النهار - شهادات عن سجناء مقطوعين أودت الجرائم ببعضهم إلى حبل المشنقة مطلع الخمسينات
إعلام وصحافة /
إجتماعية /
2010-11-15
الإثنين 15-11-2010
تحقيقات الأحد/
شهادات عن سجناء مقطوعين أودت الجرائم ببعضهم إلى حبل المشنقة مطلع الخمسينات
تروي هذه الحكايات، التي تعود الى مطالع خمسينات القرن العشرين، أحوال سجناء مقطوعين التقى بهم الراوي في سجن سرايا بعبدا الحكومية، وأفضت الجرائم ببعضهم الى حبل المشنقة.
-1-
أُوقفتُ العام 1951 في سجن سرايا بعبدا الحكومية، منتظراً محاكمتي في محاولة قتل شاب أطلقت عليه من مسدسي ثلاث رصاصات في حديقة منزلنا بالمريجة، فأصابته إصابات خطيرة. لم تطل مدة توقيفي في السجن، على ذمة التحقيق. فبعد وساطات متسارعة قام بها والدي، المفتش العام في وزارة التربية الوطنية، لدى أصدقاء له نافذين في القضاء، حكمت المحكمة بسجني شهراً ونصف الشهر مع وقف التنفيذ، فخرجت من دون أن أعلم إن كان الشاب الذي أطلقت عليه رصاصاتي، وأجريت له عمليات جراحية في المستشفى التي مكث فيها شهوراً، قد نجا وتعافى أم لقي حتفه.
أثناء مدة توقيفي القصيرة في السجن، تعرفت الى سجناء وسمعت منهم حكايات عن جنايات ارتكبوها، وعن المحاكمات القضائية التي اجريت لهم. ما هالني في حكاياتهم حال التمييز الفادح في تعامل الأجهزة الأمنية والقضائية بين مرتكبي الجرائم. والتمييز، كما عشته وشهدته بنفسي، ركيزته وقوامه المراتب الاجتماعية للموقوفين والسجناء، وانتماءاتهم، وصلة كل منهم وأهله بنافذين يقفزون فوق القوانين والاجراءات الأمنية والقضائية والمحاكمات، أو يتلاعبون بها.
أروي أحوال هؤلاء السجناء وحكاياتهم التي تبين أننا كنا ولا نزال حتى الساعة نعيش في مجتمع ودولة تتحكم بنصاب القيم العامة ومعايير الأحكام والمعاملات فيهما، علاقات القوة والاستتباع والاستزلام التي تنتهك الحقوق والقوانين وتجوفها وتجعلها مطية للنافذين.
-2-
روى لي سجين سوري - نسيت اسمه، ربما لأنه سوري، ما دمت أتمتع بذاكرة حادة يندر أن تنسيني إسم أي شخص صادفته في حياتي، رغم الثمانين التي تجاوزتها - أنه مضى على توقيفه في سجن سرايا بعبدا الحكومية 11 شهراً، من دون أي تحقيق أو محاكمة. كان الرجل عاملاً مياوماً في ورشة بناء قريبة من معمل الجوخ في الحدث. فيما هو يمر عابراً في طريقه الى الحازمية، رأى ثمار الليمون الحامض تتدلى من أشجار بستان الى جانب الطريق الخالية، فسولت له نفسه ورغبته أن يقطف بعضاً من ثمارها الناضجة، كي يأكلها. صادف أن صاحب البستان أبصر الرجل، فخرج من بستانه مستاءً غاضباً، وأخذ يصرخ مهدداً متوعداً. وشاء سوء طالع الرجل السوري أن تمر في تلك اللحظات دورية راجلة من رجال الدرك، فقبضوا عليه، ودونوا في سجل الإفادات الذي يحملونه أنه ضُبط في جرم السرقة المشهود، وسجلوا إفادة صاحب البستان ممهورة بتوقيعه، ثم اقتادوا السارق الى سرايا بعبدا، ورموه في سجنها موقوفاً على ذمة التحقيق الذي لم يحصل بعد مضي 11 شهراً على "الجريمة". لم يزر أحد الرجل في سجنه. وحين خرجت من السجن لم يكن يعرف أحداً في الخارج كي يحمّلني سلاماً إليه أو يطلب منه مساعدة.
