د. دندشلي - إشكالية الثقافة والعمل الديمقراطي في الواقع الاجتماعي- السياسي في الظرف الراهن
محاضرات /
ثقافية /
1997-01-26
إشكالية الثقافة والعمل الديمقراطي
في الواقع الاجتماعي- السياسي في الظرف الراهن
محاضرة في المنتدى الثقافي ـ النبطية
الدكتور مصطفى دندشلي مساء الأحد /26كانون الثاني/1997
* * *
كلمة التقديم
د. قيصر مصطفى
..... مرة أخرى نرحّب بكم و نشكركم جداً على تشريفكم لنا في هذه الأمسية التي و إن قليلَ عديدِ الحاضرين فيها، للظروف الجوية التي ترونها، إلا أننا نشعر بدفئ كبير، تغمرنا به حرارتكم وحبّكم و حماسكم وحيويتكم التي تتدفّق في صدوركم و تعمر بها أفئدتكم.
ونرحّب بالأستاذ الدكتور مصطفى دندشلي الذي أعطى وما يزال متفرّغاً للعطاء، باحثاً وكاتباً وأديباً وأستاذاً، يصل ليله بنهاره، ويوصل مصباحه بصباحه. وهو يبحث وينقّب ويفتش في زوايا الكلمة و الكتاب، يبحث عن الحقيقة، فيختار لها أحسن التسميات ويملأ بها فراغاً ما كان ليملأها إلا مَن هم على شاكلة الدكتور مصطفى دندشلي.
وقد أسّس مركزاً للبحوث والدراسات والتوثيق في صيدا، وهو الأول من نوعه في الجنوب، فيما أعتقد... وفضلاً عن ذلك، فهو أستاذ في الجامعة اللبنانية و في جامعة بيروت العربية، ولربما في غيرها من المؤسسات التربوية و التعليمية... وإضافةً إلى ذلك، فهو أستاذ لا يلقي دروسه على الطلاب فحسب ، وإنّما يملأ بعطائه كلَّ النواحي...
أهلاً وسهلاً بك، دكتور مصطفى.... وإذا كان للحاضرين من فضل كبير بتجشّمهم المجيء في هذا البرد، و في هذا الصقيع، وفي هذا الجوّ المشحون بالعواصف والأمطار الغزيرة، فإنّ مجيئك من صيدا، لهو فخرٌ لنا ويبعث على الاعتزاز، بهذه الثقة المتناهية التي منحتنا إياها ولبيت بموجبها هذه الدعوة التي نرجو أن نخرج منها بفوائد جمّة. وهذا ليس غريباً عنكم، وليس غريباً عن الحاضرين أيضاً.
محاضرتنا اليوم، أيها السادة، هي بعنوان "إشكالية الثقافة و العمل الديمقراطي..." والحقّ يقال بأنّ هذا العنوان شديد الإغراء. وهو ملتصق بنا التصاقاً غريباً. وكأننا جميعاً نبحث عن هويّة المثقف. فمَن عساه يكون المثقف؟!.. وتحضرني بالمناسبة طرفة، أو أشبه ما تكون بالطرفة. رأيتهم عام 1972 في ليبيا يكتبون على بطاقات التعريف : الأسم و اللّقب و الوضعية الثقافية... فإذا بحامل الابتدائية يطلقون عليه اسم: مثقف!!..
والحقّ بأنّ المثقف الحقيقي تائهٌ، ضائعٌ، أو أصبح مجهولاً بالنظر إلى هذه الإطلاقات، أو إلى هذه النعوت غير الدقيقة...و المثقف العربي، للأسف الشديد، يكاد ينحسر في زاوية حادّة، يوشك أن يُخنق فيها. أمّا المتثقّف فإنّه يسرح و يمرح و يملأ الدنيا صياحاً و هو عن الثقافة أبعد ما يكون.
