الفكر القومي العربي: محددات وآفاق
ندوات /
ثقافية /
2004-06-20
ندوة الفكر القومي العربي: واقع وآفاق (1)
مداخلة الدكتور معن بشور بعنوان
(الفكر القومي العربي: محددات وآفاق)
دار البعث ـ 20 حزيران 2004
الفكر القومي العربي هو الفكر الذي يسعى إلى تحقيق وحدة الأمة العربية ، و صون هويتهـا و صوغ مشروعها النهضوي الحضاري المؤهل لاطلاق طاقات الانسان العربي و حمل رسالة الأمة الانسانية التي تمكنها من المشاركة في بناء عالم خال من كل استعباد أو استبداد أو استغلال أو فقر أو تخلف أو هيمنة . و بهذا المعنى فالفكر القومي العربي هو الفكر القادر على اكتشاف قوانين الصراع الكبرى التي تتحكم بحركة التاريخ في هذه المنطقة ، و هو صراع قديم و مستمر بين قوى و مصالح و عصبيات حول مشاريع وحدة الأمة أو مخططات تفتيتها . و بهذا المعنى أيضاً فالحديث المتكرر عن سقوط الفكر القومي العربي بسبب أخطاء أو خطايا شابت ممارسة بعض الأنظمة أو التنظيمات أو الأفـراد الذين انتسبوا إلى مدارس هذا الفكر ، و هي متعددة و متنوعة ، هو حديث يندرج في اطار حركة الصراع تلك ، و يهدف إلى اسقاط آخر الحصون التي تمتلكها الأمة في مواجهة مخططات التفتيت و التفكيك . بل إن هذا الحديث يتجاهل أن الأفكار قد تتراجع و قد تنحسر و لكنها لا تسقط أبداً ، فكيف إذا كانت متصلة بهوية الأمة و بنزوعها النهضوي و بإرادة التحرر و الاستقلال فيها و بكرامة الانسان و حقوقه الأساسية ، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية . و لعلها من المفارقات اللافتة أن مثل هذا الحديث يتعاظم عن سقوط الفكر القومي العربي فيما يشهد العالم كله نزوعاً نحو بناء تكتلات كبرى تشير إلى استحالة بقاء كيانات صغيرة في عالم اليوم ، و فيما يشهد الوطن العربي ذاته تفاقم مأزق الكيانات القطرية ، التي لم تنجح في أن توفر لأقطارها أمنها الوطني ، و تنميتها المستقلة ، و المشاركة الشعبية المطلوبة . و لعلها من المفارقات اللافتة أيضاً و المتصلة بحديث أعداء الوحدة العربية عن سقوط الفكر الداعي إلى تحقيقها، أن هؤلاء أو معظمهم ، يروج لمشاريع شرق أوسطية ، جديدة أو كبيرة ، تتعامل مع المنطقة كوحدة استراتيجية و اقتصادية و سياسية و لكنها تسعى إلى طمس هويتها القومية ، و القفز فوق حقيقتها التاريخية ، لصالح مفاهيم جغرافية مبسطة يمكن من خلالها ادماج الكيان الصهيوني في نسيجها ، فيما يصل هذا الكيان إلى ذروة انغلاقه و اقفاله على نفسه عبر ما يسمى بجدار الفصل العنصري الذي بات عنواناً لا لانتهاك الصهاينة لحقوق شعب فلسطين و للشرعية الدولية فحسب ، بل بات عنواناً أيضاً لسقوط العقيدة الصهيونية التي رفعت لنفسها شعار " اسرائيل الكبرى " و التي قدمت للمنطقة قبل عقد و نيف من الزمن مشروع الشرق الأوسط الجديد . لقد علمتنا دروس التاريخ ، أن الخطأ الأكبر الذي يمكن أن تقع به حركات أو أفكار أو تحليلات هو أن تتصرف و كأن اللحظة التاريخية الراهنة ، سواء كانت لحظة سقوط أو انتصار ، هي لحظة دائمة ، و أن يبنى على هذا التقدير مواقف أو تنظيرات ، فكيف إذا كانت لحظة السقوط الراهنة هذه هي بـالأساس بنت جهود خطيـرة و متراكمة ، بعضهـا داخلي و بعضها خارجي ، لايصال الأمة إلى ما هي عليه . لكن التركيز على مفارقات و مغالطات ينطوي عليها الحديث الرائج عن سقوط الفكر القومي العربي لا يعني بالتأكيد القفز فوق الحاجة الماسة إلى القيام بمراجعة فكرية نقدية لمدارس هذا الفكر لتحريره من جملة التباسات أحاطت به ، و من شوائب علقت بممارسات محسوبة عليه ، بل حتى لتحريره من نزعات ايديولوجية حولت هذا الفكر ، الذي ينبغي