخاص (الزعامات السياسية المحلية) الذين كانوا مكروهين من الناس بشكل شبه إجماعٍ، ممّا أفقده الكثير من رصيده الشعبي. وفي الوقت نفسه، هذا الأمر ساعد الدكتور نزيه البزري على النجاح ضد رياض بك الصلح. (تعليق: من الملاحظ أن دخول الدكتور نزيه البزري المعترك السياسي، هناك إجماع على أنه كان عن طريق العفوية، بل وحتى المصادفة التاريخية السياسية المناسبة. لقد كان وضع صيدا السياسي المحلي، في غاية السوء، قبل أن يغدوَ نزيه البزري ممثلها الشعبي وبالتالي الرسمي، في البلدية أو في التبانة…).
س: … كيف يمكن أن توضِّـح لنا المراحل الأساسيـة التي مرّ بها سياسيـاً الدكتور نزيه البزري؟..
ج: … أولاً، ترشحه ضد رياض الصلح في انتخابات عام 1951. ورياض الصلح رجل الاستقلال. غير أنه وبالنسبة إلى مدينة صيدا، فقد اعتمد على أشخاص أساؤوا له عن طريق إساءتهم لصيدا. فهذه الإساءة المزوجة كانت تصبُّ في مصلحة نزيه البزري، وتأمين رصيد شعبي ضد رياض الصلح فيما بعد. ثم (تغيَّرت الظروف) وجرى ترشيـح معروف سعد ضد نزيه البزري عام 1957. إن الظروف الانتخابية في تلك الفترة كانت ظروفاً تتصل بالمدّ الناصري والقومي العربي وشعارات العروبة والتحرُّر والاستقلال عن الغرب وعن السياسة الأميركية المناصريْن لإسرائيل. وصيدا كانت تعتبر نفسها حقل العروبة والوطنية.
إن الأخطاء التي حصلت والظروف العامة على الصعيد السياسي، التي كانت محيطة بالمنطقة العربية، ضمن هذه الظروف، ظهر معروف سعد في الواجهة السياسية، الوطنية والقومية، وحمل شعارات الناصرية التي كانت طاغية آنذاك على ما عداها. مما جعل له تأييد عارم من الشعب الصيداوي وخاض المعارك الانتخابية ضد الدكتور نزيه البزري على هذا الأساس. ويمكننا أن نقول بكل صراحة ووضوح إن الدكتور نزيه البزري لم يكن من المطبلين ولا المزمرين في هذا المجال، رغم إيمانه العميق بالفكرة القومية العربية التي كانت، حسب مفهومه، لا تتفق مع الأفكار القومية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
إن مفهوم الدكتور نزيه البزري للمد الناصري يختلف عن المفهوم الآخر الذي طغت فيه العاطفة في نفوس الناس. لم يكن هناك من أحد يفسرها تفسيراً علمياً. وأذكر أنني في عدد من المرات اختلفت مع الدكتور نزيه البزري في مواضيع عديدة. وكان يقول لي: إنني عندما أسمع أيَّ فكرة، أُعطي نفسي بعض الوقت وفترة من الزمن وأنفرد في غرفتي، وأفكر في هذه الفكرة. إذا اقتنعت بها أصدقها، وإذا لم أقتنع بها، لا أقدم على تنفيذها أو حتى التحدث بها….
هذا يعني، حسب مفهومه، أنه يجب أن يكون له قناعة بكل عمل يقوم به. وأيام معروف سعد، مع احترامنا واعترافنا له ولا أحد يشك بوطنيته، إلاّ أن لكل مهما طريقتهما في فهمهما للأمور السياسية. فمعروف سعد جاء إلى الزعامة أو تبعه الناس من الناحية العاطفية وأشياء أخرى، ومداخلات خارجية، كانت تساعد في إفشال نزيه البزري وإنجاح معروف سعد. وقد حورب نزيه البزري على أنه "شمعوني"، وإنه مع الغرب، ولكن هذه الاتهامات، حسب وجهة نظري، غير صحيحة ولا وجود لها البتَّة. فهو إنسان عربي وطني بكل معنى الكلمة. وإنما عندما يريد الواحد أن يخوض المعركة الانتخابية، فسلاحه الأساس هو إطلاق الكلام الاتِّهامي ضد خصمه وتحطيمه من خلال إلصاق به الصفات المركَّبة: ابن العائلات الارستقراطية، الاستعلاء والتكبر، مع أنه إنسان مسالم ومتواضع، كل هذه الأشياء من الاتهامات تُقال وتُلقى خُزافاً في سبيل الوصول إلى كرسي النيابة.
