الحالية السياسية في صيدا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها - صلاح البابا- ملف دكتور بزري
مقابلات /
سياسية /
1984-04-02
المقابلة الثالثة مع
الأستاذ صلاح طـه البابـا
تاريخ المقابلة: 2 نيسان 1984
المـوضـوع: الحالية السياسية في صيدا قبل الحرب
العالمية الثانية وبعدها
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
س: … أستاذ صلاح (طه البابا)، قبل أن ندخل في الحديث عن الانتخابات النيابية، أودُّ لو نعود قليلاً إلى الوراء ونتحدَّث عن مرحلة الأربعينات من الناحية السياسية ودور الأستاذ معروف سعد في هذه المرحلة؟
ج: … قبل أن نسترسل في حديثنا عن الأجواء الانتخابية وما رافقها بعد الخمسينات أو خلال الخمسينات، يجدر بنا أن نعود قليلاً بمحطة تاريخية عند بَدء الحرب العالمية الثانية سنة 1939. في هذه الحرب التي شملت العالم كلَّه، كان لصيدا أو للمسلمين عامة في لبنان، موقف معيَّن خلالها ألخِّصه بما يلي: فقد كانت الأجواء العامة مشحونة بما آلت إليه الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) من نكسة خطيرة على العالم العربي، وخصوصاً ما تكرس منها على اتفاقية "سايكس بيكو"، تلك الاتفاقية التي ضمنت للشريف حسين استقلالاً عربياً كاملاً. (تصحيح: ليست الاتفاقية، وإنما وعد مُلتبس من بريطانيا!!)، مقابل خوض الحرب إلى جانب الحلفـاء. ومن ثَمَّ، لم تفِ إنكلترا بعهدها. وكان لهذا ردَّة فعل عنيفة في نفوس المسلمين بنوع خاص.
لذلك لم يكد هتلر يعلن الحرب في 8 أيلول 1939 حتى تفتَّح الناس إلى جوٍّ على وشك أن ينالهم الكثير مما فقدوه بعد الحرب العالمية الأولى. ولهذا، فقد كان تعلقهم بهتلر تعلقاً شديداً جداً، لا على أساس الإنقاذ الشامل، بل على أساس الثأر أو التشفّي من أولئك الذين خانوا العرب سنة 1918. ومنذ ذلك الحين، فقد كنا نلحظ أن السهرات الدائمة، السهرات كلها، كانت تنعقد في البيوتات سراً، لأن السهر بالأضواء كان محظوراً. وكان مفروضاً على الناس التعتيم في الداخل وفي الخارج. فكنا وكان كثيرون من الشباب المثقف، يجتمعون في بيوت معينة تضم النخبة من مفكري صيدا وشبابها ويبحثون في موضوع النصر المحتمل لهتلر الذي سيهزم فرنسا وإنكلترا معاً ويعطي العرب الحق الذي كانوا يتطلعون إليه بين الحين والحين، وخصوصاً أن القومية العربية أو فكرة الوحدة العربية، كانت حتى ذلك التاريخ، عميقة في نفوس المواطنين، يؤمنون بها إيمانهم بالله، ولا يتخلّون عنها أبداً. فلما لاحت لهم في الأفق هذه البُشرى، هتفوا لها وصفقوا، وتمنوا من صميم القلب أن تتحقَّق في القريب. وكان الراديو في بداية عهده أو في بداية انتشاره في ذلك الوقت. فكانت الإذاعة، إذاعة صوت العرب، التي كان يرأسها يونس البحري، هي المسيطرة وهي وحدها التي كانت تتحدَّث في كل بيت من بيوت المسلمين، لأنها كانت تنقل أخبار الانتصارات الهتلرية والهزائم البريطانية والفرنسية. ونحن نعلم أن الرياح لم تكن مواتية على المدى الطويل، إذ إن الجنرال شارل ديغول لجأ إلى بريطانيا وعقد مع البريطانيين اتفاقاً على أن يكون هو، كفرنسي، ضد المحور أو ضد هتلر بالذات. وأن يكون فريقاً عسكرياً محارباً، يستطيع بمعاونة الإنكليز أن يعود إلى الشرق الأوسط ويحتل سوريا ولبنان ويخرج منها الفرنسيين الذين كانوا في ذلك الوقت قد أعلنوا ولاءهم لألمانيا الهتلرية بزعامة الماريشال "بيتان". سارت الأمور على هذا الشكل، واستطاع شارل ديغول أن ينتقل مع قوة بريطانية إلى فلسطين، ومنها اجتاح لبنان وتمكن من الانتصار وبسط سيطرته على لبنان وسوريا سنة 1941.
