د. دندشلي - التربية في خدمة السلام
لقاءات /
تربوية /
1990-06-01
لقاء حول
التربية في خدمة السلام
الموضوع: التربية في خدمة السلام
المشاركون: الأب سليم غزال، (قبل أن يصبح مطراناً)،
والأستاذ إميل اسكندر (أستاذ ومدير التربية في دير جون)،
الدكتور مصطفى دندشلي
التاريخ: أواسط عام 1990
المكان: منزل الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
لقاء: الأب غزال + إميل اسكندر + مصطفى دندشلي
مداخلة… د. مصطفى دندشلي… كمدخل للنقاش وحتى أستطيع أن أثير هذا النقاش في هذا اللقاء، فإننا نقول: التربية في خدمة السلام؟ وحقوق الإنسان؟ أو كيف يمكن إدخال التربية من أجل السلام؟.. فهنا يطرح سؤال، سؤال يمكن أن نطرحه على مستويات مختلفة، حول المضمون ومن الناحية المنهجية. أولاً ماذا تعني كلمة السلام؟ تعبير لأوَّل وهلة بديهيّ.. وأحياناً، حتى التعبيرات البديهيَّة، عندما نتوقَّف أمامها، نجد شيئاً من إرباك وتحتاج إلى توضيح… السلام! فهو معروف من حيث الظاهر.. وكما أحاول بيني وبين نفسي، وأن أطرح هذا السؤال على نفسي: ماذا يعني هذا المعنى من حيث المضمون، السلام؟ هل السلام المقصود في هذا "الاصطلاح" الشائع، سلام روحيّ، سلام نفسيّ أم هو سلام اجتماعيّ سياسي، سلام وجوديّ، سلام يبني علاقة مع الآخرين وأن تكون قائمة على أسس من المحبة والتوافق والقوانين العادلة والمناهج الأخلاقية الصحيحة والواضحة.. لأنّه عندما نقول بشكل مجرد السلام قد يتبادر إلى الذهن معنى الصفاء الخلقيّ الذاتيّ النفسيّ… فأنا أودُّ أن نبتدئ من هذه النقطة، وأن نبدي بعض المفاهيم حولها.. وحول مفاهيم السلام..
إميل اسكندر: … نحن، قمنا بتجربة مع الشبيبة من عمر خمس سنوات إلى عمر 13 سنة.. ومع الشباب من عمر 17 وما فوق… لقد كانت تجربة مفيدة وإيجابية وناجحة، رغم أنها كانت البداية… وكان الموضوع المطروح هو التالي: التربية على السلام!
وقبل أن أدخل في تفصيل ما هو السلام، من حيث المضمون والمفهوم، أقول إنَّ الحرب تنشأ عادة في النفوس، قبل أن تُجسَّد في أعمال مادية على الأرض، أو ممارسات عدائية… يعني، حتى يصل المجتمع إلى حالة الحرب، إنما يسبق ذلك تعبئة فكرية استمرَّت هذه التعبئة لفترة زمنية غير قليلة. إنَّ أيَّ مجتمع يصل إلى الحرب، لا يصل إليها بصورة مفاجئة.. بل يسبق هذه الفترة العدوانية التي نرى نحن فيها الأعمال العسكرية والأعمال العدائية على الأرض، يسبق هذه الفترة، فترة طويلة من الشحن الفكريّ.
لو أخذنا مثلاً الوضع اللبناني، الذي هو بمظهره الخارجيّ يمكن أن نقول إنَّ الحرب قد اندلعت منذ 1975. ولكن في الحقيقة، الحرب كانت قد انطلقت بسنوات ما قبل 1975، بظهور التناقضات والمشاحنات والعدائيّة الفكريّة الموجودة على الساحة اللبنانية وبالطروحات السياسية المتناقضة، وأنا هنا أسميها التناقضات العدائيّة أيضاً..
فإذن، كانت هناك تهيئة، أجواء فكرية، تهيئة الناس نفسياً حتى نصل إلى حالة الحرب.. الحرب ليست وليدة ساعة إعلان الحرب.. بل يسبقها تعبئة نفسية، وتعبئة فكرية.. حتى الإنسان الفرد يتهيّأ ويتأقلم مع هذا الجوّ العام… يعني الحرب مع إسرائيل سبقها سنوات وسنوات من الشحن النفسيّ: أنَّ هذا هو العدو.. حتى أصبح هذا الأمر من البديهيات عند الإنسان.. أنَّ هذا عدو… وعندما يرى الجنديّ الإسرائيليّ، حتى يمكنه أن يطلق النار عليه..
