تاريخ وتطور جمعية المقاصد الخيرية - سعد الدين حشيشو- ملف دكتور بزري
مقابلات /
تربوية /
1986-11-19
مقابلـة مع
الأستاذ سعد الدين حشيشو
تاريخ المقابلـة: 19 تشرين الثاني 1986
المـوضــوع: تاريخ وتطور جمعية المقاصد الخيرية
الإسلامية في صيدا من خلال التجربة الذاتية
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
س: … ما هي المرحلة التاريخية أو البدايات الأولى التي نشأت فيها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا؟
ج: … نتمنى أن نكون ملمين بحقيقة الوضع، فذلك مهم بالنسبة لصيدا وللمجتمع الإسلامي. لقد كان هناك، حسب ما قيل لنا، والٍ من الولاة الأتراك، تبدو نفسيته من أنظف النفسيات التي مرت في أيام السلطة التركية، وهو مدحت باشا. وآنذاك كانت الولاية قد انتقلت من صيدا إلى بيروت. وهذا الوالي كانت لديه نزعة إصلاحية إسلامية، فأسَّس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت وأوحى لصيدا بتأسيس أيضاً جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية فيها.
في ذلك الوقت، كان يوجد لَجنة اسمها "لجنة حسبة صيدا"، مَهمتها حلّ كل المشاكل والخلافات والدعاوى التي تقع في المجتمع الصيداوي. فعرَفَت هذه اللَّجنة بتأسيس جمعية المقاصد في بيروت. فكان من الطبيعي أن تجري اتصالات بخصوص هذا الشأن. وكما فعل مدحت باشا بالتوجيه في بيروت، قام بنفس الشيء مع صيدا ووهب لجمعية المقاصد أرضاً أو مكاناً الذي هو نفسه اليوم المكان (أو العقار المقاصدي) الموجود حالياً على "ضهر المير" أي كلية المقاصد.
وهذا المكان، كان مستشفى للحكومة التركية. كما وهب الجمعية أيضاً قصراً قديماً يُقال قد كان لآل حمود الذين أتوا من المغرب، أو كان لسواهم. وهذا المكان الذي هو مسجل باسم الدولة التركية، بالإضافة إلى مدرسة للبنات، وهبته الدولة التركية لجمعية المقاصد.
والذين أسسوا جمعية المقصد كانوا من وجهاء صيدا في تلك الفترة مثل: الحاج إسماعيل القطب والحاج محي الدين حشيشو ومُنح بك الصلح الذي كان من معيّة الوالي، وكان لديه تأثير فعّال من حيث مساهمته بتأليف جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت وصيدا.
وقد تأسست جمعية المقاصد سنة 1296هـ. أي منذ حوالي مئة وأحد عشر عاماً. أما الأساتذة الذين كانوا يتولون عملية التدريس فيها، فهم من المشايخ مثل: الشيخ يوسف الأسير، سليم البابا. وهذا الشخصان لم يطل بقاؤهما في صيدا، بل انتقلا إلى بيروت وعلّما هناك. وقد كانا من أوائل الأشخاص الذين علَّموا في جمعية المقاصد في صيدا. ومن الأساتذة أيضاً الشيخ عبد الحميد القواص والشيخ كامل الكردي والشيخ مصطفى الشريف والشيخ صالح خروبي.
وبنشوء هذه المدرسة تولدت لدى المجتمع الصيداوي عاطفة قوية من أجل تنميتها والنهوض بها. وقد كانت هذه المدرسة في البداية مدرسةً ذات اتجاه ديني للمحافظة على القرآن الكريم والعلوم الدينية، وبدأت تترقى وتتحسَّن تدريجاً ومع تطوُّر الأيام، إلى أن نهض بها عبد الرحمن البزري.
س: … بداية جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، كانت ولا شك ذات اتجاه ديني، وذلك كردة فعل في مواجهة انتشار المدارس التبشيرية التي أنشئت في تلك الفترة، متى برأيك بدأ الاتجاه العروبي؟
ج: … في السنين التي تحوَّلت فيها جمعية المقاصد إلى أن تكون مؤسسة، أصبح هناك اتجاه علمي عربي. وفي ذلك الوقت، لم يكن أمام الشباب الذين يودون متابعة تحصيلهم العلمي الراقي، إلاّ الدراسة في استنبول. كما كان يوجد دار للمعلمين في بيروت تخرَّج منها عدد من الشباب، ولكن الأشخاص الذين كانوا راقين علمياً وثقافياً ووصلوا إلى درجات علمية راقية، هم الذين ذهبوا إلى استنبول.
