السفير - خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر.(2)
إعلام وصحافة /
فكرية /
2010-11-02
الثلاثاء 2 تشرين الثاني 2010
خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر (2)
جورج قرم
الإشكاليات الداخلية، أعطيت بعداً إقليمياً ودولياً عندما تشابكت مع إشكاليات خارجية، يستعرضها الباحث جورج قرم في ما يلي:
2) استيراد الإشكاليات الخارجية
هناك نوعان من الإشكاليات المستورَدة لا تقــل الأولى خطورةً عن الثانية، بلْ هي المدخل إلى استيراد النوع الثاني من الإشكاليات الخارجية. إنَّما قبل استعراض هذه الإشكاليات، لا بدَّ من وصف كيفية انتشارها في الثقافة العربية.
أ ـ مراحل انتشار الإشكاليات
والمرجعيات الغربية الطابع في الوطن العربي
تأثَّرت النخب العربية إلى أبعد الحدود بالإشكاليات الفلسفية التي أنتجتها بكثافة الأدبيات الأوروبية ابتداءً من القرن السادس عشر. لكن يجب أن نفرّق بين مرحلتيْن مختلفتيْن من التأثر بالإشكاليات الأوروبية.
ففي المرحلة الأولى التي بدأت مع رحلة رفاعة رافع الطهطاوي عام 1826 إلى باريس، انحصر التأثر بالفلسفة السياسية الغربية على نخــبة قليلة من علماء الدين وبعض المهتمين بالشأن العام من مقاطعات عربية مختلفة، كما بدأت في المغرب العربي بالنشاط الفكري لخير الدين التونسي (1820-1889) أو خير الدين باشا والشيخ بن باديس في الجزائر (1889-1940). وقد كانت مرحلة لفت فيها انتباه هذه النخبة العربية المنجزات السياسية والاقتصادية ومبادئ فسلفة التنوير التي كانت تقف وراءها، وقد ظهرت سجالات مهذبة وراقية بين شخصيات هذه النخبة حول ما يمكن استيراده من أنماط العلاقات الاجتماعية والمؤسسات السياسية المرافِقة لها التي أمَّنت تقدّم وازدهار المجتمعات الأوروبية، وما قد يخالف منها التعاليم الدينية أو التقاليد الراسخة. لكن في الإجمال، لم يظهر في هذه المرحلة أي رفض شامل لإنجازات أوروبا وما يرافقها من تحسُّن اقتصادي واجتماعي وليبرالية سياسية، سواءً تعلَّق الأمر بقضايا المرأة ووجودها الناشط في المجتمع، أو ما تعلَّق بمبدأ الانتخابات، وتراجع سلطة الملوك واستبدادهم، وكذلك تحسُّن وضع الفئات الشعبية عبر نشر التربية واهتمام الدولة والمجتمع المدني بالرعاية الاجتماعية للفئات الفقيرة والمحدودة الدخل (...)
أما في المرحلة الثانية، ابتداءً من مرحلة استقلال الأقطار، أصبحت الأنظمة التربوية العربية تتوسع بشكل كبير. وقد دخلت العلوم الإنسانية في برامج الجامعات وفي معظم الأحيان أتت بشكل جاهز ومعلَّب من برامج التعليم في أوروبا أو في الولايات المتحدة؛ هذا بالإضافة إلى الأعداد المتزايدة من الطلاب العرب الذين تمَّ إرسالهم إلى الخارج للدراسة في الجامعات الأوروبية أو الأميركية المشهورة، وكذلك في جامعات الاتحاد السوفياتي أو دول أوروبا الشرقية الإشتراكية.
إنَّ هذا التطور الخطير لم يرافقه أي جهد داخلي نقدي لتكييف البرامج في العلوم الإنسانية لحاجيات وظروف البيئة العربية المحلية ومسارها التاريخي. وقد انبهر العديد من الطلاب العرب المتخرجين من الجامعات المحلية أو الأجنبية ببريق الفلسفات الأوروبية المنشأ. وتم اعتماد الإشكاليات المطروحة في هذه الفلسفات والنظريات الاقتصادية والسياسية والسوسيولوجية والدينية المتفرعة عنها دون أية نظرة نقدية لها.