أن يكون جامعاً ، إلى متراس و خندق و عصبية أخرى من متاريس الصراع الأهلي العربي و خنادقه و عصبياته ، بل سعت إلى تحويل العروبة إلى شكل من أشكال العقيدة ، و تحويل القومية العربية إلى نظريات فلسفية تحاول محاكاة نظريات فلسفية عالمية ، فظلمت العروبة كهوية كما ظلمت العقيدة ، و شوّهت القومية كرابطة انتماء كما قللت من شأن الفلسفات الكبرى التي عرفتها البشرية . و هكذا فآفاق الفكر القومي العربي محددة إلى حد كبير بالقدرة على إجراء هذه المراجعة الفكرية ، و هي مراجعة مطلوبة على جملة محاور : المحور الأول: من الايديولوجية إلى المشروع إذا كان الفكر القومي العربي هو فكر التوحيد بالدرجة الأولى ، فإنه مطالب أن يكون قادراً على الاتساع لكي يستوعب في أطره ورؤاه كل تيارات الأمة و مشاربها العقائدية و السياسية و الفكرية ، بل كل تنوعاتها الاجتماعية و الدينية و الثقافية ، كما كل الخصوصيات الكامنة في مكوناتها السياسية و الأثنية . و إذا كان الفكر القومي العربي في بداياته الأولى في أواخر القرن التاسع عشر قد اختار لنفسه مهمة ابراز عناصر الوحدة و التماثل في الأمة ، من لغة و ثقافة و حضارة و تاريخ و مصير فإن مهمته اليوم أن يكمل تلك المهمة التأسيسية بمهمة بالغة الضرورة و الخطورة ، و هي مهمة الادراك الدقيق أيضاً لما في تلابيب الأمة من تباينات و تمايزات و حساسيات بهدف استيعابها في المشروع القومي الجامع على قاعدة التكامل لا الإقصاء ، و التشارك لا الأبعاد ، و التحاور لا الالغاء ، فيصبح احترام التنوع في الأمة اثراءاً لنسيجها ، و تجسيداً لرسالتها ، و تحصيناً لها في وجه كل أعدائها . و من هنا ، فالفكر القومي العربي مدعو اليوم إلى بلورة مشروعه الحضاري النهضوي ، لا كمجرد حاجة ملحة لاستنهاض طاقات الأمة بعد تحديد معالم الطريق ، بل أيضاً كإطار تتلاقى حوله كل التيارات و المشارب و الأطياف التي تتوزع عليها الأمة بل التي و تقيم بين ظهرانيها . ومما لا شك فيه أن الأمة العربية عبر القرنين الماضيين قد شهدت مجموعة مشاريع للنهوض و قدّم مفكروها مجموعة مداخل و مقاربات للنهضة ، إلا أن كل تلك المشاريع واجهت تحديات خارجية كبرى ، و ثغرات داخلية حقيقية ، حالت دون نجاحها ، تماماً كما عانت مجمل المقاربات و المداخل النهضوية من نقص في الشمولية حال دون أن تتحول إلى مشاريع نهوض شاملة . غير أن عدم نجاح تلك المشاريع ، أو عدم تكامل تلك المقاربات النهضوية ، لا يجوز على الاطلاق أن يحرمنا الاستفادة من التراث النهضوي الضخم الذي قدمته تلك المشاريع ، كما من التجارب النهضوية الهامة التي مرت بها ، و ذلك لدى صوغ أي مشروع نهضوي حضاري للأمة . و ليس من الصدفة أبداً ، أن يتوصل مشروع " استشراف مستقبل الوطن العربي " الذي قام به مركز دراسات الـوحدة العربية قبل أكثر من عشرين عاماً ، و على مـدى خمس سنوات ، و شارك فيه أكثر من خمسين باحثاً و أكاديمياً ، إلى حاجة الأمة لمواجهة التحديـات المسـتقبلية إلـى " مشروع حضاري نهضوي " كما إلى " كتلة تاريخية " تنهض بأعباء تجسيد هذا المشروع . و إذا كانت تلك الدراسة قد حددت عناصر ذلك المشروع بستة : الوحدة العربية ، الديموقراطية ، الاستقلال الوطني و القومي ، العدالة الاجتماعية ، التنمية المستقلة ، و التجدد الحضاري ، فإن الكتلة التاريخية التي دعت إلى تشكيلها فكانت تضم القوى القومية الكلاسيكية و الاسلامية و اليسارية و الليبرالية . و استمر هذا الجهد الفكري لبلورة مشروع النهضة للأمة عبر مشاركة مفكرين و باحثين من كل تيارات الأمة هذه ، فانعقدت لهذه الغاية ندوة علمية كبرى في مدينة فاس في نيسان