ماذا جرى في مؤتمر الطائف؟… كلمة الدكتور بزري
محاضرات /
سياسية /
1991-11-02
ماذا جرى في مؤتمر الطائف؟…
كلمة الدكتور نزيه البزري:
إخوتي، إخواني
ليس من الهيِّن أن يحكم الإنسان على شيءٍ بدأه ولم تبدأ تجربتُه على الأرض بعدُ كاملةً.. إنما، حتى يعرفَ كل امرءٍ أهميةً ما حصل في "مؤتمر الطائف"، لا بدّ من أن نرجع قليلاً إلى الوراء، لنقول: إن ما من كيانٍ (سياسي) على هذه الأرض، إلاّ وهو نتيجةُ شرعيَّتيْن أساسيّتَيْن:
الشرعية الأولى، هي شرعية أبنائه، ونختصرها بتوافق الناس على صيغة وعلى شكل ومضمون كيانٍ ووطنٍ، يريدون أن يعيشوا فيه معاً. فيتقدمون ويبنون، وربما يعطون الكثير لهم وللعالم.. والشرعية الثانية، هي بنت الشرعية الأولى، وليست في كل الأمم، هي الشرعية المخطوطة أو الدستور .. فبعض الدول لا دساتير لها، وإنما دستورها هو تواتر قوانينها وتواتر أعرافها..
فنحن في لبنان، تاريخياً، وُجد الكيان اللبناني منذ سنة 1920. وقبل ذلك، فإن الادعاء بكيان لبناني، لا برهان تاريخيٌّ عليه ولا برهان علميٌ له أيضاً، فالكيان (اللبناني الحالي) خلقه المنتدب الفرنسي بعد اتفاق بين الدول المنتصرة، وهم الحفاء بعد الحرب العالمية الأولى. فخلقوا كياناً اقتطعوه من الخلافة العثمانية، اقتطعوه ممّا كان يُعرف بسوريا الطبيعية أو بلاد الشام… ولم يُستشر أهلُ هذا الوطن الجديد، بكيفية تشكيل هذا الوطن، ولا هذا الكيان..
ولهذا السبب، بقيَ هذا الكيان تعتريه الانتفاضات وعدم الاستقرار طيلة وجود الانتداب الإفرنسي حتى سنة 1943، بَدء وجود الكيان السياسي الحقيقي والصحيح للبنان، وهو لبنان المستقل، إذ اعترف حينذاك به بنوه الذين من جهة، كانوا يريدون الانضمام والالتحاق بسوريا، والذين من جهة أخرى كانوا يتمنوْن البقاء تحت الانتداب الإفرنسي، فقد اتفقوا فيما بينهم جميعاً على الاستقلال. وأبقوْا دستوراً بعد أن حذفوا منه ما يخصُّ الانتداب وما يخصُّ المفوض السامي الفرنسي، وأبقوْه كما هو، إنما زادوا عليه بعضَ الأمور، أي أنهم اعترفوا باللغة العربية لغةً أساسيةً وحيدةً لهذا الكيان. واعترفوا أيضاً بأنهم أعضاء مؤسسون وعاملون في جامعة الدول العربية.. واعترفوا أيضاً بحياء أن لبنان "ذو وجه عربي".
ولهذا السبب، منذ بَدء الاستقلال حتى اليوم، لم تحاول الدولة التي تسلمت مقاليد الأمور، تطوير هذا البلد وهذا الدستور المكتوب.، ونسوْا حقيقة وهي أن هذا الوطن فيه شعبٌ. والشعبُ، كلَّ يوم، هو في حال، ويرتقي ويتقدَم ويزداد علماً ويزداد ثروة ويزداد أيضاً قوة…
إن هذا الأمر قد أُهمل، ولم يطوروا (أي المسؤولون في السلطة) هذا البلد في هذا المعنى. وأتى الدستور الذي أعطى رئيس الجمهورية صلاحيات المندوب السامي الفرنسي السابق بأكملها، أتى ليكون مصْيَدةً لكل رئيس، إذ إن ما من رئيس جمهورية أتى على هذا البلد، إلاّ وله أخطاؤه الجسيمة. فإما أنه قد خرج (من الحكم) بثورة (شعبية) أو بانقلاب، وإما قد خرج أيضاً بعدم رضى.. إن هذا الاستقلال الذي هو، حقيقة، بَدء تاريخ لبنان، لم تُراعَ فيه شروط البلد المستقل، كما قلت، وذلك بتطويره وتقدمه. وهناك قسم من السكان (أي من الشعب اللبناني) حتى يطمئنوا، وهم ينتمون لطائفة أو طوائف غير الطوائف المحمدية، طلبوا بعضاً من "الضمانات"، فأعطيناهم أو أُعطيت لهم ضمانات بسخاء. فأساؤا الممارسة. فكانت الانتفاضات تلو الانتفاضات، وحقّ المطالبة بأن ما من شىء يمكن أن يكوّن هذا الوطن تكويناً صحيحاً، إلا إذا أجرينا إصلاحات أساسية فيه وفي دستوره وفي قوانينه…
مَرّ على هذه البلاد أمورٌ كثيرة لم تعتبر الدولة القائمة في أيِّ عهد كانت، ومنذ سنة 1948 حتى اليوم، بأن عدواً إسرائيلياً ينمو ويكبر ويقوى. فلا الدولة اللبنانية قويت ولا هي كبرت، ولا هي نَمَت ولا هي أخذت موضعاً في علاقاتها مع العرب، يمكِّنها من أن تكون عَضُداً عربياً في وجه التيار الإسرائيلي الذي إن بغى شيئاً، فيبغي أرضاً ويبغي أيضاً مصالح لا يُضاريه فيها إلا لبنان. فهو يبغي أن تكون خدمات المنطقة (الشرق أوسطية والأفريقية) له. وقد كان قسمٌ كبير منها بيد اللبنانيين الذين، مع الأسف تركوا المجال لإسرائيل حتى تنمو وتكبر على حساب لبنان أولاً، وعلى حساب إخوتهم الدول العربية ثانية.
إن الشعب الفلسطيني الذي لجأ قسم منه (إلى لبنان)، لجأ كأخوة لنا، قومياً وإنسانياً وأيضاً تاريخياً.. وهذا اللُّجوء ظنَّت الدولة (اللبنانية) القائمة آنذاك سيبقى لجوءً بشرياً فقط. فهم لم يعملوا شيئاً أو يقيموا حساباً أن هؤلاء لهم صفات وطنية وقومية كصفات أيِّ مواطن عربي يرغب في إعادة وطنه وفي عمل كل ما يمكنه أن يعمله لاسترجاع وطنه السليب. فأخذوا (الفلسطينيون) على أنفسهم التحرك في كل الأقطار العربية، ولكنهم هناك في الأقطار العربية وجدوا دولة قائمة وحاجزاً بأن الجيوش في تلك الدول هي التي كانت تحارب (إسرائيل) وتقف في وجه العدو.