في ذلك الوقت، كان قد بدأ التوجيه لتأسيس الاتجاه (أو الإرهاص) الفكري العربي في الجامعات التركية نفسها. وأسباب ذلك هو أن تركية كانت متجهة لتتريك العرب لكي ينسوا عروبتهم. فكانت ردة الفعل بشأن هذا الإجراء قوية جداً. فتأسست "جمعية العهد" من أعضائها في ذلك الوقت المرحوم رياض الصلح ـ عفيف الصلح ـ شكري القوتي، بالإضافة إلى زعماء من سوريا.
وهذه الجمعية حضنها عبد الكريم الخليل (من ضواحي بيروت) وكان أكبر الأعضاء سناً وأقدرهم انطلاقاً في الخطابات. من هنا، نستطيع أن نعرف كم هي قيمة اللاطائفية واللامذهبية التي كانت تقود هذه النخبة المهمة من المثقفين سواءٌ من سوريا أو لبنان حيث لم يكن يوجد شيء اسمه في ذلك الوقت لبنان، بل كان اسمها "برّ الشام". وكانت الفكرة العربية هي في أساسها مقاومة السلطة التركية وسياسة التتريك، وذلك للاستقلال بالبلاد العربية تحت راية الشريف حسين، بهدف حتى تكون البلاد العربية بلاداً مستقلة وعاصمتها مكة المكرمة، كما كانت على زمن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
وهذه الفكرة العربية التي كانت قد انبثقت في ذلك الوقت، تلقيناها من أساتذتنا. وأذكر أن محمد طاهر المغربي كان قد قال لنا (الأستاذ محمد المغربي تعلم بالمدرسة العسكرية وتخرج ضابطاً مع داود الديماسي) وبحكم تعليمه التاريخ، قد قال لنا كيف كانت العلاقة بين الضباط العرب والضباط الأتراك، وكم كان يوجد من تحدّي من قِبَل الضباط الأتراك ضد الضباط العرب، حتى أصبح هناك روح كره من الضباط العرب للدولة التركية.
فقد أخذت هذه الفكرة من اهتمامنا الشيء الكبير، على الرُّغم من أنه كان يوجد في ذلك الوقت قضية تأسيس لبنان وتركيبة لبنان الطائفية وتسلط الفرنسيين. وهذه القضية، القضية اللبنانية، كانت تثير النعرات الدينية. وفي ذلك الوقت، كنا في بداية نشأتنا، وكان من الطبيعي أن نتَّبع الأشخاص الذين يتبنَوْن الفكرة العربية وننقاد إليهم، ومما يزيدنا حماسة أن هذه القضية اللبنانية، كما قلت، كانت تثير النعرات الدينية. وكان المرحوم رياض الصلح على رأس الأشخاص مع رفاقه في بيروت والشام، والجميع كانوا في تلك الفترة نبراس روحِ حماسٍ تأييداً للفكرة العربية حتى وصلت إلى سنة 1936.
في سنة 1936، صار هناك نوع من طلب الوحدة العربية. ولكن في ذلك الوقـت كان يوجد أشخاص (فرقاء) يخافون من طلب الوحدة السورية بأن يكون هناك اتجاه طائفي معيّن معادٍ في المقابل، مثل أن تكون ضد المسيحيين، مما يحدو بهم ذلك للقيام بالمتصرفية المسيحية. وكان، في ذلك الوقت، ذلك الاتجاه، وعلى رأس المعتدلين كاظم الصلح، وهو يريد أن لا نتطرق إلى شعار الوحدة السورية حتى يتقبل الفريق الآخر المسيحي الفكرة العربية.
ففي تلك الفترة ومن شدة حماسنا، كنا نجيب بأنه يجب علينا أن نقيم ونرفع عرائض نطلب الوحدة السورية، فأتى الذين هم أكبر منا سناً وأخبرونا بأنه جرى اجتماع في بيروت وحصل خلاف بشأن وجهة النظر هذه. فأخبرناهم بأننا سنرسل وفداً من قبلنا إلى الشام وذلك لنعرف بأنه هل صحيح يجب علينا أن نتوقف أم نستمر في دعمنا لهذه الفكرة، فكرة الوحدة السورية. (الوفد كان يضم رفيق حنينة وحبيب نحولي ولا أدري إذا كان أديب زيدان).