فإذن، الحرب ليست وليدة يوم أو يومين أو ساعة إعلان الحرب، وإنما هي وليدة تراكمات ومشاحنات وتناقضات. أحببت هنا فقط أن أدخل في مفهوم "الحرب"، حتى بعد ذلك أن ندخل في مفهوم السلام…
د. مصطفى دندشلي: … صحيح… وأنا أريد أن أضيف ملاحظتَيْن: المقصود من ذلك إنَّما هو فتح باب النقاش… فأنا ما أريد أن أقوله، أولاً، بالنسبة إلينا، السلام بشكل عام وإعادة السلام إلى لبنان على وجه الخصوص.. بمعنى أنه يجب أن نربط نحن السلام ببلدنا لبنان… أو أنَّ السلام بالنسبة إلينا له مستويان: المستوى الأول هو مفهوم السلام بشكل عام، ثم المستوى الثاني وهو السلام بالنسبة إلينا من الناحية التطبيقية في لبنان…
هذا صحيح… والصحيح كذلك ما قلته أنَّ الحرب يسبقها تعبئة نفسية.. وهذا صحيح أيضاً.. ويسبقها أيضاً ليس فقط تعبئة نفسية وإنما وجود مصالح سياسية متناقضة ومتصارعة، رغبات، طموحات، إرادات متضاربة كذلك.. هذه المصالح المتصارعة، تستخدم أسلحة متنوعة، أسلحة مادية أو معنوية، أسلحة سياسية اقتصادية إعلامية ومن ثمَّ عسكرية للوصول ولتحقيق غاياتها ومصالحها. أحد الأسلحة التي تستخدمها بداية هي عوامل نفسية إعلامية متنوِّعة.. أي أنَّ هذه هي أيضاً حرب: حرب نفسيّة، حرب إعلامية، إلخ…
إميل اسكندر: … طبعاً، لأنّ الحرب هي حرب فكرية، وحرب اقتصادية وحرب سياسية وحرب مادية عسكرية… ولكن برأيي أنَّ المظهر العسكـريّ هو المظهر الأخير الذي نصل إليه.. يعني قبل الحرب العسكرية الميدانية، يسبقها حرب تنشئة تربوية، حرب ثقافية، حرب فكرية إلخ…
وهذا ما هو حاصل في جميع بلدان العالم، وهو ما حصل عندنا قبل العام 1975.. يعني نحن نعرف ماذا كان يجري في الجامعات كأيديولوجيات متصارعة.. ونحن نعرف ماذا كان يجري على الساحة السياسية… وكم كان هناك من تناقضات سياسية هائلة.. وكم كان هناك من تعبئة طائفية هائلة.. كل هذه الأمور هي التي تمكَّنت من أن تكون وقوداً للحرب فيما بعد… وإلاّ فإن الحرب لا تقدر أن تنشأ وتعيش وتستمر هكذا، لو لم تكن موجودة هذه التعبئة النفسية والإعلامية والتربويّة التي استمرت فترة زمنية طويلة…
فأنا رأيي أن مفهوم السلام ليس هو مفهوماً روحانياً للكلمة… أو بالأحرى هناك مفاهيم السلام عديدة.. هناك ثقافة السلام، ومفاهيم السلام… أولاً، الاختلاف بين الناس هو أمر طبيعيّ… الاختلاف والتمايز بين الناس هو أمر طبيعي.. ولكن الاختلاف لا يعني الخلاف…. فإذا كنتُ أنا وأنت غير متفقين في الرأي السياسيّ.. أو إذا كنا غير متفقَين في الدين… أو في أيِّ أمر آخر.. هذا التمايز لا يعني أنَّه يجب أن نتشاجر أو أن نتقاتل.. بالعكس!… ممكن هذا الاختلاف أن يوصل إلى غنىً… إنّ تبادل وُجهات النظر، إنما تؤدي إلى غنىً عند الناس… وليس كما يعتقد البعض أنَّه عندما يكون هناك تمايز يعني أننا أصبحنا أخصاماً… فيجب في هذه الحالة أن نتقاتل..
