د. دندشلي - ملتقى الثقافة والحوار في لبنان
لقاءات /
ثقافية /
2003-03-08
مسوّدة مشروع
" ميثاق العمل الثقافيّ "
مطروح للمناقشة العامة من أجل
تأسيس لقاء ثقافيّ ، فكريّ ، ديمقراطيّ ، حواريّ ،
تـحـت اســم
ملتقى الثقافة والحوار في لبنان
* * *
إعــداد
د. مصطفى دندشلي
تتضمّن ورقة العمل هذه ، المطروحة للمناقشة العامة ، أربعة محاور أساسيّة :
1 ـ في الأهداف .
2 ـ في المفاهيم .
3 ـ في المنطلقات الفكريّة والسياسيّة .
4 ـ في المناهج .
* * *
أولاً : في الأهداف :
1 ـ ملتقى الثقافة والحوار في لبنان : إطارٌ أو تجمعٌ له هُويَّته الثقافيّة ، ومنطلقاتُه الفكريّةُ والحواريّةُ ، وبرنامجه المرحليّ على الصعيد النظريّ والعمليّ …
2 ـ يضمّ مثقَّفين ديمقراطيّين حوارييّن من أوساط اجتماعيّة وسياسيّة مختلفة ، ومن بيئات فكريّة وانتماءات ثقافيّة متنوّعة ، يلتقون مرحلياً على أهداف مشتركة ، متفاعلة، وبمشاركة جَماعيّة ، من أجل ترجمة الأهداف والمنطلقات الثقافيّة الموضوعة ، عن طريق الممارسة العمليّة.
3 ـ هنا مجموعة تساؤلات تُطرح حول الغاية من وجود هذا الملتقى الثقافيّ الذي نعمل على تأسيسه ، من حيث مضمونه ومنهجه وغاياته : فهل سيكون مولوداً ثقافياً جديداً ، يُضاف إلى المنابر والمؤسّسات الثقافيّة الكثيرة المنتشرة هنا وهناك عندنا؟!… أم أنّه يطمح إلى أن يكون شيئاً جديداً ، مميّزاً ، فكراً وعملاً ، ويسعى إلى أن يقوم بعمل ثقافيّ وطنيّ عام، بهدف تقديم تصوّر عقليّ جديد للفكر وللثقافة من جهة ، ومعالجة قضايا المجتمع وطرحها للحوار من منطلقات فكريّة وثقافيّة واجتماعيّة أيضاً جديدة ، من جهة أخرى؟!…
4 ـ لقد كان من نتائج الحروب اللبنانيّة المتقاطعة والأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والوطنيّة المتتالية، أن أدّت إلى انهيارات شاملة عميقة في بِنى المجتمع اللبنانيّ، وإلى صراعات أهليّة طائفيّة ومذهبيّة ، متلاحقة… وإلى فراغ في الساحة السياسيّة وغياب على صعيد الفكر الثقافيّ والممارسة الملتزمة بقضايا الشعب الحيويّة وقضايا الإنسان الأساسيّة… وكان أبلغ هذه الأزمات البنيويّة وأشدّها وقعاً وتأثيراً قد أصاب الجانب النفسيّ والوجدانيّ والفكريّ والاجتماعيّ على حدّ سواء.
5 ـ لهذا فإنّ هذه المرحلة التي نمرّ بها ، إنّما هي مرحلة تراجع وتقهقر ، مرحلة انحدار تكاد تكون مخيفة ، بل وخطيرة : ثقافياً ، أخلاقياً ، ومسدودة الأفق اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً…
6 ـ في هذه الأجواء العامة ، وعلى أثر انعقاد "ورشة العمل " المتخصّصة ، طيلة يوم الجمعة، 31 كانون الثاني 2003، في جامعة سيّدة اللويزة ، وبالتعاون مع : ندوة العمل الوطنيّ، والمركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا ، وحركة الحوار والثقافة في لبنـان، حول موضوع : " الثقافة والمثقّف في لبنان ، المفهوم والدور والوظيفة "، تولّدت لدى الكثيرين منّا الرغبة في العمل لتأسيس لقاء ثقافيّ عام متفاعل، يعود فيه المثقّفون الطليعيون الملتزمون بقضايا المجتمع والإنسان ، ليلعبوا دوراً جديداً ، بروحيّة جديدة ، بعقليّة جديدة، بمنهج جديد ، وبرؤية مستقبليّة جديدة ، بُغية :
1 ـ وعي قضايا المجتمع اللبنانيّ وأوضاعه الاجتماعيّة بشموليّتها .