ومن الطبيعي أن يكون معروف سعد وهو حامل لواء القومية العربية في ذلك الوقت والمبشر لها والداعي في كل المجالس والمناسبات، كان من الطبيعي أن يكون مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بقوات فيشي الفرنسية التي كانت من أخصام البريطانيين. ومن طبيعة معروف سعد أنه لا يكتفي بالشعارات ولا بالتمنيات ولا بالدعاء والرجاء، بل كان، على خلاف الزعماء السياسيين الذين عرفناهم في تاريخنا، كان يُقرن القول بالعمل، فلا يتقاعس عن أن يقوم بالمغامرات الضخمة في سبيل عقيدة يؤمن بها.
ولهذا فقد غادر لبنان إلى سوريا أو إلى الشام (دمشق) بالذات، وشكل فرقة مقاتلة وانضم إلى الفيشيين وراح يقاتل الديغوليين والإنكليز على حد سواء. قضى فترة في هذا المعترك إلى أن هُزمت الجيوش الفيشية الفرنسية وعاد معروف سعد إلى لبنان، ليقع أسيراً بين أيدي الفرنسيين الديغوليين الذين اعتقلوه وساقوه إلى معتقل المية ومية في صيدا. ومعروف سعد هو ذاته الذي لم يتقاعس مرة، ولم يقعد مرة، عن قيامه بالواجب، الواجب الذي يؤمن به أو الواجب العملي الذي يُفسِّر ما يؤمن به. لم يكن يقعد قط، بل بقيَ حائراً في أمره، ماذا يفعل؟
وهنا، هنا برزت القضية الفلسطينية، القضية المزمنة، برزت بأجلى صُوَرها. فهي في هذه المرحلة بالذات، كانت تعاني الخطر المؤكد، وراح يبشر ويجمع ويدعو الناس إلى أن يستيقظوا، لأن الخطر الصهيوني بات وشيكاً، ولأن فلسطين ستعاني أزمات خطيرة، وقد تُمحى من خريطة العالم كفلسطين. وبقي على هذا حتى توثّقت علاقته بالمغفور له رياض الصلح الذي شجعه على المضيِّ في الإعداد ليوم نجهل ما يكون، ومتى يكون، وشجعه على التسلح. وأخيراً، كلفه، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بطبيعة الحال، كلفه أن يذهب إلى ليبيا، إلى "العلمَيْن" حيث ترك الألمان الكميات الوفيرة من الذخيرة والأسلحة، أرسله إلى هناك ليشتري كمية هائلة من السلاح، ويُعِدُّها لليوم المنتظر، يوم يثور اليهود محاولين إقامة الدولة الكبرى. فذهب إلى ليبيا وتمكَّن من شراء كمية كبيرة من الأسلحة وشحنها في مركب شراعي وقادها إلى صيدا، يساعده في ذلك الجندي المجهول، البدوي الأتب النابلسي. وتمِّ تفريغها في كلية المقاصد الإسلامية.
وصل معروف سعد إلى صيدا بالأسلحة وخبأها في مكان أمين حتى أواخر سنة 1947 حيث بدأت نوايا اليهود تلوح في الأفق، وبدأت نوايا البريطانيين الخبيثة تلوح في الأفق أيضاً. إذ كان البريطانيون يدعمون النفوذ الصهيوني أكثر فأكثر، يمدونهم بالسلاح أكثر فأكثر، يتغاضَوْن عن تجاوزاتهم أكثر فأكثر، وكل هذا كان يبشر أو كان ينذر بأن عاصفة قد تأتي.
ولم تكد تطل سنة 1948، حتى كان ما يخافه الناس، قد بدأ يتحقَّق، وتحقّّق فعلاً بقيام اليهود بمقاتلة العرب وإرهابهم وتخويفهم بقصد تهجيرهم من فلسطين. فما كان من معروف سعد المؤمن بالقضية العربية الكبرى وقضية العرب العامة، القضية الفلسطينية، فما كان منه إلا أن أخذ يؤلف فريقاً مقاتلاً من معارفه ومؤيديه ومحبيه، وذهب بهم إلى الحدود، أو على الأصح، وبالتحديد، إلى المالكية حيث مترس هناك، وأخذ يقاتل اليهود قتالاً بطولياً. واستطاع أن يوقع بهم خسائر كبرى، وأن يوقفهم إلى حد ما، ولكنه لم يستطع أن يؤدي المَهمة كاملة لأن جميع المقاتلين العرب، تخلوا عن الحدود وأباحوا لإسرائيل أن تحتل كافة مناطق الجليل الأعلى، وانهزموا دون قتال، وتركوه هو في الميدان حتى اضطر أخيراً إلى أن ينسحب ويعود إلى صيدا بشهيد واحد هو المرحوم ديب عكره.