هناك مجموعة قِيَم تؤدي إلى السلام، إلى السلام الذاتي وإلى السلام الاجتماعيّ أو إلى السلام الوطنيّ.. أن يقبل الإنسان الآخر كما هو رغم الاختلاف والتمايز الموجود بينهم… فهذا الأمر إنما هو أحد العوامل الرئيسية حتى يكون لنا قدرة ومقدرة كي نصل إلى السلام… أما نحن في لبنان، فلدينا نظرية وهي أن من لا نتفق معه في الرأي، فنحن في حالة خصام معه أو عداوة.. فهذا غلط.. فيجب أن نقبل الآخر، كما هو، رغم الاختلاف الموجود بيننا، ونعتبر أنَّ هذا وجه إيجابيّ وليس وجهاً سلبياً…
د. مصطفى دندشلي: ما أراه هو أنَّ هذا العرض الذي قدمته، فإنّما يركز أو يظهر فيه جوانب إرادية أو ذاتية أو أخلاقية أكثر من الجوانب الموضوعية والمادية… بمعنى آخر، التوجُّه نحو السلام الحقيقي الإنساني، ألا تعتقدون أنّه يجب أن يُبنى على العدل، على الحقَّ، وأن يعمد إلى مستويات ومفاهيم متعددة؟!
إميل اسكندر: … طبعاً، يجب أن يتحقق على مستويات متعددة: الجانب السياسيّ، الجانب الاقتصاديّ، الجانب الاجتماعيّ… هناك السلام الاقتصادي، هناك السلام السياسيّ، هناك السلام الاجتماعيّ، هناك السلام الصحِّي.. الآمان الصحِّي.. كل هذه الجوانب تؤدي إلى السلام، إلى السلام العام عند الإنسان كفرد، كمواطن، عند المجتمع…
يعني إذا كان هناك عدم وجود توازن اقتصادي أو سياسيّ، لن يكون هناك سلام في المجتمع.. إذا كان هناك تربية خاطئة، لن يكون هناك سلام في المجتمع، إذا كان لا يوجد أمان صحِّي، وضمان الصحِّي واجتماعي، لن يكون هناك سلام في المجتمع…
أنا لا أدخل في الأوجه التنفيذية لعملية السلام… إنَّما أتكلم من منطلقات السلام.. كيف يمكن أن ينطلق الإنسان ابتداءً حتى يستطيع أن يبنيَ السلام مع الآخر… يعني: بيني وبينك، يجب أن نتوجَّه إلى بناء السلام أولاً.. ثم يزداد العدد حتى نصبح حلقة أوسع.. ولكن، أكيد في المجتمع، هناك تجسيد لهذه القِيَم على المستويات كافة التربوية والاقتصادية والصحية و..و.. إلخ…
د. مصطفى دندشلي: .. هذا صحيح، وإنَّما بناء السلام وإقامته لا يتحدَّد فقط على الصعيد الفردي والشخصي، وعلى علاقات أفراد بعضهم مع بعض وحسب.. لأنَّ هؤلاء الأشخاص، هم أيضاً يعيشون في مجتمع وهم أعضاء فيه. ولهذا المجتمع أوضاعه وله علاقاته التي تحدِّدها أيضاً ظروفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية… فلبُّ الموضوع الحقيقي هنا هو علاقة سلام بين فرد وفرد آخر، أو بين فرد وشخص ثالث… بل أكثر من ذلك، من المفروض أن تعمّ هذه المفاهيم على الصعيد النظريّ وعلى الصعيد التطبيقيّ في كل المجتمعات الإنسانية كافة وليس فقط في مجتمع واحد فقط…
