الملتقى الثقافيّ الرابع
لقاءات /
ثقافية /
1994-08-21
كـلمة التـقـديـم ( 1)
الدكتور مصطفى دندشلي
أيّها الحفل الكريم
أيها الأصدقاء الأعزاء
يسعدني في هذا الصباحِ الجميلِ ، أن أتوجهَ إليكم جميعاً بأطيبِ التحياتِ القلبيّة ، وأشكرُ لكم حضورَكم وتلبيتَكم دعوتَنا . كما أتقدّمُ بعميقِ الشكرِ والتقديرِ إلى صديقِنا العزيزِ سماحة الشيخ الدكتور سلمان المصري الذي أبى إلاّ وأن يستضيفَنا ، كما هي عادتهُ معنا ، في داره العامرة ، وفَسَحَ لنا المجال، كما في كلّ مرّة ، أن نعقدَ في رحابِ هذا المكان الرائع ، " الملتقى الثقافيّ الرابع" الذي دَعتْ إليه ونظّمتْهُ حركةُ الحوار الديمقراطيّ في لبنان .
لقد سبقتْ هذا اللقاءَ الثقافيَّ الحواريَّ ، ملتقياتٌ ثقافيّةٌ ثلاثةٌ ، عُقدتْ على التوالي في " دار سيّدة الجبل " ( فتقا ـ كسروان )، وفي مجلس قضاء زحلة الثقافيّ، وفي مركز صلاح الدين التربويّ ( مدوخا ـ قضاء راشيا )، وذلك منذ شهر نيسان الماضي حتى الآن . وقد عولجت في هذه الملتقياتِ الثقافيّةِ ونوقشت مواضيعُ تهمُّ حركةَ الحوار الديمقراطي وتدخُل في إطارِ العمل من أجل بلورة أهدافِها وتحديدِها وتوضيحِها . ونحن الآن وفي هذا الوقت بالذات بصدد التحضير لملتقيَيْن أُخريَيْن ، الأولِ في صيدا والثاني في زحلة في شهري أيلول وتشرين الأول المقبليْن . وهذه الملتقياتُ الثقافيّةُ الحواريةُ كانت تتمُّ غالباً على نطاقٍ ضيّق، عددُ المشاكرين فيها محصورٌ ومحدّد، بمعزل عن الإعلام وعن الرأي العام عموماً ، وتضمُّ أعضاءَ الحركةِ وأصدقاءَها ، وذلك حتى يتسنّى لكلّ مشارك أخذُ الحديثِ وإبداءُ الرأي والنقاش والحوار . هذه المنهجيّة التي نتّبعها عادة في عقد لقاءاتنا الثقافيّة الحواريّة ، إنما المقصودُ منها التحضيرُ ، التحضيرُ العلميّ والهادئ والمتكامل لعقد المؤتمر التأسيسيّ الأول لحركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان في المستقبل القريب .
وهـنا اسمحوا لي بدايـة أن أقـدمَ صورةٌ موجزةً عن حركتِنا ، حركة الحوار الديمقراطيّ . فهي أولاً وقبل أيّ شيء آخر ـ ونحن نشدّدُ كثيراً وفي كلّ مناسبة على هذا الجانب ـ فهي حركةٌ ثقافيّة ، فكريةٌ ، وطنيّةٌ بمعنى شموليةٌ لكلّ لبنان ، ومستقلةٌ استقلالاً كلياً مادياً وسياسياً ، وتعتمدُ في أسلوبِ عملِها ومنهجيتها ، الديمقراطيّةَ والحوارَ الديمقراطيّ البنّاء ، والمنفتح ، والصريح من أجل تحقيق أهدافها في المساهمة الجديّة في إعادة بناء مجتمعنا اللبنانيّ .
