د. نزيه البزري من خلال المعرفة والتجربة الذاتية- عدنان النوام
مقابلات /
إجتماعية /
2009-03-04
مقابلة مع
الدكتور عدنان النوّام
حـول: شخصية الدكتور نزيه البزري
من خلال المعرفة والتجربة الذاتية
التاريخ: صباح الأربعاء الواقع فيه 4 آذار 2009
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … أودّ في هذه المقابلة أن تحدثني عن شخصية، أنا أهتم بها كشخصية صيداوية بارزة وأقوم الآن بالتحضير لدراسة تاريخية وسياسية ووطنية وثقافية حولها، أعني بها شخصية الدكتور نزيه البزري الوزير والنائب عن صيدا طوال مدة ليست بالقصيرة. وأنت كنت على معرفة وصداقة أكاد أقول حميمة معه، كذلك لفترة زمنية طويلة.
فكيف كانت معرفتك بالدكتور نزيه البزري، وما هي ذكرياتك الشخصية عنه كطبيب وكسياسي في آن، وبالتالي معلوماتك الخاصة عن هذه الشخصية، إذا أمكن، من الجوانب الثلاثة: أولاً، الجانب الإنساني، انطلاقاً من عمله المهني، أي كطبيب في صيدا. الجانب الآخر، وهو الجانب السياسي من خلال معرفتك الشخصية ومعاشرتك له. الجانب الثالث، هو الجانب الفكري، الثقافي بحسب اطلاعك الشخصي وحواراتك معه…
لذلك، دعنا نبتدئ من البداية ـ كما نقول ـ فحدثني عن معرفتك أنت الشخصية إلى الدكتور نزيه البزري، فمتى كانت البداية؟…
الدكتور عدنان النوّام: … لقد تعرَّفت إلى الدكتور نزيه البزري بعد عودتي إلى مدينة صيدا، عند انتهاء تخصّصي في الطب من جامعة القاهرة في مصر في العام 1954. فبعد مجيئي إلى صيدا كطبيب، التقيت به. وكان هذا اللقاء فاتحة للقاءات مستقبلية مستمرة، سواءً كانت على الصعيد الطبيِّ أو على الصعيد العائلي أو علي الصعيد الاجتماعي (وهنا، حصل تشويش في التسجيل بحيث اختفى الصوت كلياً، ثم عاد…) (…)
ولقد مرّ الدكتور نزيه البزري بمرحلة، بحيث إننا نحن من أتي بعده كأطباء صيداويين، لنا عليها بعض تحفظات من ناحية: إطلاق عليه لقب "أبو الفقير". كان الدكتور نزيه (البزري) يسير في طريق أو يتَّبع أسلوباً معتمداً طريقة: "السلام عليكم": ألله يعطيكم العافية، يا حكيم، ولا مَن يقبض، ولا مَن يقبضون"… (يريد أن يقول د. عدنان النوام إن الدكتور نزيه البزري، في مزاولته مهنة الطب، وبخاصة في صيدا القديمـة ولدى الطبقـات الفقيرة والوسطى، وحتى ممَّن هم في يُسر من وضعهم الاجتماعـي، لا يتقاضى بدل المعاينـة الطبيَّـة التي يقوم بها، وحتى من الميسورين سواءٌ دفعـوا بدل المعاينـة أم لم يدفعـوا، سيَّان عنـده…) في الحقيقة، فقد كانت هذه هي البدايـة واستمرت كذلـك حتى النهاية في توجُّه الطبيب نزيه البزري في ممارسته مهنتـه…
د. مصطفى دندشلي: … إذن، هذه هي توجُّهاتـه في مزاولته مهنة الطب منذ البداية. سؤالـي المحـدَّد: هل كان د. نزيه البزري منـذ البدايـة، حسب معرفتـك الشخصية السابقة أو اللاحقـة، ومنذ شبابـه وتعاطيـه مهنة الطب، هل كان لديه ميل (أو طموح) للعمل السياسي، أم قـد كان فقـط توجُّهـه نحو الطـب والاهتمـام بشـؤون الصحـة العامة ومزاولة مهنة الطب لا غير؟!…
د. عدنان النوَّام: … أنا أعتقد ـ طبعاً، أنا لا أعرف بداياته الأولى وقبل أن أتعرَّف إليه كطبيب، كما قلت، عام 1954 ـ وكما عرفت فيما بعد، أنه لم تكن السياسة في برامجه (أي في مخطَّطاته وتوجُّهاته المستقبلية، أي العمل السياسي بمعناه خوض المعترك الانتخابي النيابي أو البلدي). وإنما كان يتعاطى العمل السياسي بمعناه الوطني بداية ضد الانتداب الفرنسي، ومن ثمَّ التوجُّه نحو العروبة والانتماء إلى الفكر القومي العربي، مع مجموعة من المثقفين الصيداويين وعلى رأسهم الأستاذ شفيق لطفي وانتسابهم إلى حزب النداء القومي.