أما في لبنان، فتُرك الأمر على مجاله. فاضطروا (الفلسطينيون) أن يكونوا هم أقوياء ويدافعون عن أنفسهم. وهذا ما خلق، فيما بعد، ادعاءَ الفريق الذي قاتل، وقد بدأ القتال سنة 1975، بَدأه بدعوى أنه يخشى من تسلط الأخوة الفلسطينيين في هذا البلد. وعبثاً حاولنا إقناعهم بأن الأخوة هم هنا فقط لاسترجاع أرضهم، لا لأخذ لبنان ولا للاستيلاء على لبنان.. هناك، لا شك، تصرفات شاذة، ويجري مثيلها في كل الأمم وفي كل الجماعات التي ليست لها ضوابط دولة.
جرت محاولات عديدة لإنقاذ هذا البلد. فلم تُفلح.. ففي أول عهد استقلالي، حاول اللبنانيون التقليل من سلطة رئيس الجمهورية الذي جدَّد ولايته، واضطروه للاستقالة، واكتفوا بأن الرئيس الثاني الذي سيليه سيكون أحسنَ تصرفاً (سياسياً، داخلياً وخارجياً)، ويمكن أن نحصل في عهده على إصلاحات (حقيقية في النظام السياسي). وما عتَّم الرئيس الجديد الثاني حتى اختلف أيضاً، وفي سبيل إنجاز الإصلاحات، مع الفئة الكبيرة من هذا الشعب وواجهها بانتفاضة دامت أكثر من ستة أشهر، وأعني به عهد الرئيس كميل شمعون.
ثم تلا بعد ذلك دخول قوات أميركية على الخط، لأن الوحدة المصرية السورية أخافت الدول الكبرى وخافت على لبنان أن يُبتلع في خضمِّ هذه الوحدة التي كان يسعى العرب إليها، مع أن هذه الدول أخذت تأكيدات من كل الدول العربية أنهم سوف لا يمسّون لبنان، ولا بطريق من الطرق.. فبعد نزول القوات الأميركية في لبنان، تغيّر الرئيس وأوتي برئيس عسكري. بدأ عهده بإصلاح إداري، ابتدأه بأن يعطي نصف الوظائف للطوائف المحمدية والنصف الآخر للطوائف الأخرى. ولكن العهد، كما قلت، ولأن الإصلاح لم يكن أساساً، أيضاً فَسَد في أواخر أيامه، بسبب الفئة العسكرية التي كانت تحكم نيابة عنه. فأساءت الحكم وكلكم يذكر تصرفات "المكتب الثاني" (جهاز المخابرات) في تلك الأيام، وكيف أنهه لم يتمكن من التجديد وأوتي برئيس ثانٍ، أيضاً لم يتمكن من أن يحكم ولا فترة من الزمن… وهكذا اضطر الوطن ليبقى بلا حكومة مدة تزيد عن ثمانية أشهر. وبعدها أعيدت حكومة المغفور له رشيد كرامي، ولكن لم يحصل أيُّ تغيير.
في عام 1975، وكانت البلاد تهتز على أشدها بسبَبيْن رئيسيْن: السبب الأول، كما قلت لكم، أن النموّ الديمغرافي والثقافي عند الطوائف المحمديّة، أصبح كبيراً لدرجة أنه لم يعد بإمكان القيِّمين على الأمر من المحمديين ضبطه، فأخذوا يطالبون بالمشاركة في الحكم. ولمّا لم يُستجابوا، ولمّا كانت إسرائيل قد بدأت عملها على الساحة اللبنانية، ادَّعى فريق أن لبنان في خطر ويجب تسليحه لأن الجيش ضعيف ويجب أن ندافع عن البلد بجيش من الشعب. هكذا ادعت فئة دعوناها في ذلك الزمن "الفئة الانعزالية"، وهي الكتائب اللبنانية ومن لفّ حولها.. فبدأت تدرِّب شبابها وشاباتها في معسكرات، وكنا ننبِّه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إلى أن هذه المعسكرات ستشكل خطراً على هذا البلد وستقوم ثورة جامحة فيه لا يمكن تهدئتها في مدة قصيرة. فلم يُعط هذا الأمر الأهمية الكافية. وحوالي نهاية عهد الرئيس سليمان فرنجية، حصل اضطراب، وكلكم تعرفون سببه، وهو اضطراب شعبي بدئ في صيدا، وثم انتقل إلى بيروت، يوم اغتيل المغفور له معروف سعد.. باغتياله بدأت تحركات شعبية في كل لبنان، وبدأ السلاح يظهر بأبشع مظاهره. فقووِمَ الجيشُ مقاومة عنيفةً لأنه كان معتدياً في صيدا، وفي بلدان أخرى في البقاع…
وشُكِّلت حكومة، دُعيت في ذلك الزمن "حكومة إنقاذ"، ألفها المغفور له رشيد كرامي، أيضاً ليهدِّئ الحال. فلم يتمكن. فاستعان بسوريا. وأُعطي في ذلك الوقت ما سميَ بـ "الوثيقة الوطنية". وهذه الوثيقة الوطنية رُفضت من أكثرية الشعب في ذلك الحين. ثم تلتها انتخابات رئاسية، على أساس إصلاحي، وأوتيَ بالرئيس إلياس سركيس.. ثم تلى ذلك اجتماع الرياض، واتفق على خطة إصلاحية بحيث اللبنانيون جميعاً يجتمعون ويقررون الإصلاح، ويوافق رئيس الجمهورية عليه. وأيضاً قد بويع ذلك الاتفاق في القاهرة وأُسند أمر المحافظة على الأمر (والأوضاع السياسية والأمنية الداخلية) إلى الشقيقة سوريا، بمساعدة رمزية من الدول العربية (القوات العربية). ولكن بعد مضي وقت قصير من رئاسة إلياس سركيس، لم تتمكن لا حكومته، ولم يتمكن أحد من إيقاف الحرب الداخلية التي بُدئت في لبنان.
ماذا حدث؟ حدث عندئذ أن انسحبت القوات العربية وبقيت قوات سوريا في الميدان.. فاستعدتها الكتائب والقوات اللبنانية وحصل منذ ذلك الزمن بينها وبين السوريين مشادات كبيرة وخلافات كثيرة، وأكثرها كان مسلحاً. وبقيت الحرب كذلك سجالاً لا تقدم فيها، وإنما دمار وخراب في كل المناطق. في المنطقة الغربية أكثر منها في المنطقة الشرقية. والقتل كان، مع الأسف، قتلاً همجياً. كلكم سمعتم بما كان يقال إن القتل كان يجري على "الهوية". وأخذ الانعزاليون يروجون لوطن قومي مسيحي، مما جعل فريقاً كبيراً أيضاً، من الفئة الأخرى، يروج لقيام جمهورية إسلامية. فوقع لبنان في نارٍ طائفية حامية، استجدينا العرب، فلم يردوا علينا. استجدينا الدول الكبرى، فلم ترد علينا.. وفي النهاية، استجدى الانعزاليون إسرائيل فأجابتهم، وكانت سنة 1982 بأن احتلت إسرائيل القسم الأكبر من هذا البلد حتى بيروت العاصمة، وهي أول عاصمة عربية تدخلها إسرائيل وتحتلها ولو لبضعة أيام. وكانت المذابح الشهيرة، مذابح صبرا وشاتيلا في بيروت، وكان القتل الفظيع الذي حصل في البلد، والدمار الذي أصبح أكثرنا يعرف الكثير عنه..