وهنا قد يُطرحُ سؤالٌ من قِبَل الكثيرين: لماذا حركة الحوار الديمقراطيّ الآن ؟.. وهل هناك من ضرورةٍ لوجودها ، أم أنّها ستكون رقماً آخر يُضاف إلى جملة الهيئات والجمعيات والمؤسّسات الثقافيّة والاجتماعيّة وغير الثقافيّة والاجتماعيّة ، التي تنشأ هنا وهناك ، بين الفينة والأخرى ؟!… ثمّ ، ماذا تريد حقيقة ، هذه الحركةُ الثقافيّة الجديدة ، وكيف يمكنُ تحقيقُ ما تريدُ تحقيقَه وبأيةِ وسيلةٍ أو منهجيّةٍ للعمل ؟… إنّ حركة الحوار الديمقراطيّ تريدُ ، بادئ ذي بَدء ، أن تكونَ ، قولاً وفعلاً ، على صعيدِ الثقافةِ والفكرِ والتنظيم ، أن تكونَ بمثابة استجابةٍ للتحدّياتِ الكبرى التي تواجه مجتمعَنا على مختلفِ الصُعد والمستويات . إنّنا ، في الواقع ، في مواجهةِ تحدّياتٍ تاريخيّة ، لا تعدّ ولا تحصى ، منها تحدّياتٍ داخليّة ، سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ بنيويّة ، ومنها تحدّياتٍ إقليميةٍ ودولية ، تضعُ مصيرَ المنطقةِ ككلّ في منعطف تاريخيّ كبير . فسؤالُنا الذي نطرحهُ في كلّ مناسبة هو التالي : هل نحن جميعاً وكمثقّفين ديمقراطيّين أحرار، مُهيّئون فعلاً، فكرياً وعملياً، لمواجهةِ هذه التحّديات والاستجابة لها ؟!…
هذا سؤال ، ومن ناحية أخرى ، فإنّ ما نبغيه في الواقع وحقيقة الأمر وفي هذه المرحلة بالذات ، مرحلةِ تأسيسِ حركتِنا الثقافيّة وتكوينِها ، إنّما هو طرحُ مجموعةٍ من الأسئلة ، مجموعةٍ من التساؤلاتِ المقلقةِ ، والملحَّةِ ، والمصيريّةِ ، طرحُها أو محاولةُ طرحِها بمنهجيّةٍ علميّةٍ ، واقعيّةٍ ، شموليّةٍ على مختلف التيّارات الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة في لبنان . ومن ثمَّ الإصغاءُ ، والإصغاءُ بانتباه شديد وموضوعيّة حقيقيّة إلى الأجوبة التي سوف تصدر عنها .
فليس في الواقع، كما نقول ذلك مراراً ، لدى حركة الحوار الديمقراطيّ ما هو جاهزٌ، كاملٌ متكاملٌ ، لنقدّمَهُ إلى الرأي العام " بكل اعتزاز وافتخار "، كما يحصَلُ عادة ، ونقول بعد ذلك بكل ثقة واطمئنان : " هذا هو الحل "، هذا هو " الترياق "، أو هذا " حجر الفلاسفة " الذي بمقدوره أن يحوّل الأوضاع بلمحة بصر ، من السيئ إلى الأحسن ، أو أن يُعطيَ أجوبةً شافيةً لكلّ تساؤل أو سؤال.
إنّ عملَنا ، إذن ، كنّا قد حدَّدناه منذ البداية ، وفي هذه المرحلةِ ، مرحلةِ التأسيس والنشوء ، في بذلِ الجهدِ في حُسْنِ صياغةِ الأسئلةِ وطرحِها بصيغةٍ موضوعيّة واقعيّة ، تعبّرُ عن هاجسِ شعبنا وطموحاته . هنا الصعوبةُ في ما أرى ، وهنا أهميّةُ عقدِ مثلِ هذه اللقاءات الحواريّة المنفتحة والتي يشارك فيها تياراتٌ فكريّةٌ وثقافيّة متنوّعة ، هي أيضاً لديها همّ البحث والتفتيش والتنقيب من أجل إعادةِ بناءِ مجتمعٍ وطنيّ جديد ، واحدٍ وموحّدٍ ، وعلى أسسٍ ديمقراطيّة عصريّة حديثة .
