الديار - المنبر الحر- كلمة الدكتور شوقي خير الله
إعلام وصحافة /
ثقافية /
1989-02-04
المـنـبـر الحـر *
الكلمة التي بعث بها الدكتور شوقي خير الله إلى المؤتمر الثقافي العام في صيدا أمس باسم ندوة الجمعة التي تعقد في بيروت كل نصف شهر في منزل سعيد طه .
الثقافة تجديد والحضارة تبادل
الدكتور شوقي خير الله
الكلام على مسمعكم صعب ، ويخيف .
ولكن الرهبة تحفزنا على أننا متيمون بالحرف بالعبارة باللغى بالأدب بالثقافة . وإن عشقنا لأصيل .
اعتناقنا للروح المحيي واستقراقنا في صياغة الوجد القومي مقولة إنسانية ، ومثابرتنا على تدليل العربية والتضرع إلى عبقريتها المأمورة لعلّها تنيخ في رحبة هذا الجيل كما سبق لربكم أن رحم شعبه المبارك ، قد أسكرنا حتى نشوة الترسل .
بلى !! يقيننا الباتّ القاطع هو أن الأديب رسولٌ هو ، وإلا فمغتصب خرّاب بادية سرّاق عروبة متلصص . وتلكم حقيقة أولى .
وحقيقة ثانية : أن الروح المحيي ، المتنزّل ، المدمن قديماً على بلاغة وتبليغ وعلى فصاحة وبيان ، لهو روح أكثر ما حوم ففي أجواء عروبة مختمرة ومنضجة على رجاء آتٍ ، وعلى نار وجد قدسي ، على شطحة تقتحم الألوهة على قاب قوسين ، وبلى على أدنى وادنى .
هذا الروح القدس اليعربي نؤمن به مقيماً بين أحرفنا ، ملحاحاً علينا لجوجاً ، غيوراً على العرش ، ممسكاً بالقلم الذي أقسم به ربكم يوماً ولا يزال ، وأنه قسم ، وربكم ، لعظيم . فمن حلّ عليه نعمة فليتوسل ، ولتكن دعواتكم له لا علي ، وليكن وجدانكم حوله سنداً ، إن الأدباء أخوة أصغياء . وأدب وحقد لا يلتقيان . والأدباء تعاونية بالحق والحلال لمجد في مغرب . وما من أمة تضاهي إحداثاً إذا ما توافقنا والعالمين وكتبنا في الإيمان .
حقيقة ثالثة : لكي ينتصر ماضينا وينتعش حاضرنا المغلوب والمصلوب ويستقيم غد طالع ينبغي أن نعرف من نحن وما هويتنا الحضارية الثقافية ، وإلى أين تضرب جذورنا وأين مغارسنا الأولى وأيان منابت أقلامنا المقدسة وأنى وأين المنشأ الأبعد . وما من معركة مصيرية كُسبت بنصف سلاح أم بسلاح قديم صدئ ولا بأشباه مقاتلين يحوربون ولا يحاربون أم عند اللقاء لا يصدقون ، أم سراقين لصوص . الصديقيون أولئك ملح الأمة ونور الإنسان ، وأولئك هم الشعلة الأزلية والسراج ، فلا نطفئنّ أحداً في الثريا الدهرية التي تكوكبت في سمائنا منذ مطلع التاريخ الجلي الذي به بدأ تألق العروبة الحضارية بمطلق لغة أم لهجة توأم أم ثقافة صَببن جميعاً في عروبتنا القرآنية المعاصرة .
مطلع العروبة الحقيقية والأزلية كان منذ سومر واكّاد ، وتاريخنا الواحد هو الأطول طولاً والأكثر إنتاجاً وآثاراً سواء في حضر خصيب أم في الواحات الخارجية والبوادي القلقة التوائم ، إن تاريخنا هو واحد متواصل متنوع أبداً رسالة وقيماً .
فأول سلاح في جبهتنا هو معنوية نسقيها من الشعور الحي ، كما من معرفتنا ، بأننا منذ ذلك الفجر الأبعد بنو الأنوار وعشاق ضحى أوائل وحملة شعلة لعروبة متنوعة متوالية ، ولم تنطفئ .
وإدرامنا وإحساسنا بأننا ، مع لونية العروبة هذه التي نحن عليها ، ورثاء شرعيون لجميع اللونيات ، لتوائم السابقات ، ليجعلنا أثرى حقيقة وأقوى حجة في الصراع الوجودي والمصيري الذي نخوضه اليوم للمرة السادسة ضد يهوهية معتدية ومستكبرة . للمرة الأولى خضنا معركة مصيرنا العام الواحد كنعانيين عرباً ضد من يقال عنهم عبرانيين بقيادة من يسمونه يشوع بن نون . المرة الثانية خضناها مشرقاً عربياً موحداً بقيادة الكلدان البابليين العرب في عهد نبوخذ نصر تقدس سره . المعركة الثالثة خضناها اراميين عرباً بقيادة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام .المعركة الرابعة خضناها في العربة في نجران والخدود ضد متهود مارق خارج عن سر العروبة . المعركة الخامسة خضناها في يثرب المدينة محمد عليه الصلاة وضواحيها وواحاتها وفي خبير بقيادة النبي محمد عليه الصلاة والسلام . والمعركة السادسة ما زلنا نخوضها منذ قرن بقيادات تنقلت من الحاج أمين الحسيني وعز الدين القسّام وعبد القادر الحسيني وسعيد العاص حتى ثورة الحجارة والمقلاع ، وحتى يأذن ربكم بنصر العروبة يوم تستحق النصر فتنتزعه .
الحقيقة الرابعة : أن الثقافة هي أولاً وعي قومي وعقيدة صحيحة وولاء لقيم حضارية راقية وفاضلة ، وترسل لأرض وشعب ، واقتران بين الفكر والعلوم وبين الروح والمادة ، وبين الكتابة الرسولية المجاهدة والجهاد الميداني .
والحقيقة الخامسة والأخيرة هي أنه لا قيمة لثقافة مغلوبة على أمرها أو يحملها شعب مغلوب وأمة متخلفة . الثقافة هي النصر ، وإلا فثرثرة جزاف وعجيج بدون طحين.
فالثقافة الحقيقة إذن هي سلاح مجتمعي في خدمة الأمة . وعبر انتصاراتنا نلح عتبات الإنسانية. وليس في التراث الثقافي العالمي بكاء وعويل بغير جهاد واستشهاد ومثابرة حتى يحقّ الحق وترضى عنا مواريثنا ويرضى أحفادنا . ليس من ثقافة بدون تجديد . الثقافة التجديد . والحضارة التبادل .
اقتراحنا باسم ندوة الجمعة أن ينشأ مجلس ثقافي أو رابطة ثقافية تؤمن بالحرية والعقل والمعرفة والإبداع ، وفي خدمة القضية القومية العامة ، وضد الشعوبية والصهيونية ، وضد التخلف والطغيان .
_______________________________________________________________________________________
* ) جريدة الديار بتاريخ 4 شباط 1989