ابريل عام 2001 ، و كلفت لجنـة لصياغة مسودة هذا المشروع الذي سيعرض على كل القيـادات و المرجعيات و الشخصيات الفكرية و الثقافية و القوى الحية في الأمة لمناقشته و تطويره قبل أن يصار إلى بلورته كصيغة نهائية . نحن هنا إذن أمام تطور حاسم ، تلاقي جملة ايديولوجيات متعددة حول مشروع نهضوي حضاري محدد يبرز ما هو مشترك بين كل قوى النهوض في الأمة ، و يترك جانباً موضوعات الخلاف ، ضمن منهجية علمية و حدودية راقية : فلندخل مناطق الاختلاف و في جعبتنا كل نقاط اللقاء ، فنعالج الاختلافات بروحية اللقاء ، بدلاً من أن نسير بالاتجاه المعاكس فتعصف خلافاتنا بالكثير من المشتركات بيننا . و هكذا يتحول الفكر القومي إلى فكر جامع لمدارس فكرية و ايديولوجية متعددة ، و يتحول المشروع الحضاري النهضوي إلى ساحة تلاقي و حوار بين قوى تفرز معاً برامجها المرحلية، و أدوات عملها و أساليب نضالها المشتركة . و هكذا بدأنا نشهد في الساحة العربية ولادة هيئات و منتديات و مؤتمرات تضم بين صفوفها مفكرون و مناضلون و ناشطون من كل التيارات الرئيسية في الأمة يجمعهم همّ مواجهة المخاطر المشتركة ، و يبلورون معاً مشروعهم الحضاري للنهوض . و لم يعد غريباً مثلاً أن نرى في صفوف " المؤتمر القومي العربي " و في عضوية أمانته اسلاميين و ماركسيين و ليبراليين جنباً إلى جنب مع أبناء المدارس القومية المعروفة . المحور الثاني: بلورة العلاقة التكاملية بين العروبة و الاسلام بين مدرسة يحلو للبعض أن يسميها " الشامية " ، سعت في ظروف مواجهة سياسة التتريك في أواخر أيام الدولة العثمانية إلى فصل كامل بين القومية و الدين ، خصوصاً أن مثل هذا الفصل يطمئن من جهة مجموعات دينية غير مسلمة مقيمة في المشرق العربي ، و يواكب من جهة أخرى المفاهيم الأوروبية في التحرر من سيطرة الكنيسة ، و بين مدرسة أخرى ، بل مدارس، قامت في مناطق أخرى من الوطن العربي لم تر أصلاً أي فرق بين العروبة و الاسلام ، بل لم تكن تعتقد بوجود عرب غير مسلمين ، تنبهت مدارس فكرية و سياسية قومية نشأت في الأربعينات و الخمسـينات ، خصوصاً البعث و عبد الناصر ، إلى ضرورة اخراج العلاقة بين العروبـة و الاسلام مـن تلك الثنائية المضللة : إما فصل كامل أو تماه خالص ، لتؤكـد أن " علاقة العروبة بالاسلام ليس كعلاقة أي دين بأي قومية،و أن العروبة جسد روحه الاسلام " (ميشيل عفلق في " ذكـرى الرسول العربي / نيسان 1943 ) و لتشير إلى " دائـرة عربية و دائرة اسلامية " ينبغي أن تتحرك من خلالهما مصر ( جمال عبد الناصر ، فلسفة الثورة 1954 ) . و لقد عزز من الرؤية الفكرية الجديدة التي حملتها هذه المدارس أنها ولدت كحركات سياسية في رحم النضال ضد الاستعمارين الفرنسي و البريطاني ، حيث لا التباس بل تكامل بين المفهوم القومي و المفهوم الديني في مواجهة الانتداب . إلا أن هذه النظرة الصائبة للعلاقة بين العروبة و الاسلام و التي ساهمت في تعميق المد الشعبي للحركة القومية العربية في أواسط القرن العشرين ، ما لبثت أن تراجعت لأسباب عدة لا مجال لذكرها الآن ، و لعل أبرزها انغماس الجميع في لعبة الصراع على السلطة و ما تعززه من تجاذبات و تناحرات و انشقاقات تحرص أحياناً على أن تضفي على نفسها رداء عقائدياً أو نظرياً ، فقامت حروب و صراعات حمل بعض أطرافها راية العروبة و البعض الآخر راية الاسلام ، و اندفعنا جميعاً في مغالاة و غلو اعتبر فيها البعض العروبة نتاجاً صهيونياً ، فيما اعتبر البعض الآخر التدين الاسلامي ظلامية و تخلفاً . و كان أعداء الأمة دون شك مبتهجين بهذا النوع من الصراعات الذي وضع خصميها الرئيسيين العروبة