س: … نحن الآن في فترة تأسيس جمعية المقاصد، فما هي معلوماتك، من خلال ما سمعت من كبار السن، حول المعاهد التي كانت موجودة في صيدا، مثل المعاهد الخاصة والمعاهد الدينية والمعاهد التركية؟
ج: … كان في العهد التركي، حسب ما كنا نسمع، "مدرسة الرشدية" وهي تعطي شهادة عليا في أيامنا، حتى صف البريفيه. وعندما ينتهي الطالب من هذه المدرسة، كان يتابع في بيروت بدار المعلمين. ثم مدرسة الفرير التي كانت موجودة في محلة بوابة الفوقا. في نفس المكان، ثمة مدرسة كانت تدعى مدرسة الرشدية سابقاً. ولم تكن الفرير موجودة سابقاً هناك ولا أدري كيف وضعوا (الفرير) يدهم عليها، وما هو السبب؟ قد يكون ضغط فرنسي مثلاً؟ وكان مديرها (الرشدية) في السابق تركي، وبعد ذلك أتى محمد علي حشيشو ليتولى إدارتها، وهو شاعر ومتخرج من استانبول من مدرسة دار المعلمين.
ومن المدارس الخاصة مدرسة الأميركان ومدرسة أخرى هي مدرسة تبشيرية دينية، ولا أدري إذا كانت مدرسة المطران التي يسمونها مدرسة الكاثوليك قد كانت موجودة في ذلك الوقت، ولكن في أيامنا كانت موجودة.
س: … أين كانت المدارس الدينية الإسلامية في تلك الفترة، أي فترة تأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية؟ وكيف كان أبناء المسلمين يتعلمون الدين الإسلامي واللغة العربية؟
ج: … لم يكن هناك مدارس، حسب ما سمعت، ولكن كان يوجد كتّاب للفتيات وكتّاب للفتيان. فقبل أن تأسس جمعية المقاصد، كان التعليم يُقتصر على القرآن الكريم والدين الإسلامي. وحسب ما سمعت أيضاً أنه كان يتم تعليم القرآن الكريم في جامع أبو نخلة. كما كان هناك شيخ من آل الزين وهو الشيخ أحمد الزين يعلم في جامع القطيشية. وبعد أن تخرج والدي من الأزهر، علّم في جامع السراي نحو العشر سنوات. فقد تخرج على يديه معظم مشايخ صيدا (اسم الوالد الشيخ كامل حشيشو) فقد تخرج من عنده الشيخ أبو الخير القواص، ثم تابع علومه في جامع الأزهر الشريف والشيخ محمد علي حشيشو الذي تعلم عند والدي أصول الدين والشيخ عبد الفتاح البابا والشيخ رشيد حمود والشيخ سليم حمود. وهذه المدرسة كان اسمها "مدرسة جامع السراي"، في ساحة "باب السراي". وقبل أن يعلم والدي في جامع السراي، كان يوجد لدينـا أرض في جنينة "تربة العسكر" (تقع في محلة بوابة الفوقا، والآن تجاه كنيسة الطائفة المارونية)، علّم فيها في البداية، ثم انتقل بعد ذلك إلى جامع السراي بعد أن كثر عدد الطلاب.
س: … هل كان هناك معاهد إلى جانب المعهد الديني (أي المعاهد التي تعلم الدين الإسلامي)؟
ج: … لا نستطيع أن نسميه معهد ديني، نستطيع أن نقول عنه إنه مكان معيَّن يتمُّ فيه تعليم الدين الإسلامي، كإلقاء دروس دينية أساسية. على ما كنت أذكر، كان هناك الشيخ أحمد عارف الزين والشيخ محي الدين عسيران ووالدي الذي يعلم أصول الدين الإسلامي على المذهب الحنفي والشافعي. فعلى كل، بداية النهضة العلمية تأسست بتأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية حيث بدأت النهضة العلمية والإسلامية والعروبية. وتخرج من المقاصد أشخاص كثيرون، ولكن ليس بدرجة علمية كافية، واستمر ذلك حتى وصل الوقت بتعيين الأستاذ عبد الرحمن البزري، وكان متخرجاً من دار المعلمين.