2 ـ الالتزام اجتماعياً ، فكرياً ، ثقافياً ، سلوكياً ، قولاً وفعلاً ، بهذه القضايا الحياتيّة وطموحات الشعب الحقيقيّة .
3 ـ تقديم وعي متكامل شامل لظروف المرحلة التاريخيّة ، الانتقاليّة الراهنة ، داخلياً وخارجياً.
4 ـ تعميم هذا الوعي بصورة تكامليّة ورؤية مستقبليّة ، فكراً ، وكتابة وممارسة عمليّة… وأن يكون هذا اللقاء الثقافيّ الديمقراطيّ الحواريّ المزمع إنشاؤه ، تعبيراً حقيقياً صادقاً عن :
* ضمير الشعب الخلاّق ، في تاريخه النضاليّ الطويل ...
* وعيه الوطنيّ والسياسيّ ، الاجتماعيّ والثقافيّ .
* تطلّعاته الوحدويّة والمصيريّة ، في الفكر والممارسة .
* طموحاته الدفينة وآماله المستقبليّة في الإصلاح والتغيير .
* حاجاته الضروريّة ومتطلبات المرحلة الراهنة ، لبنانياً ، عربياً، عالمياً ، وذلك عن طريق :
1) التزام الفكر الديمقراطيّ والمنهج الحواريّ والمشاركة الجماعيّة .
2) طرح قضايا الشعب الحيويّة وقضايا المواطن الحقيقيّة وحقوق الإنسان ، منهجاً وسلوكاً .
7 ـ فطموحنا ، إذن ، كبير . ورهاننا في هذه المرحلة التاريخيّة الانتقاليّة بالذات، هو قيام طليعة مثقّفة جريئة ومقدامة… وأن ننشئ شيئاً جديداً ، تعبيراً وتمثيلاً ، ينبثق من قلب هذه الأزمات المتلاحقة ، على أن يكون نقيضها ، بفتحه لنا آفاق المستقبل … ذلك أنّ ما هو جديد حقاً ، وما هو جرئ وشجاع ، أن نُقدم وأن نتجرّأ ، في الوقت الذي يكون فيه كلّ ما يحيط بنا ، يدفع إلى التخاذل والتراجع واليأس والإحباط والانهزام والاستسلام …
8 ـ من هنا أهميّة العمل الجاد ، لإشراك دون استثناء كلّ الطاقات الاجتماعيّة ، والإمكانات الثقافيّة ، المتنوّعة ، الحيّة ، الفتيّة من أجل ملء الهوّة السحيقة ـ أقلّه نظرياً وفكرياً ـ بين تطلعات جماهير الشعب اللبنانيّ وآمالها وحاجاتها الواسعة من جهة ، وبين واقعنا الاجتماعيّ ـ السياسيّ المأزوم الذي نسعى إلى إصلاحه وتغييره من جهة أخرى ..
ذلك أنّه ، في المنعطفات التاريخيّة ـ الانتقاليّة ، يبرز دور " النّخبة " المثقّفة، الديمقراطيّة، التغييريّة، دور المثقّف والتزامه الواعي والمؤثّر في قضايا المجتمع وحقوق الإنسان الحقيقيّـة. وهو دور نهضويّ ـ تاريخيّ من أولويات الأمور في الأزمات المصيريّة …
إنّ " النّخبة " وهنا الطليعة المثقّفة ، في مفهومنا ، ليست منقطة أو منعزلة عن قاعدتها الجماهيريّة العامّة أو عن مكوّنات الثقافة التي نطلق عليها " شعبيّة ". فليس ثمّة فواصل أو حواجز تفصلها عن قضايا الناس وهمومهم وطموحاتهم .. بل هناك تفاعل جدليّ ، وتأثير وتأثّر مستمر ومتواصل بينهما . فالطليعة المثقّفة الملتزمة هي المهيّأة تاريخياً وفكرياً للتعبير عن قضايا الشعب الأساسيّة والمصيريّة ، وصوغها وبلورتها بصورة شموليّة ، عقلانيّة ، متكاملة . فهذا هو ، في الأساس ، دور الطليعة المثقّفة النهضويّ ووظيفتها التاريخيّة …
9 ـ من هنا أهميّة العمل على إعادة الاعتبار إلى الثقافة والمثقّف ، وإلى الفكر الثقافيّ الديمقراطيّ الحواريّ ، وأن يتوافر لدينا التصميم على أن نتجاوز جميع العقبات والصعوبات ، من ماديّة أو معنويّة . غير أنّ أبرز العقبات والصعوبات التي سوف تواجهنا في عملنا الثقافيّ الطموح والشامل، بل أخطرها ، هو هذا الشعور العام بالاستلاب واليأس ، بالعجز الداخليّ والنفسيّ ، لدى الرأي العام عموماً ، ولدى المثقّفين والمتعلّمين وبالتالي السياسيّين على وجه الخصوص ...