كما أن ظروف المعارك الانتخابية في لبنان عموماً وفي صيدا على وجه الخصوص، قد كانت ظروفها السياسية ظروفاً خارجية بشكل واضح. فالشعب الصيداوي، لم يكن هو الذي كان يدير الانتخابات، بل المحرِّك كان يأتي من الخارج، مداخلات خارجية عربية كانت تساعد كثيراً، والذي لا يملك اتصالات أو علاقات خارجية، كان حظه الفشل في الانتخابات النيابية.
س: … لقد ترشح الدكتور نزيه البزري عام 1951 ضد رياض بك الصلح، ولم يكن معروفاً على الصعيد اللبناني ولا الجنوبي. فكيف تفسر استطاعة هذا الوجه الجديد أن يتغلب سياسياً على شخصية وطنية معروفة لبنانياً وعربياً؟… بمعنى آخر أكثر تحديداً: ما هي العوامل التي عملت على نجاح الدكتور نزيه البزري ضد رياض الصلح في هذه الانتخابات النيابية عام 1951، مع كل ما له من علاقات خارجية، على عكس نزيه البزري؟!…. وطبيعي فإن التفوُّق هنا إنما يعود إلى سبب سياسي اجتماعي تاريخي محلي، هل يمكن أن تقول لنا ما هو؟…
ج: … لا يمكن لأحد أن يشك في وضعية رياض بك الصلح الوطنية وحب الشعب الصيداوي له. فقد خاص المعارك الطويلة من أجل الاستقلال وبقي بعده حتى عام 1951 النائب والمتحدث السياسي الأول باسم صيدا. ولكن طوال هذه المدة، كان اعتماده على قوى محلية وشخصيات ليست أهلاً للمسؤولية والمهمة الموكلة لها. فالأهالي في صيدا لهم مطالب اجتماعية وخدماتية وتعليم وعمل، إلخ…! مثلاً: الصناعيون والحِرفيون بحاجة إلى مساكن، وعندما يذهب وفد من هؤلاء الصناعيين إلى بيروت، ربما يقابلهم رياض الصلح وربما لا يقابلهم، وإذا قابلهم يقول لهم أن يتصلوا بفلان في صيدا لحل مشاكلهم، وهؤلاء الأشخاص هم الذين قطعوا صلة الوصل معه وكانوا سبب المشاكل المحلية في المدينة (فهنا يصحُّ هذا القول: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم..). وعلى تراكم السنين، أصبح هناك نقمة عارمة على سياسة رياض الصلح من خلال هؤلاء الأشخاص واعتماده الكلي عليهم في حل مشاكل البلد. ورغم قيامه بعدد من المشاريع: شق شارع رياض الصلح، العلقة، المستشفى الحكومي، أوتيل طانيوس ـ صيدون، إلخ… إنما بالنسبة إلى مطالب الناس الحياتية والمعيشية، فلم تُلبَّ كما يجب. فمالك المصنع، مثلاً، أخذ ينقم عليه، لأنه لم يساعده. وهكذا، فقد تراكمت الانتقادات والاعتراضات حتى جاءت الانتخابات النيابية، فأثر ذلك كله في مجرى ظروفها وأحداثها ونتائجها.