ظنَّت الـدول الكبـرى في ذلك الحيـن أنها بقرارها الذي أصدرته، بالطلب من إسرائيل بالانسحاب ما يكفي لإيقاف هذا الزحف… مع أن هذا الزحف لم يتوقف. فاضطرت إلى الإنزال لحماية، أو تحت دعاية لحماية الفلسطينيين الذين ذبحوا في "شاتيلا وصبرا". وأُنزلت جيوش من دول جنسيات متعددة. فظهرت أيضاً المقاومة لها.. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن قليلين يعتقدون أن هذه كانت أول مقاومة.. ولكن المقاومة الحقيقية ضد الإسرائيليين بدأت في هذا البلد، في صيدا، قبل تلك المقاومة بشهر ونصف الشهر. وفي هذا البلد، في صيدا، قتلنا أول عقيد إسرائيلي ومعه جنديَّين. وفي هذا البلد، جُرح عدد منهم وفُجِّرت أيضاً آلياته…
فبدأت المقاومة الوطنية وتلتها المقاومة الإسلامية لمحاربة إسرائيل. فانسحبت إسرائيل وانسحبت القوات المتعددة الجنسيات. وفي هذه الأثناء اُعتديَ على الجبل، اعتدت القوات اللبنانية على الجبل، ورئيس الجمهورية، أمين الجميل حاول بما أعطى من أموال للجيش اللبناني باستيلائه عليه.. فكانت معارك الجبل…. وبالنتيجة، ماذا حصل؟! أن هُجِّرَ أخواننا المسيحيون من الجبل وأُخرجوا من أمكنة أخرى، وبقي الجيش اللبناني محاصراً في عاليه وفي سوق الغرب والقرى المجاورة.. ولا يمكنني أن أصف لكم المذابح التي اُقترفت في تلك الأماكن، ذلك أنها مؤلمة جداً..
وبقيت الحال على ما هي عليه سجالاً، إلى أن اضطر أمين الجميل لإلغاء اتفاق 17 أيار لإخراج الإسرائيليين باتفاق، وتأليف حكومة "اتحاد وطني" والذهاب إلى "جنيف"، ومن ثم الذهاب إلى "لوزان" للاتفاق على وفاق وإصلاحات.. في جنيف ولوزان لم يتمكنوا (أي القيادات السياسية اللبنانية والعربية) من الوصول إلاّ لاتفاقات جزئية سُمّيت بالبيان الوزاري. حتى البيان الوزاري، لم يتمكنوا من تنفيذه..
وبعد مضي أكثر من خمسة أشهر، وحكومة الاتحاد الوطني التي تضم كل القوى الفاعلة بسلاحها على الأرض، كانت ممثلة في تلك الوزارة.. ومع ذلك لم يتمكنوا من إيقاف موجة العنف والوصول إلى "وفاق وطني". كان ادعاء الرئيس أمين الجميل أن القوات اللبنانية لا تقبل معه بهذا الوفاق. فأُقنعت القوات اللبنانية. وكان "الاتفاق الثلاثي". فعَهَد هو، الرئيس الجميل، وغيره من القوات المعادية، مع السفارات الأجنبية، إلى محاربة هذا الاتفاق وإسقاطه. وطوال تلك الفترة، كان هناك نواب في البرلمان اللبناني يجتمعون ويُصرِّفون الأعمال ويضعون الدراسات لإيجاد صيغ وفاقية. وقد تمكنوا فيما بينهم، وبدون إعلام القوات العاملة على الأرض، بأنه يمكن الوصول إلى اتفاق، فيما إذا أعطينا فرصة لتحقيق ذلك.. وباشرنا بمفاوضات مع الإخوان في سوريا ومع الإخوان لحاملي السلاح من القوات اللبنانية ومن القوى الوطنية. وبدأنا نعرض ما يسمى بالثوابت أو الآراء التي كنا نتبادلها، وأيضاً كنا قد استشرنا الدول الكبرى واستشرنا القوى الروحية. وأصبحت لدينا فكرة، وهي تتكوَّن من ثلاث نقاط: النقطة الأولى أن لبنان بحاجة إلى إصلاح داخلي، ويجب أن يُقرَّ أولاً، النقطة الثانية: أن لبنان وطنٌ عربيٌّ الهُويّة والانتماء، وأن أيَّ تفكير بانتقاص من هذه الهُويَّة يؤدي به إلى سوء العلاقات، فالخراب فالاقتتال. النقطة الثالثة: أن لبنان يجب أن يقوى ويصبح قادراً. ولا يمكنه أن يصبح قادراً وقوياً، إلا بأمرَيْن: أولاً أن يقوِّي مؤسساته، فيصبح دولة مؤسسات. ثانياً أن يمكِّن العلاقة بينه وبين سوريا حتى تساعده مرحلياً على بسط سيادته على كامل أرضه، ومستقبلياً على حفظ أمته من كل طارئ قد يعتريه.
هذه النقاط الثلاث، أخذناها بعين الاعتبار وبشَّرنا بها. بشَّرنا العرب قبل كل الناس، حتى آمنوا بأنه لا وفاق بدون إصلاح. فآمنوا معنا. بشَّرنا الغربيين، فكذلك وافقوا على أنه لا بدّ من إصلاح. بشَّرنا إخواننا في المناطق الشرقية الذين لم يتعاونوا معنا في مكافحة إسرائيل ومقاومتها في كل ذلك. فوافقوا على ذلك. فقلنـا: إذن، الأمر سهـل، ويمكن عن طريـق المجلس النيابـي والنواب اللبنانيين أن يتمَّ شيء ما…. إلى أن أتت الانتخابات الرئاسية (23 أيلول 1988) وكان الرأي السائد في المنطقة الغربية أن لا انتخاب إلاّ بتحقيق الإصلاح. وكنت أنا شخصياً ضد هذا الرأي. فعملنا جهدنا وأقنعنا رفاقنا من قيادات المنظمات المسلحة ـ وأنا ممَّن ذهبوا مرات عديدة إلى سوريا لطلب مساعدتها في هذا الأمر، أي أنه يجب أن لا نجعل فراغاً دستورياً في الجمهورية. وأن مَن سيأتي رئيساً، سنجري معه حديثاً ومشاورات عن الإصلاح. فإذا كان لديه قابلية الإصلاح، ويؤكد تفاصيل ما نودُّ من الإصلاح، فنحن نؤيده. فمع التأييد الذي يناله من رفاقنا الذين يؤمنون إيماناً عميقاً وراسخاً بهذا الإصلاح، أنا أعتقد بأن هذا الرئيس سوف ينجح.
وعُرضت أسماء، وأصبحت بكركي ملاذاً لكل المرشحين للرئاسة الأولى. وبالنتيجة، عُرضت أسماء ثلاثة، فاختير الاسم الذي بإمكانه أن يعطيَ للإصلاح أكثر من غيره، تأكيداً وعملاً. فلم يوفَّق. وفي الربع الساعة الأخيرة من ولاية الرئيس أمين الجميل، قسراً ألِّفت حكومة عسكرية، (برئاسة العماد ميشال عون) استقال نصفها واستمر فيها النصف الآخر. وبدأت حكمها، فعطَّلت الانتخابات وعطَّلت جلسات المجلس، ومنعت النواب من المجيء، وحتى أحياناً من المجيء إلى المنطقة الغربية بداعي تقديم واجبات اجتماعية. وكلكم يذكر وفاة المرحوم دولة الرئيس تقي الدين الصلح. وكيف أن النواب مُنعوا في المنطقة الشرقية من المجيء إلى المنطقة الغربية. هذا ما حصل.