ثانياً : في المفاهيم :
كثيراً ما نستعمل في أدبياتنا عدداً من المصطلحات والمفاهيم الفكريّة والثقافيّة والفلسفيّة والسياسيّة، فمن الأهميّة التوقّف عندها ملياً ، توضيحاً للمغنى الذي نقصده منها . وهي كما تَرِدُ في هذا " الميثاق " مفاهيم : العمل ، الوطنيّ ، الثقافة ، المثقّف ، الحوار ، الديمقراطيّة ، التغيير .
العمل : كمفهوم سياسيّ ، فكريّ ، يُستعمـل هنا بمعنى : الفعل . والفعل حركة . والحركة حياة وحيويّة ، ديناميّة وفاعليّة . وهو يعني في هذا السياق إنشاء ملتقى ، يكون نقطة التقاء ومحور اتجاهات ثقافيّة متنوّعة ، متفاعلة ، متحاورة ، تلتقي في الفكر والممارسة حول برنامج عمل مرحليّ وكحدٍّ أدنى ، يكون تعبيراً عن طبيعة الأوضاع التاريخيّة والاجتماعيّة للمجتمع اللبنانيّ ، ضمن رؤية مستقبليّة.
الوطنـيّ (من الوطن) : وهو مفهوم يعني ، فيما يعنيه ، الشعور الواعي العام : النفسيّ والوجدانيّ ، والثقافيّ والتاريخيّ والجغرافيّ ( المكانيّ ) والسياسيّ ، الذي يربط الإنسان ـ المواطن بأرضه وأهله ومجتمعه والعالم الذي يحيط به . ويدعوه بالفكر أو بالسلوك أو بكليهما، إلى الدفاع عن مصالح البلد (الوطن) الذي ينتمي إليه ، متجاوزاً في ذلك كلّه ، أيّ فروقات طائفيّة أو مذهبيّة أو مناطقيّة… والنظر إلى الإنسان ـ المواطن بكليّته ، والانطلاق منه في سبيل تحقيق حقوقه المواطنيّة، الإنسانيّة كاملة ، وواجباته القانونيّة والاجتماعيّة على حدٍّ سواء …
فالوطنيّة ، بهذا المعنى وكما نفهمها ، لا تعني أبداً الانغلاق أو التقوقع على الذات أو الانعزال عن الآخرين أو اتخاذ موقف العداء منهم ، بل تعني في مفهومنا الثقافيّ ، الانفتاح على إنسانيّتنا ، والحضارة الإنسانيّة قاطبة ، وعلى العالم العربيّ الأكبر الذي ننتمي إليه ، ونحن جزء منه، ومصيرنا مرتبط بمصيره ، ومصلحتنا مرتبطة بمصلحته .
فمن ضمن هذه الرؤية الشمولية والواقعيّة والخصوصيّة لانتمائنا الوطنيّ يتحدّد دورنا في مجتمعنا المحلّي اللبناني وفي محيطنا العربيّ العام ، وتتوضّح معالم عملنا وطموحاتنا الإنسانيّة ونشاطاتنا الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة على السواء .
الثقافـة :
الثقافة ، في مفهومنا الخاص ، هي حركة الفكر وهُويّة الشخصيّة الوطنيّة وانتماؤها . كما أنّها منهجيّة في الفكر والعمل ، وطريقة في الأسلوب والسلوك ، تنبثق من صميم الواقع ، الواقع الاجتماعيّ ، وتعود إليه ، وتتفاعل معه ، وتتأثّر به ، وتؤثّر فيه ، من أجل فهمه واستيعابه ووعيه ، في أبعاده وعمقه ، والمساهمة أخيراً في عملية تغييره نحو الأفضل .
ومحور الثقافة " اللغة " التي هي وعاء الفكر ومضمونه ، وذاكرة التاريخ المجتمعيّة . ويتجلّى هذا الفكر بالوعي ، والوعي بالإرادة ، والإرادة قدرة خلاّقة ، فاعلة ، تتمظهر عن طريق حرية الاختيار .