س: … أستاذ صلاح: إذا سمحت، سؤال يصبُّ في نفس الموضوع، كيف يمكن أن نحدِّد اتجاه الرأي العام في صيدا على وجه الخصوص، من ألمانيا الهتلرية عموماً؟
ج: … إن ما كنا نلمسه في المحيط الصيداوي أن نشأة هتلر كانت طفرة، لها أهميتها ولها تأثيرها على النفس الإنسانية عموماً، وعلى نفوس المسلمين خصوصاً. إذ إن القوة العسكرية التي ظهر بها هتلر منذ بداية عهده، كانت تستهوي نفوس الناس، باعتبار أنهم يعجبون بالبطولات أياً كان مصدرها. ولما كانت القضية الفلسطينية هاجساً ملحاً عند الصيداويين أو عند المسلمين عموماً، فقد تعلقوا بالأمل، الأمل الذي أعطاهم إياه هتلر بتقريبه الكثيرين من زعماء العرب.
وعلى سبيل المثال، قرّب منه الحاج أمين الحسيني، المرحوم الصحفي كامل مروة والبعض من آل زنتوت، هؤلاء وأمثالهم قد يكونون خطوْا في تأييد هتلر خطوات أوسع من تأييد الغير، إذ إن الأكثرية كانت تؤيد بالقلب وباللسان وبين جدران البيوت. أما هؤلاء فقد خطوْا خطوات أوسع، إذ إنهم اتصلوا بالقيادات الألمانية الهتلرية، وكان بينهم أخذ ورد، واتفاق على مبادئ وخطوات لمستقبل الأيام.
أما ما يتعلق بالأستاذ معروف سعد، فقد كان كغيره من المواطنين، كان مثلي، أنا مثلاً، مؤيد القوة الهتلرية، ونتمنى لها أن تسود باعتبارها الأمل الوحيد الذي يمكن أن يحطِّم الجبروت البريطاني في ذلك الوقت. وكنا هتلريين هواة لا محترفيين. وكذلك المرحوم معروف سعد. كان هاوياً ويتمنى من صميم قلبه أن ينتصر هتلر وأن يحدث في العالم العربي التغيير المنشود. وهذا التغيير المنشود الذي أعنيه هو أن تتحقَّق أحلام العرب: وحدة عربية، أو باختصار ما كنا نسميه في ذلك الوقت القومية العربية ومن ضمنها القضية الفلسطينية، حيث يوضع حد للجموح الصهيوني وتبقى فلسطين عربية إلى الأبد.
من هنا، فقط، كانت الخطوات التي خطاها معروف سعد، ومن هنا فقط، لا أبعد من ذلك، عمل وهو مطمئن راضي الضمير، لأنه لم يكن عميلاً لهتلر (أو لألمانيا النازية). بل كان عميلاً لبلده صيدا، وللعروبة بوجه عام.
س: … أستاذ صلاح، من خلال حديثك، ورد أكثر من مرة نقطتان أساسيتان، الأولى: القومية العربية والوحدة العربية، وتعلق الناس في صيدا بالقومية العربية والوحدة العربية، والنقطة الثانية: القضية الفلسطينية، هل يمكن أن تُحلِّل لنا وتفسِّر هذا التعاطف، هذا التعلق بهاتَيْن القضيَّتيْن؟؟
ج: … بطبيعة الحال، بعد زوال العهد العثماني وما رافقه من مآسٍ وويلات، دخل إلى الجو العربي اعتقاد سائد بأن العرب، إذا تجمعوا وكونوا فيما بينهم دولة متَّحدة، فسيكونون قوة يستطيعون بها أن يصمدوا في وجه الطامعين. والأيام الطويلة التي مرت على هذا الاعتقاد، حوَّلت هذا الاعتقاد إلى عقيدة. فأصبح المسلم بنوع خاص يعتقد جازماً بأن هذه الوحدة ضرورية جداً، وهي لا بد آتية، كما صوَّرها له المتاجرون بالعروبة. لهذا السبب، نجد أن التعلق بالقومية العربية أو التعلق بوحدة عربية قائمة بالفعل عما قريب، كان عاماً شاملاً، لا يُستثنى من ذلك أحد في الشوارع، في المنازل، في المقاهي، في أيّ مكان يضم مجموعة من الناس، كان حديثهم الدائم الوحدة العربية، القومية العربية.