وهنا لا بدّ من إبداء ملاحظة وهي أن نزيه البزري مارس مهنة الطب أثناء الحرب العالمية الثانية وتحديداً في العام 1940، وكانت الساحة السياسية آنذاك "محتلة"، إذا جاء القول، بقوى عائلية سياسية حليفة للانتداب الفرنسي هذا من جهة، وبعد الاستقلال عام 1943، كان الممثل لمدينة صيدا والجنوب رياض الصلح الذي كان يُطلق عليه لقب "بطل الاستقلال"، من جهة أخرى واستمر الوضع كذلك كما سوف نرى طوال مرحلة الأربعينيات من القرن العشرين، ولم يكن لأحد أن يفكر ولو لحظة أن ينافس أو يزاحم هذه الشخصية الوطنية التي استقطبت في صيدا ـ إذ إن حديثنا عن صيدا ـ تأييد الجماهير الصيداوية الوطنية الوحدوية دون منازع طوال النصف الأول من القرن العشرين بكامله. من هنا، كان من الطبيعي أن لا يفكر في خوض العمل السياسي الانتخابـي ـ عدا الوطني طبعاً ـ لا نزيـه البزري ولا غيـره. لذلك، عندما يقول نزيه البزري إنه لم يخطر بباله أن يخوض غمار العمل السياسي عند مزاولته مهنة الطب واهتمامه فقط بالقضايا الإنسانية والاجتماعية، فهو لا شك صادق في ما يقول.
ولكن، فيما بعد، فإن الاندفاع الشعبي تجاهه هو الذي غيَّر مجرى تاريخ حياته وسيَّره في طريق آخر، سياسي، إلى جانب طبعاً مهنته الطبيَّة. (هنا، أيضاً، سوء التسجيل والتشويش بحيث اختفى الكلام كلياً)…. وإنما يبدو أن الجمل من الكلام، التي غيَّبها التشويش، كانت حول ظهوره لأول مرة في الانتخابات النيابية في العام 1951 ضد رياض الصلح في صيدا. وإذا كان قد وقع الاختيار على شخص نزيه البزري، فلأنه لم يكن ليوجد أيُّ شخصية صيداوية أخرى يمكنها أن تحلَّ محله أو أن تلعب هذا الدور السياسي مكانه ـ كما يقول د. عدنان النوَّام.
د. مصطفى دندشلي: … يُقال في هذا المجال إن هناك عوامل خارجية، أي غير صيداوية، سياسية عليا، عدا الدعم الشعبي الذي كان يتمتع به نزيه البزري ويحيطه ويشجعه، هي التي ساعدته بطريقة ضمنية أو حتى سلطوية في معركته الانتخابية في وجه رياض الصلح، فما رأيك في ذلك؟…
د. عدنان النوَّام: … لا شك في أن مَن له مصلحة في أضعاف الشخصية العظيمة، شخصية رياض الصلح، لا بدّ من أنهم كانوا قد لعبوا دوراً في كسر هذه "الشوكة. وقد لعبت هنا أيضاً في صيدا أشياء داخلية، وصراعات سياسية، محلية وخارجية في تشجيع هذا الدور ولربما استدعائه. يعني، وهنا أقول بصراحة متناهية، إن رياض الصلح قد كان يعتمد في صيدا على طبقة (يقصد صلاح البزري وأخوانه عز الدين وأنور وجماعتهم ومَن لفّ لفَّهم) هم الذين كانوا يحكمون أو يتحكَّمون في شؤون البلد وقضاياها الحيوية في ذلك الحين ـ فأنا لا أريد أن أسيىء إلى أحد من الناس. ولكن هذا عامل داخلي مساعد. يضاف إلى ذلك وجود "الخصم" في القصر الجمهوري، وقد كان من مهماته (أو من مصلحته السياسية) أن لا يأت رياض الصلح قوياً في الانتخابات النيابية. ذلك أنه كانت الانتخابات النيابية في السابق بالنسبة إليه (إلى رياض الصلح) نزهة سياحية. فقد يكون قد دفعوا له بطريقة ضمنية وغير مباشرة (بالواسطة) نزيه البزري ليعرقل سَيْر هذه الزعامة الفريدة.
د. مصطفى دندشلي: … هل كـان يعلـم د. نزيـه البزري، آنـذاك أو فيما بعد، أنه في معركتـه الانتخابيـة الأولى ضد رياض الصلح، قد استفاد من الدعم السياسي الذي جاءه من الخارج أم لا؟!…
د. عدنان النوَّام: … لم نكن نتحدث نحن معه في هذه الأشياء قط، بل كنا نعتبرها أشياء خاصة جداً ومن خصوصياته الشخصية.
د. مصطفى دندشلي: … بعد ذلك، وفي العام 1952، دخل المعترك السياسي عَبْر الانتخابات البلدية.