والفكر هنا ، كمفهوم ، الفكر السياسيّ تحديداً ، إنّما هو أيضاً حريّة . والحريّة وعيٌ ، والوعي حتى يتحقّق ، عليه أن يدرك قضايا المجتمع المحيطة بـه ، ويستوعبها ، ويفهمها بشتّى وجوهها وتعابيرها ومستوياتهـا ، دونما تحيّز أو تعصّب أو تضليل. وذلك من أجل إحـداث عمليـة التغيير الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ ، ولمصلحة الإنسان كلّ الإنسان والشعب والمجتمع في آن .
المثقّـف :
إنّنا نعني هنا ، في هذا المفهوم الخاص : المثقّف الملتزم ، النّاقد ، الاعتراضيّ ، الديمقراطيّ. إنّه أداة الثقافـة ووسيلتها من أجل التواصل ونقل الأفكار والمبادئ إلى حيّز الفعل والممارسة، أقلّه على صعيد التصوّر العقليّ النظريّ والطموح المستقبليّ ...
ودور المثقّف ، بهذا المعنى ، إنّما يكمن في أن يعيَ ظروف المجتمع في حركته التاريخيّة، من الماضي إلى المستقبل ، انطلاقاً من لحظة الحاضر . أن ينطلق من صلب الواقع الذي يعيش فيه وهو جزء منه ، بكلّ تعقيدات هذا الواقع الاجتماعيّ وقضاياه المتنوّعة ، بُغية تغييره ... وأن يلتزم التزاماً فكرياً وسلوكياً وأخلاقياً ، بقضايا الإنسان . والإنسان المثقّف الملتزم ، الإنسان المواطن الديمقراطيّ الحرّ ، إنّما هو مسؤول عمّا يجري في مجتمعه وفي عالمه ، وما يحدث فيه : مسؤول عن إدراكه لما يحيط بوجوده ومعرفته وفهمه ... وأن يقدّم بالتالي وعياً متكاملاً للمرحلة التاريخيّة التي يمرّ بها . ومن ثمّ أن يعمّم هذا الوعي الهادف بصورة تكامليّة ، شموليّة ، إنسانيّة ، ورؤية مستقبليّة : قولاً وكتابة وممارسة .
فالمثقّف ، بهذا المفهوم المحدّد ، يغدو عاملاً أساساً من عوامل التغيّر ، وعنصراً طليعياً في عملية التطوير الاجتماعيّ والتقدّم الحضاريّ ـ الإنسانيّ . إنّه بكلمة : شاهد عصره ، شاهد حقّ وصدق ، لا شاهد زور وبهتان . فهو ضمير الشعب في أعماقه وروحه ، في طموحاته وآماله . وهو ناطق حقيقيّ باسمه ، عَبْر مراحله التاريخيّة والاجتماعيّة المختلفة ...
فليس هناك من ثقافة ديمقراطيّة واعية ، من ثقافة مواطنيّة حقيقيّة ، ملتزمة بحقوق المواطن والإنسان ، دون تجسيد نموذج للمثقّف الملتزم ، هذا المثقّف الذي يفهم الثقافة ويعيها على أنّها موقف جرئ وشجاع ، وموقف غير قابل للتجزئة أو للمساومة . فعلى المثقّف أن يناضل فكرياً وسلوكياً من أجل تحقيق هدفه الاجتماعيّ والسياسيّ والإنسانيّ، رغم الصعوبات أو الاضطهاد . فهو لا يتهاون في مواجهة قوى الظلم ، ولا يهادن في التصدّي للفساد : فيرفع الصوت عالياً ، كتابة وقولاً ، محذّراً، فاعلاً، عاملاً على تعرية الواقع الفاسد وإدانة التخاذل، جاعلاً من نفسه ناقداً مخلصاً ، معترضاً من أجل الإصلاح والتغيير ولمصلحة الإنسان ...
لكن السلطة أيّ سلطة ، وعلى أيّ مستوى ، عندما ترى فيه مثقّفاً معترضاً، ويشيرُ بأصبعه إلى مواضع الخلل بهدف تغيير هذا الواقع السيّء الفاسد نحو الأفضل ، تعمل على إخماد صوته بطريقة أو بأخرى ، وتغييبه ومنعه ، ترغيباً أو ترهيباً ...