س: … سؤال توضيحي عن الشيخ مصطفـى الشريف، هل لديك فكرة عنه، أين تلقى دروسه وكذلك عن الشيخ مصطفى لطفي؟
ج: … الشيخ مصطفى لطفي من تلامذة والدي، تعلم اللغة العربية والدروس الدينية عنده. أما عن الشيخ مصطفى الشريف، فلا يوجد معلومات لديّ عنه.
س: … قيـل لي بأنه كان هنـاك نـوع من معهد ديني بالجامع العمري الكبير ودرَّس فيه الشيخ مصطفى الشريف.
ج: … الشيخ مصطفى الشريف، لم يكن من الأساتذة المتعمقين (في الدين الإسلامي أو اللغة العربية). علمنا ونحن صغار، لذلك بقي يعلم الأولاد الصغار حتى تخرجنا من المقاصد. ولكن، كإدارة كان رجل إدارة، صارماً ومُوجِّهاً، والجميـع كان يحبه ويقدره، خصوصاً أنّ لديه روح المرح، ولا شك خدم خدمة جليلة وطويلة.
س: … إذن، نأتي الآن إلى الحرب العالمية الأولى.
ج: … في الحرب العالمية الأولى، كان يوجد مدرسة المقاصد ومدرسة الرشدية، ولا أدري إذا كان الأميركان لا تزال مستمرة في التعليم أم توقفت، لأنني أنا دخلت المدرسة عام 1920، ومن مواليد 1914، دخلت بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى. ومن أساتذتي الشيخ بشير الجوهري وخليل السعودي ومحمد المجذوب. وبعد أن كبرنا أتى محمد طاهر المغربي وداود الديماسي، ومصطفى لطفي الذي علمنا اللغة العربية. وبعد ذلك انتقـل مصطفى لطفـي من المقاصد إلى مدارس الحكومة، وأتى بعده فعلمنا اللغة العربية عبد الرحمن البزري.
وعلينا أن نذكر قيمة المرحوم الأستاذ عبد الرحمن البزري كإدارة صارمة في ذلك الوقت، حيث كان يوجد جوٌ من الفلتان في تصرفات وسلوك الطلاب، وذلك بسبب الحرب وما ولدته من فساد بعد انتهائها. فكان يعاقب الطلاب عقاباً صارماً في حال مخالفتهم للأنظمة. وقد علمنا عبد الرحمن البزري اللغة العربية والقواعد (النحو والصرف) وقسماً من الأدب العربي مثل الأدب قبل الإسلام والأدب أيام الأمويين والعباسيين، أي نبذات عن الأدب العربي في مراحله المختلفة. وعلمنا التاريخ والجغرافيا محمد طاهر المغربي والحساب العالي الشيخ داود الديماسي.
والحقيقة، أن هؤلاء الأشخاص قد أفادوا جمعية المقاصد إفادة عظيمة في ذلك الوقت. وكان أسلوب التعليم على منهاج مدارس التجهيز في الشام، وليس على منهاج التعليم في مدارس لبنان. وكما قلت، كان هناك مدارس في مدينة صيدا التي هي ما زالت تعتبر جزءاً من سوريا وليس صيدا ـ لبنان. والذين تخرجوا قبلنا ذهبوا رأساً إلى دراسة الطب والحقوق في الشام. ونحن في ذلك الوقت معظمنا مثل نزيه البزري (!!)، نزار الزين (ابن الشيخ أحمد عارف الزين) ومحمد البزري (أخ شريف البزري الذي كان أستاذاً في ذلك الوقت)، فذهبنا إلى مدرسة الفرير لكي نقوّي لغتنـا الفرنسيـة. ولكن من صفنا لم يذهب أحد إلى الشام. وعندما أنهينا تعليمنا في مدرسة الفرير، لم تعد شهادتنا مقبولة في الشام باعتبارها لا تُعِدُّ الطلاب لنيل شهادة بكالوريا، أي شهادة ثانوية في ذلك الوقت.
ومن زملائـي أنيـس السوسي ـ سامي كالو ـ نزيه البزري ـ محمد هاشم البزري ـ يونس التقي (وأظن أن الجَدَّ الأصلي بغدادي، لأنه كان اسمه يونس البغدادي) ـ سليم المجذوب، والذين تابعوا دراستهم هم الدكتور نزيه البزري وأديب البزري والباقون لم يتابعوا الدراسة، فبقوْا على شهادة المقاصد.