وبدأ هذا الحكم ـ أي رئيس الجمهورية ـ حينما شعر أن المدة طالت دون أن يتمكن من انتخاب رئيس، وهو نفسه كان يتمنّى أن يكون هو الرئيس، وحاول الاتصال بالشقيقة سوريا مرات، وهناك محاضر لرسائله ومحادثاته. وموفديه، وكلها باءت بالفشل، لأنه لم يُعطِ القوى الوطنية ولا الأشقاء في سوريا، الثقة الكافية فيه، ليتمكن من تولي هذا المنصب. وثانياً لأننا في لبنان دولة ديمقراطية، نبتعد عن تسليم الأمور للعسكر. فتجربتنا في السابق لم تنجح، ونخشى أن لا تنجح في المستقبل.
ماذا حدث؟ لقد اتخذ قراراً فجأة، وباتصالات عربية ودولية، أن يعلن حرب التحرير، فجأة في 14 آذار. وفي ذلك اليوم، قُتل لنا في بيروت الغربية إثنان وثلاثون (32) طفلاً، كانوا في طريقهم إلى المدارس، عدا مَن قُتل في بيته أو في حانوته أو في الشارع. تلك هي المجزرة الأولى التي افتتح بها معركته في سبيل التحرير. فارتفعت الأصوات من كل ناحية، تقول له: أنت تريد تحرير لبنان من السوريين أم من اللبنانيين؟ لأنه آنذاك لم يقتل سورياً، إنما قتل اللبنانيين ودمَّر بيوتهم ومقدساتهم. وبقي مستمراً على هذا المنوال إلى أن افتضح أمر هذه القوى. فاضطرت الدول العربي، لما كان يهدَّدها من مخاطر، إذ إن بعضها يدعمه، فاضطرت للتدخل وعقدت أول جلسة لوزراء الخارجية وألفت لَجنة ثلاثيِّة، ولكن لم تتمكن من الحل. ثم دعت إلى قمة عربية استثنائية، وأخذت على عاتقها إحداث الوفاق في لبنان. حاولت اللَّجنة الثلاثية في أول الأمر عملاً وفاقياً، فأتت بالنقاط التي تطلبها، وهي غير متوافقة لما اتفق عليه في مؤتمر الرباط.
هذه حقيقة، أيها الأخوة، أنا لا أدافع عن السوريين، ولكنها حقيقة، وهي مخالفةُ النقاطِ الأولى، مخالفةُ ما اتفق عليه في مؤتمر الرباط. فاضطروا فيما بعد للاجتماع ثانية مع الدول العربية ومع بعضهم البعض.. ثم عُقد مؤتمر آخر إلى ما هنالك، والعودة إلى العمل. وفي النهاية، اتفقوا على نقاط سبع، أهمها: إيقاف الاقتتال ووقف العمليات ووقف الحصار ومنها دعوة النواب للاجتماع ودرس الإصلاحات وطريقة الوفاق وطريقة إعادة مؤسسات الدولة، وبعدها إقرار ذلك في جلسة تُعقد، فيُنتخب رئيس للمجلس ومكتب للمجلس، ثمَّ يُصوَّت على الإصلاحات، ثم ينتخب رئيس للجمهورية.
لماذا هذا الترتيب؟ لأننا فوجئنا في المرات السابقة بوعود عديدة، ولم تُنفذ. فأردنا أن نتأكد في هذه المرة أن ضمان الإصلاحات يأتي قبل انتخاب الرئيس. ماذا حدث؟ قَبِل الفرقاء جميعاً بهذه النقاط السبع. وفي اليوم الثاني من قبولهم لها، دُعيَ النواب لعقد جلسة أو اجتماعات في الطائف (في المملكة العربية السعودية)، بعيداً عن لبنان. وسبب ذلك، الحالة الأمنية التي كانت سائدة في لبنان ومحاولات الاغتيال، وكلكم يذكر، ماذا حدث في صيدا لي، من محاولة اغتيالي، وماذا حدث لنجاح واكيم في بيروت وماذا حدث للدكتور هاشم الحسيني في طرابلس، كلها كانت محاولات لاغتيال النواب، لاغتيال النصاب وعدم تمكنهم من الاجتماع..
ثمّ، بدأ التجمُّع (للنواب اللبنانيين) في الطائف في 29 أيلول 1989. وفي أول تشرين الأول بدأنا الاجتماعات، وبقينا طيلة ثلاثة وعشرين يوماً مع لياليها، ومن لياليها الطوال حتى بعد صلاة الصبح، كنا نجتمع وندرس ونتدارس. لماذا هذا الوقت الطويل، قد تسألون؟ لأن الفرقاء الذين ذهبوا إلى الطائف، وشهادة للحق، ما عدا طائفة واحدة، هي الطائفة السِّنية التي لم يكن لديها شيء خاص، بل كانت تطالب شيئاً شمولياً: إعادة بناء الدولة، عروبة الدولة، قوة الدولة، والوقوف على إصلاحات جذرية تجعل من الدولة، دولة قادرة ودولة عادلة، ومساواة.. لم نطلب شيئاً لطائفتنا.
والكل كان يحارجنا على الصغيرة والكبيرة، ربحاً لطائفته. وكنا نضحك من كل ذلك. وقلنا لهم خذوا ما تريدون، إنما أعطونا بلداً، أعطونا دولة، أعطونا وطناً.. فأحببنا أن نكون بهذه الحالة في الطائف، وتمكَّنا في النهاية، ولتعدُّد الآراء، للوصول إلى نتيجة. هذه النتيجة لا تُرضي طموحاتكم، ولا طموحاتنا، ولا طموحات قسم كبير من الشعب اللبناني. ولكنها تضع لبنان على طريق التطوُّر للأحسن، وعلى طريق إعادة البناء ليصبح قوياً، وعلى طريق قضية انتماء صادق، لتصبح علاقاته العربية بمقدورها أن تُعطيه القوة وتُعطيه الإمكانات للنموّ والتكامل.
أيها الأخوة، كنت دائماً أكرِّر هناك: أعطوني شيئاً واحداً، وأنا أعطيكم كل شيء، أعطوني إلغاء الطائفية والباقي حلال لكم. ولكن، من أين آتي بإلغاء الطائفية مباشرة وحالاً، والحرب الحاضرة تجذَّرت فيها طائفية بغيضة، لا أدَّعي وأقول إلا أنها مؤلمة، لا أصفها إلا بأنها مؤلمة، ولا تقود إلى الدين الحقيقي الصحيح، ولا تقود لتأسيس وطن قويّ قادر؟!… وعملنا كلَّ ما في وسعنا، لنتمكن من تحديد الطُّرق التي ستؤدي إلى إلغاء الطائفية. وإذا كان الذين سوف يأتون من بعدنا في الانتخابات النيابية المقبلة، أكثر منا نشاطاً وجهداً، فإنهم سيتمكنون من وضع حدود لتلك الآفة الطائفية التي خرَّبت لبنان في الماضي، وستبقى خطراً عليه في الحاضر والمستقبل.