الحـوار :
والحوار هنا مفهومٌ عامٌ ، متعدّدُ الوجوه والمضامين ، الفلسفيّة والثقافيّة والسياسيّة . وهو يَرِدُ في هذا السياق ، ليرتديَ معنى خاصاً ومميّزاً ، فنقول :
الحوار ، كما نفهمه وكمصطلح عام ، هو تلك " العلاقة الاجتماعيّة التفاعليّة " بين أفراد أو جماعات ، واتصالهم فيما بينهم وتواصلهم عَبْر " الثقافة " المجتمعيّة وقِيَمها وعناصرها الأساسيّة .
وللحوار شروطٌ ، كما له مضمونٌ وعناصرٌ وأهدافٌ . وشرط نجاحه ، اعتبار المتحاورين متساوين في القيمة الإنسانيّة والمواطنيّة ، ممّا يستلزم إرادة الانفتاح والاستماع ، وفهم الآخر ، ونَفْيِ الاستعلاء أو التسلّط أو التبعيّة . والانطلاق بالتالي ، من الكفاية والمساواة والنِّدّيّة . فيصبح الحوار هنا، بمعناه الحقيقيّ ، فعلاً وتفاعلاً ، تأثيراً وتأثراً ، أخذاً وعطاءً . فلا حوار ، إذن ، مع الجهل أو التجاهل أو التجهيل .
ولا يمكن أن يتحقق الحوار واقعاً ، دون وجود الحريّة . والحريّة ملازمة للديمقراطيّة . ولا ديمقراطيّة حقيقيّةً دون الحريّة . لهذا فقد أُعطيَ الحوارُ صفةَ الديمقراطيّة : الحوار الديمقراطيّ. والحوار والتغيّر عنصران أساسيّان في مفهوم الديمقراطيّة ، ومن مقوماتها القِيَميّة الرئيسة . وإنّ اقتران مفهوم الحوار والتغيّر بمفاهيم الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان ، يستتبع تفاعلاً جدلياً في المضمون الفكريّ ، والمنطلقات المبدئيّة والتوجّهات السياسيّة ، النظريّة والعمليّة على حدّ سواء ، بحيث لا يمكن تحقيق واحد من هذه المبادئ، دون تحقيق الآخر ...
غير أنّ أيّ موقفٍ حواريّ ، ديمقراطيّ ، نظرياً كان أم سلوكياً أم سياسياً، ينبغي أن ينطلق من الواقع ، الواقع الاجتماعيّ ـ الثقافيّ ، ويعتمد عليه ويعود إليه ، لفهم هذا الوقع وإدراكه عن طريق العقل والفكر والممارسة ، كما هو بذاته، في كنهه وحقيقته، ومن مختلف جوانبه ومستوياته...
والحوار أخيراً ، الحوار الديمقراطيّ ، الفاعل ، الحقيقيّ، إنّما يفترض وجود حالة حواريّة، في مجتمع حواريّ ، في مجتمع ديمقراطيّ . كما يفترض وجود رأي عام ومواطنين لهم صفات حواريّة، ديمقراطيّة ، وفكر حواريّ ، وأخلاق حواريّة ، وواقع سياسيّ حواريّ . ولا يمكن أن نصل إلى هذه الحالة الحواريّة العامة ، إلاّ إذا كان المجتمع ذاته ، بنظمه السياسيّة ، وتكوينه الاجتماعيّ ، ومقوّماته الأساسيّة : ديمقراطياً .
الديمقراطيّة :
في الاصطلاح العام ، تعني الديمقراطيّة فيما تعنيه ، وباختصار شديد ، اعتماد :
* الحريّة السياسيّة والفكريّة ، حريّة الرأي والحريّات العامّة ، في التعبير والاعتقاد والاجتماع .
* المساواة وتكافؤ الفرص وحقوق الإنسان في القول والفعل والسلوك والتنظيم السياسيّ والاجتماعيّ ...
* المشاركة الفعّالة ، الحقيقيّة ، لأوسع القدرات والطاقات والفئات الاجتماعيّة كافّة .
* الحوار المنفتح، الهادف، من أجل الالتزام بمصالح أوسع قطاعات الشعب وأهدافها وتطلّعاتها المستقبليّة ، وذلك بغضّ النظر عن أيّ انتماءٍ لدين أو طائفة أو مذهب ، أو أيّ منطقة أو منشأ اجتماعيّ ...
* النظرة أولاً وأخيراً إلى الإنسان كقيمة عليا : تاريخيّة وثقافيّة واجتماعيّة ، وكهدف ووسيلة في آن ، في كلّ سياسة اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو تربويّة ... غير أنّ هذا الإنسان مرتبط بأرض ، وبيئة ، ووطن ، وأوضاع اجتماعيّة وثقافيّة وتاريخيّة معيّنة .