د. عدنان النوَّام: … بعد اغتيال رياض الصلح في العام 1951، أخذ نزيه البزري يفكر في هذه الظاهرة الشعبية التي وضعت فيه ثقتها، وفي هذا الموقع السياسي الذي حلَّ فيه. فأصبح حينذاك هو الزعيم السياسي وليس من زعيم غيره كي يحمل ويتحمَّل هذه المسؤولية. ثم جاءت المعركة الانتخابية النيابية ضد تقي الدين الصلح عام 1953. بطبيعة الحال، فقد كانت الكفّة الشعبية والانتخابية راجحة وبشكل كبير وبما لا يقاس لصالح د. نزيه البزري.
د. مصطفى دندشلي: … لنعد قليلاً إلى السوراء، إذا سمحت، وأنت د. عنان كطبيب، فلا بد من أن يكون لديك معلومات حول هذه المواضيع، عندما جاء د. نزيه البزري كطبيب إلى مدينة صيدا في العام 1940، مَن هم بحسب معرفتك الشخصية، الأطباء المشهورون الذين يمارسون مهنة الطب وفي مختلف الاختصاصات في صيدا؟…
د. عدنان النوَّام: … لم يكن موجوداً من الأطباء الصيداويين المسلمين في ذلك الحين، فيما أتصور، سوى الدكتور رياض شهاب، والدكتور فؤاد عسيران (الذي كان وزيراً في مرحلة الانتداب الفرنسي، ولم يكن يمارس مهنة الطب بشكل عملي في المدينة ولم يعرفه الصيداويون كطبيب…). ومن الأطباء المسيحيين: راشد الخوري (من مغدوشة)، الياس الخوري، حنا الحداد (من روم)، خليل الشامي (من جون)، فتيموس (من دير القمر) الأب والابن. ولكن فتيموس "دخـل" (بمعنى اندمج) في المجتمع الصيداوي وبات جزءاً من هذا الجو الأهلي ومن أبناء صيدا ومحبوباً من الأهالي. يعني، ما أريد أن أقوله هو أن الأطباء في صيدا قد كانوا قلة. وكان رياض شهاب هو الطبيب الصيداوي في حينه واحتل مراكز اجتماعية ووطنية وتربوية في المدينة: مثلاً في جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية وغيرها، وكان له موقع خاص. ولكن لم يكن لديه أيُّ طموح سياسي، بل كانت اهتماماته اجتماعية وطنية ضمن مجموعة من الشباب الصيداوي وعلى رأسهم حينذاك شفيق لطفي. (رياض شهاب كان في مرحلة الاستقلال في قيادة حزب النجادة في صيدا). وكان يظهر في الساحة الصيداوية في المناسبات الاجتماعية (والوطنية).
د. مصطفى دندشلي: … هنا، أريد أن أفتح هلالَيْن لأقول: في فترة من الفترات وتحديداً في العام 1943، عام الاستقلال وبعده، نشأ في صيدا حزب النجادة وكان له جمهوره، فيما أذكر وأنا كنت صغير السن، فما هي معلوماتك حول هذا الموضوع؟.
د. عدنان النوَّام: … لقد صادف، في ذلك الحين، في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، أن امتدَّ نشاط حزب النجادة من بيروت إلى صيدا. وقد كان العنصر الرئيسي في حزب النجادة الأستاذ محمد طه البابا، وإنما الرئاسة الفخرية لهذا الحزب كان يتبوَّأها الدكتور رياض شهاب. ورداً على هذه الخطوة، نشأت منظمة أخرى منافسة تدّعي أنها تريد أن تعيد مجد النجادة ـ أو يبدو أنها كانت قد انشقت عن حزب النجادة الأساس ـ وكان على رأسها زكي طالب ومجموعة من الشباب الصيداوي معه، كانوا قد انشقوا عن حزب النجادة في صيدا وأنشأوا لهم فرعاً آخر تحت نفس الاسم. طبعاً، فقد كانت النجادة، الفرع الرسمي، إلى جانب فريق د. رياض شهاب. ولكن، يبدو أن وراء زكي طالب ومَن دفعه للانشقاق هم صلاح البزري وإخوانه وفريقه، وذلك ضمن الصراع السياسي المحلي.
د. مصطفى دندشلي: … بعـد هـذا الاستطـراد، نعـود إلى متابعـة حديثنـا حول الدكتور نزيه البزري…
د. عدنان النوَّام: … بعد ما سَلَك في درب السياسـة، صار الدكتـور نزيه البزري، في أيِّ مناسبة سياسية، هو في الواجهة. في الانتخابات البلدية، كان رئيساً للقائمة التي فازت بأكملها في مقابل قائمة صلاح البزري وفريقه. وكان نجاح د. نزيه البزري كرئيس لهذا التكتل الانتخابي المحلي، نجاحاً كبيراً وواسعاً. وكان معه معروف سعد وشفيق لطفي وحتى الحزب الشيوعي في صيدا بشخص عبد اللطيف البوبو (أبو عجاج). إن دخول د. نزيه البزري المعترك السياسي، كان قد تأصَّل في نفسه هذا الجو العام والثقة الشعبية بشخصه وهذا النمط من العمل الاجتماعي الجماهيري. فلم يعد يستطيع، ولا بشكل من الأشكال، أن يتخلى عنه، ذلك أنه بات وراءه تيار جماهيري واسع وعريض، واستمر ذلك إلى أن ظهرت ظاهرة معروف سعد بعد أعوام 1956 ـ 1957 (وظهور الحركة القومية العربية بقوة مع بداية نشوء ظاهرة عبد الناصر وتياره الناصري). ومن سوء حظ نزيه البزري في ذلك الحين، أن ظهر خطان (أو تياران) في البلد، في لبنان: التيار الناصري والتيار الآخر وهو الذي كان يسمى بـ "التيار الأميركي" ويمثله في رئاسة الجمهورية كميل شمعون وشارل مالك وزير الخارجية… وظهور قبل ذلك سياسة الأحلاف العسكرية الغربية وآخرها حلف بغداد عام 1955.