س: … في تلك الفترة التي كنت فيها في مدرسة جمعية المقاصد، بتقديرك كم كان يبلغ عدد الصفوف وتعداد التلاميذ؟
ج: … أظن أن عدد الصفوف يصل حتى عشرة صفوف، وفي الصف الواحد كان يتواجد حوالي 30 ـ 35 طالباً. ولكن في الصفوف العالية، كان يقلّ العدد ويتواجد في الصف الواحد حوالي 14 ـ 15 طالباً، وذلك لأنه في صيدا، حسب ما كنا نرى وحتى الآن، كان يوجد فقر منتشر في المدينة والذين كانوا يتابعون تحصيلهم العلمي هم قلائل، أي المقتدرون الميسورون مادياً، ولكن لم يكن الفقر المادي هو السبب الأساسي، بمعنى أن الأهل لا يستطيعون أن يدفعوا أقساط التعليم، وإنما الفقر بمعنى احتياج الوالد لعمل ابنه (فعبد الله البساط قد تخرج معنا وكان الثاني في صفه ولم يتابع دراسته، وذلك بسبب حاجة والديه إليه). وقد كانت مدرسة جمعية المقاصد في ذلك الوقت هي بمثابة جامع شامل للصيداويين وذلك للاتجاه إلى العلم الصحيح.
س: … نلاحظ من خلال الأسماء التي طرحت، أي أسماء الطلاب في تلك الفترة، بأنّ الذي كان يلتحق بمدرسة جمعية المقاصد حينذاك، لا نريد أن نقول إنه من الميسورين، إنما من "المرتاحين" مادياً، وهذا بالنسبة إلى الذين تابعوا تعليمهم؟
ج: … لم يكن ذلك شرطاً بأن يكون الطالب من الطبقـة الميسورة ماديـاً، لقد كان يوجد من جميع الفئات (مثلاً أنيس السوسـي كان والـده متوسط الحـال تماماً وتعلم). ولكن يظهر أن الذين تابعوا تحصيلهم العلمي حتى حصلوا على الشهـادة العاليـة، كان آباؤهم من الفئة الميسورة، والذين توقفوا عن متابعة تعليمهم، لأن الأب كان يحتاج لعمل ابنه والاستفادة من عمله. من أجـل ذلك كانـوا (التلاميـذ) يبدأون في الصف الواحد حوالي 30 ـ 40 تلميـذاً وينتهـون حوالي 12 ـ 15 تلميذاً. ويوجد منهم من لم يستطع أن يتابع تحصيله العلمي، مثل عبد الله البزري. وأحمد البني ترك أيضاً المدرسة، على الرُّغم من أن والده الحاج إبراهيم البني كان ميسوراً وكان يستطيع أن يتابع تحصيل ابنه العلمي وكذلك مصطفى جلال الدين ابن أحمد جلال الدين لم يتابع أيضاً علمه.
لا نستطيع أن نقول بأن اليُسر هو المساعد أو العامل على "تكميل" العلم، ولكن أنا أوعز هذا الشيء إلى حاجة الأهل لعمل أولادهم. (ملاحظة: والوعي عند الأهل والرعبة في متابعة دراستهم). عودة إلى جمعية المقاصد: لقد كان لهذه الجمعية فضل كبير، ويجب أن نذكر بالخير المرحوم محمود الشماع الذي تولاها عام 1936 ونهض بها نهضة جيدة حتى وصلت إلى ذروتها، وخاصة بعد أن تدنَّى مستوى العلم وتقهقر في جمعية المقاصد ولم يعد من الممكن الحصول على شهادة السرتيفيكا. ومدارس جمعية المقاصد الآن بشكلها الحالي هي نتيجة جهد هذا الشخص المقتدر، ولكنه ترك عمله بعد أن أصبح هناك خلافات حزبية، فترك عمله في المقاصد، وأصبح يتوالى شؤونها أشخاص مثل منيف لطفي وعبد المجيد لطفي من صيدا والباقون هم إما من طرابلس أو بيروت.