إميل اسكندر: … نعم، ولكن لو انطلقنا من قِيَم زرعناها عند كل مواطن، بتربيتنا لكل مواطن، انطلاقاً من البيت ومن المدرسة.. صحيح أننا نشتغل على "فرد"، والتربية طبعاً تتوجه إلى الأفراد، التربية تشتغل على فرد. ولكن في النهاية، التربية تصبح عبارة عن مجموع. يعني نحن عندما نشتغل على أفراد، سيصبح ذلك بالنهاية شاملاً ويعمَّ المجتمع، الوطن. ولكن يجب أن نتوجَّه إلى الفرد، لبناء الفرد، لبناء السلام في الفرد، في كلِّ مواطن، حتى نستطيع أن نصل إلى سلام حقيقيّ.. لا أن نأتي ونطرح شعارات من فوق، ولا شىء على الأرض، من تحت… فإذا أتينا وطرحنا شعارات السلام، ومن تحت لا يوجد تهيئة لذلك وتهيئة نفسية، فلن نصل إلى نتيجة… مثلاً، اليوم إذا طرحنا إعادة المهجرين إلى هنا… وعلى الأرض لم تكن هناك الأرضيّة أو القاعدة اللازمة أي الناس، بمعنى، ليس هناك تهيئة للمهجَّر الذي نريد أن نعيده إلى أرضه أولاً، وللشخص هنا الذي سوف يستقبل هذا الشخص والذي سيعيش معه… إذا لم نخلق هذه التهيئة من القاعدة، من تحت، لا ينجح العمل ولا تنجح فكرة السلام أو العيش المشترك…
د. مصطفى دندشلي: … هذا ما أريد أن أقوله: يجب أن لا يُقتصر الأمر فقط على التوجُّه نحو الفرد وعلاقات الأفراد، بل يحتاج الأمر إلى ما يمكن أن نسميه بسياسة عامة للدولة، بسلطة سياسية هي التي تأخذ على عاتقها هذه المفاهيم وتطبِّقها وتعمِّمها على المجتمع…
أريد أن أعطيَ مثلاً، ولنفترض فرضية جدليّة… هنا نحن في صيدا، من الملاحظ بأنَّ تنشئتنا فيها الشىء الكثير من الاعتدال النسبيّ، ولكن مع ظروف الحرب، ومنذ عشرين سنة حتى الآن، تهدَّمت كل هذه المفاهيم التربوية المعتدلة في بيئتنا وحلّت محلها مفاهيم عدوانية، عدائية، طائفية. ما أريد أن أقوله هو أنَّ الظروف العامة، عدم وجود سلطة سياسية واعية مدركة حكيمة لا طائفية، تغيَّر كل شىء وتبدَّل إلى عكسه ما قد بناه التربويون أو المصلحون…
وهنا أعطي مثلاً وهو بالنسبة لي مهم جداً: الوعظ والإرشاد… أيام الجمعة… منذ سنين طويلة جداً وحتى الآن… رجال الدين عندنا، يلقون أسبوعياً خطياً، منها الجيدة ومها غير الجيد، إنّما كلها تدعو إلى الإيمان والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتقيد بأوامر الدين وشعائره.. في رأيي، هذه الخطب الوعظية لم تؤد الغرض المقصود منها.. كما نقول، كم وكم من مصلح كان ينهي الناس عن الكذب، عن السرقة، ويأمرهم بحب الآخرين، إلى آخر ما هنالك من المفاهيم الأخلاقية.. فيستمعون إليه، ثم يخرجون إلى مجال عملهم.. فتبتدئ وتعود الأمور إلى مجاريها، إلى ما كانت عليه وتعود دورة الحياة التقليدية كما كانت في السابق، والتي لا يمكن أن نسميها بأنّها تقوم على الصدق وعفة النفس…
سؤالي المحدَّد هو التالي: فإلى أيِّ مدى هذه المفاهيم الأخلاقية العامة، يمكن تطبيقها على الأرض، في مجتمع ما غير أخلاقي؟ وخصوصاً في مجتمعنا نحن اللبنانيين؟
إميل اسكندر: … أتصور أنّه ينبغي إعادة تقويم الموضوع التربويّ عندنا، في البلد، من جديد… يعني طرح الموضوع التربوي من جديد، بما يخدم أهداف السلام أو مفاهيم السلام: هل تربيتنا ومناهجنا التي عشناها في مدارسنا، بشتى أنواعها، كانت تخدم مفاهيم السلام والتقارب، والتحاور، أم كانت هذه المناهج التربوية تقوم على التباعد والتنافر والتناحر… وهنالك مناهج حرب في مجتمعنا… بل عندنا هذه المناهج في لبنان هي مناهج حرب.