إشكاليّة الديمقراطيّة :
لكن ، ومن جهة أخرى ، فإنّ الديمقراطيّة عندنا في لبنان ، وفي نظامنا السياسيّ على وجه الخصوص ، إنّما تشكّل إشكاليّة في ثقافتنا السياسيّة. ذلك يعني أنّنا كلّنا نريد لفظاً الديمقراطيّة، حكاماً ومحكومين . وكلّنا نعلن انتسابنا إليها وتمسكنا بها ـ على الأقل ظاهرياً ـ بينما ، في الواقع ، في السلوك السياسيّ والممارسة العمليّة ، كلّ الدلائل تشير إلى أنّها لم تدخل بعد في نسيج تفكيرنا وسلوكنا ووجودنا : فنختزلها أو نحرّفها أو نخترقها أو نضرب بها عرض الحائط في آن معاً ...
ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة نظام الحكم ، وبِنيته السياسيّة، وتكوينه المجتمعيّ، وإلى مَنشيء السلطات الحاكمة وتركيبتها الاجتماعيّة عندنا في لبنان، التي ترفض أصلاً مفهوم الديمقراطيّة بمعناها المبدئيّ الحقيقيّ ، وبالتالي ترفض تحمّل مسؤولياتها التطبيقيّة وقبول نتائجها العمليّة ...
إننّا نتكلم الكثير الكثير على ضرورة تحقيق الديمقراطيّة وإرساء قواعدها ، ومعها الحريّة والحريّات العامّة وحقوق الإنسان وخلافه ... غير أنّنا ، في الوقت نفسه ، لا نوفّر لهذا النظام الديمقراطيّ ، في الماضي كما في الحاضر ، أسبابَ النجاحِ ، ولا وسائل تحقيقه ، بل إنّنا نعمل القليل القليل في هذا السبيل ...
فتبقى تلك المفاهيم والمبادئ الأساسيّة : الديمقراطيّة ، والحريّة ، وحقوق الإنسان وغيرها أيضاً الكثير ـ في أحسن الحالات ـ شعارات فضفاضة ، شعارات لفظيّة ، شعارات خطابيّة ، عاطفيّة، لا تؤسّس شيئاً ثابتاً على أرض الواقع التطبيقيّ ...
نسير خطوات في السُّبُل الديمقراطيّة ، أحياناً تكون واعدة ، ولكن لا نلبث حتى نتعب، ونقرف ، ونيأس ، ونترك ما بدأناه ، غافلين عن أنّ تراث الديمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان ، إنّما هو عبارة عن نضال تراكميّ متواصل طويل ، ومحرك جوهريّ وأساس لاستمرار هذه المبادئ وتحقيقها ...
* إنّ المشكلة الرئيسة عندنا هنا في لبنان ، وبخاصّة في البلاد العربيّة قاطبة ، تبقى حتى الآن وإلى المدى المنظور ، مشكلة غياب الديمقراطيّة بمعناها الحقيقيّ وكقيمة سياسيّة وأخلاقيّة وإنسانيّة ... من هنا وفي هذا السياق السياسيّ العام ، فإنّنا نرى إلى قضيّة الديمقراطيّة ونعتبرها كقضية أساسيّة ومحوريّة ... فلا يمكننا أن نعمل على تحصين الجبهة الداخليّة ، إلاّ عن طريق تحقيق الديمقراطيّة على أسس ثابتة ...
* إنّ الحريّة والحريّات العامّة التي نعنيها ونشدّد عليها ، لا تعني ولا يجوز أن تعني إطلاقاً ، الفوضى والاستباحة وضرب عرض الحائط كلّ القِيَم الحقوقيّة والقانونيّة والأخلاقيّة ، بل تعني في أذهاننا تثبيت شعار: " دولة القانون والمؤسّسات " وتطبيقه ، حقيقة ، في الشكل والمضمون ...
فلبنان بلد الديمقراطيّة في هذه المنطقة من العالم ، وتبقى مطلباً لا غنى لـه عنها . فهو بلد التعدّد السياسيّ وبلد الحريّات العامّة وحقوق الإنسان ، أو ينبغي أن يكون ويبقى كذلك ... لكن ، لا يجوز أن يعني ذلك أن يصبح لبنان ، كنظام سياسيّ ، بؤرة مصدرها الاضطرابات التآمريّة التي تهدّد في هذه الظروف الإقليميّة الخطيرة ، وجود لبنان وأمنه وجوده .
