عبد الناصر.. الباقي من ثورة يوليو
مقالات و تحقيقات /
سياسية /
2010-10-01
01/10/2010 العدد 11706
عبد الناصر.. الباقي من ثورة يوليو
سمير كرم
أهم الحقائق الثابتة والأكيدة، وقد استقبلنا الذكرى الأربعين لرحيل جمال عبد الناصر عن هذا العالم الى رحاب الله، هي حقيقة لا تكاد تصدق...
فمن يمكن ان يصدق، او يستوعب بسهولة ذهنياً ووجدانياً، ان نسبة تربو على ستين في المئة من الشعب المصري اليوم ـ في موعد هذه الذكرى ـ هم ممن ولدوا بعد ان رحل جمال عبد الناصر عن عالمنا الى عالم الخلد؟
نعم هذه حقيقة إحصائية لا سبيل الى رفضها او عدم تصديقها في ضوء حقيقة ان «الناصريين» من الشعـب العربي في مصر ـ أولئك الذين يخرجون في المظاهرات والاحتجاجات في مدن مصر هذه الايام يحملون صور عبد الناصر ولافتات عليها شعاراته القومية والاجتماعية ـ هم ممن جاءوا الى هذا العالم ونموا واكتسبوا وعيهم القومي والسياسي والاجتماعي بعد رحيل قائد ثورة تموز المبكر والمفاجئ عن هذا العالم.
من المؤكد ان الرقم الدائري الأربعين لعب دوره السحري الغامض في إبراز ذكرى رحيل جمال عبد الناصر في أذهان المصريين ووجدانهم اذا قارنا ما جرى هذا العام بما جرى في السنوات الماضية. لقد فاق الاهتمام بهذه الذكرى هذا العام الاهتمام نفسه في الأعوام السابقة. لكن الرقم الدائري لا يكفي وحده لتفسير هذه الظاهرة. ان «الحراك السياسي» الذي يشمل مصر كلها بمدنها ومصانعها وتنظيماتها المهنية والنقابية والتنظيمات السياسية التي اضيفت الى هذا كله هي التفسير الموضوعي لكل هذا الاهتمام بذكرى رحيل القائد.
ان تعبير الحراك السياسي اختصار ذكي لوصف حركة عارمة تجـتاح المجتمع المصري، فهو اعتراض شعبي ونخبوي علـى مشروع توريث الرئاسة والسلطة، وهو مطالبة بالديموقراطية وهو مطالبة بالتصدي للفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي... ولا يكاد يمر اسبــوع واحد من دون ان تظـهر دلائل الحركية والحيوية والطـاقة السـياسية على جماهير مصر، تذكّر النخـبة الحــاكمة بأنها موجودة وقادرة وأن لها اهدافاً لا ولن تحيد عنها.
ربما اضطرت النخبة الحاكمة ـ في تجلياتها المتعددة ـ لان تشارك في الاحتفاء بذكرى مرور أربعين سنة على رحيل القائد جمال عبد الناصر. وقد انعكس ذلك في إعلام السلطة مرئياً ومسموعاً ومطبوعاً كما لم ينعكس في اي عام سابق منذ التاريخ المشؤوم في 28 أيلول 1970. وأدى هذا الى زيادة الشعور بأن السلطة لا تزال حريصة على ان تنسب الى جمال عبد الناصر، على الرغم من المسافات التي ابعدتها عن القائد وأفكاره ومبادئه وسياساته.
النخبة الحاكمة في مصر لا تستطيع ان تنسب نفسها الى نقيض عبد الناصر عقائدياً أو فكرياً أو سياسياً ـ في الشأن الداخلي او في الشأن الخارجي- لأنها اضعف من ان تتحدى ارادة الناس بمثل هذه الصراحة، حتى وإن كانت في ممارساتها تفعل هذا على وجه التحديد. إنها حتى لا تستطيع ـ وإن كانت تتمنى ـ أن تقول إن عبد الناصر كان يمكن بأي حال ان يكون في خطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي لو امتد العمر به الى هذا اليوم.
هذا هو بالتحديد ما يميز النخبة الحاكمة التي يرأسها رئيس الجمهورية حسني مبارك عن تلك التي سبقته والتي كان يرأسها انور السادات. إن نخبة مبارك تود ان لا تجبر بأي حال على ان تفاجئ الجماهير بعدائها لعبد الناصر وتفضل ان تبقى في الطقوس وحدها اقرب ما تستطيع الى إطلاق موجة مديح لعبد الناصر حتى وهي تسالم اسرائيل، حتى وهي تبيع الغاز الطبيعي لإسرائيل بسعر بخس يقل عن ذلك الذي يدفعه المصري فيه، حتى وهي تدخل عملياً في خطط الامبريالية الاميركية ضد العراق وضد أفغانستان. حتى وهي تطلق العنان لأثرياء السلطة لزيادة ثرواتهم على حساب تعليم الشعب وصحته وخدمات مواصلاته وطرقه وبناه التحتية.