و الاسلام في مواجهة اختزالية لقواهما و طاقاتهما ، بل سعى إلى نقل هذه الصراعات إلى داخل كل تيار بل كل حزب و حركة ، فاختلط حابل الفكر بنابل السلطة حتى استفقنا إلى يوم وجدنا فيه جيوش الاحتلال تطل على المنطقة بأسرها من برج بابل . إن اعادة صوغ العلاقة التكاملية بين العروبة كهوية قومية لكل عربي ، مسلماً كان أم غير مسلم ، و بين الاسلام كرسالة انسانية موجهة إلى كل البشر عرباً كانوا أم غير عرب ، تشكل اليوم أحد أبرز مهمات الفكر القومي العربي في محاولته لولوج آفاق المستقبل . و إبراز هذه العلاقة بين العروبة و الاسلام لا يقلل أبداً من دور العرب غير المسلمين ، لا سيما النصارى منهم ، الذين يعتز تاريخ الأمة بالكثير من مساهماتهم على كل صعيد نضالي أم ثقافي أم اقتصادي أم اداري أم نهضوي ، بل مشاركتهم بشكل فعال في بلورة الحضارة العربية الاسلامية التي تشارك في بنائها أبناء أديان متعددة ، و أعراق متنوعة ، و قوميات مختلفة ، بل كانت جسراً بين الحضارات القديمة التي استفادت منها ، و بين الحضارات الجديدة التي أسهمت في اطلاقها . و إذا كان البعض يركز على البعد الحضاري و الثقافي في العلاقة وبين العروبة و الاسلام ، فإن لهذه العلاقة أيضاً ثلاثة أبعاد ينبغي عدم تجاهلها . البعد الأول هو توحيدي ، بمعنى أننا في منطقة متعددة الأديان و الأعراق فما لا تجمعه العروبة كهوية قومية ، يجمعه الاسلام كعقيدة و هوية حضارية ، و من لم يعتنق الاسلام كدين من أبناء الأمة قاده انتماؤه القومي إلى اعتبار الاسلام ثقافة له و حضارة ، فتكامل العروبـة و الاسلام هو عنصر التوحيد الرئيسي في المنطقة ، بل هو الذي يحرر القومية العربية من أي نزوع شوفيني أو عنصري لأنها ذات علاقة وثيقة برسالة انسانية خالدة ، و هو الذي يمنح الاسلام فضاء يبرز من خلاله وجهه السمح ، و قدرته على التواصل و التفاعل مع حملة الرسالات الأخرى . و البعد الثاني هو استراتيجي حيث يوفر العمق الاسلامي الكبير للأمة العربية عمقاً استراتيجياً هاماً في اطار مواجهتها للمخططات الاستعمارية و الصهيونية التي تستهدف أمتنا في استقلالها ووجودها و مواردها و في مقدساتها أيضاً . فمن يستطيع اليوم أن يعزل معركة الأمة العربية في فلسطين و العراق عن بعدها الاسلامي وصولاَ إلى البعد الانساني الاشمل ، و من يستطيع اليوم أيضاً أن ينكر أهمية الاسلام كعنصر تعبئة و حشد في هذه المعركة . البعد الثالث و هو البعد الانساني ذلك أن بقدر ما تسهم بلورة هذه العلاقة في تعميق المضمون الانساني للفكر القومي العربي و تحرره من شوائب العنصرية و الشوفينية ، فإن هذه الصلة أيضاً تسهم في تحرير بعض الخطاب الحركي الاسلامي ، بل من بعض الممارسات المرتبطة بهذا الخطاب ، من شطط وغلو في التعبير ، وانغلاق في الممارسة ، ومغالاة في السلوك. إن العروبة بتذكيرها لبعض المدارس الحركية الإسلامية بوجود عرب غير مسلمين معهم يشاركونهم المصير والآمال والآلام ، وبوجود عرب ينتمون إلى مذاهب إسلامية أخرى يواجهون معهم الأعداء والمخططات ذاتها ، إنما تسهم في إطلاق حوار عميق في صفوف هذه المدارس ينبه في النهاية إلى وجود الآخر في الخندق ذاته ، وبالتالي إلى ضرورة تطوير الخطاب والممارسة بما يضمن توسيع جبهة الحلفاء وانفتاحه بالتالي على شعوب وأمم أخرى تشاركهم هم مواجهة قوى الهيمنة في العالم . ومن هنا فالفكر القومي العربي بصيغته الواسعة الشاملة لعقائد وإيديولوجيات متعددة ، يستطيع أن يلعب دوراً تاريخياً في احتواء ظاهرة التطرف ، وتحويل ما تنطوي عليه من طاقات باتجاهات أكثر إيجابية ونفعاً لصالح الأمة والإنسانية .