ب ـ أهم الإشكاليات الفلسفية ـ التاريخية التي أثَّرت على الخلافات الداخلية العربية
تفاعلات إشكالية الأصالة والحداثة
وفي نظرنا أنَّ أخطر ما أُدْخِل في الثقــافة العــربية خلال هذه المرحلة هو الإشكالية بين الحداثة والأصالة التي مزَّقــت الفكر الأوروبي خلال القرن التاسع عشر وأنتجت العديد من الأعمال الهذيانية الطابع في الثقافة الأوروبية، وهي أصبـحت جزءاً محورياً من ثقافة النخبة العربية ولا سيّما عندما يتعـلَّق الأمر بفلسفة هيغيل أم ماركس أم نيتشه أم فيبير، هذه الأسـماء الكبيرة التي خيَّمت على الإنتاج الفلسفي الأوروبي وانتـشاره عالمياً. وبطبيعة الحال أنَّ مفهوم الأصالة الذي لم يكن موجوداً في الكتابات العربية أساساً، أخذ ينتشر بسرعة فائقة في كل الأدبــيات العــربية، خاصةً السياسية منها، والروائية أيضاً. وقد أصبحت الأصالة ترمز إلى الحفاظ على التقاليد والقيَم الدينــية كرابــط مجتمعي قوي أمام الأثر التفتيتي للحداثة، أيْ التغـيير المتسارع الناتج عن تغييرات اقتصادية واجتماعية عملاقة، أتت مع النفوذ الأوروبي المتعاظم، ومن ثم من الثورات الشعبية والعسكرية، ومن ثروة النفط المفاجئة ومن المعونات الخارجية السخية وعوامل أخرى لا حاجة إلى ذكرها هنا.
وهذا التطور الخطير ليس محصوراً بالمنطقة العربية، بلْ قد تم تصديره من أوروبا إلى سائر أنحاء العالم بدءاً من روسيا حيث انقسمت النخبة الروسية في القرن التاسع عشر انقساماً خطيراً بين أنصار الأصالة السلافية (Slavophile) والحفاظ على الديانة المسيحية الأرثوذكسية المذهب والتراتبية الاجتماعية التقليدية من جهة، وأنصار الفرْنَجة أو الأوْرَبة أو الاستغراب (Occidentaux)، من جهة أخرى؛ كما تمّ تصديرها إلى الشرق الأقصى من اليابان إلى الصين إلى الهند.
إنَّ تداول هذه الإشـكالية قد سبب العديد من الانقــسامات في كل الــدول خارج أوروبا التي تداولت فيها عبر تحديث الأنظمة التعليمية في العلوم الإنسانية واستيراد البرامج التعليمية. والجدير بالإشارة إليه هنا أنَّ كلمة «حداثة» ومحتوياتها الواقعية أو التخــيّلية يحيــط بها في الفلـسفات الأوروبية العديد من المشاعر والعواطف السلبية أو الإيجابية حولها، وبالتالي السلبية أو الإيجابية تجاه الماضي بكل مكوِّناته من ناحيــة التراتبيات الاجتماعية والأنظمة السياسية ودور الدين في المجتمع كعامل استقرار وشرعية لأنظمة الحكم الملكية، وكذلك الحفاظ على الأنساق المعمارية القديمة والبيئة الريفية.
فلنرَ الآن كيف تسببت تلك الإشكاليات الأوروبية بانقسامات كبيرة بين النخب العربية وسَّعت من نطاق الانقسامات الداخلية المصدر، خاصةً أنَّ إشكاليتيْن فرعيتيْن تفرّعتا في الثقافة العربية عن إشكالية الأصالة والحداثة، وما إشكالية فصل الحيّز الديني عن الحيّز المدني أو الدنيوي وإشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام.
والغريب في الأمر أنَّ الثقافة العربية خلال مسارها القديم لم تطوِّر أي نوع من الشعور بالتناقض بين القديم والجديد أو شعور الخوف من التطورات الدنيوية الكبيرة. والبرهان على ذلك التعريف الرائع الذي أعطاه العلاَّمة ابن خلدون للحداثة بمعنى مرور المراحل التاريخية وحصول التغيير، وهو تعريف واقعي موضوعي لا يعتمد إثارة العواطف عندما قال: «إنَّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنَّما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال»(1). كما أنَّ بالنسبة إلى ابن خلدون «إذا تبدَّلت الأحوال جملة، فكأنّما تبدل الخلق من أصله وتحوِّل العالم بأسره، وكأنَّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدَث» (2). وما أوضح هذا التعريف للحداثة وهو تعريف حيادي منهجي لا يتأثَّر عند ابن خلدون بالتقييم الإيجابي أو السلبي حول تطور الزمن، ذلك أنَّ هذا التقييم هو الذي يؤدي اليوم إلى الخلافات العميقة بين العرب، كما أدّى في الماضي إلى الخلافات بين الأوروبيين أنفسهم، تجسَّد في كره متبادل ومتأجِّج بين أنصار الثورة الفرنسية وفلسفة الأنوار، وبين من كان يرى ضرورة بالتمسك بالقديم ومعتقداته ومؤسساته وتراتبياته الاجتماعية والسياسية ومعتقداته الدينية - التشريعية والمؤسساتية الجامعة الثابتة. وهذا أيضاً ما ولَّد في قارات أخرى الفتن الفتاكة كما حصل في روسيا مع الثورة البولشيفية، أو في الصين مع ثورة ماوتسي تونغ، وأيضاً في عالمنا العربي مع الانقلابات العسكرية والفكر الثوري العربي وحركات معادية ومعاكسة للتغيير الثوري.