واسمحوا لي هنا أيضاً أن أشيرَ فقط إلى جانبٍ أراه غاية في الأهميّة ، ويحتاج منّا مستقبلاً إلى وقفاتِ تأملٍ وبحثٍ طويلة . لقد جاءت الحرب أو الحروب اللبنانيّة فكشفت لنا عن عيوبنا وأظهرت مساوِئَنا الكامنة وأمراضَنا المزمنة ، فضاعفت هذه الأمراضَ أضعافاً . ونحن اليوم يحاول كلٌ منّا وبطريقته الخاصة أن يواجِهَها ويُقدمَ الحلولَ لها . فمن حسنةِ كارثةِ هذه الحرب اللبنانيّة ، إذا كان يحقّ لنا أن ننسبَ الحسناتِ إلى الحروبِ والكوارث ، أنّها أظهرت لنا ، بما لا يدع أيّ مجال للشك ، عن جوانبَ هامةٍ من " حقيقتِنا المرّة "، من حقيقةِ نظامنا السياسيّ والاجتماعيّ ، من حقيقةِ القوى السياسيّة وطبيعتها المختلفة ، من يمين أو يسار . بكلمة : لقد عرّت كارثةُ الحربِ الجميعَ : تركيبةَ المجتمعِ ونظامَنا السياسيّ .
وإذا كان لي أن اقدّمَ بعضاً من هذه الأمراضِ على سبيل المثال لا الحصر ، فإنّني أشيرُ أولاً وقبل أيّ شيء آخرَ ، إلى أنّ هذه النكباتِ التي توالت علينا والحروبَ المتوالية والانقساماتِ ـ ونظراً لطبيعة تكوين مجتمعنا الطائفيّ التجزيئيّ المناطقيّ ـ أظهرت جميعُها :
ضيقَ أُفقِنا في العملِ السياسيّ ، الداخليّ والخارجيّ
وهيمنةَ الذهنيّةِ الأسطوريّة في تصوّراتنا
وقِصَرَ النظرِ في الثقافة والنَّظَرَ إليها ، إما نظرةً آحاديّةً متقوقعةً ومنغلقةً على نفسها ، وإما نظرةً انفلاشيّة وفضفاضةً غير واقعيّة ،
وغيابَ كلِّ فكرٍ نقديّ حقيقيّ عند مثقّفينا وسياسيّينا ،
وسيطرةَ غرائزِ الانفعال وردّاتِ الفعل الطائفيّة والمذهبيّة ، الواعية أو الكامنة ، عند عددٍ كبير من قياديّينا وجماهيرنا .
كما أنها أظهرت أخيراً وليس آخراً ،أنّ الإنسانَ في لبنان أدنى قيمةً وأقلّ أهميّةً وأبخس ثمناً من الأشياء . ممّا أدّى كلُّ ذلك إلى انفراطِ عِقْدِ وَحْدةِ المجتمع ، فأصبح مجتمعاً مجتزئاً فقيراً ، سياسياً وثقافياً .
والواقع ، ولهذه الأسبابِ جميعِها ، فإنّنا نمرّ الآن بما يمكن أن نسميَه ، مرحلةً انتقاليّة ، بمنعطف من هذه المنعطفات التاريخيّة المصيريّة الخطيرة : نكون أو لا نكون . ولكننا حتماً سوف نبقى ونستمر . ولكن كيف ؟… وعلى أيّ أساس ؟... هذا هو السؤال المطروح على كلّ واحدٍ منّا ، وبوجه أخصّ على المثقّفين والمفكرين والسياسيّين وأصحاب الرأي في البلد .