أما المحور الثالث الذي يستوجب أيضاً مراجعة عميقة وجريئة فهو صلة ( العروبة بالديمقراطية) التي تشكل اليوم أحد أبرز الآفاق التي تنتظر الفكر القومي العربي في مواجهة التحديات الراهنة . وعلى الرغم من المحاولات الضخمة التي تحاول ربط العروبة بالاستبداد ، انطلاقاً من تجارب وممارسات محددة ، إلا أن هذه المحاولات تتجاهل أن سمة الاستبداد ، وما تزال ، تطبع منطقتنا العربية والإسلامية بأسرها بغض النظر عن طبيعة الأنظمة ومدى قربها أو بعدها عن القومية العربية ، ولا يتسع المجال هنا لأمثلة .
بالمقابل فإن هذه المحاولات تتجاهل أيضاً كيف أن أنظمة الاستبدادية قامت في كل أرجاء العالم باسم شتى الأفكار والعقائد والاتجاهات ، بما في " الليبرالية " ذاتها التي ازدهرت في الغرب كظاهرة مرافقة للبرجوازية والحرية المطلقة لم تنتج فقط ظاهرة " الاستعمار" التي قهرت أمماً وشعوباً كثيرة وسلبتها إرادتها ومواردها وسيادتها ، " إذ كيف يكون حراً من يستعبد شعباً أخرا "، بل إن " النيو الليبرالية " التي تحكم اليوم واشنطن ولندن وسدني وروما وغيرهما من بعض عواصم الغرب تحمل في ثناياها اليوم بذور الانقضاض على الحريات الشخصية والعامة في مجتمعاتها ذاتها عبر قوانين وتشريعات وممارسات باتت تشكل اليوم مادة رئيسية لنضال كل حركات " الحريات المدنية" و " حقوق الإنسان " و " مناهضة التمييز العنصري " الناشطة في هذه الدول . إن رفض هذا الانطباع الخاطئ والمروج له عن " علاقة حتمية بين القومية العربية والاستبداد" لا يجوز أن يقودنا إلى التقليل من خطورة الشوائب التي لحقت بممارسات العديد من الأنظمة والتنظيمات حاملة لواء القومية العربية ، تماما كما لا يجوز أن تقودنا الحماسة المشبوهة لمقاومة مشاريع الإصلاح والديمقراطية المفروضة من قبل الإدارة الأمريكية إلى أن نتراجع عن مطلب تاريخي معروف حملته على مدى عقود قوى التغيير والإصلاح في المنطقة ودفعت ثمنه تضحيات باهظة . إن تطوير المضمون الديمقراطي للفكر القومي العربي ، ورفض مقايضة الديمقراطية والحرية بأية أهداف قومية أخرى كالوحدة والتحرر والاشتراكية ، هو الضمانة الرئيسية لفتح أوسع الآفاق أمام هذا الفكر ، ليس فقط لاتصال مسألة الحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية بأبرز جوانب معاناة الإنسان العربي ، وليس لأن الديمقراطية بما توفره من مشاركة شعبية واحترام لكرامة الإنسان هي الصيغة الأسلم للعلاقة بين الحاكم والشعب فحسب ، بل إن الديمقراطية أيضا هي ضمانة الوحدة الوطنية المهددة داخل العديد من أقطارنا ، كما هي الطريق إلى تحقيق الوحدة الوطنية باعتبارها تفسح المجال أمام إرادة غالبية أبناء الأمة المغلوب على أمرها في ظل واقع الاستبداد الراهن . وكلنا يذكر كيف أن الأجواء الديمقراطية السائدة في أواسط الخمسينات مكنت هذا البلد المحدود في إمكاناته وقدراته ، والكبير بشعبه ودوره ، من أن يصمد بوجه كل الأحلاف والمشاريع الاستعمارية والحشود العسكرية وأن يبادر ، في الوقت ذاته ، إلى إطلاق أول مشروع وحدودي عربي مع مصر عبد الناصر في القرن العشرين وهو المشروع الذي تآمرت عليه القوى المعادية للأمة مستفيدة دون شك من تراجع المشاركة الديمقراطية ابان عهد الوحدة . فمستقبل الفكر القومي العربي إذن ، بل مستقبل العمل القومي العربي برمته ، مرهون بقدرته على صوغ تلك العلاقة بين الديمقراطية والأهداف الأخرى للمشروع القومي العربي ، علاقة تدرك أيضا أن للديمقراطية في كل مجتمع طريق خاص يصل إليها ، ولكن تعدد الطرق لا يكون أبدا على حساب أساسيات باتت معروفة في كل مجتمع ديمقراطي . المحور الرابع: مواجهة العولمة وعالمية المواجهة إذا كان البعض يدعو باسم التعامل مع المتغيرات إلى تغيير الأفكار و القناعات والهويات وصولا إلى أن نغير جلودنا بأنفسنا ، فإن هذا لا يجوز أن يقود البعض الآخر إلى رفض الاعتراف بهذه المتغيرات ورفض التعامل مع تداعياتها ونتائجها . ومن هنا فالفكر القومي العربي مدعو إلى أن يتعامل مع هذه المتغيرات وفق قاعدة الجذور الثابتة والأقسام الممتدة بكل اتجاه . أهم هذه المتغيرات وأبرزها وأكثرها إطلاقا للتداعيات هي " العولمة " التي رغم أنه لا يوجد إجماع واحد على تعريفها ، أو حتى على تسميتها ، فهناك إجماع على مجموعة سمات ملازمة لها .