س: … برأيك ما هو السبب في ذلك؟
ج: … لقد كان اقتراحي دائماً لإخواننا في أعضاء الجمعية أنه، نحن في صيدا، يجب علينا أن نترك موضوعاً مهماً كهذا، فيجب علينا أن نطلب من مصر أو الشام بأن ترسل لنا مديراً، لأن الشام ومصر لهما تخصُّص في إدارة المدارس. وأنا عندما كنت في رئاسة الأوقاف، أرسلت رسالـة إلى المؤتمر الإسلامي وكان الرئيـس هو السـادات في ذلك الوقت، أرسلت رسالة أقول فيها إن المسلمين في لبنـان هم مرابطون، واقفين بوجه التيار الذي هو خصم للعروبة والإسلام في التوجيه، سواءً أكان ماروني أم فرنسـي. لقد كان هناك توجيه فظيع، ففي وقتها فتحت الجامعات المصريـة أبوابها، والذين ذهبـوا إلى مصر من صيدا وتلقوا التعليم فيها، هم كُثُر وذلك بفضل جهد عبد الناصر(؟؟). صحيح أنهم أرسلوا إلينا أساتذة وبأرخص الأثمان، وذلك لأنه يوجد حساسيات حزبية في صيدا، ويجب أن نطلب من مصر أو من سوريا أن ترسل لنا مديراً.
س: … لقـد كان يوجـد في صيدا مدرسة المقاصد، وكانت هذه المدرسة تستقبل مختلـف أبنـاء العائـلات الصيداويـة ومن شتَّى مستويـاتهـا الاجتماعيـة، لا شك في ذلـك. ولكن هل كان هنـاك أبناء عائلات أخرى تتلقى العلم في مدارس أخرى كالفرير والأميركان؟
ج: … الأميركان كان معظم طلابها من آل عسيران والخليل ومن آل ظافر حشيشو. في ما يتعلق بالتعليم الفرنسي نجيب الزين أكمل تعليمه في الفرير الكاثوليك ومن ثم تابع تحصيله العلمي في مدرسة "الشيخ عباس" ثم حصل على معادلة شهادته. والذين هم من خارج صيدا (أي من خارج مدينة صيدا القديمة)، معظمهم كانوا يتابعون دراستهم في مدرسة الأميركان: معين الزين ونزيه البزري ولطفي جوهري وأبناء شماع (درسوا في مدرسة الأميركان).
س: … إننا نجد بأن هنالك تقسيماً: قسم من العائلات الصيداوية المرتاحة مادياً، أي "البرجوازية" من السنة، كان أبناؤهـا يدرسون في الأميركان والطبقات الوسطى فما دون، كانوا يتجهون إلى المقاصد، فما هو رأيك؟
ج: … ليس إلى هذا الحد، لقد كان الاتجاه الكبير في الدرجة الأولى إلى مدرسة الأميركان ومن بعدها مدرسة الفرير في الدرجة الثانية، لأن الفرير كانت مدرسة متعصبة مسيحياً أكثر وكانت تابعة للدولة الفرنسية. وكان هناك كره للدولة الفرنسية في صدور الناس (فمثلاً عثمان الزين تخرج من الفرير وأخوه معين تخرج من الأميركان).
س: … ألا نستطيع أن نقول إنّ الطبقات الوسطى وحتى الميسورة إجمالاً، كانوا يتجهون إلى المقاصد، هل نستطيع أن نقول ذلك؟
ج: … قد يكون ذلك، ولكن لا نستطيع أن نقول إن ذلك هو مئة بالمئة، نستطيع أن نقول إنه كان هناك نوع من الغيرة بين الطلاب، فإذا ذهب واحد إلى الأميركان يذهب الآخر أيضاً. يوجد شيء من الغيرة ومن الوضع المادي (اليسر) أيضاً، فمثلاً في مدرسة الفرير كنا ندفع 8 ليرات عثملي، وفي ذلك الوقت كان المبلغ ضخماً. وبعد ذلك لاحظنا بأن ابن "المية ومية" وابن "عين الدلب"، كيف يستطيع أن يدفع له والده 8 ليرات عثملي؟… فكانت النتيجة التي علمنا بها هي أن مدرسة الفرير لا تأخذ من ابن القرية المسيحي أقساطاً مدرسية، وإنما كانت تأخذ من المسلم. ولم يكن يوجد هناك مدرسة تعلم اللغة الفرنسية مثل الفرير، كما لم يكن يوجد مدرسة مثل الأميركان تدرّس اللغة الإنكليزية والأميركان كانت أقساطها عالية أيضاً.