التغييـر :
إنّنا نستعمل هنا اصطلاح " التغيير" بالمعنى الاجتماعيّ العام ، وهو يشير إلى الفعل الدؤوب والجهد الجاد والصبور من أجل :
* العمل على تغيير نمط الذهنيّة الطائفيّة والعائليّة والعشائريّة في العلاقات الاجتماعيّة ، وفي العمل السياسيّ ، وفي ممارسة السلطة .
* السعي ، بكلّ الإمكانات الديمقراطيّة، إلى تغيير الواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ والتربويّ ، نحو الأفضل ولمصلحة الإنسان .
* العمل ، بجهد ووعي متواصليْن ، على تغيير كثير من المفاهيم أو المقولات المتوارثة ، أو حتى " الأساطير " السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة السائدة في أذهان كثير من اللبنانيّين ...
* وعملية التغيير أخيراً، لا تحتاج إلى الجهد الفكريّ والعلميّ، ولا إلى العمل الدؤوب المستمر وحسب ، وإنّما تحتاج أيضاً إلى خوض معركة حضاريّة ـ ثقافيّة، شاملة، عميقة ، متواصلة ، وذات أبعاد ورؤى مستقبليّة .
والتغيير يستدعي ، في الوقت ذاته ، التحرير ويستلزمه :
أ ـ تحرير الإنسان اللبنانيّ من معوّقاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة .
ب ـ تحـرير الإرادة اللبنانيّة ، من كلّ ما يعيقها ، من نُـظُم ومؤسّسات وعلاقات سياسيّة، طائفيّة ومذهبيّة وعائليّة ، حتى تستطيع بالتالي أن تعبّر بوعي وانفتاح عن مصلحة الشعب ، ومصلحة المواطن ، ومصلحة الإنسان في المجتمع اللبنانيّ ...
ثـالثـاً : فـي المنطلقـات :
الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة .
نصل هنا إلى توضيح بعض المنطلقات الأساسيّة ، وصياغتها في النقاط التالية:
1 ـ من الأهميّة ، بادئ ذي بَدء ، الانطلاق من فهم الواقع الاجتماعيّ ـ الثقافيّ ، واقع الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة لأوسع القطاعات الشعبيّة ، في مناطقها المختلفة ، والتعبير الشموليّ عنها، عن طريق الكلمة والرأي والحوار الديمقراطيّ، وذلك من أجل تحقيق عدالة اجتماعيّة حقيقيّة، غايتها الإنسان ، مواطنيّة ـ الإنسان ...
2 ـ فالنظرة إلى الواقع والعودة إليه في علاقة تفاعليّة جدليّة ، إنّما هما ضرورة فكريّة ، اجتماعيّة ، سياسيّة ، حتى يستطيع الواحد منّا أن يبنيَ أحكامَه وآراءه بصورة موضوعيّة وواقعيّة ... غير أنّ هذا الواقع ، إنّما هو دائم التغيّر . والتغيّر قانون اجتماعيّ ، طبيعيّ. فمن الضرورة والأهميّة فهم هذا التغيّر الاجتماعيّ في حركته التاريخيّة ، فَهْمُ قوانينه وتحولاّته في عمقه وشموليته في آن ...
3 ـ العمل عـن طريق حـشد كـلّ الطاقات والإمكانات المتنوّعة ، الفكريّة والثـقافيّة والاجتماعيّة ، والحوار معها من أجل :
* إقامة أسس الوفاق الوطنيّ الثابت ، والحوار الديمقراطيّ البنّاء المتواصل بين أبناء الوطن الواحد .
* نبذ الطائفيّة والمذهبيّة بجميع صورهما ومضامينهما، بهدف تحقيق وحدة وطنيّة مجتمعيّة حقيقيّة، وإرساء قواعد ثابتة لوحدة الحياة والمصير ومتابعة حوار الكلمة في كلّ الظروف والمناسبات ، لوضع حدّ نهائيّ لعودة الفتنة الطائفيّة وذيولها ...
4 ـ إنّنا نعتقد ، من خلال التجربة المرّة والمعاناة القاسية والأزمات المتعاقبة ، أنّ لبنان الماضي بمفاهيمه ونظمه التقليديّة والإقطاعيّة والعائليّة والطائفيّة ، يجب أن ينتهي ، فعلاً وحقيقة ... ذلك أنّنا الآن أمام رهان كبير ومنعطف تاريخيّ انتقاليّ . ممّا يستدعي في هذه الظروف الراهنة ، لبنانياً وعربياً وعالمياً ، التغيير الوطنيّ ، السياسيّ والاجتماعيّ ، وتحصين الموقف الداخليّ، وتحرير الأرض والإنسان ، بكلّ وعي ويقظة ، بكل واقعيّة وعقلانيّة .