-3-
سجين آخر كان معي في قاووش السجن، ومضت مدة طويلة على توقيفه من دون تحقيق أو محاكمة، وهو مسكين وبائس مثل الموقوف السوري، لكنه فلسطيني. وأتذكر أنه من آل كتمتو، ويختلف عن السوري بأنه ارتكب فعلاً جريمة مشهودة، وهي جريمة قتل، دافعها الجهل والبؤس والفقر والغضب المفاجئ: كان الرجل الفلسطيني مع غيره من اللاجئين الفلسطينيين، يتزاحمون ويتدافعون على باب مركز لـ"وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا)، يوزع عليهم الإعاشة في الشويفات. وسط الزحمة والتدافع المحمومين، تشاجر كتمتو مع فلسطيني آخر يزاحمه للدخول قبله الى المركز والحصول على الإعاشة، فتطورت المشاجرة بينهما، واستل كتمتو سكيناً يحملها وطعن بها صدر مزاحمه الذي توغل نصل السكين في قلبه، فقتل على الفور، وقُبض على القاتل. وحين غادرت السجن مودعاً كتمتو شعرت أنه باقٍ على حاله الى الابد.
-4-
كان الاخوان علي ومحمد زيدان - وهما من قرية اللبوة البقاعية - يعملان في مصلحة تسجيل السيارات (النافعة) في مدينة طرابلس. شاب غرَّر بشقيقتهما في اللبوة، فحملت منه. حين صارت في الشهر الثامن من حملها، استدعى والد الفتاة أخويها من طرابلس، وأخبرهما بفعلة شقيقتهما، فأقدم محمد زيدان على طعنها 38 طعنة في مواضع مختلفة من جسمها، 11 منها في بطنها. الخنجر الذي استعمله الشقيق في طعن شقيقته، صارت قبضته زلقة في كفِ يده، أثناء طعناته المتتالية وتدفق الدم الأخوي (المدنس أم الطاهر؟) غزيراً من جسم الأخت التي قتلتها الطعنات، فيما أدى انزلاق الخنجر في قبضة يد الأخ القاتل المغمسة بالدم، الى بتر إحدى أصابعه. وحين دخلت الى سجن سرايا بعبدا، كان محمد زيدان يداوي جرح إصبعه المبتور، ثم أنني خرجت من السجن وهو لا يزال يداويه.
-5-
منتظراً تنفيذ حكم الاعدام فيه، كان السجين الياس أبو خليل لا يتوقف عن مداعبة حبيبات سبحة صفراء من الكوربا يحملها دائماً في يده، فقلت له مرة: بكرا رح يعدموك يا الياس، اعطيني هالمسبحة ذكرى منك، فانقبض الياس، ولم يجاوبني في شيء. ثم أنه ظل على صمته وانقباضه بعدما بادرته متسائلاً: شو مفكر رح يصبروك؟!
الياس من بلدة الكحالة، ويقيم فيها، وأحب فتاة تدعى فيكتوريا الزغبي. شقيق فيكتوريا، انطوان، شاب وحيد بين عدد من الأخوات، ويعمل موظفاً في سنترال بيروت، ويقيم في غرفة صغيرة استأجرها في سوق النجارين، ويمضي أيام العطل الاسبوعية في بلدته وبين أهله. بعدما انتشرت في الكحالة شائعات عن علاقة شقيقته الغرامية بالياس أبو خليل، هدّدها ومنعها عن اللقاء به، فاستجابت الشقيقة، مما أغضب الياس وملأ قلبه حقداً على شقيقها أنطوان الذي اختفى وفُقد أثره في الكحالة وفي مركز عمله. بعد مدة قصيرة وجد عمال حفريات أعمدة الهاتف أن واحدة الحفريات التي حفروها في خراج الكحالة لتثبيت أعمدة شبكة الاتصالات الهاتفية، مطمورة. وحين أفرغوا التراب من الحفرة عثروا فيها على جثة متحللة، فإذا بها جثة أنطوان الزغبي. أدت التحريات الى الاشتباه بالياس أبو خليل، فقبض عليه واعترف بأنه قتل شقيق عشيقته في صبيحة نهار اثنين ماطر، وطمر جثته في الحفرة.
بعد شهور على خروجي من السجن، علمت أن القاتل الذي روى لي وقائع جريمته هذه في القاووش، ستُنصب مشنقته، فذهبت في نهار إعدامه الموعود الى ساحة العدلية قبالة السرايا الكبيرة في بيروت، حيث شاهدت الجلاد يلف حبل المشنقة حول عنقه، ويدفع السقالة من تحت قدميه، فيتدلى جسمه الى الأسفل مرتعشاً ومنتفضاً، قبل أن يسلم الروح.