وإذا أردنا أن نعرّف المثقف نعود إلى العرب في لغاتهم حيث اصطلحوا على تسمية السيف الحادّ بالمثقف. و إذا كان السيف الحادّ مثقفاً يعني أنه ينفذ إلى الأعماق، يعني أنه قاطع، يعني أنه حادّ.... والإنسان المثقف هو ذلك الإنسان حادّ البصيرة، والذي ينفذ إلى ما وراء المجهول، ينفذ إلى ما وراء السطور، ينفذ إلى ما وراء الكلمات. يفهمها حقّ الفهم و يعطيها معانيها الحقيقيّة. و من هنا جاءت كلمة: المثقف، لتطلق على ذلك الإنسان الواعي، المدرك الذي يُعمِل فكره و يسخّر عقله لعلمه، ويسخّر ذكاءه لعلمه. فكثير من الناس مَن هم "علماء" فعلاً، بمعنى أنهم يحملون قدراً من المعلومات،إلاّ أنني لاأستطيع أن أطلق عليهم اسم: مثقف، لأنهم لا يستطيعون أن يوظفوا علمهم في مجال الحياة، وفي مجال الفهم و النفاذ إلى بواطن الأمور. إذن، المثقف الحقيقي، بنظري، هو ذلك الذي ينفذ إلى بواطن الأمور و يبيّن صحيحها من خطئها، و غثّها من سمينها... ويدرك جيداً هذه الظواهر و يفسّر كل الظواهر التي نعيشها، يعني أنه هو ذلك الإنسان الذي يعطي لكل ذي حقّ حقّه، و لا ينخدع بالسَّراب، و لا ينخدع بظواهر الأمور.
ماذا عسى الدكتور مصطفى دندشلي أن يضيف إلى هذه المعلومات، أو ماذا عساه أن يدور في هذه الحلقة، و يفسّر لنا معنى المثقف و مفهوم الثّقافة خاصة إذا ما ربطها بالديمقراطية، لأنّ المثقف يريد الديمقراطية، لأنّ المثقف لا يعيشش بلا ديمقراطية. و إذا كانت الديمقراطية هي حريّة الرأي و احترام رأي الآخر، فإنّ المثقف يعيش و يعطي في الأجواء الديمقراطية، إلاّ أنه إذا فقد الديمقراطية، فلا شك في أنّه ينغلق على نفسه. و بذلك نخسره و يخسره المجتمع. و من هنا أستطيع أن أقول بأن الدكتاتورية هي عدوّة الإنسان، و عدوة الإنسانية ، و عدوة الحقّ و الحقيقة و العلم و الحياة. مرحباً بك دكتور مصطفى. و الكلمة الآن لك و المعذرة إذا كنت قد أطلت.......
كلمة
الدكتور مصطفى دندشلي
أيها الأصدقاء الأعزاء
لا يسعني بداية إلاّ أن أتقدّم بعميق الشكر و التقدير للدكتور قيصر مصطفى الذي أفسح لي في المجال أن ألتقي في هذه الأمسية بنخبة من المثقفين في جنوبنا الحبيب كي نتناقش و نتحاور معاً حول موضوع أرى أنه بالغ الأهمية، و هو موضوع راهن، موضوع الثقافة و الديمقراطية...
و لكن، قبل ذلك، أشكره شكراً عميقاً كذلك على كلمة التقديم التي خصّني بها و أطلق عليّ فيها من صفاتٍ و مواصفاتٍ فاضت بما يكنه لي من محبة و تقدير وعواطف حقيقية... و كلّ ما أرجوه الآن هو أن أكون عند حسن ظنّه و عند حسن ظن الحضور الكرام ....
في الحقيقة و واقع الأمر، ليس عندي حول موضوعنا، موضوع الثقافة و الديمقراطية، شيء جاهز و متكامل و نهائيّ، كي أقدّمه لحضراتكم. إنما ما سأحاول أن أقوم به، هو أن أطرح جملة من النقاط و التساؤلات تدور حول هذا الموضوع، و ذلك من أجل أن نتحاور و أن نتبادل وجهات النظر، وأن نتناقش في موضوع الثقافة و الديمقراطية...
فحوارنا في هذا اللقاء الثقافي الحميم، و كما تفضل وأشار الدكتور قيصر في كلمة التقديم، ينطلق من مسألة فكرية إشكالية أحببت ان أصيغها بهذه الكلمات: " إشكالية الثقافة و العمل الديمقراطي في الواقع الاجتماعي و السياسي في الظرف الراهن". وهو موضوع، كما نرى، شائك، عام، واسع. من هنا تأتي صعوباته و تعقيداته... لا شك في ذلك. فهو يحتاج، في الحقيقة و الواقع، إلى لقاءات عديدة، و أبحاث و دراسات متنوعة، و متعددة ، ومتخصصة، كي نستطيع في نهاية المطاف أن نُلمَّ به من الناحية المعرفية إلماماً موضوعياً، علميا،ً وواقعياً...