الأمر الثاني، كان قد تأكد في اجتماعات سابقة في هذا المكان، وفي أماكن عدة في صيدا وفي غيرها، وهو أنه أمكننا من أن نؤكد انتماء لبنان إلى حقيقته وهي الهُويَّة العربية والانتماء العربي.
أيها الأخوة، أحبُّ أن ألفت نظركم إلى أمورٍ لم تكن معترفاً بها في الماضي. أولاً، أعطينا الطمأنينة، وقد سبقنا إلى ذلك، المؤتمر الإسلامي الذي انعقد منذ أكثر من سنة ونصف سنة، بأن قلنا لإخواننا في لبنان: إن لبنان وطن نهائي، مع أن هذه الفقرة مخالفة لقرارات جامعة الدول العربية، لأن قرارات الجامعة العربية تقول بأن السعي إلى الوحدة العربية هو المبدأ.
الأمر الثاني الذي أضفناه، أن النظامَ قائمٌ على أساس مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها. لم تعد هناك سلطة تطغى على سلطة أخرى، حتى ولو كان الجيش، حتى رئاسة الجمهورية، وحتى رئاسة الوزارة، كلها أصبحت مؤسسات لها حدودها الدستورية.
الأمر الثالث، العمل على تحقيق إصلاح مالي اقتصادي اجتماعي، لأننا لم نتمكن إلا من إبقاء الاقتصاد حراً في لبنان. فزدنا هذه الفقرة، أي أن يعمل المجلس النيابي واللبنانيون جميعاً، مؤسسات وغير مؤسسات، على إصلاح مالي اقتصادي اجتماعي، أي أن يكون الاقتصاد والمال من أجل البِنية الاجتماعية.
زدنا عدد النواب، أجل، لأننا اعتقدنا، بما أن الطائفية يجب أن يكون التمثيل على أساسها، فهناك طوائف لها، في الحقيقة، تاريخياً، أهمية في لبنان، ولكن بالنسبة إلى عددها، فإن تمثيلها قليل، فكان المطلوب زيادة نواب المجلس النيابي إلى ماية وثمانية وعشرين. ولكن مع الأسف قسم كبير من رفاقنا، وجد أن هذا العدد كبير، وسيُدخل قسماً كبيراً من النشء الجديد الذي يطالب بالتغيير دائماً. فلم يرتفع العدد إلاّ إلى مائة وثمانية نواب، أي أن عدد نواب إخواننا المسيحيين في المجلس العتيد أربعة وخمسون (54) نائباً، ويصبح عدد النواب المسلمين أربعة وخمسين نائباً أيضاً، ويكون المجموع مائة وثمانية نواب. فلم نتمكن من زيادة العدد إلى أكثر من ذلك. وكنا على وشك أن لا يتمَّ الاتفاق على هذه النقطة، فضُحِّيَ بهذه النقطة حتى يتمَّ الوفاق.
هناك مطالبة، بما أن هذا الوطن آتٍ قي المستقبل على إلغاء الطائفية، يجب أن يكون فيه تمثيل للمقامات الروحية. فاقترح أنه حينما يُلغى قانون الانتخابات المبني على أساس الطائفية، يُصار إلى إنشاء مجلس شيوخ يجمع القوى الروحية فيه.
الأمر الآخر، رئيس الجمهورية لم يعد رئيساً للسلطة الإجرائية. وهذا ليس انتقاصاً، وإنما عدل. لقد وُضعت السلطة الإجرائية في المؤسسة التي يجب أن تكون فيها. ولن تكون ملكاً لطائفة بعد اليوم، فستكون لمجلس الوزراء، المكوَّن من كل الطوائف. فالسلطة الإجرائية، لم يعد يتحكم بها رئيس الجمهورية، بل يتحكم بها مجلس الوزراء مجتمعاً والمؤلف من كل الطوائف. إذا أحب رئيس الجمهورية أن يرئس مجلس الوزراء يمكنه ذلك، ولكن ليس له حق التصويت.
رئيس الجمهورية، هو رئيس مجلس الدفاع الأعلى، ولكن الشيء الآخر أن القوى المسلحة هي بأمرة مجلس الوزراء. فإذن، أصبح مركز رئيس الجيش هو منصب رمزي. ولكنه (أي رئيس الجمهورية) يرئس مجلس الدفاع، كما أن نائبه يكون رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية ووزير الدفاع أعضاءً فيه، وبعض القيادات الأخرى. ومن ثمَّ يُصدر القوانين كما هي العادة. في الماضي، كان رئيس الجمهورية هو الذي يعيّن الحكومة. اليوم ليس كذلك. اليوم يُجري استشارات في المجلس النيابي، ويُطلع رئيس المجلس على نتيجة تلك الاستشارات النيابية ويسمي رئيساً بنتيجتها. ولا يسمي رئيساً من عنده، وإنما بنتيجة تلك الاستشارات. إذا اختلف رئيس الجمهورية في أمر من الأمور مع مجلس الوزراء، يمكنه أن يعيد قرار مجلس الوزراء إلى مجلس الوزراء. فإذا أعاد مجلس الوزراء إقراره، وجب عليه نشره في مدة خمسة عشر يوماً. إذاً، لم يعد رئيس الجمهورية بإمكانه أن يُبقي ذلك القرار في الأدراج أو أن لا ينشره. أصبح ملزماً بنشره، إذا أراد مجلس الوزراء ذلك.
هناك أمر يتعلق برئيس مجلس الوزراء: رئيس مجلس الوزراء، كما قلت، ليس وريثاً لرئيس الجمهورية، ولا بديلاً عنه. لأننا أحببنا أن نُبقي السلطة الإجرائية في مجلس الوزراء كافة. إنما هو يرئس هذا المجلس، وهو يوجِّه الوزراء، وهو الذي يطرح سياسة الحكومة، ويوقِّع جميع المراسيم ما عدا مرسوم تعيينه طبعاً. وهو الذي يدعو إلى دورات استثنائية، وهو الذي يدعو إلى عقد الجلسات الوزارية، ويُطلع رئيس الجمهورية على جدول أعماله. فإذا أحبَّ، طلب منه أنه سيحضر. إنه مطلوب منه أن يتابع الإدارات والمؤسسات العامة، ويُعطي التوجيهات إليها كلها. ولكن ليس على الطريقة الماضية. فلا يمكن، كرئيس الوزراء، وكما كان يفعل رئيس الجمهورية سابقاً، أن يستدعيَ مديراً لتوجيهه بأمر معيَّن. وإذا أحب ذلك، فيجب أن يدعو المدير أو الموظف مع وزيره. المؤسسة مستقلة، لم تعد كالماضي تبعاً لسلطة شخص واحد أو سلطة اثنين. وأنيطت بمجلس الوزراء الصلاحيات الباقية، وهي وضع السياسة العامة والسهر على تنفيذ القانون، وغير ذلك.