ويظهر جلياً من كلام ابن خلدون أنَّ العرب تبدلت لديهم الأحوال بشكل كامل وتحوَّل العالم حولهم بأسره. وبالفعل، كما يزيد ابن خلدون، واجه العرب بانهيار السلطنة العثمانية وتأكيد تفوّق أوروبا العســكري والتقني والاقتــصادي «عالماً محدَثاً». ولكن يبدو أنَّ العرب لم يعوا بالشكل الكافي أنَّ عالمهم القديم قد انهار تماماً وخلال بضعة عقود، وأنَّهم قد أُدْخِلوا مجدداً سيْرورة التاريخ التي كانوا قد خرجوا منها منذ نهاية الحروب الصليبية، عندما قبلوا بشكل نهائي بأنظمة حكم يمسكها الفاتحون المسلمون من الأصل التركي (المماليك ومن ثم العثمانيون).
وأمام هذا التغيير الشامل بدأت تمزقات الوجدان العربي بين الحماسة إلى ركب الحضارة الأوروبية التي أصبحت كونية الطابع ورفضها بأشكال مختلفة، وبشكل خاص عبر التقوقع على الهوية الدينية، وهي التي كانت قد منحت شرعية الحكم طوال قرون للمماليك والعثمانيين، بينما كان الأوروبيون الذين سيطروا على الديار العربية من بعد الحكم العثماني هم من ديانة مختلفة. ولذلك كان من الطبيعي أن يتجسَّد شعور الرفض للحكم الأوروبي لدى فئات معيَّنة من الشعب كما من النخبة المقاومة للحكم الأوروبي عن طريق إبراز اختلاف الهوية الدينية مع المستعمر وليس إبراز اختلاف الهوية القومية.
وقد رأى البعض من المثقفين العرب في حينه أنَّ ثورة الشريف حسين ضد الحكم العثماني بتحريض من بريطانيا نوعاً من الخيانة ضد الأمة في مفهومها الديني. وليس من المستغرب أن نرى إلى اليوم استعمال مفهوم الأمة مبهماً وغير دقيق، إذْ يشير في بعض الخطابات إلى الأمة بالمعنى الروحي والديني التي تشمل كل المسلمين في العالم، وإلى الأمة القومية التي تشتمل على العرب وخواصهم اللغوية والحضارية، وفي بعض الأحيان وتحت تأثير الأدبيات الأنتروبولوجية والإثنية الطابع أو الاستشراقية، والتركيز على الهويات الفرعية، العشائرية والقبلية أو المناطقية أو المذهبية أو العرقية.
وفي الحقيقة، أنا لا أفهم ماذا تعني الأصالة إذا أصبحت انحطاطاً وجموداً والنظرة إلى الوراء، أيْ إلى عهود ذهبية ولَّت بلا رجعة؛ فالشخص الذي يعيش في الفقر والأمية والبطالة لا يعطي أية أهمية للأصالة كما تراها النخب المثــقّفة المعادِيـة للتغيير لأسباب مختلفة. ولهذا السبب، لا يمكن تجنُّب مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية وما تقتضيه من تغيير في بعض العادات الاجتماعية في أي مجتمع كان. غير أنَّ المحتوى الديني في مفهوم الأصالة قد تجذَّر عند بعض العرب من خلال توظيف الدين في المعترك السياسي الحديث بجعل المجتمع الإسلامي الأوَّل، أي مجتمع المدينة أيام النبي، النموذج الذي يجب أن نعود لنتقيَّد به بكل حذافيـره الموروثة، متخيَّلةً كانت أم حقيقية؛ مع الإشارة إلى أنه مهما تطورت أساليب علم التاريخ، فلا أحد من الأحياء كان موجــوداً في حينه للتأكُّد من صحة أقوال النصوص التاريخية القديمة والنصوص التراثية الطابع. والمهم هنا أن يحافظ الإنسان على تماسُك هويته، وهذا التماسك مستحيل حيت تتفكك الهوية إلى عناصر مختلفة متناقضة بسبب تمزقات فلسفية تاريخية، وهذا هو ما يميِّز سلـباً الوضع العربي اليوم.
[ محاضرة ألقيت في الصالون الدولي الخامس عشر للكتاب في الجزائر
هوامش
(1) إنَّ الاقتباسات من كتابات ابن خلدون منقولة عن الدراسة القيِّمة التي وضعها الدكتور ناصيف نصار ونُشِرَت بعنوان «ابن خلدون في منظور الحداثة» في مجلة المستقبل العربي، العدد 334، بيروت، كانون الأوَّل/ ديسمبر 2006.
(2) أنظر المرجع المذكور سابقاً.
(للبحث صلة)