و إذا كان للموضوع من أهمية، و هو له أهمية، دون ريب، و لكن الأهمية الأكثر من ذلك، إنما هي في هذا اللقاء بذاته، و في انعقاد هذا الحوار و الرغبة في الحوار في ذاته، وتكمن الأهمية أيضاً في تفاعل الآراء و وجهات النظر و تبادلها في ظروفنا السياسية و الاجتماعية في الوقت الراهن....أي أن نتحاور بصدق و حرية و صراحة، و أن نستمع إلى رأي الآخر و أن نحترم هذا الرأي كي يبادلنا هو الآخر هذا الاحترام ... والمعرفة الحقيقية إنما تتكامل و تنمو بالحوار ومن خلال الحوار الفاعل، الحرّ، الطليق في الآن معاً...
و كما لاحظنا من صياغة عنوان الموضوع: فهناك إشكالية الثقافة و إشكالية العمل الثقافي. وكذلك إشكالية الديمقراطية و إشكالية العمل الديمقراطي.... و من ثمّ، إشكاليّة العلاقة التفاعلية، الجدلية بين ما هو ثقافيّ و ما هو ديمقراطي في حياتنا الاجتماعية والسياسية في الظرف الراهن...
وبما أن موضوع الثقافة و الديمقراطية إنّما هو موضوع معقد ومتشابك و متداخل بل وملتبس، ومحاولة مني لكي أكون أكثر وضوحاً، و بما أنه متعذّر معالجة هذا الموضوع الشائك من جوانبه المختلفة وبالعمق المطلوب، لذلك أجدني مضطراًّ لأن أختار بعض النقاط الأساسية التوضيحية وطرحها للنقاش والحوار.
إذن، سأحاول أن أطرح بعض النقاط الأساسية التي أرى أنّ لها طابعاً، إذ سمحت لنفسي أن أقول: استفزازياً. بمعنى أن نستفزّ أولاً أنفسنا، و فتح قابليتنا للنقاش والحوار.. وأن نسعى حقيقة و دون مواربة إلى أن نرى الأشياء كما هي، لا لإقرارها وتثبيتها والموافقة عليها والاعتراف بها، و إنما بهدف أن نعرفها معرفة موضوعية و واقعية في سبيل أن نتجاوزها ونغيّرها نحو الأفضل...
لذلك فقد أحببت أن أعتمد في بحثي على نوع من المنهج الأكاديمي، ولمَ لا!!... فنحن بحاجة في كثير من الأحيان في أبحاثنا و دراستنا و ندواتنا و كتاباتنا إلى استخدام هذه المناهج الأكاديمية العلمية، لا لشيء إلاّ للتوضيح، لتوضيح الأفكار والمعاني... ذلك أنه لمن الاهمية بمكان كبير أن نحدّد المصطلحات والمفاهيم المستعملة في أحاديثنا أو كتاباتنا، تلك التعبيرات السياسية أو الفلسفة أو الاجتماعية التي نستخدمها، أن نحاول أن نتوقف ملياًعندها لتفسير معانيها ومضامينها وتوضيحها...
هنا، فإذا اعتمدنا على المناهج العلمية الأكاديمية، خصوصاً بين مثقفين وأساتذة في مثل هذا اللقاء الثقافي، فليس هناك من ضرر إطلاقاً في ذلك. بل بالعكس، فيما أرى، فهذا موقف جيد ومفيد.. وذلك ما يدفعنا أوّلاً وأخيراً إلى أن نحدِّد هذه المفاهيم وهذه المصطلحات التي نستخدمها بكثرة في غالب الاحيان ... خصوصاً وكما نلاحظ بوضوح أننا نعيش في مجتمع ثقافي وفكري وسياسي، لا نتوقف فيه كثيراً أمام التفتيش عن معاني المصطلحات وتعريفاتها وتحديدها لغوياً وعلمياً، حتى يكون الحوار مجدياً ومفيداً والنقاش وتبادل الآراء يتَّسِمُ بكثير من الوضوح و الدقّة، حتى يستطيع الواحد منا أن يفهم الآخر ويتفهَّمه على حقيقته، وكما هو يريد أن يعرّف نفسه و يقدّمها، لا كما نتصورها نحن عنه، كل ذلك بطبيعة الحال حتى يمكننا أن نصل أو أن نتوصَّل إلى نتيجة معينة... لذلك وانطلاقاً مما أشرت، أردت أن أحدّد وأوضِّح وأناقش عدداً قليلاً من نقاط البحث حول إشكالية الثقافة والديمقراطية والعلاقة الجدلية بينهما...