-6-
بعد سنوات، كنت قد عُيّنت شرطياً في شرطة بيروت، فدخلت الى مطعم صغير افتتح في ناحية من ساحة الدباس، ويقدم صحناً لذيذاً من السمك البزري المقلي. ما إن لمحت صاحب المطعم حتى عرفته، فإذا به الرجل نفسه الذي رأيته يشنق الياس أبو خليل في ساحة العدلية. لم تخب فراستي ولم تخني ذاكرتي، إذ قال لي صاحب المطعم إنه تخلى عن مهنة شنق المحكومين بالاعدام، وأنه بيروتي من آل توتيو. سرعان ما صار الرجل صديقي، بعدما رحت أعرّج على مطعمه وأتغدى عنده. أخذ، فيما أتناول السمك الصغير المقلي، يروي لي حكايات عن مهنته القديمة، وعن المحكومين بالاعدام الذين شنقهم. حين سألته مرة عن إعدام أخوين من شارون من آل الصايغ، شنقاً، قال إنه ترك مهنته قبل شنقهما، وإن إدارة السجون جلبت رجالاً آشوريين للقيام بالمهنة بديلاً عنه وعن والده الذي عنه أخذ المهنة واختبرها وتعلمها، قبل أن يشيخ والده ويتقاعد. وروى توتيو ايضاً أن الآشوريين ليسوا خبراء في مهنة الاعدام شنقاً، وكل الذين شُنقوا على ايديهم تعذبوا قبل اسلامهم الروح.
ومن اعترافات توتيو في مطعمه انه ترك مهنته وتاب الى ربه وطلب منه المغفرة عن أفعاله، منذ شرع، يساعد والده، في المهنة. فوالده، وفقاً لعبارته، كان "معلم شنق"، وعنه خبرَ المهنة وأجادها، منذ ما قبل اعدام شهداء 6 ايار 1914 في ساحة البرج التي صارت تسمى، مذذاك، ساحة الشهداء. لكنني فيما كنت استمع الى اخبار توتيو وحكاياته عن مهنته القديمة، تهيأ لي ان اسم الساحة في ذكرياته وذاكرته، هو "ساحة الشنق".
-7-
حارس سجن سرايا بعبدا الحكومي ايام توقيفي، كان المدعو حليم شربل، وفي رتبة عريف، او امباشي في اللغة التركية التي كانت لا تزال شائعة ودارجة على الالسن في تلك الايام. قبل نقله الى سجن بعبدا، كان شربل حارس سجن النساء في محلة الصنائع البيروتية، حيث شاهد مرة في ليلة من ليالي حراسته السجن، رجلا يتسلق انابيب الصرف الصحي الخارجية الممدودة على جدار بناية من طبقتين قبالة سجن النساء. صرخ الحارس بالرجل مهددا، وأمره بالنزول. لم يستجب المتسلق إلى تهديد الحارس الذي سارع الى اطلاق النار من بندقيته الحربية الاميرية على المتسلق الذي هوى الى الأرض قتيلا. بعد هذه الحادثة رقي الحارس مكافأة له، الى رتبة عريف، ونقل الى حراسة سجن سرايا بعبدا.
حلاق سجن السرايا في بعبدا، كان من السجناء، ويدعى بطرس نعوم، وهو من محلة المزرعة في بيروت، وكان يملك صالونا للحلاقة قبل سجنه. فيما هو يحلق ذقني مرة، اخبرني انه أُدخل السجن لأنه ذبح شخصا بموسى الحلاقة وقتله في المزرعة، فارتجف جسمي رعبا، وصرخت به ان يتوقف عن حلاقة ذقني، ففعل، لكنه تابع كلامه كأن شيئا لم يكن، فقال انه مما يحصله من السجناء، لقاء حلقه ذقونهم وشعرهم، يعيل اسرته ويعلّم اولاده.
-8-
ما ان خرجت من السجن حتى سارع والدي الى الانشغال بتدبير عمل ما لي يصرفني عن ميلي الى ادوار القبضنة وعن شغفي باقتناء السلاح وحمله والتباهي به وبقوتي البدنية. تلميذه القديم في مدرسة الشياح التي اسسها والدي وكان مديرها، وهو محمد كنج الذي صار مهندسا ورئيس مصلحة الشؤون المالية في وزارة الاشغال العامة (النافعة آنذاك)، كان كلما التقى بوالدي يسأله عن احوالي في المدرسة، فيجاوبه والدي: مش نافع، فلتان. وفي غمرة انهماكه في التفكير بايجاد شغل ما لي، التقى والدي بالمهندس كنج، فاقترح عليه ان يشغّلني معه في مشروع جر المياه من نبع الاولي في وادي بسري، فشغّلني كنج وكيلاً على العمال في المشروع.
كان الطقس مثلجا، وانا اصعد مرة، سيرا على قدميّ، من وادي بسري الى جزين التي وصلت الى ساحتها موشكا على ان اتيبس من البرد الثلجي. دخلت الى بيت في الساحة، فأجلسني اصحابه قرب الصوبيا التي في الخيال وحده تهيأ لي ان الحطب الذي ابصرته يشتعل فيها، يبعث دفئا في الغرفة. حتى ان الكأس الذي احضرته لي المرأة ظننت ان عينيّ اوهمتني بأن فيه سائل الكونياك الذي دلقته في فمي، فلم اشعر بأنني ابتلعت شيئاً.