5 ـ لهذا ، فإنّ لبنان الجديد الذي نطمح إليه ونتطلع ، كما تتطلع إليه الأجيال الشابّة ، وشتّى فئات الشعب وجماهيره الصامتة ، والمسحوقة ، والمغلوب على أمرها ، إنّما هو :
* لبنان العدالة الاجتماعيّة الحقّة .
* لبنان المساواة وتكافؤ الفرص في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين ، دون تفريق أو تمييز .
* لبنان الكرامة والقِيَم الأخلاقيّة والإنسانيّة ومبادئ شرعة حقوق الإنسان .
* لبنان الثقافة وحريّة الفكر والتعبير والتنوير .
* لبنان العلم والتعليم وتأمينه لجميع المواطنين دون استثناء ...
* لبنان الجمهوريّة البرلمانيّة الديمقراطيّة الحقيقيّة . وهي تعبير صادق عن مصالح الشعب اللبنانيّ وطموحاته الوطنيّة والسياسيّة ، في الماضي والحاضر ...
6 ـ العمل المتواصل ، وعلى جميع المستويات ، بهدف تحقيق النظام السياسيّ، البرلمانيّ، الديمقراطيّ اللاطائفيّ ، وإقامته على أسس صحيحة ، يعتمد في الفكر والممارسة ، في الاقتصاد والسياسة والإدارة ، في التربية والتعليم والثقافة، العدلَ والكفايةَ والمساواةَ بين جميع المواطنين، وتطبيق مبادئ شرعة حقوق الإنسان ، دون تمييز بين منطقة وأخرى ، ودون اعتبار لأيّ انتماء لدين أو طائفة أو مذهب .
7 ـ لذلك ، وفي إطار هذا التوجّه العام ، العمل وبكل الوسائل الديمقراطيّة المشروعة ، على تحقيق الإصلاح الشامل العميق ، وتأمين مستقبل أفضل للبنان الوطن . ولا يمكن أن يتأتّى ذلك إلاّ عن طريق :
* إعادة بناء الدولة الفاعلة ، الدولة القادرة ، العادلة ، الحديثة والمعاصرة ، دولة القانون والمؤسّسات بالمعنى الفعليّ والحقيقيّ للكلمة .
* تطوير الحياة الديمقراطيّة الصحيحة ، وتعزيزها وتفعيلها وعلى مختلف المستويات ، دون اختراق أو تزوير أو تشويه أو خداع . وأخذ المؤسّسات الدستوريّة ومؤسّسات الرقابة والمحاسبة دورها كاملاً ، واستقلاليتها التامّة في عملها ...
* وضع قانون للانتخابات ، تمثيليّ ، عادل ، سليم ومساوٍ بين الجميع، يُؤمِّن نزاهة العمليّة الانتخابيّة وتكافؤ الفرص بين المرشّحين ، ووضع سقف للنفقات الانتخابيّة، وتنظيم الإعلام والإعلان ، دون تمايز أو تفاضل أو تفريق ...
* إحداث عمليّة إصلاح جذريّة في الهيكليّة الإداريّة ، وإعادة بنائها على أسس حديثة وعصريّة، ذلك أنّه لا يمكن أن يتحقّق أيّ إصلاح سياسيّ ، اقتصاديّ ، اجتماعيّ ، تربويّ، ثقافيّ ، في ظلّ إدارة غير منتجة ولا مجدية ، أو إذا كانت فاسدة ، وعقيمة ، ومهترئة...
8 ـ هذا ، ومن جهة أخرى ، فإننا نعتبر أنّ " وثيقة الوفاق الوطنيّ "، (وثيقة الطائف)، إنّما هي وثيقة تاريخيّة ، وخطوة متقدّمة بالنظر إلى الظروف ، الداخليّة والخارجيّة، التي صيغت فيها وأُعلنت، وذلك على الرّغم من أنّها لا تعبّر تمام التعبير عن طموحاتنا ، طموحات شعبنا . فإذا كانت إيجابياتها في هذا المجال كثيرة ، إلاّ أنّ ثغراتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة والثقافيّة ليست بقليلة . لذا يجب العمل مستقيلاً لتجاوزها ، في الشكل والمضمون، عن طريق النضال الديمقراطيّ والوطنيّ والاجتماعيّ والثقافيّ .