وهنا، في هذا المجال، يجب ذكر خدمات الدكتور نزيه البزري الطبيَّة والإنسانيَّة التي كانت له بمثابة رصيد شعبي فيما بعد. في عام 1951، عندما كان عادل عسيران يسجل المرشحين، اختار من بين الحضور والوجوه البارزة الدكتور نزيه البزري. ففي تلك الفترة، كانت النقمة متفاقمة ضد سياسة رياض الصلح، والناس بصورة عامة كانت ضجرة، متأففة من تلك الأوضاع، خصوصاً أصحابَ المؤسساتِ التجاريةِ والصناعيين، ومن ممثليه بالذات في صيدا. فأتى الظرف المناسب مع مجيئ الدكتور نزيه البزري. وأنا لا أدري كيفية مجيئه وطرح اسمه للترشيح. وكأن كابوساً قد زيح، والناس كانت مسجونة في قمقم وكُسِر أو انفتح هذا القمقم، واتجهت الناس والجماهير إلى الدكتور نزيه البزري. وأذكر أن أول مظاهرة في صيدا ضمَّت حوالي خمسة عشر (15) ألفاً من الجماهير، حسب مصادر الدرك، كانت قد انطلقت تأييداً للدكتور نزيه البزري، أولها عند البوابة الفوقا وآخرها في ساحة النجمة. ويومها كان الأستاذ كامل مروّة موجوداً، وألقى خطاباً حماسياً تأييداً للدكتور نزيه البزري.
س: … في هذه الفترة، مع ظهور الدكتور نزيه البزري، هل بنى علاقات سياسية عامة خارج صيدا؟..
ج: … جاء كمال جنبلاط إلى صيدا، في نادي الرابطة الثقافي، وأقام اجتماعاً ألقى فيه كلمة، اُتخذت فيما بعد كشعار له: "حطِّموا الأصنام الفخارية"، وكان الدكتور نزيه البزري حاضراً في ذلك المهرجان. وبالنسبة إلى المد الناصري، اتخذ معارضو الدكتور نزيه البزري صفة وألصقوها به على أنه "شمعوني". وأذكر أنني ذهبت ضمن وفد شبابي صيداوي شعبي من أهالي صيدا، يتألف من حوالي أربعين سيارة إلى المختارة، أملاً في توضيح موقف الدكتور نزيه البزري السياسي من رئيس الجمهورية، كميل شمعون، رغم معرفته بالدكتور نزيه البرزي ومواقفه السياسية وآرائه وتوضيح له أيضاً الدافع الذي تحياه المدينة، ويجب عليه أن يأخذ بوجهتي نظر الفريقَيْن، لأنه كان على اطلاع على وجهة نظر الفريق المعارض (أي الفريق الناصري في المدينة) وهو، أي كمال جنبلاط، يؤيده. فاعتذر عن هذه المقابلة، مع أننا جئنا من مكان بعيد، وقصدناه على أنه سياسي كبير. وفي عام 1956، كان معروف سعد يتهيأ للانتخابات النيابية المقبلة (تعليق: كان التيار السياسي العروبي الناصري القومي هو الغالب في أيام رئاسة كميل شمعون للجمهورية اللبنانية، مما سهل نجاح معروف سعد، وخسارة نزيه البزري، في تلك الظروف السائدة، آنذاك…).
س: … منذ البداية، لماذا لم يتجاوب الدكتور نزيه البزري ، كرجل سياسي، مع المدِّ القومي العربي في تلك الفترة ومع الموجة العدوانية للغرب ولأميركا صانعة دولة إسرائيل، لماذا لم يتجاوب مع هذا الجو العارم بشكل عام؟..