ثم سكنت مدة في قرية صبّاح القريبة من مشموشة على طريق جزين. كان المنزل الذي اقمت في قسم منه، قديما وكبيرا وسطحه من قرميد، ويسكن في قسم آخر منه الكومندان (بولك في بقايا اللغة التركية) نسيب سليم، قائد سرية الدرك في جبل لبنان.
في الصباح، رأيت مرة نائب قضاء جزين، مارون بيك كنعان بطربوشه النبيذي، يوقف سيارته البونتياك الفخمة التي يقودها سائقه، ويترجل منها قرب المنزل الذي اسكنه، ليسألني عن مشروع جر المياه الذي اعمل وكيلا على عماله. فجأة تراكض نحو البيك وسيارته جمع من اهالي صبّاح، اخذوا يطلبون منه راجين ان يشغّل ابناءهم في المشروع. رجل من الذين تحلقوا حول النائب، قال له ان ابنه تقدم الى دورة لتعيين دركيين جدد، فجاوبه النائب ان عليه ان يطمئن، لأنه سوف يكلم قائد الدرك في الامر، ودوّن اسم ابن الرجل على علبة تبغ ينيجه كانت في يده. وفيما كان مارون بيك يصعد الى سيارته سألته ان يأخذني معه الى صيدا، فرحب وأجلسني قربه على مقعدها الخلفي.
ما أن أقلعت السيارة حتى تناول من علبة الينيجي سيجارة واشعلها، ثم قذف العلبة الفارغة من النافذة، فقلت له: مارون بيك لقد سجلت عليها اسم ابن الرجل! كنت اعلم انه لا يزال عازبا، رغم تقدمه في السن، فالتفت اليّ وقال: بكرا هو وابوه بيروحوا لعند قائد الدرك، شو انا فاضيلو وفاضي لقائد الدرك؟ّ!
-9-
تنقلت في مناطق كثيرة اثناء عملي مع المهندس محمد كنج، قبل ان افتح ناديا رياضيا في المريجة العام 1953، وسرعان ما استقطبت اكثر من مئة متدرب في الشهور الاولى. قبل ان افتح النادي كنت احترفت المصارعة الرومانية في "نادي الشبيبة" قرب المحكمة العسكرية، لصاحبه ابو بشير القيسي، وحزت لقب بطل لبنان لوزن الريشة في هذه الرياضة العام 1952. ففي تلك الايام كانت الرياضات القتالية والقبضنة وغواية السلاح واقتنائه والتباهي بالمسدسات واشهارها في المشاجرات والتهديد بها واطلاق نيرانها في اوقات كثيرة، شائعة بين الفتيان والشبان غير المقبلين على التعليم، والمنكفئين الى عرض قواهم البدنية على مسرح الاحياء المحلية، وفي القرى الساحلية، مثل المريجة وبرج البراجنة.
في النادي الرياضي هذا برز بطل يعمل اطفائياً يدعى سنحاريب صليبا ومدرب المصارعة جوزف العازوري، ومدرب كمال الاجسام ميشال ابو راشد. لكن بعد سنة ونصف السنة من الازدهار بدأ النادي يتراجع ويتقهقر، بسبب شيوع السرقة وتفشيها يوميا وعلى نطاق واسع بين المتدربين والمشتركين من رواده الذين اخذوا يرفضّون عنه. بعد فوات الاوان، وقبيل قفل النادي، اكتشفت ان السارق المحترف كان متدرباً من سلك شرطة بيروت ومن ابناء المريجة.
خشية والدي من تهوري وتوريطه في مشكلات ومصائب جديدة، نتيجة تعلّقي بالسلاح ونزوعي الى عرض قوتي البدنية، حملته على التفكير في ادخالي الى سلك الشرطة. ففي هذا السلك يمكنني ان احمل سلاحاً نظامياً وأعرض قوتي وسطوتي في الشارع، لكن في حماية سلك نظامي. وسرعان ما سعى والدي لدى اصدقائه الكثيرين، وتدبر دخولي الى سلك شرطة بيروت الذي لم تكن مؤهلاتي العالية تحتاج، اصلا، الى تدخل احد لنجاحي في دورة امتحاناته للعام 1954، فصرت شرطيا في الفوج الدراج او السيار، ثم انتقلت لاحقاً الى سلك الامن العام.
رواية خليل خالد الفغالي كتابة محمد ابي سمرا