1. أنها ظاهرة مرتبطة بتطوير علمي وتقني عال ، وبثورة اتصال و معلومات أنتجت وسائل إنتاج وأدوات إنتاج أدت بدورها إلى تغيير هائل في علاقات الإنتاج .
2. أنها ظاهرة لا تنحصر تداعياتها في المجال الاقتصادي بل تتعداها لكل جوانب الحياة السياسية والثقافية والتربوية والاجتماعية .
3. أنها ظاهرة لا تنحصر نتائجها في منطقة معينة أو قارة معينة ، بل لها نتائج في كل جهة من جهات الأرض ، ولا يستطيع أحد أن يتجنبها .
4. إن العولمة بما تقود إليه من سهولة في تدفق المعلومات ، ومن تعظيم في الإنتاج البشري تنطوي على جانب إيجابي يسجل لمصلحتها في رصيد تقدم البشرية ، رغم ما تنطوي عليه من جوانب سلبية متعددة ينبغي مواجهتها.
فكيف يواجه الفكر القومي سلبيات العولمة ؟
إن الفكر القومي العربي مدعو اليوم إلى دراسة هذه الظاهرة وفهمها بكل مكوناتها ، كما بكل تداعياتها ، بل إلى فهم قوانين حركتها بكل ما تنطوي عليه من تناقضات ، ذلك أن المطلوب ليس فقط فهم العولمة بل أيضا تغيير مسارها الراهن بكل ما ينجم عنه من سلبيات . في هذا الإطار الفكري لا ينبغي الاكتفاء بتعداد الكثير من الجوانب السلبية الكاملة فيها ، والفضح الإيديولوجي والسياسي لها كشكل من أشكال السيطرة الإمبراطورية التي تقوم على أرخبيل من المراكز الاقتصادية المتقدمة وسط بحار من الجوع والفقر ، والتي تعتمد إيديولوجية السائدة بكل ما تنطوي عليه من عنصرية وقدرية وتعال ، مرتكزة على مجموعة من النهابين ( كما يسميهم جان زيغلر) أو ليغارك رأس المال المعولم حيث يربح مثلا المدير المالي لشركة والت ديزني 2783 دولار في الساعة كما تكسب العاملة في مصانع الشركة في هايتي 28 سنتيما في اليوم . ويسعى هؤلاء النهابون إلى موت الدولة لحساب الشركات المتعددة الجنسية ، وحيث يجري تدمير البشر عبر فقر يزداد كل سنة ، بحيث بات عدد الوفيات في مطلع هذا القرن في 122 بلد بسبب الفقر المدقع 58 مليون في عام واحد ، أي ما يوازي عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية من عسكريين ومدنيين ، وحيث يتحول الفساد إلى طريقة حياة يتحول فيها الفاسد إلى مفسد والعكس بالعكس ، فيما تتحول فيها أموال الشعوب الفقيرة المغلوبة على أمرها إلى حسابات سرية في مصارف سويسرا والبهاماس ، وليشنشتاين التي يطلق عليها اسم الأمم المتحدة الصورية ، وبعضها كالمنظمة العالمية للتجارة التي لا تحتاج حتى إلى هذه الرقابة الصورية وتستخدم كآلة حرب ضد دول تفكر بالتمرد على قرارات جائرة أو بحماية الحد الأدنى من مصالحها . بل ينبغي على الجهد الفكري أن يحاول اكتشاف قوانين حركة العولمة ، وبذور تناقضانها ، من أجل توجيه النضال باتجاهها.
هنا تطرح أسئلة نفسها
1. إذا كانت الإمبريالية آخر مراحل الرأسمالية ، فهل باتت العولمة اليوم آخر مراحل الإمبريالية ؟
2. هل يؤدي تعظيم الإنتاج ، كما هو هدف التطور التكنولوجي إلى زيادة إشباع حاجات البشر، أم أن الفقر الناجم عن تمركز المريع في الثروة والدخل الناجم عن العولمة يؤدي إلى إطلاق دورات متسارعة من الكساد في المراكز الصناعية بل إلى اختناقات كبرى فيها ، وإلى بطالة متزايدة ( كما نرى اليوم في واقع الاقتصاد الأمريكي واقتصادات الدول الصناعية الثماني ) .