ففي جلساتنا معه، كان نزيه البزري يسير في التيار العروبي وفي ركاب الحركة القومية العربية ولم يكن مع الأحلاف الغربية ولا يماشي السياسة الأميركية في لبنان. ولكن، خطأه الوحيد، ربما، هو أنه لم يستقل من المجلس النيابي مع مَن استقال . لقد انسحب من جلسة مجلس النواب عند التصويت على مشروع أيزنهاور، غير أنه لم يستقل رسمياً من المجلس. وفي نقاشنا معه، فكان رأيه ووجهة نظره تتلخص في أنه ما الفائدة العملية والسياسية من الاستقالة من المجلس النيابي اللبناني.
أما في ما يتعلق بالتيارات العروبية والحزبية والقومية العربية، فإنها كانت تُشْعِل الجماهير الشعبية حماسة وتُؤثِّر فيها تأثيراً كبيراً. فهو لم يكن خصماً لها، وإنما هذه التيارات، لأسباب سياسية تنافسية، اتخذته عدواً لها، مع أنه في أحاديثنا معه، أحاديثنا الخاصة، لم يكن مع سياسة حلف بغداد الغربية، ولا مع السياسة الأميركية في مشروعها، مشروع أيزنهاور، ولا يؤيد سياسة رئيس الجمهورية كميل شمعون أو وزير خارجيته شارل مالك. نزيه البزري إنسان لا يُباع ولا يُشرى. أنا أشهد بذلك والجميعُ يشهد له أنه إنسان لا يُباع ولا يُشترى… وكان كذلك طوال حياته.
أما علاقته بالمادة وبالمال، فلا أهمية للمال عنده ولا رغبة له فيه ولا يسأل عنه. فكان مثلاً يعاين يومياً مائة أو مائة وخمسين مريضاً، جميعهم تقريباً مجاناً، القلة القليلة جداً التي تدفع بدل المعاينة، غالباً ما تكون بشكل رمزي. طبعاً الميسورون يدفعون كدعم له، ولكنه هو نفسه لا يطلب شيئاً إطلاقاً. وهذا الموقف تجاه المرضى من قِبَل د. نزيه البزري ما أثّر في وضعنا نحن كأطباء من حيث علاقتنا مع مرضانا.
فكنت تجده دائماً في حارات صيدا القديمة. وزياراته مستمرَّة ومتكرَّرة، مرات ومرّات. وبعد معاينته مريضه، يعود في اليوم التالي لزيارته والاطمئنان عليه. وفي عودته في طريقه، الأهالي يحيّونه ويدعونه لزيارتهم. يعني، ما أريد أن أقوله هو أن الدكتور نزيه البزري من خلال ممارسته مهنته كطبيب، قد أصبح حالة شعبية. فعلاً، هذه الظاهرة لم تتكرَّر ولن تتكرَّر بعفويتها وتلقائيتها، هذه ظاهرة فريدة في الحقيقة. (ومما يزيد في فرادتها أنها كانت تلقائية، عفوية، لم يكن وراءها أيُّ غاية أو مأرب، بل خدمة الناس الطيِّبين، سكان المدينة القديمة، على الصعيد الإنساني ـ الاجتماعي، وذلك ربما تلبية لرغبة ذاتية في نفسه وخُلقه). وهي ظاهرة تحصل في مدينة صيدا بهذه الصورة لأول مرة في ظرف لم يكن هو ميسوراً أو من طبقة الأثرياء أو من "الطبقة المخملية" حتى يستغني عن بدل المعاينة.