س: … دون أن يرافق ذلك وعي عميق بشروط القومية العربية وطريق تحقيقها؟
ج: … أنا أعتقد أن القضية كلها قضية عاطفية. وما قوَّى هذه العاطفة: الاضطهاد والدجل المنمَّق الذي كانت تقوم به الدول الكبرى، أمثال فرنسا وإنكلترا، وأخيراً أميركا. مقابل هذا كله، كان الانعكاس متيناً جداً وقوياً جداً بحيث إن هذا التعلق الوهمي بات يؤمن به المواطن العادي على أنه حقيقة قائمة. ولم يخطر ببال أحد أن هذا أمر مستحيل، لأنهم لم يعالجوه معالجة طبيعية أو منطقية أو واقعية. بل كان الهوى يتحكم في نفوس الجميع بدون استثناء كباراً أو صغاراً، من كثرة الاضطهاد ومن كثرة ما تعرضوا له من مآسٍ وإهانات واضطهادات من قِبَل الدول الكبرى.
س: … بطبيعة الحال، عندما يشعر الشعب بتحرره من السيطرة العثمانية، ومن ثمَّ وقوعه تحت سيطرة أخرى، هي السيطرة الأوروبية الغربية، فلا بد أن يُحدِث ذلك في نفسه ردة فعل قوية عنيفة يُعبِّر عنها بالشعور القومي؟
ج: … وكما يقال: فإن الغريق يتعلق بخيط القطن أو بخشبة أو بقشة. الغريق يتعلق بأيّ شيء وكان العالم العربي كله غريقاً…
س: … وكذلك القضية الفلسطينية…
ج: … والقضية الفلسطينية كانت جانباً رئيساً من فحوى القومية العربية، لأن فلسطين قطعة من الوطن العربي، وقطعة عزيزة، باعتبار أنها تضم الأماكن المقدسة وفيها المسجد الأقصى. بطبيعة الحال، في مقدمة القومية العربية أو الوحدة العربية أو الفكرة العربية ككل، كان فلسطين هي المحور الأساسي الذي تدور حوله المناقشات والاجتهادات والتمنِّيات.
س: … سؤال آخر، أستاذ صلاح. إذا سمحت، هذه المرة سؤال مختلف عن الأسئلة السابقة، وهو يتعلق بانتخابات عام 1951 إثر وفاة المرحوم رياض الصلح وحصول الفراغ السياسي من بعده في مدينة صيدا، فهل يمكن أن تحدثنا عن تلك المرحلة؟
ج: … على أثر وفاة المرحوم رياض الصلح في تموز، على ما أذكر، عام 1951، شغر بذلك المقعد النيابي عن مدينة صيدا وحصل فراغ سياسي، كان لا بد من أن يُملأ وبأسرع وقت. وقد حدَّدت الدولة موعداً للانتخابات الفرغية، بقصد أن تملأ المركز الشاغر بالوفاة. وهنا برز إلى الميدان المرحوم صلاح الدين البزري عارضاً نفسه كمرشح بديل. وفي نفس الوقت، تقدم فريق من أبناء صيدا ومن الصيداويين المقيمين في بيروت، يرشحون ابن عم المرحوم رياض الصلح، كاظم الصلح رئيس حزب النداء القومي في ذلك الوقت. فأصبح في الميدان مرشحان: صلاح الدين البزري وكاظم الصلح. ولكن حسب ما ظهر أثناء التحضير وخوض عملية الانتخابات، استيقظت عائلة آل البزري بحكم ولائها للمرحوم رياض الصلح، واعتبرت أن صلاح البزري هو أولى المرشحين ليحتل مكان رياض الصلح.