التصويت في مجلس الوزراء، بالأكثرية ما عدا أمور مهمة جداً، يجب أن تنال الثلثين. هذه الأمور هي الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، الموازنة العامة، الخطط الإنمائية الشاملة والطويلة المدى، تعيين موظفي الفئة الأولى أو ما يعادلها، حل مجلس النواب، قانون الانتخابات، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية، إقالة الوزراء. لم تعد إقالة الوزارة بيد رئيس الجمهورية، بل أصبح مجلس الوزراء يجب أن يأخذ ذلك بأكثرية الثلثين. وإذا غاب أكثر من الثلث، عمداً أو استقالة من مجلس الوزراء، يُعتبر مجلس الوزراء مستقيلاً بأجمعه، أو إذا استقال رئيسه. يمكن لوزير واحد أن يستقيل ويعيَّن بدلاً عنه. يمكن أن يُقال وزيرٌ واحدٌ، ولكن بقرار من مجلس الوزراء، كما قلت، أو بإسقاطه في المجلس. في الماضي لم يكن بإمكان المجلس أن يُسقط وزيراً واحداً. الآن يمكن للمجلس أن يسقط لأمر ما في المجلس وزيراً واحداً.
أما إلغاء الطائفية التي تحدثت عنها، فقلنا على المجلس النيابي المنتخَب والذي سيأتي على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مَهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
هذه النقطة، وجدناها ضرورية، ذلك أننا كنا قبلاً نطالب بتعيين مجلس وطني إلى جانب المجلس النيابي، أو بانتخاب أو تعيين مجلس وطني لا طائفي، مَهمته أن يدرس هذه الأمور، ويزداد عدداً يوماً بعد يوم. فإذا كبر، أخذ من المجلس النيابي الطائفي تدريجياً حتى يصبح هو المجلس الحقيقي، وذلك على غررار ما حدث في إنكلترا…. في إنكلترا، كان في الماضي مجلس اللوردات، ولما أنشىء مجلس العموم، أخذت الصلاحيات تنتقل من مجلس اللوردات إلى مجلس العموم. وأحب كثيرون ممن كانوا في مجلس اللوردات أن لا يعملوا في مجلس اللوردات، بل عادوا إلى الانتخابات ليكونوا في مجلس النواب. وتدريجياً أصبحت كل الصلاحيات في مجلس العموم. وكنا نتمنى أن يحدث شيء من هذا. ولكن هذه اللَّجنة ـ اللَّجنة الوطنية لإلغاء الطائفية ـ كفيلة بأن تضع ما هو الأهم وأحسن الطرق لتحقيق ذلك. فإذا لم تتحقَّق في نهاية المجلس، فأتمنّى أن تتحقَّق في المجلس اللاحق المنتخب.
كان اقتراحنا أن يكون أول مجلس نيابي منتخباً على أساس لا طائفي، فلم نتمكن. ولكن أُلغيت قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف، واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية، إلخ… باستثناء وظائف الفئة الأولى، تكون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة. بمعنى أن تُخصَّص أو تُعيَّن حقيبة أو مديرية وزارية محدَّدة لطائفة معيَّنة: مثلاً، مديرية الخارجية أو الداخلية أو المالية، إلخ.. هذا التوزيع الطائفي السابق لم يعد ساري المفعول من حيث المبدأ والأساس، بل تكون المراكز موزَّعة بين كل الطوائف ولأي واحدة منها، على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. غير أن هذه الناحية، كنا قد وضعنا لها مدة تطبيقها بعد انتهاء هذا المجلس الحالي فقط. وقد تُركت خصيصاً حتى يقـر إلغاءها المجلسُ النيابي المنتخب. إذ وجدنا، بما أننا نحن سنزيد عدد النواب تعييناً، لا يجوز أن نُقْدم على عمل كهذا يمكن أن لا يقبله المجلس المنتخب.
أما اللامركزية الإدارية، فكنا نخشى أن تنقلب في التطبيق إلى تقسيم المناطق اللبنانية وإلى كانتونات طائفية. وكنا نخشى أن تتقلب اللامركزية إلى دويلات طائفية. أي أن البشر والجماعات السكانية يُحكمون بما ينشأون عليه مع الأرض وفوق لبنان. فقلنا أولاً إن الدولة اللبنانية دولة واحدة موحَّدة ذات سلطة مركزية قوية. فأكدنا المركزية في الدولة. ثانياً، توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الإدارية على أعلى مستوى ممكن، تسهيلاً لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم المحلية. وثالثاً، أعدنا النَّظر في التقسيم الإداري ليصبح أكثر انسجاماً سكانياً، بحيث لا يكون التقسيم الإداري إفرازاً طائفياً. فتكون كل محافظة فيها الكفاية من التنوُّع السكاني والطوائف لتزول حدة الطائفية من النفوس.
اعتماد خطة إنمائية موحَّدة وشاملة للبلاد، قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً. وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحَّدة والاتحادات البلدية بالإمكانيات المالية اللازمة. فنحن لا نقبل بأي شرط من الشروط أن تبقى البلديات ضعيفة. لأننا نعتقد أن البلديات هي الوَحدة الأولى في الديمقراطية الصحيحة. فإذا تمكنا من تقويتها ديمقراطياً وإدارياً، نكون قد خدمنا الديمقراطية. هنا، نقطة مهمة كنا قد أقررناها، وهي أن يُنشأ مجلس دستوري لتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين. فهناك كثير من القوانين التي تُنشر وتُقر ولكنها تخالف الدستور. فهذا المجلس الدستوري يعيدها أو يلغيها. والبتُّ في نزاعات الطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية. فلم يعد الطعن في صحة انتخاب نائب من صلاحية النواب. بل أصبحت لدى مجلس دستوري. وللجهات الآتية ذكرها، مراجعة المجلس الدستوري وهي: أولاً، رئس الجمهورية له الحق أن يقول إن هذا القانون الصادر مخالف للدستور ويعيده إلى المجلس الدستوري. فإذا أقرَّ المجلس صحة ذلك (الطعن) يُلغى، وإذا قال غير صحيح، فيُبقي عليه. رئيس مجلس النواب، إذا أصدرت الحكومة قراراً وجد فيه مخالفة للدستور، يستطيع أن يحوِّله إلى المجلس الدستوري، رئيس مجلس الوزراء، إذا صدر قانون ووجده مخالفاً للدستور، له الحق أن يحيله إلى المجلس وكذلك أيضاً النواب الذين يريدون الطعن بصحة نيابة بعض النواب. فضلاً عن أنه، حتى نتمكن من أن نوجد الانسجام بين الدين والدولة، يحق لروؤساء الطوائف اللبنانية مراجعة المجلس الدستوري، في ما يتعلق بالأحوال الشخصية. إذا حصل هناك خلاف في الأحوال الشخصية، المسيحية أو الإسلامية، يمكن للمجلس الدستوري أن يبتّ فيها. حرية المعتقد، فإذا وجدوا على أنها تُمسُّ، فإن المجلس الدستوري يحكم في ذلك، إذا كان هناك مساس أم لا. حرية التعليم الديني، فإذا وجدوا أنها تتقلص أو أنها تُمنع، يمكنهم أن يرفعوا شكوى إلى المجلس الدستوري، وقراره ملزم..
أما مجلس القضاء الأعلى، فقد كان ينشأ بالتعيين. أما اليوم فأصبح عددٌ معيَّنٌ من مجلس القضاء الأعلى ينتخبُ انتخاباً.. أيضاً أنشىء ما كان يُطالب به اجتماعياً "المجلس الاقتصادي والاجتماعي للتنمية"، وهو الذي يرعى العلاقة الاقتصادية الاجتماعية، وكيفية تنميتها وسلامتها. وهذا المجلس لا يحق له أن يُصدر القوانين، وإنما يقدِّم اقتراحات، ومجلس الوزراء يقدم مشاريع القوانين ومجلس النيابي يقرُّها.