لهذا أطرح السؤال بداية حول الإشكالية وتعريفها، كما أستخدمها في هذه المداخلة، وأنا أستعمل كثيراً هذا الاصطلاح، فأجيب قائلاً بأن المقصود هنا هو المشكلة، والمشكل، والإشكال الثقافي، أي الإشكالية الثقافية، بمعنى طرح مسألة من المسائل الثقافية ومحاولة البحث، النظري أو العلمي، عن جواب أو أجوبة لها. ولكن نحن نعلم مسبقاً أنّ لها أجوبة عديدة، وقد تكون متناقضة ومتضاربة، غامضة وغير واضحة، أو بمعنى أكثر تحديداً: ليس لها من أجوبة دقيقة وواضحة أو متفق عليها. فتصبح هذه المسألة أكثر من مشكلة وإنما إشكالية، بمعنى لا أجوبة في المنظور لها.
فالثقافة إنما هي إشكالية بهذا المعنى، ذلك أنّ حديثنا عن الثقافة، و كذلك عن الديمقراطية وغير ذلك من المفاهيم الإشكالية من الناحية النظرية و المعرفية، هي كثيرة جداً في استعمالاتنا وأدبياتنا السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية.
وهنا عندما أقول إشكالية الثقافة، أعني بذلك أن الثقافة، كمفهوم ومصطلح فلسفي واجتماعي وانتروبولوجي، تصبح في واقعنا الذي نعيش فيه وتبدو لنا وكأنها مشكلةً مبهمة، غامضة، ملتبسة. وهذه "المشكلة" التي نطرحها للبحث و النقاش و نتحاور حولها، تحتاج إلى أجوبة، أجوبة موضوعية، واقعية، حقيقية، على الصعيد النظري أو على المستوى العلمي التطبيقي... فعندما نقوم باشتقاق منها، مثلاً، تعبير و اصطلاح: "إشكالية" problématique، و نستعمله في كتاباتنا، إنما نخصّ به قضية معينة شائكة، أو مسألة معينة ملتبسة.
وعندما نطرح تساؤلاً حول قضية من القضايا ـ النظرية أو التطبيقية ـ إنما الأجوبة عنها ليست أجوبة قطعية، واضحة، توافقية، بل هناك تضارب و تناقض في وجهات النظر حولها بحسب الاتجاهات والمواقع والمصالح والانتمائات الاجتماعية... عندئذٍ نتحدث عن إشكالية، وهنا نتحدث عن إشكالية الثقافة أو إشكالية الديمقراطية و بالتالي إشكالية المثقف... فهناك إذن اضطراب الأجوبة حول هذه المفاهيم، بل أكثر من ذلك تناقضها و تضاربها و بالتالي غموضها و عدم وضوحها أو عدم الاتفاق عليها. فيمكننا في هذه الحالة أن نقول بأن هذه المسألة، وهنا الثقافة، هي فعلاً إشكالية، فتحتاج إلى أن نتوَّقف عندها وطرحها ومناقشتها من مختلف جوانبها وإلقاء بعض الأضواء حولها...
والإشكالية، هنا، فإنني أضيف أني أستخدم هذا المفهوم والاصطلاح بمعنى أيضاً "الأَزْمة". إشكالية الثقافة، أعني أَزْمة الثقافة. وعندما أقول إن هناك "أَزْمة ثقافة" في واقعنا السياسي والاجتماعي، المحلي أو الوطني، فهناك بالتالي أَزْمة مثقف وأَزْمة مثقفين.
كذلك الشأن في مفهوم الديمقراطية وإشكاليتها في واقعنا اللبناني، من حيث النظرية ومن الناحية التطبيقية. من هنا أيضاً أََزْمة الديمقراطية في لبنان في الماضي وفي الحاضر، ومن الناحيتَيْن النظرية والممارسة العلمية. فهناك إذن أزمة، أزمة حقيقية في مسار الديمقراطية في نظامنا السياسي والاجتماعي في لبنان.
الجميع يتحدثون عن الديمقراطية ويعلنون انتسابهم إليها وتعلّقهم بها، من سياسيين وغير سياسيين، من مثقفين وغير مثقفين، من موالين أو من معارضين، ومَن هم من اليمين أو مَن هم من اليسار، أو مابينهما... كل التيارات السياسية والاتجاهات الفكرية والثقافية تدّعي لنفسها صفة الديمقراطية و تشدِّد، بإضافة تعبير "الحقيقية"...