س: … إذا سمحت سؤال، أستاذ صلاح، مَن يدعم المرشح صلاح البرزي في الانتخابات على الصعيد المحلي وعلى الصعيد اللبناني، وكذلك مَن يدعم المرشح كاظم الصلح على الصعيد الصيداوي وعلى الصعيد اللبناني العام؟
ج: … لنتكلم بصراحة تامة، فقد كان العهد لا يزال عهد الشيخ بشارة الخوري، وكانت حاشية بشارة الخوري، بالإضافة إليه هو نفسه، لا تحبُّ الارتباط بآل الصلح، بعد أن جرَّبت رياض الصلح. ولذلك، فقد كانت الدولة بفعاليتها وتأثيرها ودعايتها إلى جانب صلاح البزري وضد كاظم الصلح. أما الذين أيدوا كاظم الصلح، فهم في صيدا معروف سعد والمؤيدون لمعروف سعد، أي أن الانتخابات في صيدا، كانت بالفعل انتخابات معروف سعد ومؤيدي معروف سعد الذين صبَّوا بكليتهم لانتخاب كاظم الصلح. يضاف إلى ذلك، الأجواء العامة التي كانت تتمحور حول حزب النداء القومي في ذلك الوقت…
س: … وموقف الدكتور نزيه البزري في تلك الفترة؟
ج: … موقف الدكتور نزيه البزري، كما ظهر لنا أنه كان مؤيداً لكاظم الصلح، باعتبار أنه كان من حزب النداء القومي.
س: … بالإضافة إلى ذلك، أستاذ صلاح، اُعتبرت تلك الانتخابات انتخابات نزيه البزري حيث إنها في صيدا أخذت طابعاً: دكتور نزيه البزري من جهة وصلاح البزري من جهة أخرى. فكانت الانتخابات وكانت المعركة قد دارت بين آل البزري، ما هو رأيك بالموضوع؟
ج: … أنا لا أعتقد أن آل البزري، لو توزعوا بأتباعهم وأنصارهم بين نزيه البزري وصلاح البزري، كان بالإمكان أن يفوز صلاح البزري. ولكن الذي أعرفه أن نزيه البزري شخصياً تطوَّع لخدمة كاظم الصلح ولتأييده، مع العلم بأن حاشيته، لم تكن منتشرة أو لم تكن بالحجم المؤثِّر (؟؟)، كما أصبحت فيما بعد سنة 1953.
س: … طبعاً، الانتخابات كانت على أساس القائمة الواحدة في الجنوب. وكان يدعم صلاح البزري أحمد الأسعد، إذ إن المعركة كانت عامة لكل الجنوب. وكما أن كاظم الصلح الذي كان يدعمه في صيدا وفي الجنوب هو عادل عسيران. وعلى هذا الأساس، فقد نجح صلاح البزري. ما هي معلوماتك حول هذا الموضوع؟
ج: … في الحقيقة، من الصعب التقويم الكامل للمدِّ الانتخابي الصيداوي، لأن العملية كانت متداخلة ما بين صيدا والجنوب. فمن الصعب الحكم، إذا كان مؤيدو نزيه البزري أكثر أو أقل…
س: … لأنه من المعلوم أن كاظم الصلح في مدينة صيدا قد تفوَّق كثيراً على صلاح البزري بعدد الأصوات.
ج: … هذا صحيح.
س: … ولذلك، فيما أذكر أنا شخصياً، اعتبرها نزيه البزري معركته في صيدا، وكأنه هو الذي انتصر. وقال وأنا سمعتها منـه شخصيـاً: "لقد انتصرنا في صيدا والذي يهمنا هو صيدا". أما نجاح صلاح البزري في الانتخابات……
ج: … كان بدعم من أحمد الأسعد، لا شك في ذلك…
س: … أستاذ صلاح، فيما يظهر أن موازين القوى السياسية في الساحة الصيداوية، قد تغيَّرت بين انتخابات 1951 وانتخابات 1953، حيث أصبحت صيدا دائرة انتخابية واحدة، فترشح الدكتور نزيه البزري وتقي الدين الصلح، فهل يمكن أن تحدثنا عن ظروف تلك الانتخابات؟
ج: … انتهت دورة المجلس النيابي في 1953 وكان لا بد من انتخابات جديدة تأتي إلى المجلس بهيئات جديدة. وكان، كما قلت، النظام الانتخابي أو قانون الانتخابات، قد عُدِّل بحيث أصبحت صيدا دائرة انتخابية مستقلة. بعد أن كانت دائرة تابعة لمنطقة الجنوب بكاملها. هنا تقدم ثلاثة مرشحون للانتخابات: صلاح البزري ونزيه البزري وتقي الدين الصلح. وكان الدكتور نزيه البزري لا يزال محافظاً على رصيده الذي كونه في حياة رياض الصلح في انتخابات عام 1951. وكانت الناس حتى ذلك التاريخ، وأعني بالناس: المؤيدين للدكتور نزيه البزري، يضمرون الكراهية لآل الصلح. فلما اشتدت حركة الانتخابات وبدأ التحضير لليوم الموعود، جرت محاولة لتنازل صلاح البزري لمصلحة تقي الدين الصلح. وبدأوا يجرون الاتصالات بين صيدا وبيروت ويعقدون الاجتماعات في بيروت، وكلها حسب معلوماتي، كانت مناورة كاذبة ليس القصد منها إنجاح تقي الدين الصلح، بل كان القصد منها تنحية صلاح البزري وتقي الدين الصلح لمصلحة نزيه البزري.