طبعاً، لقد كان للدكتور رياض شهاب خدمات أيضاً على الصعيد الطبي والصحة العامة في صيدا، ولكنه، وهنا الفارق، لم يكن متغلغلاً ومتفاعلاً ومندمجاً في الأوساط الشعبية الصيداوية (ولم يكن يتمتَّع بالجرأة والجسارة والإقدام للخدمة العامة، كما كانت حالة نزيه البزري كطبيب). الدكتور رياض شهاب بالنسبة إلى الدكتور نزيه البزري ـ إذا أردنا أن نقيم شيئاً من المقارنة بينهما ـ قد كان كثير التحفُّظ والحذر والحيطة (حتى لا نقول: السَّرْسَبة، وكانت عادته المشهورة غسل اليَديْن بالسبيرتو بعد معاينته أيَّ مريض مهما كان…)، لا يُقبل على مرضاه في أيِّ وقت كان، في الليل مثلاً وداخل صيدا القديمة، بعكس الدكتور نزيه البزري. إلاّ أن د. رياض شهاب قد كان في الوقت نفسه رجلاً وطنياً وعلى رؤوس الأشهاد، وفي المناسبات الوطنية كان في المقدمة دائماً. وأنا أذكر تماماً كان يُحمل في الاحتفالات الوطنية في "الفلوكة" إلى جانب رياض الصلح، أجل، رياض شهاب كان يُحمل إلى جانب رياض الصلح. يعني، كان شخصاً وطنياً ويمثل وجه صيدا الوطني في تلك الأيام. مثلاً في جمعية المقاصد كان دائماً في فترات طويلة رئيسها وطبيبها….
في ما يتعلق بعلاقة نزيه البزري بحزب النداء القومي، فقد كان مناصراً ومؤيداً، وإنما رفاقه كانوا أعضاء في هذا الحزب وعلى رأسهم شفيق لطفي. وكان نزيه البزري يؤيد هذه الأفكار القومية العربية ويتبنَّاها، بل إن صيدا وشعب صيدا يؤيدون هذه الأفكار الوطنية والحركات القومية العربية التي هي صدرت من صيدا: ماذا كان يحدث في الشام من أحداث ونضالات، صيدا وشعبها دائماً السبّاقون في الدعم والتأييد: نحن منبت الفكرة القومية العربية (منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى….). نحن عرب وننتمي إلى العروبة مع سوريا.
وعلى ذكر شفيق لطفي، فإنني أستطيع أن أقول إنه ظُلم، هذا الرجل، في مدينته صيدا ولم ينل ما يستحقه بالنسبة إلى كفاءاته الفكرية والثقافية وعطاءاته واهتماماته السياسية والاجتماعية. شفيق لطفي من المفكرين القلائل في مجتمعنا: بالصمت، مشاكل صيدا كلها كان يجد لها حلولاً بالصمت. وكان يؤدي الخدمات لكل مَن يطلب منه خدمة، إن كان في مقدوره القيام بها. وأنا، مرة قال لي: أنا أتحدّى أن يقول واحد من صيدا أنه كان قد دفع لي قرشاً واحداً لقاء خدمة حقوقية، وذلك طوال السنوات التي خدمت فيها في صيدا، أنا ـ أي شفيق لطفي ـ أتحدّى أن يُقال إنني قبضت قرشاً لقاء خدمات قضائية أو قضايا حقوقية قام بها مكتبي…
في الحقيقـة، شفيـق لطفـي لم يأخذ حقَّـه في صيدا. ثم، إنه كان من الشخصيات القليلة جداً التي شاركت في مؤتمر الساحل عام 1936 وكان دائماً هو على رأس هذه الشخصيات الصيداويـة، وهو مؤتمر له تاريخ مفصلي في تاريخ لبنان، والذين حضروا معه الشيخ سليمان ضاهر، الشيخ محمد رضا، والدكتور رياض شهاب والحاج علي البزري والشيخ أحمد عارف الزين (أنظر الكتاب: الحركة الوحدوية في لبنان (ص 177 و219) حيث بعض الأسماء الصيداوية). وشفيق لطفي كان المحرك الأساس في كل التحركات السياسية والمقاصدية في صيدا. (وأنا أذكر تماماً أن الشاعر موسى الزين شرارة قال لي مرة: عندكم في صيدا شخصية فريدة من نوعها ونادرة في تفكيرها وبالغة الأهمية في رؤيتها للقضايا وتحليلها للأمور، هي شفيق لطفي، فكيف لا يكون زعيماً عندكم ولديه كل المؤهلات ليكون رئيساً للوزارة).
د. مصطفى دندشلي: … بعد أن تعرَّفت إلى الدكتور نزيه البزري وتوثَّقت هذه العلاقة وكنت تزوره وتلتقيه يومياً في منزله، فكيف يمكنك أن تصف لنا شخصيته؟
د. عدنان النوَّام: … أولاً وقبل كل شىء، إنك تجد هذه الشخصية قريبة إلى القلب، بمعنى أنك رغماً عنك ستُحبُّها. لا تكلُّف في سلوكه إطلاقاً، والعلاقات بينه وبين أصدقائه وأصحابه، إنما هي علاقات محبة واحترام وتقدير متبادل ولا فوارق من أيِّ نوع كان: مثلاً، أنا، عبد الله البيضاوي، بشير المجذوب، معين الزين وغيرنا أيضاً. فكانت نظرته إلينا كأننا أخـوة له، ندخل إلى بيته في أيِّ وقت كان ونتصرَّف وكأننا في بيوتنا حقيقة دون كلفة أو تكلُّف أو اصطناع. إنك تشعر أن هذه الصداقة الحميمة التي تجمعك به، كأنك أنت تعاشره وتعيش معه من سنين طويلة جداً. هذا، ويضاف إلى ذلك أن "البيت مفتوح". مساءَ كل يوم، صيفاً وشتاءً. وكان بيته بالنسبة إلينا منتدى فكرياً وسياسياً واجتماعياً حيث إننا كنا نجتمع عنده.