ولكن دون أن نتوقف طويلاً وبعمق وبموضوعية، كي نحدِّد هذا المفهوم الفلسفي والسياسي والاجتماعي، و هو مفهوم شائك و كثير التعقيد... وهنا أفتح هلالين، إذا سمحتم لي، لأقول بأنه، ولا سيما في العالم الثالث، و نحن جزء من العالم الثالث، مَن هم في السلطة، أيِّ سلطة سياسية أو اقتصاديةـ اجتماعية، يتحدثون عن الديمقراطية وعن سياساتهم الديمقراطية ولكن في الممارسة العلمية، هم في الواقع بعيدون جداً عن أبسط مبادئ الديمقراطية و قضاياها الحقيقية الواقعية والتطبيقية. فهناك إذن في هذا النظام "أَزْمة"، أَزْمة حقيقية في نظمنا الديمقراطية يحسُّ بها المواطن يومياً، وأَزْمة بالتالي حول الثقافة، والعلاقة بين الثقافة و الديمقراطية.
و هنا اسمحوا لي أن أتوقف قليلاً حول تعريف مفهوم الأَزْمة، وهو مفهوم اجتماعي كما أستعمله و أعنيه في مداخلتي. الأَزْمة لغة مصدر مشتق من فَعَل: أَزَمَ، فنقول أَزَم العامُ، أي اشتد قحطُه. و أَزَمَ الدهرُ عليه: أي اشتد. فالأَزْمة بهذا المعنى إذن تعني: الشّدّة والضيق. وهي أصلاً استعملت و تستعمل في الاقتصاد السياسي، فنقول عادةً "أزمة اقتصادية"، بمعنى أنّ هناك قحطاً في الإنتاج. و في السياسة:"أَزْمة سياسية"، عندما يتعرّض نظام الحكم أو الدولة إلى اضطراب و خلل أو إلى انسداد الأفق السياسي...
هذا من ناحية اللغة، أما من ناحية الاصطلاح، وهو ما يهمنا أكثر هنا، فالأَزْمة هي اللّحظة الزّمنية، أو مرحلة من مراحل دورة الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية إلخ...يختلّ فيها توازن ذلك النظام أو نظام تلك الظواهر، بعضها أو جميعها، وتتعرض إلى "عَطَب" وإلى "خلل" ينجم عنه اضطراب ذلك النظام واهتزازه، تختلّ معه موازينه وتوازنه، فيتعطّل قيامه بوظيفته العامة، ودورته الطبيعية، فلا تعود دورة الحياة هذه بوسعها أن تعمل على النحو الذي كانت تعمل فيه سابقاً. فيصاب ذلك النّسق الاجتماعيّ العام أو النظام السياسيّ بشكل كليّ تام، أو بشكل جزئيّ نسبيّ، ذلك لأن الأمر في النهاية يتعلق بدرجة تلك الأزمة و عمقها، أو بمستوى مفعول ذلك العطب أو تأثيره في بِنية المجتمع و عناصره و مقّوماته الكلية أو الجزئية.(*)
__________________________________________________________________________________
(*) أنظر كلمة "أَزْمة" في :"معجم العلوم الاجتماعية"، (تصدير ابراهيم مدكور) الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص28. وانظر أيضاً : د. عبد الإله بلقزيز، الأزمة بوصفها ظرفية للسؤال الثقافي، في (مجلة الطريق)، العدد(6)، تشرين الثاني_ كانون الأول 1996، ص7 وما بعدها.
ففي هذا المعنى فإنّ مجتمعاتنا المحلية و الوطنية و حتى القومية عموماً، تعيش دائماً و بنسب متفاوتة، وهي لا تزال تعيش حتى الآن في أَزْمة، و أَزَمات متعددة الجوانب والأبعاد، أزمات متعاقبة، متتالية. و كل أزمة منها تؤثّر في الأخرى وتتأثّر بها، وتدفع إلى ثالثة وهكذا دواليك، وذلك في تتابع وتشابك وتداخل جدليّ متواصل، وفي ألوان من الأزمات متنوعة.
إنّ مختلف مناحي حياة مجتمعنا تشهد اليوم بمجملها هذا النوع من الأزمة العامة الشاملة، وذلك منذ فترات طويلة ممّا تُعرِّضُ مجتمعنا السياسي و الاجتماعي إلى انسداد وإلى مأزِق، أو كما يجري القول عادةً: إلى طريق مسدود. لذلك كلنا يجمع، و من أيِّ مشرب سياسيّ كان، على وجود هذه الأزمة، وعلى عمقها و تغلغلها و شمولها مختلف جوانب حياتنا الاجتماعيةالمعاصرة، على نحوٍ تضع فيه مستقبل مجتمعنا أمام المجهول، كما هو حالنا الآن في ظروفنا الراهنة. فنحن نعيش فعلاً في حالة من القلق الفكري و الاضطراب النفسي بالغَيْ العمق و الشمول: بمعنى أن هناك أزمة و لكن يعجز الواحد أن يحدّد مصادرها و بواعثها من داخلية أو خارجية أو كليهما معاً، و لا يستطيع بالتالي أن يتنبأ عن كيفية الخروج أو إيجاد الحلول لها بشكل واضح و صريح...