وكما هو معلومٌ لنا جميعاً وملاحظٌ ، فإنّنا نعيشُ اليوم في وضعٍ شبهِ يائسٍ ، كما يُقال ، وفي حالةِ قلقٍ وجوديّ مضطرب . كثيرون هم الذين يشعرون بأنّه لا أمل لنا بتحقيق القفزة النوعيّة المطلوبة أو النهضة الثقافيّةـ السياسيّة ، أو النهضة السياسيّة ـ الثقافيّة المرجوة . كثيرون ومن المثقّفين خصوصاً يشعرون ، بعد كلّ ما حدث من تفككٍ متسارعٍ وعميقٍ في مجتمعنا السياسيّ والثقافيّ، يشعرون بعجزٍ داخليّ : نفسيّ وفكريّ ، وبعجز سياسيّ واجتماعيّ ، فيلتجئون إلى الانكفاء، إلى الهروب ، أو إلى الانتظار والترقّب . فيرَوْنَ فيه أسلمَ عاقبةً وأقربَ زُلفى وأحسنَ مآلاً .
من هنا ، أهميّةُ طرحِ السؤالِ المِلْحاح علينا جميعاً ، وهو كيف يمكن أن نتجاوز معاً هذه الحالةَ من اليأسِ والعجزِ لدى الرأي العام عموماً ولدى عددٍ كبير من المثقّفين والمتعلمين وسواهم ؟!. هنا لا أرى سبيلاً في ظروفنا الراهنة ، سبيلاً حقيقياً وفي المدى البعيد، إلى تجاوزِ هذا اليأسِ المهيمنِ وهذا العجزِ المسيطرِ على الأفراد والجماعات ، إلاّ عَبْر الفكر والعمل الثقافيّ ، وعن طريقِ النقد والوعي ، نقدِ التجربة في شموليتها في الماضي والحاضر . وذلك شرطٌ مُسْبقٌ وضروريٌّ لكلّ عملٍ فعليّ حقيقي ومنتجٍ ، وطنياً وسياسياً .
من هنا يأتي دورُ المثقّفِ ، يبرز دورُ النخبةِ المثقّفة ، ويظهرُ دورُ المفكر ويأخذُ كلَّ أهميتِه في هذا السياق التاريخيّ العام . دورُ المثقّف وإرادتُه هي التي تبلورُ الوعيَ الجمعيّ وتوضِّحُه وتحدِّدُ مسارَه . دورُ النخبةِ المثقّفة يتجلّى في استنهاض الإرادة الجماعيّة، في استنهاضِ الرأي العام والتنامي الواعي لهذه الإرادة واستمرارِ العمل على شحذها وتنويرها .
إنّ أيةَ حركةٍ ثقافيّة أو سياسيّة ، وإنّ أيَّ تحركٍ منتجٍ وفاعلٍ ، يفترضُ بالضرورة ويستلزمُ حداً أدنى من الثقة بالذات ومن الثقة بالجماعة ، وإلاّ فلا يمكن أن يقومَ أيُّ تحركٍ أو أن يحدثَ أيُّ تقدم يُذكر . كما أنّ أيَّ عملٍ ثقافيّ جديّ ورصين وذي رؤية مستقبليّة ، إنّما يفترضُ كذلك الزمانَ بُعداً من أبعاده الأساسيّة ويفترضُ تراكماً ثقافياً يسبقُه ويمهدُ له . ذلك أنّ أيةَ عمليّةٍ ثقافيّةٍ حضاريّةٍ هي في الحقيقة عمليةُ إنتاجٍ فكريّ واجتماعيّ بطيء، وتكوّنٍ فرديّ وجماعيّ في تفاعلٍ جدلي مستمر. من هنا ولهذه الأسباب التي ذُكِرَتْ أعلاه ، علينا نحن المثقّفين الديمقراطيّين الأحرار ، أن نَغزَ السيْرَ بتُؤدَة وأن نسلكَ طريقَنا بوضوحٍ ورويةٍ ومعرفة .