ج: … كنت مختلفاً مع الدكتور نزيه البزري حول هذه النقطة وكنت أقول له: لماذا لا تفعل كما يفعل غيرك؟.. لماذا لا تمشي في هذا التيار؟… كان أسلوبه من هذه الناحية أنه يعمل بما يعتقد به وأنه صحيح، ولا يمشي بهذه التيارات السياسية العاطفيَّة. وفي أيام الانتخابات، مثلاً، كان هناك أصدقاء كثيرون ويقولون له: إذهب واتصل بفلان وهو يساعدك، اتصل به… فلا يقبل. وأنا شخصياً أعتبرها تعنُّتاً. فهو لم يقبل أن يكون تابعاً لأيِّ دولة، وكان يرفض أن يقف بباب أيِّ سفارة ويُحسب من رحالاتها. نفسيَّته نفسية عزيزة. وهذا يرجع إلى طبيعته النفسية العفيفة والخلقية. فهو لا يحب التزلُّف. ففي الانتخابات يحتاج المرشح إلى دعاية ومهرجانات. ولم يكن لديه آنذاك رصيد مالي ولم يطلب من أحد، وإنما مناصروه ومؤيدوه كانوا يتكفَّلون هم أنفسهم بنفقات الانتخابات والدعاية والمهرجانات وغير ذلك. لم يكن لديه أيُّ ميل للطلب من أحد، أبداً، بل كان رفاقه ومؤيدوه يُموِّنون الحملات الانتخابية. ولكنه، هو، لم يكن ليتمَّ ذلك عن طريق شخصه بالذات، عن طريق الدكتور نزيه البزري. كلمة للحق يجب أن تُقال: هو نفسُه لا يحب ولا يريد الطلب من أحد. (من صفاته الشخصية أن موقفه: عدم طلب المساعدة من أي شخص كان، حتى ولو كان من أقرب المقربين إليه. ويمكن اعتبار ذلك نوع من الإثبات بالبراءة الذاتية وعزَّة النفس، فلنعتبرها كذلك).
نحن كنا مسؤولين عن الدعاية: طباعة بيانات وغير ذلك، ضمن لجنة إعلامية. وهذا كان بحاجة إلى ماديات. فكنا نؤمن نحن أنفسنا، ونجمع من بعضنا البعض، وأحياناً نحتاج إلى بعض الأشياء، فنتوجه إليه، فيجيب دائماً: "أنا، لا تسألوني عن أي شئ، فلا أعرف من الناحية المالية شيئاً ، لا تسألوني!!!… فألَّفْنا لجنة مالية لتغطية مصاريف لجنة الإعلانات الانتخابية ونفقاتها.
هنا، جانب مهم يدلّ على شخصيته في تعاطي العمل السياسي بأسلوب يختلف عن الأساليب السياسية السائدة في تلك الفترة. يعني أن هذا أمر طبيعي في مجتمع أو في أي مجتمع آخر، لأي رجل سياسي، أن يأخذ المبادرة كي يمدّ جسوراً ويبني علاقات سياسية أو حتى مادية، مع قوى لها علاقة أو تأثير بشكل أو بآخر في الواقع السياسي أو في سير الأوضاع السياسية المحلية أو العامة…. هنا، نعود للبداية: إن الدكتور نزيه البزري، لو لم تكن بدايته السياسية عفوية، وكان ينوي العمل السياسي، فلربما كان له اتصالات أو علاقات كثيرة ومختلفة، ونجح أكثر من النجاح الذي وصل إليه. ولكن ولأنه لم تكن لديه هذه الميول السياسية منذ البداية، أفقرته كثيراً في هذا الميدان من رصيده. لقد كان له موقف محدَّد لا يتخطاه.
س: … هذا الموقف المحدَّد سياسياً، هل كان عبارة عن قراءة لسياسة رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون، وهذا الموقف الحيادي بين موقفَيْن سياسيَّين: غربي يتبناه ويقوده رئيس الجمهورية والموقف الآخر العروبي، المعادي للغرب ولأميركا الداعمة لإسرائيل بالذات ولمشاريعها؟… عندما أقف سياسياً موقفاً حيادياً، ألا أقدِّمُ موقفاً مؤيداً للطرف الآخر، المعادي للموقف الأول؟!… ما هو رأيك، كمواطن عشت قراءة الوضع السياسي آنذاك، ألم يكن ذلك إضعافاً لطموحاته السياسية؟..