و إذا لم يكن الانقطاع و التحولات الكبرى و الجذرية في تلك النظم و بِناها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، غير ممكن الحدوث بصورة مفاجئة في الغالب، بمعنى أن ليس هناك من انقطاع إلاّ في حالة الثورات الكبرى، فإنّ تطوّر تلك النظم و معها مجتمعاتنا لا يتمّ إلاّ عَبر الأزمات المتتالية أو من خلال الصدمات و الاضطرابات المتعاقبة. وهكذا فلا نخلص، نحن، و الحالة هذه من أزمة معيّنة بصورة أو بأخرى، داخلية أو خارجية، سياسية أو اقتصادية أو خلافها، حتى ترانا ندخل في أزمة أخرى. ونقع في أتونها و بشكل أكثر أو أخفّ حدَّة... فتطوّر مجتمعنا اللّبناني ـ أو بالأحرى تغيّره في مظاهره ـ فإنما يبدو لنا بوضوح و كأنه يحصل من خلال الأزمات المتواصلة أو القفزات المتلاحقة.
فإذا عدنا بذاكرتنا على سبيل المثال فقط، إلى الخمسين سنة الماضية، حتى لا نذهب إلى أبعد من ذلك، فإننا لا محالة نجد في كل مرحلة من المراحل الزمنية المتتالية، أنّ مجتمعنا اللّبناني كان يمرّ ﺒ"أزمة". و إذا عدنا كذلك و قرأنا بعض الأدبيات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، الصادرة في أية فترة زمنية من تلك الفترات، فلا بدّ أننا واجدون أنّ الحديث كان دائماً يجري عن أَزْمة عامة كان يعيشها النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي آنذاك، و كانت دائماً توصف هذه الأزمة ﺒ"العميقة" و"الخطيرة"، أو "المصيرية"، إلى غيرما هناك من التوصيفات الشائعة و المعروفة. و الواقع أنّ هذه الأزمة أو الأزمات إنّما هي حقيقية، فعلاً و قولاً، حتى أنّ مجتمعنا اللبناني الذي هو جزء من العالم الثالث، يخيّل إلينا، كما قلت، كأنّ "التطوّر" فيه ـ إذا جاز لي الكلام عن التطورـ إنّما يحدث ويتمّ عبْر و من خلال تعاقب هذه الأزمات وتواصلها في سلسلة لا تنقطع.
والثقافة في هذا السياق ـ إذ إنّ حديثنا في هذا اللقاء عن الثقافةـ وبما هي مستوىً من تطوّر الفكر و حركيّته، و درجة تقدّم المعرفة العقلية والعلمية والتنظيمية والأدبية ونموّها من علوم إنسانية وآداب بمجملها، وفنون من موسيقى وغناء ونحت ومسرح وسينما الخ..، إنّ هذه الثقافة ـ أقول ـ وبهذا المفهوم العام، فهي تعبّر خير تعبير عن مجمل هذه الأزمة أو الأزمات العامة، متعددة الجوانب والأبعاد، عمقاً واتساعاً.. من هنا يجري الحديث دائماً عن "أزمة ثقافية" أو "أزمة الثقافة". وبالتالي أزمة المثقف وأزمة المثقفين. و ما يستتبع ذلك كلّه و ينتج منه أزمة الديمقراطية في بلدنا...
إلى هنا أنتقل الآن إلى طرح موضوع الثقافة و إلى إلقاء نظرة سريعة و مقتضبة حول هذا المفهوم. فمفهوم الثقافة هو اصطلاح حديث عندنا، جديد في تراثنا الفكري و الأدبي و التاريخي. لن أدخل كثيراً وأغوص في تشعّبات هذا الاصطلاح و تعريفاته الكثيرة والكثيرة جداً.
فنحن نلاحظ فعلاً أننا في تراثنا وأدبياتنا الماضية على اختلافها، لم نستعمل تعبير "الثقافة". كان يَرِد بدلاً من ذلك تعبيرات: العلم والعلماء، الفقيه والفقهاء، الشاعر والأديب والفيلسوف والكاتب إلخ. أما استعمال كلمة "الثقافة" أو "المثقف"، بالمعنى الحديث الذي نتداوله بكثرة الآن، فهو استخدام جديد.