حرية التعليم، وجعل التعليم الابتدائي ملزماً. كنا نحب ونريد أن نجعله في المراحل كلها ملزماً، أي حتى التعليم الثانوي، لم نتمكن لأن القسم الكبير من النواب قالوا: هذا عبء لا يمكننا القيام به. وطالبنا بحماية التعليم الخاص، ولكن مراقبـة الدولة على المدارس الخاصة واجبة. وطالبنا بإصلاح التعليم المهني والتقني وتعزيزه وتطويره. وزارة التربية بحاجة إلى عمل كثيف جداً وعميق جداً. وأعتقد أن هذه الوثيقة، ستمكنهم من إعادة الدرس.. طالبنا توحيد الكتاب في التاريخ والتربة الوطنية..
والبند الثاني هو بسط سيادة الدولة: قلنا إن لبنان يجب أن يصبح دولة قوية قادرة، وذلك أولاً بأن تكون الدولة هي المسؤولة عن الأمن وحدها، وهذا يتطلب حل جميع الميليشيات في مدة ستة أشهر من طلب الحكومة. بعد أن تُقر الإصلاحات الدستورية، تبدأ الحكومة بعمل حلّ الميليشيات. وحتى تتمكن من ذلك، يجب تعزيز قواها الأمنية الداخلية والجيش.
الجيش لم يعد كالسابق بأمر إداري أن ينزل إلى الساحة. الجيش يُستخدم وتُستخدم القوات المسلحة في مساندة قوى الأمن الداخلي للمحافظة على الأمن في الظروف التي يقرها مجلس الوزراء. الجيش يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء لنزوله إلى الشارع وتحمله قضايا أمنية.. وليس كالسابق: فقائمقام، محافظ، وزير داخلية أن يطلب نزول الجيش ويحدث كما حدث في الماضي..
توحيد وإعادة تأهيل القوات المسلحة وتدريبها، بعد ذلك تعود القوات المسلحة إلى ثكناتها… تنظيم مخابرات القوات المسلحة لخدمة الأفراد والعسكريين دون سواهم. المكتب الثاني لم يعد يستطيع أن يعذِّب الناس. المكتب الثاني يخدم العسكر فقط وأمن الجيش فقط..
وهناك نقطة وهي مهمة جداً، وهي حل مشكلة المهجرين اللبنانيين جذرياً وإقرار حق كل مهجر لبناني منذ العام 1975 بالعودة إلى المكان الذي هُجِّر منه.. وهذا يقتضي التشريعات وقوانين، منها مالية ومنها إدارية ومنها قضائية..
الدولة السورية ملزمة ببسط سيادة الدولة اللبنانية والقوات المسلحة اللبنانية على الأراضي اللبنانية ومساعدتها على ذلك في مدة السنتين المتواجدة فيها، ثم تنسحب سورية من الأراضي اللبنانية: فور الانتهاء من إقرار من المجلس النيابي، مادة فمادة كل الإصلاحات الدستورية. وتبقى الإصلاحات القانونية تأخذ مجراها فيما بعد. هذا التاريخ أي إنهاء الإصلاحات الدستورية، بانتهائه تبدأ مدة إنسحاب القوات السورية في مدة سنتين، إلى الحدود التي اتفق عليها في عين دارة، في ضهر البيدر والمديرج وحمانا. هذه النقاط اللازمة لاستراتيجية مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان..
لماذا هذا الانسحاب، ومَن يطالب بالتحرير؟… نحن أخبرناهم بالفم الملآن: لا نقبل بانسحاب السوريين قبل إصلاح القضايا الدستورية وتوحيد الجيش وجعله غير فئوي وجعله قادراً على بسط السيادة، وإلاّ فنكون قد وضعنا أنفسنا، كما وضعناها أيام الاحتلال، ومحاولة الجيش في ذلك الوقت من الاستيلاء على بيروت الغربية، وتعرفون ماذا حدث. فنحن لا نريد أن تعود تلك "القصة" ويقتل لنا الآلاف ومئات الآلاف من أبنائنا.
تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي شيء مهم جداً. أولاً باستعادة السلطة. لأن الدول الكبرى والدول العربية، كما أخبرتنا، أن إسرائيل قالت. حينما يصبح في لبنان دولة قوية قادرة، أنا أنسحب. صحيح أو غير صحيح: لا نعرف. لكن، أنا لا أؤمن بذلك. ولهذا ستسمعون، فيما بعد، أني طلبت إدراج قضية المقاومة الوطنية في الوثيقة والعمل على تنفيذ قرار 425 القاضي بالانسحابات الإسرائيلية.
العلاقة مع سوريا، وهذه أخذت جهداً طويلاً والسوريون لم يقفوا معنا في كل الطريق، مع احترامي ومحبتي لهم. وسأخبركم كيف كان ذلك… إن لبنان الذي هو عربي الانتماء والهوية، تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميَّزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة. وهنا كانت هذه الجملة: والمصالح الاستراتيجية المشتركة: حاولنا طويلاً أن نقنع أخواننا العرب وأخواننا اللبنانيين على الإبقاء على هذه الكلمة. فقالوا: كيف تريدون، إذا سوريا تحالفت مع إيران، نحن مضطرون أن نتحالف معها. قلنا: أنتم لستم مضطرين أن تتحالفوا معها، لأن العلاقة الاستراتيجية هي السورية ـ اللبنانية وليست السورية الإيرانية. فحتى لا يقف السوريون ضد الاتفاق، حينما ذهب العرب إليهم في دمشق، قبلوا "أي السوريون" بتغييرها وإبدالها بتعبير "المصالح الأخوية المشتركة". وكلمة مميَّزة، بقينا ثلاث ليالٍ حتى بعد الصبح، نحاول توضيح وإفهام ماذا تعني كلمة "مميَّزة". كنّا نوضّح أنه: أيمكن أن تكون العلاقة بين جارك القريب (الحائط بالحائط) وبين مَن هو بعيد عنك، كالعلاقة بين جارك المجاور لك والقريب منك؟!… إن العلاقة مع سوريا لم نخلقها نحن، لقد خُلِقت، وجدت، وكانت، ولا يمكن تغييرها بالشكل الذي تفكرون. فهي علاقات تختلف مع سوريا عنها مع باقي البلاد العربية الأخرى. لا يمكن أن تكون العلاقة مع سوريا، كما هي مع العراق مثلاً. أو كما هي مع المملكة العربية السعودية. أو كما هي مع المغرب أو كما هي مع الصومال أو السودان… مع محبتنا لتلك البلاد العربية جمعاء وحبنا للعلاقات الأخوية العميقة والواسعة مع تلك الدول.. وكذلك أعطى السوريون إقراراً، لا أعرف كيف يمكن أن يزاد على هذا الإقرار: "التنسيق والتعاون بين البلدين" وتجسده اتفاقات بينهما. السوريون قالوا نحن مستعدون للتوافق مع حكومة مسؤولة على ما يحقق مصلحتكم ومصلحتنا: وفي إطار سيادتكم، وفي إطار سيادة لبنان، وبدون تعدٍ على سيادة لبنان. وتأكيداً لهذا الذي يدَّعي سيادة لبنان. حفظت له في هذه الوثيقة كل سيادة لبنان وأقر بحفظها ذلك الذي شن الحرب عليه. مما يقتضي عدم جعل لبنان مصدرَ تهديد أمن لسوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال. وعليه، فإن لبنان لا يسمح أن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو بأمن سوريا. يا أخي، لم نعد نريد أن يكون لبنان بلداً مفتوحاً لكل قوة تريد أن تلعب به. لنا علاقات مميَّزة مع سوريا ولنا علاقات مع الجامعة العربية ولنا علاقات دولية أيضاً ضمن هذه السيادة اللبنانية، فأهلاً وسهلاً لكل من يحضر إلى بلدنا. أما كل واحد أن يجعل من لبنان بؤرة للتآمر حتى يخرب العلاقات مع سوريا وإخواننا العرب، فإن ذلك لا نرضى به، فهذا يهدِّد وجودنا ويخرِّبه. فهذه سوريا، نريد منها أن تحافظ على سيادتنا وتثبيتها. وهذا (أي العماد عون) الذي يطلب محاربة سوريا، وسوريا هذه تعمل على المحافظة على سيادتنا وعلى تثبيت هذه النقاط.