د. مصطفى دندشلي: … ما هي هوايات د. نزيه البزري؟..
د. عدنان النوَّام: … والله، نزيه البزري رجل مثقَّف. ولغاية أيامه الأخيرة في ممارسته الطب، كان يطالع ويقرأ كثيراً أحدث الاصدارات للكتب الطبيَّة الجديدة. فأنا، مرة، كنت قد فوجئت بهذا الأمر وهذا الاهتمام. استمر يقرأ المجلات والكتب الطبية حتى آخر أيامه، عندما قل اشتغاله في الطب ومعاينة المرضى في عيادته، لقد دوام على مواصلة الاطلاع على آخر الاكتشافات الطبيَّة الحديثة. وكان يقرأ باللغة الإنكليزية ويتابع ما يستجد في الطب. هذا، عدا طبعاً قراءاته كتب التاريخ والدين الإسلامي والسياسة والحضارة العربية. (مثلاً، أنا أذكر أنه كان يقرأ ويتابع آخر كتابات محمد عابد الجابري وسجاله مع جورج طرابيشي…). بكلمة واحدة، كان يقرأ كثيراً ويومياً وبخاصة قبل النوم.
لقد كان ينطبق عليه صفة رجِل مثقف، بمعنى أنه على اطلاع بما يجري من حوله. لم يكن فقط طبيباً، وإنما أيضاً رجل فكر وثقافة ومعرفة. (وكتاباته ومحاضراته تدل على ذلك بصورة واضحة). والذين يعملون في السياسة عندنا في أكثريتهم الساحقة لا يقرأون وليست لديهم الثقافة التي هي عنده. فهو على اطلاع دائم على كل ما يصدر من جديد سواءٌ في الطب، في السياسة، في التاريخ، في الحضارة العربية والقومية العربية، إلخ.. وعلى اطلاع دائم على ما يجري في مصر، في العراق، في سوريا وفي كل مكان من المنطقة العربية.
د. مصطفى دندشلي: … بعد هذه الجولة العامة، أريد أن أنتقل إلى أن تحدثني من خلال معرفتك الشخصية، عن مرحلة مهمَّة هي أيضاً، ذلك أنه بعد الانتخابات النيابية لعام 1972 ونجاحه فيها، عاد إلى النيابة وأصبح ممثلاً لمدينة صيدا. بعد هذه الفترة، اندلاع الحرب الأهلية في لبنان بدءاً من صيدا مع اغتيال معروف سعد عام 1975، ثم وقع الاجتياح الإسرائيلي للجنوب ولبنان عام 1982 إلى أن وقعت حرب شرق صيدا عام 1985… سؤالي: ما هي ذكرياتك الشخصية عن هذه المرحلة، وما يهمنا هو دور الدكتور نزيه البزري أثناءها؟…
د. عدنان النوَّام: … إننا نلاحظ أن الدكتور نزيه البزري طوال هذه الفترة أخذ ينضج أكثر فأكثر سياسياً بصورة واضحة، لا شك في ذلك. في انتخابات عام 1972، عاد وأصبح نائباً عن صيدا. وبعد ذلك، لم تحصل الانتخابات النيابية طوال عشرين سنة متتالية. فبات الدكتور نزيه البزري مكرَّساً نائباً لخمس دورات نيابية متتابعة. إنما خلال هذه الفترة، كل الانتقادات والخلافات السياسية والاتهامات السابقة، كان قد محاها وانتساها وحذفها وتجاوزها بموقفه الوطني الصلب والمواجه (وذلك بالتفاف كل القوى الوطنية والقومية واليسارية والهيئات الاجتماعية في المدينة حوله، وبمواقفه الوطنية، انطلاقاً من مواجهته سياسياً ووطنياً وشعبياً الاحتلال الإسرائيلي والقوى اللبنانية المؤيدة والداعمة له من حزب الكتائب إلى القوات اللبنانية، مروراً بالتجمُّعات المحلية المساندة لهما). في هذه المرحلة، فقد ظهرت وطنية د. نزيه البزري بأجلى مظاهرها الحقيقية ومعانيها من خلال مواقفه في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان وللجنوب ولصيدا بالذات، وذلك أيضاً من خلال التصريحات والمؤتمرات الصحفية والاجتماعات المتكررة في منزله، ودعمه بالتالي للمقاومة بجميع صورها وأشكالها.