وحدَه المثقفُ الحقيقيّ والمثقفُ الملتزمُ ، أرى أنّ له في هذا الظرفِ دوراً ، ودوراً طليعياً في هذه المرحلة . هو وحدَه ، المثقفُ الملتزمُ ، الذي يمكنه أن يعيَ أسبابَ الأزْمة وعوامِلَها . هو الذي يمتلك مقدرةً على المقارنة والتحليل ، وربط الحاضر بالماضي واستشراف المستقبل . هو وحدَه الذي يمكنه أن يُقيمَ بينه وبين الأحداثِ مسافةً تُمكّنه من الرؤية الصحيحة ومن التعبير الواعي . وهو وحدَه الذي يمكنه أن يكون وراء أيةِ نهضةٍ حقيقيّة ، ويمهدُ لها ويتابعُها . والنهضة الحضاريّة التاريخيّة
هي أولاً وعيٌ للواقع بكل تعقيداته ومن جوانبه المختلفة ، وإدراكه إداركاً حقيقياً .
وهي ثانياً رؤيةٌ مستقبليّة انطلاقاً من هذا الواقع ،
وهي ثالثاً فعلٌ في هذا الواقعِ والتأثيرُ فيه وتحقيقُ الرؤية المستقبليّة في الحاضر .
وبكلام آخر ، فإنّ هذه النهضة ، كما أراها وأتصوّرها ، هي جهدٌ فكريّ وثقافيّ طويلُ المدى ، وليس مَن يحققُه ويقومُ به ويتحملُ مسؤوليتَه سوى المثقّف الملتزمِ الحقيقيّ ، مهما كانت الظروفُ والأوضاعُ ، إذا كان قانعاً حقاً بعمله ومخلصاً له ومدركاً لدوره التاريخيّ ...
فالثقافة بهذا المعنى وكما أفهمها هي سلطة ضاغطة ، بل هي السلطة الأولى في أيّ مجتمع ديمقراطيّ حقيقيّ . وللمثقّف بهذا المعنى أيضاً سلطتُهُ المعنويّةُ الفكريّةُ الضاغطةُ ، ودورهُ الرائدُ في صياغة الوعي وتعميمه . إنّنا ندعو إلى ثقافةٍ تعملُ على صَوْغ ديناميّة اجتماعيّة موحِّدة وموحَّدة ، وطنياً وسياسياً ، وأن تصبح فعلاً السلطةَ الأولى بحيث تمتلكُ تأثيراً قوياً ، تستطيعُ معه أن تؤطرَ الوعي الجمعيّ العام وأن تلعبَ بالتالي الدورَ الأولَ في صياغة الوعي الوطنيّ والسياسيّ معاً . وهذا ، بطبيعة الحال ، لا يمكن أن يتحقّقَ إلاّ بقيام المجتمعِ الديمقراطيّ الحقيقيّ والفعليّ . فهناك في الواقع تلازمٌ وتفاعلٌ ، تأثيرٌ وتأثرٌ بين الديمقراطيّة والثقافة . وهنا تصبحُ الثقافةُ في الأساس وفي الأعماق " حياةً كاملةً " كما يقول أنطون مقدسي ، " تتكثف وتتجمع في فعل واحد، له قيمةُ منعطف تاريخيّ . الفعلُ هذا يسبقُهُ ويصحبُهُ ويتبعُهُ قرارٌ ، قرارٌ كليّ "، على المثقّفِ والمثقّفِ وحدَه أن يتخذَه.
وإذا كان لي من كلمةٍ أخيرةٍ أقولُها في هذا السياق ، فهي أنّنا نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ التي نعملُ بجهدٍ وصبرٍ وصمتٍ على إنشائها ، ندعو إلى قيام ، أو التمهيدِ إلى قيامِ تيار ثقافيّ حقيقيّ وفاعل . فحركتُنا الثقافيّةُ هي حركةٌ ضِدُّ الجمود ، ضِدُّ السكون . هي حركةُ تغييرٍ وتغيرٍ مستمر ، ديناميةٌ اجتماعيّةٌ ثقافيّة . وهي بهذا المعنى جهدٌ واعٍ ، منظمٌ ، من أجل بناء ثقافة أسمى قيمةً وأكثرَ ملاءمة . هي تيارٌ يدفع فئةً اجتماعيّة مثقّفة إلى تنظيم صفوفها بهدف القيام بعمل موحّدٍ من أجل تحقيق أهدافها .