ج: … إن أخطاء الدكتور نزيه البزري، كثيراً ما كنا نختلف معه بسببها. وهذا الحدث، إنما هو أحد هذه الأخطاء، وكثيراً ما كنا نتجادل معه: مثلاً، لماذا يقبل أن تصفه الناس أنه مؤيدٌ لرئيس الجمهورية (أي شمعوني)، وهو ليس كذلك، فهو عروبي، قومي؟ وكنا نقول له ذلك: لماذا لا تبرز وتفعل كما يفعل غيرك؟!… ولكن كانت لديه وجهة نظر، تختلف عن وجهة نظرنا جميعاً. مثلاً، في جلسة المجلس النيابي لمناقشة مشروع أيزنهاور، وكان هناك معارضة أثناء الجلسة وقدَّم بعض النواب استقالتهم من المجلس النيابي، وهو لم يستقل، وانكفاءه حول هذه النقطة.
س: … لو تصرَّف الدكتور نزيه البزري على خلا ف تصرفه آنذاك، بمعنى أنه لو شارك الجماهير العربية واللبنانية والصيداوية طموحاتها وخطابها السياسي وشارك الركب العروبي، هل في رأيك كانت موازين الانتخابات النيابية الأولى تميل لصالح الدكتور نزيه البزري عام 1957، أو لا؟…
ج: … أنا، من وجهة نظري الشخصية أقول: نعم!!… لو حمل الدكتور نزيه البزري تلك الشعارات، لما تفوَّق عليه معروف سعد. وكنت أختلف معه كثيراً حول هذا الموضوع. مثلاً، كنت أقول له: أنت تمثل الشعب الصيداوي وأنت صورة لهذا الشعب. والآن الشعب كله ضد هذا المشروع، مشروع أيزنهاور أو الفكرة ذاتها، فأنت ولو أنك غير مقتنع أو لست راضياً (عما يجري)، إنما ولأنك تمثل وجهة نظر الشعب وأنت ممثله، فيجب أن تعبِّر عن رأي الشعب؟!… فكان يخالفني في هذا الرأي ولا يتجاوب مع وجهة نظري. (تعليق: في الحقيقة، نزيه البزري، إنسان عقلاني، وأخلاقي، ولا يتصرف أو يعمل انطلاقاً من العاطفة أو المنفعة الشخصية. فهو يفكر كثيراً، والناس والرأي العام والجماهير، إنما هي عاطفية وتفكِّرُ بعاطفتها، لذا لم يتنازل عن رأيه ويتمكن من إقناع الرأي العام الصيداوي برأيه…).
س: … المعارك الانتخابية من عام 1960 حتى عام 1972ـ وجهة نظر تقويمية حول الوضع في صيدا أثناء ذلك!!…
ج: … ما أذكره أن معروف سعد، مثلاً، طيلة تلك الفترة، في الانتخابات وفي كل الدورات، كانت له الشعارات هي نفسها والطروحات ذاتها التي قدمها منذ البداية. وكان يعتمد على هذا الأسلوب وعلى هذه الشعارات والطروحات منذ خوض الانتخابات عام 1957 وحتى فشله عام 1972، مع بعض التغيير، فقد بقيَ هو حامي القومية العربية وحامل شعارات الوطنية، وبقيت الأوضاع على هذه الصورة فترة طويلة. فكان يحارب بها الدكتور نزيه البزري وهي التي أفقدته رصيده.
وفي عام 1972 كانت صناديق الاقتراع داخل البلد ـ صيدا القديمة ـ الأمر الذي كان يساعد معارضي الدكتور نزيه البزري، أي معروف سعد، على النجاح من ناحية الأمن مثلاً، فكان يحدث أعمال عنف من قِبَل أنصار وأتباع معروف سعد، وكان نزيه البزري يرفض الرد عليها بمثلها.