وهنا لا بد من أن نشير ونؤكد على ذلك، أي أن الموقف الوطني في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، كان قد كرَّسه أكثر فأكثر وثبَّته كزعيم وطني جماهيري في صيدا والجنوب ولبنان حتى، أكثر من المراحل السابقة. (كل القوى السياسية دون استثناء ومن جميع الاتجاهات بما فيها التنظيم الشعبي الناصـري والحزب الشيوعـي وكل التيارات الدينية، الإسلامية والمسيحية في صيدا والمنطقة وعلى رأسها مفتي صيـدا والجنوب الشيـخ محمد سليم جلال الدين والمطران إبراهيم الحلو، كانت جميعها تلتفُّ حوله وتعقد اللقاءات في غالبيتها في منزله… هذه الأحداث وقبلها ومنذ اغتيال معروف سعد، وبعدها أيضاً على وجه التحديد، كانت ـ كما يؤكد د. عدنان النوّام ـ قد كرَّست د. نزيه البزري زعيماً غير منازع لصيدا والجوار، فغدا المرجع السياسي الرسمي والشعبي، والناطق باسم الرأي العام الوطني المحلي…).
على سبيل المثال فقط وفي هذا السياق، لا بدّ من إبداء هذه الملاحظة وهي أن د. نزيه البزري إنما هو النائب الوحيد في الجنوب، الذي بقيَ في مدينته صيدا طوال فترة الاجتياح الإسرائيلي للجنوب، يجاهد ويناضل سياسياً ووطنياً وغطاءً أو وسيلة لتهريب السلاح والذخيرة إلى المقاومين. (وهي أشياء معروفة لمن عايشها وهو على اطلاع على الأمور الخطيرة آنذاك…). فأنا أذكر عندما قلت له: ألا كنت تخشى على نفسك من أن يحدث لك مكروه أو أمر خطير في ظل الاحتلال الإسرائيلي عند عودتك من بيروت إلى مدينتك صيدا في الأيام الأولى، فكان جوابه: "ماذا تريدني أن أفعل: فأنا ملزم أن أكون بين الناس، وبين شعبي هنا، مهما كانت النتائج".
النائب الجنوبي الوحيد الذي تابع من الجنوب بالذات، الشرح والدفاع عن القضية اللبنانية في الخارج وكان يدلي بتصريحات الاستنكار وفضح أعمال جيش الاحتلال من صيدا ويدعو إلى الانسحاب غير المشروط، هو الدكتور نزيه البزري. وكلنا يذكر أنه تعرَّض لمحاولات اغتيال عديدة، كما كان منزله مستهدفاً مرات بالصواريخ، وبقيَ صامداً لا يحيد ولا يتزحزح عن موقفه. (طبعاً، يجب تحديد تاريخ هذه الاعتداءات ومحاولات الاغتيال، وذلك بالعودة إلى الصحافة اللبنانية، وهناك لا شك بعض الصور…).
د. مصطفى دندشلي: … بل، وبالإضافة إلى ذلك، عندما لم يحالفه الحظ في الانتخابات وتكون النتيجة ليست لصالحه وتشتد الخصومات حوله وضده عنفاً وقساوة، لم يغادر أيضاً صيدا قط ولم يتركها. بل، كان يشارك مشاركة أحياناً فعالة في الأحداث الخطيرة التي تقع في صيدا، وكان يلتقي مع نائب صيدا آنذاك معروف سعد جنباً إلى جنب. ولديَّ صورٌ كثيرة تثبت ذلك. مثلاً، في أحداث عام 1958، التي كانت تدعى "الثورة اللبنانية"، كان الالتقاء متواصلاً وهو يقوم بمهامه بصورة متواصلة كطبيب مداوم…
د. عدنان النوَّام: … الحقيقة، ما يشهد للدكتور نزيه البزري هو أن أعمال العنف اللفظي والشعاراتي والانفعالات السياسية التي تصل إلى أقصاها أثناء الانتخابات، كله يذهب أدراج الرياح ويُنسى وينتهي كل شىء في الأيام القليلة اللاحقة. (يضاف إلى أنه هو بطبعه لا يحب العنف ولا يحبِّذه ولا يرضاه لنفسـه، لا العنف اللفظـي ولا الجسدي، لا المعنوي ولا المادي. هذه طبيعة في نفسه وفي شخصيته وفي تكوينه الخلقي…) وكان كل ما يهمه ويعمل من أجله هو مصلحة صيدا، أمن صيدا، استقرار صيدا، ولو على حساب شخصه.
د. مصطفى دندشلي: … أودّ لو نُلقيَ ضوءاً على بعض الصفات الشخصية والاجتماعية الأخرى لدى د. نزيه البزري. لقد تحدثنا عن هواية القراءة وإدمانه عليها، هل هناك هوايات أخرى بحسب معرفتك: مثلاً رياضة: مشي، سياحة أو غير ذلك.