2. هل العولمة تستهدف هوية ثقافية بعينها ، أو تستهدف عقيدة دينية دون غيرها ، أو انتماء قوميا بذاته ، أم أنها بإطلاقها لنمط ثقافي معين قائم على التسلط والتسطيح إنما تضرب كل الثقافات والأديان والقوميات كما يقول المفكر الكبير جلال أمين .
3. هل تستطيع قوى العولمة أن تتحمل نتائج إلغاء السيادات والدول لصالح شركاتها ، بكل ما يعنيه هذا الإلغاء من إلغاء مرافق لأجهزة القمع والسيطرة والتوجيه التي تخضع الشعوب ؟ وإذا أبقت من الدول الأجهزة دون الخدمات الأخرى لاسيما الاجتماعية منها ، ألن يحول هذا الأجراء الدول ذاتها إلى ساحات مضطربة على الدوام وعلى نحو يحدد مصالح تلك الشركات ذاتها ( النموذج العراقي ) ، ألم تتحول العولمة الاقتصادية والإعلامية ، كما أرادها الكندي مارشال ماكلوهان صاحب تعبير " القرية الكونية " إلى عولمة أمنية بطاشة تنتج دورات متزايدة من العنف في عالم وعدته العولمة بالهناء والاستقرار .
4. هل تستطيع العولمة أن تبقي على التناقض الصارخ بين شعارات عالمية أطلقتها لإخفاء أهدافها الحقيقية كالإصلاح وحقوق الإنسان والديمقراطية وحماية البيئة وحقوق المرأة والطفل ، وككاسحات ألغام أيديولوجية وسياسية أمام مصالحا ، وبين الممارسات التي تقوم بها ، وهل تستطيع أن تروج لشعار سقوط الإيديولوجيات فيما تتحكم بالدولة العظمى في العالم جماعة إيديولوجية بامتياز باسم " المحافظين الجدد" الذي كان بعضهم يساريا متطرفا إلى سنوات قليلة .
5. إلى متى تستمر العولمة الساعية إلى الإطاحة بكل الدول والقوميات ، والداعية إلى قيام ليبرالية عالمية ، قادرة على التعايش مع الكيان الصهيوني الذي يعتبر ذروة نتاج الفكر الفاشي العنصري التوسعي الانغلاقي ، بل ألن يكون احتضان القوى العالمية لهذا الكيان هو الصاعق الذي سيفجر العديد من المعادلات والتوازنات التي يحتاجها نظام العولمة .
إن طرح هذه الأسئلة والسعي للإجابة الدقيقة عليها لا يهدف فقط إلى محاولة تفكيك إيديولوجي لظاهرة العولمة ، كما يبدو في المرحلة الأولى ، بقدر ما يطمح إلى تحديد مساحات الحركة السياسية والاقتصادية والنضالية في مواجهتها.
بل إن الإجابة على هذه الأسئلة ، يقود الفكر القومي العربي بالضرورة إلى تلمس أبعاده العالمية كجزء من حركة عالمية إنسانية مناهضة للعولمة المتوحشة وللهيمنة والتمييز العنصري وتدمير البيئة وتهميش مجتمعات ودول وقارات بأسرها.
إن ظاهرة العولمة تتطلب من الفكر القومي العربي أن يدرك الطبيعة العالمية للمواجهة ، وأن يحدد القوى والمصالح والفئات الجادة في مناهضتها لهذا المشروع الإمبريالي ويسعى إلى التعرف على طبيعتها الأصلية ، وعلى تعدد مشاربها ، وتنوع تخصصاتها ، وغنى تجاربها ، وتمييز الأصيل منها عن المخترق استعماريا وصهيونيا بواسطة شبكات تمويل عالمية تتعاون مع أجهزة مخابرات دولية في التقاط ضعاف النفوس والقلوب والعقول لاستخدامهم كواجهات لاستراتيجيتها ، وكأدوات في تكتيكاتها . كما أن الطبيعة العالمية للمواجهة تفترض أيضا أن نطور في خطابنا وأدائنا بحيث يكون أقل تنفيرا للقوى العالمية ، وأقل إحراجا لأصدقائنا في القارات الخمس ، وأكثر قدرة على نسج تحالفات وبناء علاقات في المعركة الكبرى التي تواجهها الإنسانية.