إن الذين يؤيدون معروف سعد يقيمـون بأغلبهم داخل صيدا القديمة، وجماعته وأنصاره، فقد كان لهم مراكز في الداخل. أما مؤيدو الدكتـور نزيه البزري ومع أنهم مسجلون في لوائح الانتخابات داخل البلـد، إلاّ أنهم يقيمـون خارج صيـدا القديمـة. وعندما يريدون الدخول إلى المدينة القديمة يوم الانتخاب، كانوا يسمعـون الكثير من الإهانات والتحرشات، فمنهم مَن كان يمتنع عن الدخول إلى المدينة القديمة أو إكمال عملية التصويت، ومنهم الصبور الذي يدخل ويؤدي واجبه الانتخابي.
ففي عام 1972، أُخرجت صناديق الاقتراع من الداخل إلى خارج المدينة القديمة، إلى شارع رياض الصلح. فأصبح هناك نوع من حرية التحرك والانتقال والإقبال من المقترعين الذين كانوا يُمنعون من دخول صيدا القديمة. ونجح الدكتور نزيه البزري في هذه الانتخابات النيابية مرة أخرى (بعد طول غياب)، ذلك لأن الجو الأمني المريح قد تأمَّن. (ليس فقط هذا، إنما هناك عوامل أخرى لعبت دورها…). فالناس، أثناء وجود صناديق الاقتراع داخل البلد، وخصوصاً مؤيدو الدكتور نزيه البزري، كان عليهم حملاً ثقيلاً وكبيراً. فمثلاً كنت أجلس في مقهى زهرة في صيدا القديمة (حارة الكشك) أيام الانتخابات، أنا وصلاح حنينة، وكنا نسمع إهانات وكلاماً كثيراً. وعندما ينتهي فرز الأصوات، نخرج كالمتخفين. لم نكن مطمئنين على أنفسنا. وعندما أُخرجت الصناديق من الداخل، ربح الدكتور نزيه البزري المعركة الانتخابية، وبخاصة الأصوات التي لم تدخل في الماضي وتصوِّت في البلد. في الخارج، كان للناخب حرية وضع الورقة أو اسم المرشح الذي يريد، بدون ضغط أو إكراه.
س: … ماذا كان رأي الأهالي والرأي العام، عندما أُخرجت صناديق الاقتراع في هذه الانتخابات النيابية لعام 1972 من داخل إلى خارج مدينة صيدا القديمة؟..
ج: … قبل عام 1972، جرت محاولات عديدة لإخراج صناديق الاقتراع من داخل المدينة القديمة، مثلاً، عام 1968، وتحدَّدت وعُيِّنت أماكن الاقتراع والمراكز في الخارج. وجاء "فرمان" من وزارة الداخلية بهذا الشأن. ولكن، في يوم الانتخاب، خرجنا من بيوتنا للتصويت في مراكز الاقتراع المحدَّدة. وفوجئنا بأن صناديق الاقتراع عادت إلى أماكنها السابقة ومراكزها داخل المدينة القديمة. وعندما سألنا عن الأسباب، أجاب المسؤولون الرسميون بأن قانوناً صدر ليل أمس يمنع ذلك، وعادت الصناديق إلى مركزها السابقة، وكان وزير الداخلية آنذاك سليمان فرنجية. وهذا التلاعب يعود إلى المداخلات السياسية العربية وغير المناطقية المحلية. (بمعنى أن سياسة الدولة وسلوكها كان ضد نزيه البزري).
س: … نزيه البزري، رئيس بلدية صيدا، هل من الممكن أن تعطينا وجهة نظرك الشخصية في هذا الموضوع؟..
ج: … كانت بلدية صيدا، عندما تسلمها الدكتور نزيه البزري، شبه مفلسة. وكان صندوقها أو خزينتها تحتوي على ما أذكر، ستين (60) أو ستمائة (600) ل.ل. الأمر الذي لم يسمح للمجلس البلدي القيام بتنفيذ مشاريع عمرانية ذات شأن أو مهمة للمدينة، اللهم إلاّ إنارة شارع رياض الصلح بالكهرباء. وهذا الإنجاز له ذكرى في نفوس الصيداويين، لأن ليلة الزلزال في صيدا عام 1956، كان اليوم الأول الذي أضيئ فيه هذا الشارع. وحمدت الله الناس، لأنها وجدت مكاناً مضيئاً لتتفقد بعضها البعض، بعدما هربوا من داخل المدينة القديمة.