د. عدنان النوَّام: لا، لا، هذه الهوايات تحتاج إلى وقت لممارستها، وهو ليس لديه ذرَّة من الوقت كي يصرفها على هذه الهوايات. ولكنه، كان يحب لعب طاولة الزهر، كل يوم مساءً كان يلعب "الطاولة" مع فريق صغير يزوره باستمرار. فأذكر أنني قلت له مرة: لماذا هذه الرغبة لديك وهذا الميل والاهتمام بلعب "الطاولة". فأجابني: .. "إنني ألعب طاولة الزهر كي أنسى كل شىء، ولا أفكر في شىء. فهذا ـ وأشار إلى رأسه ويعني عقله ـ يتعطَّل ولا يُشغل نفسه بأيِّ شىء. فإنني عند ذاك أفكر في "نقل الأحجار" فقط، وهذا ما يريحني مدة ساعة أو ساعتين من الزمن"…. فهو يقول لي ذلك بمنتهى التهذيب والصدق واللياقة.
وبالمناسبة: إنه مهذب جداً. فأنا لم أسمع منه كلمة سوء أو لفظة نابية واحدة بحقِّ إنسان. فمن حيث الخُلقية، كان خلوقاً إلى أبعد الحدود. أما وضعه المادي، فكان، كما نقول: "كسَّاب وهَّاب". وعلاقاته العائلية وبخاصة مع زوجته، كانت حميمة، صادقة، مخلصة. فقد كان يحترم أشد الاحترام والدته وزوجته وأخته، ويكنُّ لهن معزَّة خاصة لا توصف.
أما من حيث الذكاء، فهذا واضح في جميع مراحل دراسته وحياته حتى النهاية. فقد كان متفوِّقاً بصورة واضحة. وكذلك يظهر ذكاؤه في ممارسته مهنته كطبيب، وهذا مشهود له من الجميع. إنه ذكي لا شك في ذلك، ويظهر ذلك ليست فقط فيما ذكرت، وإنما أيضاً في تحليلاته السياسية والفكرية والاجتماعية والتاريخية. من هنا تأتي ثقافته الواسعة ورؤية آفاق المستقبل وبُعد نظرْ، كما نقول.
والأهم من كل ذلك أنـه كان "نظيفاً"، وذا تجربة غنيَّة، ولم "يُصانع" أو "يُداهن" أو يكذب. ولقـد مورسـت عليـه إغراءات كثيـرة، فلم يخضع لها. وكنا نسمع من كبار السن وهم يتساءلون: … "يا أخي، كيف يعيش هذا الإنسان، وهو الطبيب الناجح؟!.. فكان يأتيه كثيرٌ جداً من "التبرعات" (أو الهدايا) ومن كل الأصناف والأنواع من أصدقائه ومحبيه ومؤيديه.… الجميع يعلم ويتساءل: ماذا كانت تدرّ له عيادته؟!.. تقريباً، تقريباً لا شىء يُذكر بالنسبة إليه: مع بيت مفتوح، والتطبيب مجاناً، وفي بيته يومياً، الأكل والشرب لمن هم موجودون عنده.
فضلاً عن ذلك وفوق كل ذلك: عزَّة النَّفس عنده. مثلاً، أنا في فترات طويلة كنت رئيساً لجمعية المقاصد ولمجلسها الإداري، فلم يطلب مني أيَّ طلب مهما كان. وحتى أنه لم يتدخل في شؤون جمعية المقاصد ولم يُعرف عنه يوماً أنه تدخل في شؤونها من هذه الناحية أو تلك. وأنا في هذه الفترة وكنت في المقاصد، عشتها وأعرفها تماماً. فكان الاعتقاد السائدة والمسلَّم به أن جمعية المقاصد هي لشعب صيدا وليست لفئة معيَّنة واحدة تتحكم بشوؤنها.
(يعود الحديث عن موقف د. نزيه البزري في فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان وللجنوب وموقفه "البطولي" في مدينته صيدا. فكان موقفاً وطنياً مقاوماً للاحتلال العسكري، يعبِّر تعبيراً واقعياً وممارسة عن أفكاره ومبادئه القومية العربية والوطنية. ولقد كان صدامياً على الصعيد الوطني والسياسي مع الإسرائيليين. ويضيف د. عدنان النوّام قائلاً: إن هذا الموقف الوطني المقاوم هو أكبر دور وطني وقفه في حياته. وهذا ما أبرز دوره أكثر من أيِّ شىء آخر وأظهره أمام الرأي العام ليس فقط الصيداوي أو الجنوبي، وإنما أيضاً اللبناني. وهذا الدور الوطني فاق جميع الأدوار الوطنية والسياسية التي لعبها وقام بها في السابق. أنا شخصياً أوقفني الإسرائيليون، وكان برفقتي يوسف الشماع، أكثر من عشر ساعات وأُخذت إلى مدرسة الراهبات حيث مكان الاعتقال، وهناك جرى التحقيق معنا، والتهديد والتخويف بجميع الوسائل الإرهابية، أنا الطبيب… في حين أن الدكتور نزيه البزري وقف موقفاً وطنياً صلباً، مقاوماً في وجه جيش إسرائيلي عدواني مجرم. وقد جرى تفجير بيته ومحاولات اغتياله، ولكنه لم يتراجع ولم يَخَف أو يخفِّف من عنف تصريحاته وبياناته ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو في صيدا، في عقر داره، كما نقول…….