وحسب ما أعتقد أن عهد كميل شمعون الذي بدأ سنة 1952، كان متجاوباً إلى حد بعيد ومتعاطفاً إلى حد بعيد مع الدكتور نزيه البزري. ولهذا فقط كانت المناورات تجري على أساس أن الدولة تشعر بضرورة الوفاء لذكرى رياض الصلح. وبذلك فهي تؤيد ابن عمه تقي الدين الصلح وتضغط على صلاح البزري حتى يتنازل له.
س: … فإذاً، عندما قلت بأنه قامت محاولات عديدة للتقريب بين صلاح البزري وتقي الدين الصلح وانسحاب الأول للثاني، فكنت تقصد بذلك الدولة اللبنانية؟
ج: … بطبيعة الحال، وبكل تواضع، أنا كان لي دور كبير في هذه الانتخابات. وكنت على اتصال دائم بالمرحوم شفيق لطفي. وكان يحضر إليَّ كل يوم من بيروت ويُسرُّ إليَّ بأحاديث التطبيقات والترتيبات التي تجري من أجل تقي الدين الصلـح. وكنت أنا أعلم أن هذا الحديث لا أساس له، لا أساس حقيقياً له. فلما سمعت من هذه الأحاديث، قلت للمرحوم شفيق لطفي، على ما أذكر وبالحرف الواحد: تحدثني عن هذا التنازل قبل موعد الانتخابات بأسبوع على الأقل، يكون الساعون إلى التنازل صادقين!… وإذا تم التنازل ليلة الانتخابات، ستكون تلك، يا أستاذ شفيق، أكبر لعبة سياسية لعبتها الدولة.
وبالفعل مرت الأيام ومنتصف ليلة الانتخابات، منتصف ليلة السبت ـ الأحد، أتت مراسَلَةٌ من بيروت: لقد تنازل صلاح البزري لتقي الدين الصلح. وراح المنادي ينادي: يا أهل البزري، تفضلوا لبيت نزيه. فكانت القضية لها ظاهر ولها باطن. يعملون ظاهراً لتقي الدين الصلح ويعملون سراً لنزيه البزري. فنزيه البزري، بما تيسَّر له من تأييد شعبي لا بأس به، محترم جداً، وبتأييد من السلطة الحاكمة، أصبح سنة 1953 نائباً عن صيدا. وتحقّقت بذلك أحلامه.
س: … شفيق لطفي، كان في السابق من مؤيدي صلاح البزري من جهة، وكذلك لم يكن بعيداً عن نزيه البزري أيضاً. ولكن في هذه الانتخابات، كان من المتحمسين، فيما يظهر، لترشيح تقي الدين الصلح. هل يمكن أن تحدثنا شيئاً عن هذا الدور، دور شفيق لطفي، كيف غيَّر مواقفه وكيف تغيَّر من موقف إلى موقف آخر؟
ج: … لم يغيَّر مواقفه باجتهاداته ودعواته. ولكن تحركاته كانت تختلف. وسبق أن قلت لك في حديث سابق، أن جميع الأحزاب والذين عملوا في السياسة، كانت الميول أو الارتباطات العائلية، تفعل فيهم فعلها، بحيث لا يتأثرون بالقيم والمبادئ التي تُطرح، بقدر ما يتأثرون بالعلاقات العائلية. وشفيق لطفي، أنا أعذره، إن خاله الحاج سعيد البزري والحاج مصباح البزري، وصديق طفولته عز الدين البزري ومسيَّر أموره، وداعمه في البَدء صلاح البزري. مع ارتباط شفيق لطفي ونزيه البزري بحزب النداء القومي عن طريق كاظم الصلح: هذه الارتباطات، أظن أنها كانت طاغية بحيث إنه لم يعمل بالجِد اللازم لمصلحة المرشح الذي يعلن تأييده له. يضاف إلى ذلك، أن المرحوم شفيق لطفي، لم تكن له شعبية يستطيع أن يجيِّرها من حين إلى حين، إلى الشخص الذي يريد.