"إن سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه، لا تسمح بأيّ عمل يهدِّد أمنه واستقلاله وسيادته". ولأول مرة يصدر شيء عن سوريا مثل هذا التأكيد: اعتراف بالسيادة والاستقلال وحدود الدولة اللبنانية وأنها نهائية. وهذا (العماد عون) يريد أن يحارب السوريين من أجل السيادة والاستقلال.
هناك كتاب، قلنا لللَّجنة الثلاثية أن تعطيه إلى لبنان، في ما يتعلق بالضمانات، فأعطت اللَّجنة في كتاب لها، الضمانات العربية المطلوبة، وقالت: إننا نحن مسؤولون عن استمرار المساعدة من أحل تحقيق هذه الوثيقة الوفاقية، على الأرض من أجل إقامة المؤسسات وتثبيت الدولة وبسط سيادتها على كامل أرضها. وكذلك نحن، أي اللَّجنة الثلاثية، مسؤولون مع الدول الأخرى عن مساعدة لبنان مادياً واقتصادياً للنهوض من كبوة اللبنانيين. كذلك أكرمتنا، نحن، اللَّجنة، وهذا هو الإكرام الوحيد، بأنها امتدحت المقاومة وطلبت مساعدتها.
هذا هو الشيء المهم في هذه الوثيقـة. أما أن يُطرح عليَّ السؤال: .. فلماذا يحارب (العماد عون) ومَن يحارب؟ فقد قلت في المقدمة إنه لا يزال هناك فريق في هذا البلد، وليس هذا الفريق قليل الأهمية أو صغيراً، لا يريد أن يعطي الإصلاحات الحقيقية لنجعل من لبنان بلداً موحداً وحديثاً. أنا كممثل لفريق، أقول بكل صراحة ووضوح: لا يمكنني أن أتنازل بعد ذلك، من حصَّة فريقي عن أي شيء، مع أني، كما قلت، لم أطلب لطائفتي وكممثل لطائفتي السِّنية في ذلك المكان، لأن طلبي كان شمولياً.
الأمر الثاني، أن هذه الوثيقة وهي أقل ما يمكن الوصول إليه، إذا لُعِب بها، فأقول لكم: إنها ستنهار وسيضطر اللبنانيون لإعادة النظر فيها كلها، ولتأتي وثيقة أكثر تطرفاً لصالح الفريق الوطني وأبعد تأثيراً مما يراه العماد عون.
واستعرضوا معي الوثيقة، ثم قارنوها بالبيان الوزاري لحكومة الشهيد رشيد كرامي، ثم ما قالوه بشأن الوزارة الرشيدية، ثم الاتفاق الثلاثي، ثم ما اتفق عليه مع المرشح الرئاسي الشيخ مخايل الضاهر. ترون أنها كلها هي أقل من هذه الوثيقة. وإذا لم تُبت هذه الوثيقة رضائياً واتفاقياً ووفاقياً، فإن لبنان سيبقى معرضاً للأزمات، وسوف لا تحل أزمته وفاقياً. لن الشرعية الأساسية لكل كيان هي وفاق بنيه. فإذا كانت الأكثرية لا تقبل بأقل من هذا، فمن الصعب جداً، الإعطاء غير هذه الوثيقة، إلا إذا كانت أكثر تقدماً لناحية بناء هذا الوطن، بناءً صحيحاً، وبمعنى آخر إلغاء الطائفية إلغاءً كلياً.
أما هذه الوثيقة، وكيف تطبق، فنحن نعلم بأن تطبيقها صعب، أجل، أقول بأن لبنان انعدمت مؤسساته، فيجب إعادة بناء مؤسساته في الدرجة الأولى. ومن الناحية الأخرى، خلق قوته الداخلية والجيش، توحيده وإعادة تأهيله وتدريبه. الجيش أصبح مرهّلاً، معدل العمر فيه فوق الخامسة والثلاثين سنة، يصعب عليه أن يكون صالحاً كما هو الآن. ولهذا يجب تطعيمه وتدريبه وزيادة عدَّته وعديده حتى يستطيع أن يبسط سلطته على كل الأراضي اللبنانية.
ومن الناحية الثالثة، الصدق مع سوريا والعلاقات السورية حتى نأخذ منها عملاً بمقدار صدقنا معها، لخلاصنا من الميليشيـات المسلحة ومساعدتنا على بسط السلطة. إذ، بدون سوريا، لا يمكننا الخلاص من الميليشيات المسلحة ولا بسط السيادة. فإذا كنا مخلصين وصادقين بعلاقاتنا مع الشقيقة سوريا، يمكن أن نحقق هذه النقاط الواردة في الوثيقة، حتى نتمكن من تحقيق هذه الوثيقة في درجاتها الأولى.
أما ما يحدث على الأرض، وما يحدث من جهة الدول، فأنا قلت من أول يوم لرئيس الجمهورية بصراحة تامة، إن العماد عون وقضيته لا تعنيني. إنها تعني الدول التي وعدت بأن تساعد على إعادة المؤسسات وإعادة الرئاسة ونحن نساعدكم، فتفضلوا وساعدوا. وإذا لم ترغبوا في أن تساعدوا. فإن لبنان، لا أقول بأنه سيعود ويقع في دوامة حرب، ولا أرى ذلك قريباً، وإنما ستعود المأساة سيرتها الأولى إلى لبنان. والذي سيدفع الثمن والأغلى فيها، هو مَن يدَّعي بأنه يريد السيادة ويحارب من أجلها.
الأمر الرابع، وهو الأمر الواقع في لبنان، صعب، أنا ممَّن يعتقدون أن لإسرائيل مطامع في هذا البلد، مطامع في الأرض والمياه والتوطين.. واللبنانيون والعرب والفلسطينيون يرفضون ذلك. فإسرائيل لا تريد إعادة بناء لبنان قادراً وموحَّداً، ح