ولقد ساهم ـ عن غير قصد في الغالب ـ في فتح الأبواب امام ذكريات الشــعب المـصري عن جمال عبد الناصر ما استعادته ذاكرة صديقه والناطق باسمه احيانا بصفة غير رسمية وأحيانا بصفات رسمية عن الايام الاخيرة في حياة القائد ..اقصد ما استعاده محمد حسنين هيكل ضمن هذه الذكريات في برنامجه «مع هيكل» على قناة «الجزيرة» الفضائية عما اصبح يسمى في الحكايا المصرية «حكاية فنجان القهوة» الذي أعده أنور السادات - بنفسه وحيداً - لعبد الناصر قبل يومين مـن رحــيله. لقد اثارت هذه الذكريات صخباً شديــداً في الصحافة المصرية السلطوية والشعبية وتحولت الى دعوى قضائية ضد الكاتب الصحافي الكبير من ابنة السادات تتهمه فيها بالإساءة الى والدها.. مع ان هيكل استخدم كل الصيغ الممكنة لتبرئة السادات من تهمة دس السم في فنجان القهوة الذي أودى بحياة عــبد الناصر بعد يومين.
وقد يستمر هذا الصخب طويلاً على الرغم من انه لم يلفت النظر الى حقيقة راسخة هي أن انور السادات ـ اذا كان بريئاً من قتل عبد الناصر بالسم ذي المفعول الآجل ـ بذل كل ما بوسعه ليقتل القائد بعد موته معنوياً وسياسياً وعقائدياً وقومياً من خلال السياسات التي انتهجها عملياً ابتداءً من «الانفتاح» الذي اعطى إشارة البدء ليقتحم الفساد حياة المصريين واقتصادهم وأخلاقهم ونظامهم الاجتماعي. وهل هناك من يمكن ان ينكر الدور الذي لعبه انور السادات في اغتيال عبد الناصر المبدأ والسياسة والثورة الاجتماعية، عبد الناصر زعيم التيار القومي العربي، عبد الناصر زعيم ثورة التحرر العالمية؟
ان الاهتمام بالجانب البوليسي من حكاية فنجان القهوة الســاداتي هو وحــده الذي استطاع ان يغطي على مناقشة مسؤولية انور السادات عن كل تراجعات السياسة المصرية التي تمارس اليوم عن مبادئ عبد الناصر وإنجازاته.
اعتاد الإعلام المصري في معالجة ذكرى ثورة تموز 1952 على طرح السؤال: ماذا بقي من الثورة؟ لكن هذا السؤال لم يطرح في الذكرى الأربعين لرحيل عبد الناصر.
ترى لماذا؟ وهل هذا شيء عفوي ام انه مقصود؟
اغلب الظن ان الذين يطرحون هذا السؤال في ذكرى الثورة يعرفون ان إجابته الفورية في هذه الذكرى هي انه لم يبق من تلك الثورة ما يمكن ان يذكر إلا أشياء رمزية. وحتى تخلصها من النظام الملكي اصبح يعالج الآن «درامياً» وإعلاميا عن طريق طرح صورة معدلة، بعد إدخال التجميلات عليها للأسرة المالكة وللملك الأخير فاروق. وكأن ثورة تموز لم تكن ضرورة ولا حتمية ولا تخلصاً من نظام فرض الفقر والتخلف على غالبية الشعب المصري ... اصبحت صورة فاروق الأول (والأخير) صورة الملك الطيب الخلوق المظلوم الذي أساءت الثورة الى سمعته لتبرر استيلاءها (مجموعة من الضباط الشبان الذين تنقصهم الخبرة) على السلطة.
اما لماذا لا يطرح السؤال نفسه في ذكرى رحيل عبد الناصر فلأن الإجابة الموضوعية المقنعة هي التي تؤكد ان ما بقي من ثورة تموز هو بالتحديد مكانة جمال عبد الناصر في أذهان وفي وجدان الشعب المصري والعربي ... حتى اولئك الذين ولدوا بعد رحيله.
لقد سحب الكثير من إنجازات ثورة تموز من تحت اقدام المصريين ـ بل من تحت اقدام مصر ـ وإن بقيت إنجازات اكبر من ان تمحى او تسحب مثل قناة السويس المصرية الملكية والانتماء ومثل السد العالي ومثل تقليد الإبقاء على قوة القوات المسلحة المصرية ... لكن الحقيقة هي ان جمال عبد الناصر الفكر والعقيدة والقومية ودور مصر القومي والعالمي هو ما بقي من ثورة تموز. لم تستطع كل السلبيات التي حلت محل إنجازات ثورة تموز ان تنزع من الضــمير المصري ـ والعربي ـ مكانة عبد الناصر وأفكاره وطموحاته القومية والإنسانية. وقد لا نــجد في النهاية اجابة تامة على السؤال: ماذا بقـي من ثورة تموز؟ سوى الإجابة التي تقول: بقي جمال عبد الناصر.