الأب سليم غزال: … مناهج من شحن النفوس، من المكبلات.. مررنا نحن بمرحلة فيها تحدّي للاحتلال الإسرائيلي، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين قبل لبنان، فكان هناك شحن للنفوس للحرب، إنّما تحوَّل هذا الشحن إلى التقاتل…
إميل اسكندر: … هذا هو: عبَّأنا الناس على مدى سنوات وسنوات في مناهجنا التربوية، في طرقنا وأساليبنا في التعليم، في الكتب وفي الثقافة الموجودة في المحيط أو في البيئة، عبَّأنا الناس من خلال هذه التربية حتى في البيت، التربية المنزلية، التربية تبدأ في البيت: حتى من هنا، ابتدأنا في التعبئة التي تؤدي إلى التباعد، وإلى التنافر، وعدم تكوين رؤية مشتركة… فأنا من أجل ذلك أنطلق من تركيز على فكرة تربيـة الإنسان من البدايـة.. لأنّه إذا بنيت المواطن، بنيت الوطن.. إذا استطعنا أن نبنيَ المواطن. يعني في النهاية نكون بنينا الوطن، لأنَّ الوطن هو عبارة عن مجموع من المواطنين..
فتنطلق عمليّة السلام من القاعدة، من الأساس… لا نستطيع أن نطرح مشاريع سلميّة على المستوى السياسي العام، إذا ما استطعنا أن نربي الناس ونهيئها للسلام…
د. مصطفى دندشلي: … أنا أوافقك على ذلك، ولكن عندي ملاحظة أسميها منهجية: عندما تقول "نحن" يجب علينا أن نربي: مَنْ نحن، ومَنْ يجب أن نربي؟
إميل اسكندر: … هنا نحن، تعني المسؤولين!… هنا، بالتأكيد، فنحن مهما كان حجمنا كمجموعات تشتغل على الأرض، لن يكون هذا فاعلاً في وقت سريع للوصول إلى الهدف، إلاّ من خلال في النهاية مشروع دولة، نظام سياسي، يتبنَّى هذا النهج "السلامة"، أو "نهج السلام"… كلّ واحد منا سيشتغل في الزاوية التي يعمل فيها.. سنغطي ساحة معينة من الناس… ولكن هذا يبقى عاجزاً عن أن يطال مجموع الناس أو مجموع المواطنين، إلاّ إذا كان هناك منهجيةٌ من قِبَل الدولة حتى تعمِّم هذا المشروع على المدارس، على المؤسسات، على القطاعات العامة والخاصة.. أكيد، هذا العمل يتعدّى قدراتنا نحن كمراكز أو كمؤسسات أو كأشخاص… هذا العمل، هذا المشروع، مشروع السلام.. يجب أن يكون مشروع الدولة.. ولكن في غياب الدولة اليوم، والدولة غائبة طبعاً، في هذه الظروف، لا يمنع أبداً أن تقوم كلُّ مؤسسة في قطاعها أن تتبنّى أفكار السلام وتشتغل عليها تطبيقياً على الأرض ومع الناس الذين تعمل معهم، مع الأساتذة، مع التربويين، مع الأطفال، مع الأيتام، إلخ… هذا في غياب أيُّ مشروع حلّ شامل… ولكن، برأيي، هذا يبقى عاجزاً، طبعاً. إذن، لا بدّ من قيام دولة، ودولة تسعى إلى بناء السلام في المجتمع، الدولة هي التي تطرح مشروع السلام على كافة المستويات التي ذكرناها قبل قليل: والمستويات التربوية، الاقتصادية، الصحية، إلخ..
الأب سليم غزال: … هناك ناحية، إذا كان في بلادنا أو في بلاد الغير يُقام بتدريس التاريخ على سلسلة من الحروب!!… لو أخذنا العشائر عندنا خلافاتهم: كانت على أشياء تافهة، فجاءت الدولة وجمعتهم معاً!!…
لنأخذ مثلاً أوروبا، أذكر في عام 1966، حضرت دورة حول الاهتمام بتربية الأولاد، فكنا من 32 دولة، من أفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط.. وكنا في ضواحي باريس، في فرصة الظهر، فقيل لنا بأنَّ نهر السين يمر بغابة… فذهبنا إلى المكان.. وإذ نجد هناك على ضفاف النهر قصراً.. ويأتي شخص ويطلب منا إذا كنا نحب أن نزور القصر.. فدخلنا، والتقينا برجل عمره 65 سنة تقريباً، وهو صاحب القصر، وكلّ واحد منا يقدِّم نفسه ويعطيه اسمه… وعلى غير عادة الأوروبيين، فأوتيَ لنا بالضيافة، بالأكل والشرب والشمبانيا… ثم قال: هل تدرون لماذا أنا مسرور برؤياكم… فأنا كان ليَ أخ.. توفي في الحرب الأولى ضد الألمان عام 1917… وابني توفي في الحرب الثانية في تحرير باريس، فكنت دائماً أتساءل: نحن هذين الشعبين المتجاورين، لماذا نبقى في حرب بعضنا ضد البعض الآخر.. فنحن أخوة.. فعندما رأيتكم خليطاً من الشباب: منكم الأسود والأبيض.. ومن مختلف المناطق.. فرأيت فيكم حُلمي الذي كنت أفكر فيه من زمان، قد تحقّق فيكم، رغم الخلاف في الألوان والأجناس، رأيتكم تغنون وتمرحون ومسرورين معاً… هذه الحادثة لا أزال أذكرها في معالجة موضوع: السلم والحرب..