س: … هل كانت مدرسة المقاصد على أيامكم مجانية؟
ج: … نعم، لقد كانت مجانية صرف، ولم تلجأ إلى أخذ الأقساط المالية نسبياً وبالتدريج، إلاّ بعد أن بدأ يرقِّيها ويحسِّنها محمود الشماع. فحتى سنة 1936 كانت مجانية، والتحسين كان بحاجة لمادة مالية، وإيرادات المقاصد (صحيح أنه كان لديها عقارات كثيرة) كانت بسيطة جداً، ولا يوجد مال من أجل تعمير واستثمار هذه الأراضي إلاّ في المدة الأخيرة. فمدرسة الشمعون القديمة، تمّ بناؤها على شكل بناية عظيمة (عمارة المقاصد). وهناك هذه العقارات الهائلة العظيمة الموجودة للمقاصد يجب أن تعمّر وتستثمر لرفع مستواها، مثل قطعة الأرض التي وهبها عمي للمقاصد، فأقيم عليها مدرسة عائشة.
س: … هل لديك معلومات عن تداخل السياسة المحلية في شؤون المقاصد؟
ج: … مرّت فترة من الزمن وكانت فترة عصبية، تدخلت السياسة المحلية بالمقاصد، وهذا ما حصل أيام محمود الشماع (أي أيام الانتداب الفرنسي)، حيث أخرجوه بالقوة من إدارة المقاصد. وفي تلك الفترة، كان هناك أشخاص أخذوا يتحكمون بصيدا (بدعم من سلطة الانتداب الفرنسي وبحمايتها) وهم لا يمتون للعروبة بأية صلة ولا يهمهم لا العروبة ولا الترقي، وإنما وضع اليد على صيدا، وبالتالي على جمعية المقاصد بأية طريقة…
كان الاتجاه السياسي في الدولة اللبنانية اتجاه لإبعاد الأشخاص الذين هم مفيدون للمجتمع، خصوصاً في المناطق الإسلامية. فأيام رئاسة إميل إده للجمهورية، وهذا ما يجب أن يعرفه كل مسلم، كان اتجاهه صليبي وذلك في سنة 1936، وأيّ جهة متصلة اتصالاً وثيقاً بقيادات عربية وطنية، فيجب وضع حد لذلك. ومن سوء الحظ في ذلك الوقت، كان هناك جماعة قبلوا بالتوجيه الصليبي، بمعنى التوجيه الخفيّ ضد تكتل البلد مع رياض الصلح. وكان الجيش والجندرمة والكيان الحكومي ضد أيّ شخص يؤيد رياض الصلح ويمشي معه في مسيرته. وفي ذلك الوقت، اتجهت الأنظار لوضع اليد على كافة الأمور، ومن جملتها جمعية المقاصد. وكان محمود الشماع من خيرة الشباب الوطني في المدينة. فكان يجب إزاحته من مركزه في جمعية المقاصد، فدخلت جماعة إلى كلية المقاصد وسيطرت على الجمعيـة، وهي موعز إليها من قِبَل أشخاص معينين، وأخرجوه منها بالقـوة وسلموها لجماعة أخرى (فقد كان اتجاهه اتجاه حماسي عظيم من أجل نشل المقاصد وترقيتها).
وكان شفيق لطفي من أقـارب صلاح البزري، على الرُّغم من ذكائه الكبير وفهمه العميق لكافة الأمور، قد سيطرت عليه الحزبية، فوقـع الخلاف بينه وبين رياض الصلح. وهذا الخلاف، مفتعل والمقصـود منه الصراع على السلطة المحلية حتى لا تتجه اتجاهاً عمرانياً صحيحاً.
س: … ما هو الخلاف بيـن رياض الصلح وشفيـق لطفـي أو العكس بين شفيق لطفي ورياض الصلح؟
ج: … فقد كان الوضع في البداية اتجاه صلاح الدين البزري ورهطه مع إميل إده رئيس الجمهورية وحليف الانتداب الفرنسي، ورياض الصلح هو خصم إميل إده، وعلى معرفة جيدة بأفكار إميل إده الذي لا يتورَّع عن أيّ عمل ضد أيّ منطقة إسلامية. ففي الوقت الذي حصل فيه الاستقلال، وكان الاستقلال قد حصل على يد الرهط الذي يترأسه رياض الصلح والقوى العربية التي كان محتكاً بها جيداً، فوصل رياض الصلح إلى مركز رئاسة الوزارة في أيام الشيخ بشارة الخوري. وبشارة الخوري كان ساقطاً فيما مضى في النيابة وكان على خلاف مع إميل إده. وبكفاح رياض الصلح مع المسيحيين، ترجحت كفة بشارة الخوري وأصبح رئيساً للجمهورية بفعل تدخلٍ وتأثيرٍ قويٍّ من رياض الصلح مع القوى العربية في ذلك الوقت.