بقي جمال عبد الناصر الى حد ان المواطن المصري ـ والعربي - لا يزال يستغرب إطلاق لفظ «الريّس» على احد غيره. السادات في حينه ومبارك الآن... حتى وإن كان مبارك يوشك ان يتم العام الثلاثين في الرئاسة، بينما لم تتجاوز سنوات عبد الناصر الرسمية في الرئاسة 16 عاماً اذا حسبنا ان محمد نجيب قضى السـنتين الأوليين بعد ثورة تموز رئيساً للجمهورية. لا يزال الانسان المصري ـ والعربي ـ يشـعر بأنه إذا قيلت كلمة «الريس» فإنها تعني جمال عبد الناصر.
حتى المقاومة المصرية الشعبية الراهنة لمشروع توريث الرئاسة لجمال مبارك ابن رئيس الجمهورية تستمد معظم شحنتها من حقائق رسخها في الذهن المصري سلوك عبد الناصر الرئاسي والشخصي. لأن جمال عبد الناصر لم يحاول ذلك، فإن هذا الموقف هو الموقف الصحيح السليم. لقد عامل عبد الناصر أبناءه من الجنسين كأب مصري من اوساط الشعب ابتداء من التحاقهم بالجامعات والخضوع لقواعد القبول التي يحددها مجموع الدرجات لأي شاب او شابة مصرية الى التحاقهم بوظائفهم. ولأن عبد الناصر ارتضى ذلك وأراده فهذا ـ في الضمير المصري ـ هو المعيار الخلقي والسياسي معاً.
ولا غرابة ان ترفع صور جمال عبد الناصر بعد اربعين عاماً من رحيله عن عالمنا في مظاهرات اعلان المعارضة والمقاومة ضد مشروع توريث جمال مبارك رئاسة الجمهورية.
ولا غرابة ان ترفع صوره اليوم في المظاهرات ضد الفساد ومن اجل الديموقراطية ومن اجل استعادة دور مصر القومي والعالمي.
ولا غرابة ان ترفع صوره اليوم في الاحتجاجات ضد ارتفاع الأسعار على فقراء مصر الى حدود لا تطاق ... ففي عهد جمال عبد الناصر كانت الوزارات بأكملها تقال اذا حدث وارتفع سعر احدى السلع الرئيسية ـ الغذائية مثلاً - الى ما فوق توقعات هؤلاء الفقراء. اليوم لا احد في النخبة الحاكمة يظن ان ثمة ظلماً في الغلاء في اسعار المواد الغذائية اذا كانت تتساوى مع «الاسعار العالمية».
في عهد جمال عبد الناصر ـ الذي لا يزال بعضهم يصفه بالدكتاتورية ـ كان النظام الحاكم يعمل ألف حساب لشكوى الفقراء من الغلاء وألف ألف حساب لموقف رجل الشارع من القضايا القومية من الجزائر الى فلسطين الى السلام العالمي.
واذا كانت مصر الشعبية تتظاهر وتحتج اليوم وتقاوم بكل السبل اي خطوة نحو التطبيع مع اسرائيل ـ حتى بعد ثلاثين عاماً من السلام معها ـ فهذا احد التقاليد الموروثة من عهد عبد الناصر وسياساته.
ولهذا حينما نقول إن عبد الناصر هو الباقي من ثورة تموز حتى الآن وإلى ما شاء الله وشاءت إرادة الشعب المصري، فإننا لا نعني صورة عبد الناصر العزيزة على القلوب والتي ترفع في كل المناسبات الوطنية والقومية... انما نعني ما كان يعنيه عبد الناصر في حياة هذه الأمة من مقاومة وقدرة ـ حتى في احلك الظروف وأقساها ـ على التمسك بحقوق الأمة في التحرر والتقدم والمساواة.
ولعلنا ـ بعد ذلك كله ـ لا نرى غرابة في استمرار مكانة عبد الناصر في عقولنا ووجداننا على الرغم من ان سياسات الزمن الحاضر تطمس أدبياته السياسية والفكرية وخطــبه وأقوالــه من فلسفة الثورة الى ميثاق العمل الوطني الى بيان 30 آذار.
سيأتي يوم نستعيد فيه هذا كله كلما حانت ذكرى رحيل القائد.
هذا ما تنبئ به مكانته في نضالنا المستمر في مصر والوطن العربي.