واليوم ينادون بوحدة أوروبا… فلم يعد التشديد على أنَّ الفرنسي والألماني يتحاربون ضد بضعهم… فضيق الفكر، وضيق القوميات، من عشاير إلى قبائل أو وطن أو قوميات.. فهنا في هذا المنهج للتحضير إلى السلام، مرة كنت أقرأ في كتاب فلسفيّ، يقدّم فكرة أنّ تطوّر الإنسان سوف يأتي وقت في قفزة تطورية نوعية، يضحكون فيه على أنفسهم كيف أنهم كانوا يتحاربون ويتقاتلون… أي أنّهم كانوا لا يزالون في مرحلة الهمجية والوحشية… ماذا يعني ذلك. فروقات عرقية، فروقات دينية، فروقات طبيعية.. ماذا تعني هذه الفروقات!!… سوف يضحكون على أنفسهم، كما نحن ننظر إلى المرحلة الأولى للإنسان، عندما كان لا يزال في المرحلة الحيوانية، يسير عن الأربعة…
د. مصطفى دندشلي: … ما أراه أنا أنَّ كلَّ ذلك إنّما يبقى على صعيد فكري طوباوي، على صعيد أخلاقي، على صعيد نظري تأملي.. فلم تستطع كلُّ هذه التَّوجُّهات، كلُّ هذه النيات الطيّبة أن تَثْبت على الأرض، في رأيي، لفقدان عنصر أساسيّ، فقدان الواقعية، فقدان سلطة محلية أو عامة، تأخذ على عاتقها هذه المناهج، وتسعى إلى تطبيعها، ولو بالقوة… إذا صح ـ وهنا تناقض ـ استعمال كلمة القوة.. لأنَّ الإنسان كفرد أو جماعة وهو مجموعة كذلك من مصالح وغرائز… فيخشى، ليس يخشى فقط وإنما عملياً على الأرض، أنّ هذه المصالح تستطيع أن تتغلب على هذا الجانب الإنساني والأخلاقي في الإنسان…
الأب سليم غزال: … الأونيسكو كمؤسسة تابعة للأمم المتحدة، أرادت أن تقرّب الحضارات من بعضها البعض الآخر.. لأنَّ الحروب كانت صراعات حضارات، ذلك أنَّ كلَّ واحد قد كان يرى الأمور من منظاره الخاص. فجاءت الأونيسكو كمؤسسة دولية لتبرز كلَّ حضارة في جوانبها المفيدة… (للأونيسكو دور أساسيّ في هذا النطاق، الثقافيّ والحضاريّ..)… فجاءت الأمم المتحدة وأرادت أن يكون لها متطوعون ويرسلونهم إلى أنحاء العالم.. حتى يفصلوا بين المتقاتلين…
إميل اسكندر: … لا بدَّ من وجود دولة وسلطة ترعى هذه المفاهيم وتطبقها. لا خلاف ولا نقاش حول هذا الموضوع.. النقاش يدور حول "ماهيّة" أفكار السلام.. هنا هو موضوع النقاش.. أما إذا كنا قد اتفقنا على هذه المفاهيم، فلا بدَّ من سلطة سياسية في أيِّ بلد وفي أيِّ دولة.. حتى ترعى هذه المفاهيم وتحقّقها.. فإذن، موضوع نقاشنا حول "فلسفة السلام"، أو ثقافة السلام.. هذا ما هو مطروح للبحث..