إنّ المثقّفين الديمقراطيّين الأحرار هم كثُرُ في لبنان. ولكنهم مبعثرون ، مشتّتون ، مفرقون، ويفتقدون إلى مرجعيّة فكريّة تجمعهم ، وإلى إطارٍ من العملِ يوحِّدُهُم ، وإلى ملتقى حقيقيّ يتحاورون فيه . بكلمة ، إنّهم يفتقدون إلى قيادةٍ أو قياداتٍ فكريّةٍ تستحوذُ على ثقتهم وتستجمعُ قواهم وتوحّدُ صفوفَهم ، من أجل خوضِ معركة الديمقراطيّة والحريّة والوَحدة الوطنيّة وحقوق الإنسان في لبنان . وفي سبيل ذلك ولتحقيق هذه الأهداف الكبرى، فإنّ الحياةَ الفكريّةِ والثقافيّةِ في لبنان ، إن احتاجت إلى شيء ، في لحظاتِ الأزْمةِ والتوترِ والصدام ، فهي تحتاجُ إلى الحوار، إلى الحوار الحرّ الديمقراطيّ المنفتح ، وهذا ما تدعو إليه حركتُنا ، ومن هنا جاء اسمها ...
لذلك، وفي هذا الملتقى الثقافيّ الرابع الذي نعقده طوال هذا اليوم في نُدوتين، صباحيّة وبعد الظهر ، فقد اخترنا موضوعاً للنقاش والحوار من المواضيع الملحّة ، طُرح بصيغة تساؤل كبير: في بناء دولة العيش المشترك، في بناء دولة الوحدة الوطنية المجتمعية: من أين نبدأ عملياً ؟… لقد شدّدنا على تعبير " عملياً "، ذلك أنّه إذا كان قد تمّ الاتفاق في ما بيننا عموماً على قَبول فكرة العيش المشترك ، اعتباراً من أن لبنان يفقدُ ضرورةَ وجوده، إذا اختلت هذه الصيغ … إلاّ أن الإشكاليّة تبقى مطروحةً وبإلحاحٍ اليوم ، حول مَن يحمي هذا العيش المشترك ويحافظُ عليه ويثبّتُه . وكيف يمكن أن يتم ذلك عملياً، ومرحلياً، انطلاقاً مما هو واقعٌ وقائمٌ على الأرض ؟!... ولكن، وفي المدى المستقبلي، سوف يُطرحُ السؤال ، ومن الأهميّة أن نمهدَ له من الآن ، حول كيفية تجاوزِ ذلك الواقع إلى درجة أعلى ، نحو بناء المجتمع اللبنانيّ الوطنيّ الموحّد ، نحو قيام دولة الوَحدة الوطنيّة المجتمعيّة ، دون اعتبار سوى اعتبار المواطنيّة والقيمة الإنسانيّة العليا والكفاءة الذاتيّة للمواطن ... هذا هو التساؤلُ الكبير الذي طرحناه في هذا الملتقى الثقافيّ ، محوراً للنقاش والحوار والذي نأملُ أن نجيبَ عنه بوضوحٍ وصراحةٍ ، كلٌّ من موقعه الفكريّ والوطنيّ والسياسيّ ، أو من خلال تجربته النظريّة أو العمليّة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] ) كلمة التقديم التي ألقاها الدكتور مصطفى دندشلي ، في الملتقى الثقافيّ الرابع ، والتي أقامتها حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، في خلوات ـ فالوغا ، وذلك يوم الأحد الواقع فيه 21 آب 1994