ومرت فترة قُويَ فيها الشيخ بشـارة الخـوري، والسلطة في الدستور اللبناني، كما هو معلوم، لرئيس الجمهورية، فلم يعد باستطاعـة رياض الصلح بأن يفعل الشيء الذي يريده، أي تنفيذ البيان العربي المتقدم، فاصطدم ببشـارة الخـوري واستقال من مركزه، أو بمعنى أصح، أقيل، فأتوْا من بعده بالشيخ عبد الحميد كرامي والد رشيد كرامي . وهو رجل دين ذو قلب مفتوح، وليس لديه تجارب بالمخطط المرسوم. فاستلم الحكم وكان وزير الخارجية هنري فرعون وكانت كل الدولة في بداياتها الأولى، في ذلك الوقـت، حتى كادت المناطق الإسلامية أن "تفرط" (تزول).
فالتوجيه الصليبي كان له مفعول كبير، فأيّ شخص يترقَّى ويكبر ويقوى من المسلمين، يجب إيقافه. وإذا لم يتمّ التمكُّن من إيقافـه، فيجب إنهاء حياتـه السياسية. وهذا ما حصل مع رياض الصلح. فكان لذلك الوضع نتيجة في صيدا على الصعيد السياسي المحلي. فرياض الصلح ضعف بفعل التوجه الصليبي الماروني. فأتى إلى الحكم أشخاص لم يكونوا يحلمون بهذه المراكز مثل صلاح البزري، وهو رجل أميّ بالكاد يعرف أن "يمضي" (يوقِّع) اسمه ولا يفقه شيئاً من أمور رئاسة البلدية، وبعد ذلك أصبح نائباً لصيدا. فكل هذا كان من تأثير ومفعول الصليبية المارونية.
من هنا ونتيجة هذا الصراع السياسي على السلطة، انتقل إلى صيدا، وهذا الصراع على السلطة انتقل بدوره إلى المقاصد وضعفت كثيراً. ففي وقت من الأوقات، كان عبد المجيد لطفي يتولى إدارتها. فهذه المرحلة كانت أضعف المراحل التي مرت بها المقاصد، وذلك بسبب الحزبية القاتلة.
س: … ما هي أسباب الخلافات التي حصلت في مدرسة الفرير؟
ج: … من أسباب ذلك هو أنه خلال شهر رمضان، كان الطلاب المسلمون يقومون بنظام صيام رمضان حسب عادة المسلمين، وذلك من خلال تخصيص وقت للحضور على السحور، ووقت للفطور. فرفضت مدرسة الفرير تخصيص وقت معيَّن ومخصوص لهذا الشهر. فثار الطلاب وأخبروا أهاليهم. فاجتمع الأهالي مع بعضهم البعض للتشاور في هذا الأمر وتحمسوا لبناء طابق ثانٍ في مبنى كلية المقاصد وفي مدرسة فيصل الأول، التابعة للجمعية. فأصبح الأهالي يتبرعون حتى وصلت التبرعات إلى إمكانية بناء وتجهيز ثماني غرف. وهذا الحماس انتقل رأساً إلى شيء عملي، وأتوا بمهندس فوضع خرائط وبدأوا بعد ذلك بالبناء. فمنذ ذلك الوقت، اتجه محمود الشماع الاتجاه الصحيح، فترقت كلية المقاصد وأصبحت تزيد كل سنة صفاً.
تعليق الدكتور مصطفى دندشلي: بمعنى آخر، إن تطوّر المقاصد من مدرسة ابتدائية مجانية إلى مدرسة ثانوية داخلية، كان هناك مناسبة: وهو الخلاف الذي حصل بين أبناء صيدا المسلمين وإدارة مدرسة الفرير، ممّا ولّد حماساً عند أهالي صيدا، فحصلت ردّة فعل كانت لمصلحة جمعية المقاصد. ومن هنا، فيما يظهر، فإن محمود الشماع قد ترك مهنته، المحاماة وانتسب كلياً للمقاصد، وتفرغ لها (وهذه حادثة تاريخية مهمة).