هذه ملاحظة أولى.. الملاحظة الثانية، أنَّ اللغة التي نتكلم بها أحياناً ـ وحتى عندما نتحدَّث عن السلام ـ نستعمل لغة "عنفيّة".. فبالدورة التي تنظمها "اليونيسف"، هناك خمس حالات مختلفة لدراستها وهي كيف تتناقض مع أفكار السلام…. النشيد الوطني اللبناني الذي هو من المفروض أن يكون نشيد سلام، كيف تُستعمل مفردات ولغة: سيفنا والقلم: سيفنا.. مثلاً، عندما نتحدَّث عن السلام فنقول: سنقاتل من أجل تحقيق السلام.. سنقمع كلّ صوت يعاند أو يقف ضد هذا التوجُّه.. اللغة التي نستعملها بهدف سامٍ الذي هو السلام، نستعمل معها لغة مناقضة تماماً للمبدأ الذي نسْعى إليه أو نتحدث عنه…
كذلك في تربيتنا نحن، في التربية التي ندرِّسها ونطبَّقها، الهدف أحياناً يكون سامياً ولكن الأسلوب قمعيّ: يعني على الأرض، ليست هناك علاقات حوار أو احترام بين الناس وليس هناك تربية في البيت ولا في المدرسة تتوافق مع مفاهيم السلام.. في العلاقة اليومية، في اللغة المحكية، في كتب القراءة، القصص التي نقصها للأطفال أو للتلاميذ، أو الطروحات التي نطرحها، وحتى أنها أحياناً تكون في سبيل أهداف سامية، في سبيل الحرية… ولكننا نستعمل طرق لا سلمية، ولغة لا سلمية… فإذن، البناء يبدأ من هنا.. بناء الإنسان، حتى يكون عنده عوامل السلام بذاته، حتى تتجسد في علاقاته الاجتماعية. فأنا أعتقد بأنَّ من هنا المنطلق…
على صعيـد العام الذي نطرحـه، على صعيد السلطـة، فالسلطة ليست في العدم.. فالسلطة يجب أن تأتي لتطبيـق هذه المفاهيم… نحن في لبنان، فكيف يمكن تحقيق السلام في لبنـان؟
د. مصطفى دندشلي: … يمكن للفرد أن يتقبَّل الآخر، إذا وجد معه، أو إذا وجد لديه رغبة في قبول الآخر. فيحصل هناك نوع من تنازل الواحد للآخر، تنازل متبادل.. وإنما المطروح الآن هو أنّ في لبنان، كيف تحقيق السلام ونحن في ظروف أمنية مضطربة؟…
إميل اسكندر: … إذا كنت تريد أن تطرح الموضوع على الصعيد السياسة، فهذا الأمر خارج عن إرادتنا وعن طاقتنا وعن إمكانياتنـا….. ذلك أنَّنا لا نملك من إمكانات تغيير هذا الواقع شيئاً.. فنقع في التنظير.. وهذا الموضوع ليس لدينا إمكانية الشغل فيه.. فلنشتغل نحن على الأقل حسب إمكاناتنـا، ولنطرح ذهنية جديـدة أو ثقافـة جديدة أو مفاهيم جديدة تخدم السلام في هذا البلد.
د. مصطفى دندشلي: … أريد أن أطرح سؤالاً آخر: لا شك في أنَّه، منذ عام 1975 حتى الآن، هذه الحرب أساسها غير طائفيّ، إنما عملياً أخذت وجهاً طائفياً.. لَبِست اللباس الطائفي.. فهل من الممكن مستقبلاً أن يتحقّق السلام بين هاتين الطائفتين الكبيرتين الطائفة المسلمة والطائفة المسيحية، وكيف، ما دام النظام السياسيّ هو نظام طائفي. فلنبق على صعيد التربية، بعيداً عَن إشكالية السياسة اللبنانية.. ذلك أنَّه في مدة 15 سنة من الحرب، من التوتر الأمني، من أنَّ كلَّ فريق عبأ جماعته بمفاهيم مغلوطة عن الآخر.. الآن عادت الأمور نسبياً إلى طبيعتها وبشكل مرضٍ وسلميّ، كيف يمكن أن يحصل ذلك؟ الموضوع ليس مطروحاً على صعيد السياسة. ولكن هل يمكن أن تعود الأمور إلى حالة من السلام؟.. كيف؟… وعن أيّ طريق؟.. عن طريق السياسة، وتوازن المصالح الطائفية…
الأب غزال: … في الماضي، القوات اللبنانية عبأت جماهيرها ضد الفلسطينيين، ثم ضد المسلمين… [يتبع؟!]