أما بالنسبة للمشاريع الأخرى، فكانت روتينية، إدارية داخلية. إنما على صعيد مشاريع كبيرة، فلم يحصل أي شئ يذكر. وكنا نقدِّم كثيراً من الاقتراحات العديدة، مثلاً، كمراكز هاتف عمومية ومراحيض أيضاً. وهذا أقل شئ يمكن تنفيذه. وقاموا فعلاً بالتنفيذ، ولكن ليس على المستوى المطلوب. بالإضافة إلى الميزانية القليلة، فقد أمضى المسؤولون فترة طويلة في اتهام بعضهم البعض الآخر، ورد الاتهامات. وعندما نجحت لائحة الدكتور نزيه البزري في البلدية، كانت تضم معروف سعد، فوقع الاختلاف على مَن يكون نائب رئيس البلدية. فاستقال معروف سعد واستقال معه أعضاء آخرون وهم مؤيدوه. وقامت حرب إعلامية واتهامات ورد الاتهامات. فأخذ ذلك فترة طويلة من الوقت المخصَّص لتنفيذ المشاريع والنظر في المسائل الاجتماعية والعمرانية. الميزانية القليلة بسبب الموارد القليلة والمداخيل الشحيحة للبلدية، فقد كانت لا تسمح بإقامة المشاريع الكبيرة. وكان اعتماد البلدية على المساعدات التي تحصل عليها من الدولة، وليس على المداخيل التي تحصل عليها من مداخيلها الخاصة.
س: … في أيهما نجح الدكتـور نزيه البزري أكثر، هل كطبيب أم كسياسي، أم في كليهما؟..
ج: … من وجهة نظري، فإن رصيد الدكتور نزيه البزري، إنما هو في المجال الطبي (الإنساني الاجتماعي). فقد نجح كثيراً في هذا الميدان. لذلك، فإنه كان قد نجح أكثر كطبيب منه كسياسي. ولكن لا يمكن أن ننكر سياسة الدكتور نزيه البزري، وإنما حتى في السياسة، فإن رصيده الشعبي، قد كان مما كوَّنه نتيجة الطبابة، وخدماته الطبيَّة…
س: … ما هي العوامل المساعدة، في رأيك، أو المكوِّنات الأساسية كي يصبح الإنسان في مجتمعنا "رجلَ سياسة" أو زعيماً سياسياً؟…
ج: …في البداية، يجب أن يكون الإنسان مثقفاً ووجهاً معروفاً ومحبوباً من الجماهير والأوساط الشعبية. وله رصيد في مجاله الخاص. وإنما هناك أشياء وظروف يمكن أن تدفعه للمضي في تيارات وخطوات، هو ليس مؤمناً بها. وعندما يصل إلى مركز النيابة أو السلطة فإن تلك تجعله يتخلى عن الكثير من أفكاره ويندفع في تيار يجهل عنه الكثير، كما قلت. ومن وجهة نظري، يجب على الإنسان أن يؤمن بعقيدة أو فكرة ويسير في طريق أو تنفيذ ما ترمي إليه هذه الفكرة وما تريد تحقيقه. وأن لا يتخلى عن أفكاره ولا يتبدل حسب الظروف. لم يكن للعامل المادي دور في صيدا، مثلاً، أو ربما يكون ذلك شيئاً شاذاً. إنما في المناطق الأخرى، أعتقد أن المال والرصيد الشعبي هما العنصران الأساسيان للزعامة… (ربما تكون هنا الإشارة إلى شخصية الدكتور نزيه البزري، حيث إنه، بذكائه مجاراة الناس، كسب الانتخابات ضد معروف سعد، إلاّ أنه طوال حياته لم يتخلَّ عن عقيدته السياسية. وهنا الإشارة كذلك قد تكون هي الأخرى إلى شخصية معروف سعد…).