في هذا المجال، أسجّل تقصيرنا الكبير، نحن كباحثين و كمثقفين و أساتذة الجامعات عندنا. فليس لدينا معرفة علمية حول تاريخية هذا الاصطلاح عندنا ، و تطوّره و تعريفاته و استعمالاته المختلفة، وذلك بالمقارنة مع ما يجري في الكتابات والمعاجم الغربية، منذ أكثر من قرن من الزمان، حيث المؤلفات والدراسات التاريخية واللغوية والفلسفية والاجتماعية والأنتروبولوجية حول هذا الموضوع لا تعدّ ولا تُحصى.
هنا السؤال يطرح: مَن استخدم اصطلاح "الثقافة" عندنا، أو مَن هو أول من استخدمه، بما أنه اصطلاح حديث و جديد في تراثنا الأدبي؟!... فإننا لا نعرف حتى الآن حقَّ المعرفة اليقينية. ولكن، فيما يبدو أن الدكتور محمود عزمي، وهو أحد المثقفين المصريين بعد عودته من دراسته من باريس، هو أول من استخدم هذا الاصطلاح: الثقافة والمثقف عام 1925، وكان ذلك ترجمة لكلمة culture باللغة الفرنسية، إلى كلمة "الثقافة" باللغة العربية. وهي في الحقيقة ترجمة موفقة جداً.
أما في تراثنا الأدبي أو الفلسفي أو الديني، فكلمة الثقافة لم تُستعمل البتّة. ولكن في القرآن الكريم، كان قد استعمل الاشتقاق اللغوي: و قاتلوهم حيثما ثقفتموهم، هنا بمعنى وجدتموهم....... واستعمل الاشتقاق كذلك في معنى آخر بمعنى لغوي: التهذيب، الحذق، الصناعة. من هنا جاءت كلمة مثقف بمعنى الرمح المصقول، وتهذيبه وتشذيبه وصقله حتى يصبح هذا الرمح صالحاً للاستعمال.... وهكذا استعمله عنترة في إحدى قصائده: "المثقف" بمعنى "الرمح".
إنما، عندما نستخدم نحن الآن لفظ ثقافة ومثقف، فإننا نستخدم هذا اللفظ بمعنى جديد كل الجِدَّة، ومن حيث جاءنا من الغرب، وهو مختلف كلياً عن معناه الأصلي واللغوي. وإن كنا لو بحثنا بالعمق قليلاً لوجدنا صلة ما بين معنى المثقف من الناحية اللغوية، و معناه من الناحية الاصطلاحية. فإذا كان معنى المثقف هو الرُّمح الذي يستخدم في الحروب ومعارك القتال، فكذلك المثقف بمعناه الحديث هو ذلك الناقد، المعترض الذي يوجِّه دائماً سهام النقد و الهجوم في وجه السلطات الحاكمة المهيمنة، الطاغية المستغلة...
وحول تعريفات الثقافة بمعناها الاصطلاحي الحديث، فهناك في الواقع تعريفات عديدة جداً وكثيرة جداً، و بحسب الجانب الذي تطرقه. طبعاً، و بشكل عام، من اشتغل بكثرة حول هذا الاصطلاح هم علماء الاجتماع و الأنتروبولوجيا. فاستخدموا كلمة:"الثقافة" بمعنى "الحضارة"، أي أننا نستخدم الآن كثيراً كلمة "ثقافة" بدلاً من كلمة "حضارة".
ولكننا نحن نستعمل هذه الكلمة بمعناها العام الشامل، "الثقافة"، بالمعنى الأنتروبولوجي: هي كل ما يكتسبه الإنسان في حياته من أمور مادية أو معنوية أو سلوكية، إنها هنا في معناها الشمولي العام. إذن، هي طريقة أو نمط معيَّن في الفكر، هي طريقة في التفكير والسلوك والفعل. ففي هذا المعنى، فإن الثقافة إنما تعبّر عن هُوية جماعة من الجماعات أو مجتمع من المجتمعات الإنسانية و بالتالي شخصية أمة من الأمم.
ولكنني، سأدع جانباً هذا الاصطلاح العام بهذا المعنى، وأتوقَّف قليلاً حول اصطلاح "الثقافة" بالمعنى الخاص الذي جرت العادة لدينا استخدامه في أدبياتنا و أحاديثنا... و هنا أيضاً هناك تعريفات كثيرة حوله.