المحور الخامس: في التربية والثقافة والعلوم
إن مراجعة عميقة لتجربة العمل القومي تبرز بوضوح أن الفكر ، كما العمل القومي العربي ، قد ركز على الأبعاد السياسية والنضالية على حساب الاهتمام بقضايا التربية والثقافة والعلوم ، فبدا في أحيان كثيرة وكأنه بعيد عن الأجيال الجديدة التي تتلقى تربيتها في المدارس أو بيوت العبادة أو أمام شاشات التلفزة ، فيما بدا أيضا وكأن هذا الفكر لا يعطي الثقافة بكل جوانبها البحثية والإبداعية ما تستحقه من مكانة في المشروع القومي ، كما بدا كذلك وكأن هناك جفاء بين الفكر القومي والتطور العلمي على نحو عزز من الانطباع الشائع بماضوية هذا الفكر أو غرقه في غياهب التخلف والضبابيـة . واهتمام مؤسسات الفكر القومي العربي ، كما العمل القومي ، بهذه الجوانب المهمة من حياة الأمة والعالم ، لا يعيد الفكر القومي إلى قلب العصر وإلى عقول الناس ووجدانهم فحسب ، بل إنه يستمد من هذه الجوانب مزيدا من القدرات والطاقات والرؤى والمعارف التي تؤهله لكي يتحول إلى قوة فاعلة في حياة الأمة في عالم باتت المعرفة فيه قوى وسلطة في آن معا .
المحور السادس: فكر الوسائل والأدوات والأساليب
لابد من تحرير الكثير من مدارس الفكر القومي العربي من تلك النظرة المتعالية إلى التفاصيـل ، سواء كانت تتصل بوسائل العمل أو بأدواته وأساليبه ، في حين أن الفكر الطليعي التقدمي الفاعل ليس فقط الفكر القادر على فهم مجتمعه وقوانين حركته وتفسيرها ، بل أيضا الفكر القادر على تغيير هذا المجتمع والارتقاء به نحو الأحسن . فأن يكون التنظيم الحزبي قوميا في تكوينه وقيادته أم قطريا ليس مسألة تفصيلية أو تنظيمية بحت ، بل هي مسألة فكرية في امتياز تسعى لإيجاد الصيغة الملائمة بين قوة الواقع القطري ومتطلبات الرؤية القومية . وكذلك العلاقات الجبهوية بين أحزاب وقوى ، والعلاقة بين الحزب السياسي والنقابات والجمعيات ، وظواهر تتعلق بمؤسسات المجتمع المدني على اختلافها ، وجمعيات الدفاع عن البيئة وحقوق الإنسان ودور المرأة ، كلها قضايا تحتاج إلى جهد فكري ، كما إلى عمل تنظيمي ، بحيث يمكن فهم ظروف نشأتها وتكوينها وبناها وعلاقاتها لكي تسهل عملية انخراطها جميعا في الاضطلاع بأعباء المشروع القومي.
في فكر الوسائل والأدوات والأساليب أيضا تبرز المقاومة بكل مستوياتها وأشكالها ، كنهج وكثقافة وكأسلوب في المواجهة ، كظاهرة ينبغي على الفكر القومي ، أن يسعى إلى تأصيلها فكريا باعتبارها أحد أبرز أسلحة الأمة في مواجهة التحديات الكبرى المفروضة عليها ، سواء التحديات المرتبطة بالاحتلال الخارجي الآخذ في التوسع ، أو تلك المرتبطة بالاختلال الداخلي الآخذ في التعمق على مستوى بنانا الداخلية كافة ، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية.
فهل المقاومة ظاهرة مؤقتة في حياة أمتنا أم هي ظاهرة مستديمة إلى زمن طويل ، وهل ثقافة المقاومة هي تلك الثقافة الموجهة نحو تحصين مجتمعاتنا بوجه غزو أعدائها فقط ، أم أنها أيضا تلك الثقافة التي تحرص على فهم الطبيعة المعقدة لمراحل التحرر ، وعلى إدراك الحاجة إلى إنتاج خطاب جامع ، وممارسات توفيقية ، وأسلوب انفتاحي على قوى المجتمع بأسرها ، انطلاقا من الوعي بعمق الصلة بين المقاومة والوحدة ، حيث المقاومة توحد المجتمعات ، وحيث المجتمعات الموحدة قادرة على الانتصار بالمقاومة.
كل هذه التساؤلات والإشكاليات تقدم نفسها إلى الفكر القومي العربي من أجل إطلاق حوارات واسعة حولها تسعى إلى إيجاد الإجابات الدقيقة والصعبة لها ، وليس الأجوبة السهلة والمبسطة والمخلة لها .
خاتمة:
قد لا تكون هذه المحاور هي وحدها التي تحتاج إلى مراجعة فكرية عميقة لتوسيع آفاق الفكر القومي العربي ، بل ربما هناك محاور عديدة ، لكنني أعتقد أن مهمة كل دور الثقافة والإعلام الفاعلة والحية في أمتنا مدعوة إلى الانكباب على دراستها ، محوراً ، للخروج بالاستنتاجات النظرية والعلمية التي تسهم في تطوير الفكر القومي العربي وتجديده في ضوء ثوابته الكبرى وليس على حسابها .