فالثقافة: هي حركة الفكر ومستوى تطوره العقلي والتنظيمي والمعرفي، ويشمل الآداب على اختلافها من شعر ونثر وفلسفة وتاريخ واجتماع وفنون على أنواعها من موسيقى ونحت ورسم ومسرح وسينما، إلخ...ويُعبّر عن ذلك بطريق الكتابة والخطابة ومختلف وسائل النشر والإعلام، إلخ...
ففي هذا المعنى "الثقافة" هي مرآة المجتمع الفكري والأدبي والمعنوي، هي نافذة تطلّ على المجتمع، تعكس حقيقته وواقعيته ومستوى تطوره على صعيد الفكر والتنظيم والعلم والمعرفة. فتكون الثقافة بهذا المعنى، إنما هي هُوية المجتمع (والإنسان في هذا المجتمع). هي هُويتنا، هُويتنا الفردية والجَماعية، فكيف تكون ثقافتنا، تكون في الواقع هُويتنا الفكرية والمعرفة. وكمظهر للواقع الاجتماعي و تعبير عنه، الثقافة كما المجتمع السياسي، هي أيضاً في "أزمة"، بما أنها تعبير عن واقع اجتماعي معيَّن. هي في غموض واضطراب من حيث المفهوم و المستوى النظري والفكري ومن حيث أيضاً: الممارسة العملية التطبيقية.
لذلك تبدو لنا "الثقافة" ساحة مفتوحة لصراعات سياسية واضطرابات في استعمالات المصطلح، استعمالات مختلفة، بل متضاربة ومتناقضة. من هنا البلبلة، الخلل، واضطراب في المفهوم، وتناقض وضياع. من هنا أيضاً تلك الأزمة العميقة التي تُغَلِّفُ اليوم العمل الثقافي. ثمة شلل واضح في هذا المجال، وهو علامة الأزمة التي يعانيها مجتمعنا اللبناني، الأزمة هنا بالمعنى السابق الذي أشرت إليه، مما يضع عمل المثقفين ونشاطهم أمام استفهام كبير.
إذا كانت الثقافة في أزمة، فكذلك "المثقف" هو أيضاً في أزمة. هنا أيضاً السؤال يطرح: مَن هو المثقف؟!... لغة، كما أشرت آنفاً، هو الرُّمح المصقول والّذي تمَّ تشذيبه وتسويته. إنما كاصطلاح في أدبياتنا هو حديث، كما قلت، جاءنا من أوروبا، ومن فرنسا تحديداً. والتعريفات حول المثقف هي أيضاً كثيرة جداً. والذي يتبادر إلى الذهن في العموم: هو كل من حصل على قدرٍ معيَّن من المعرفة، كثيراً أو قليلاً، وبحسب تطور المجتمع وظروفه: نطلق على هذا الشخص الذي يحمل هذه "المعرفة" تعبير:"مثقف"، وذلك بحسب المجتمعات الأميَّة أو المجتمعات المتقدِّمة.
في المجتمعات التي تنتشر فيها نسبة الأميّة بشكل كبير و واسع، كل من حصل على قدر من العلم و لو قليلاً، مثلاً شيخ الضيعة، المعلم، مَن يقرأ أو يكتب، فكان يُسمُّى مثقفاً، وهو المرجعية في القرية أو الضيعة، المرجعية العلمية و الفكرية و الفقهية و المعرفية وهو حامل "الشهادة" في تلك المرحلة.
أما الآن فإنه يُطلق عموماً في المجتمعات المتقدمة علمياً، على المتعلمين والحاصلين على الشهادات، أنهم "مثقفون"، وبخاصة على الخبراء والتقنيين والأساتذة والإعلاميين والمستشارين وغيرهم من هذه الاختصاصات،حيث تُطلق تسمية "المثقفون". وهذه هي المعاني العامة التي تُطلق عادة في اصطلاحاتنا المستخدمة لدينا بكثرة في أحاديثنا و في أدبياتنا.
فإذن، وكما نلاحظ، هناك غموض و التباس واضطراب في استخدام هذه المفاهيم والمعاني. والسؤال الذي يُطرح هنا هل فعلاً كل من حصل على شهادة علمية وفي أيِّ مستوى كان، يمكننا أن نطلق عليه اسم: "مثقف"؟!... هذا سؤال!!... وهل الثقافة، الثقافة الحقيقية، تدل على مَن يحمل الشهادة؟!... ومَن هم هؤلاء المثقفون؟!.. هذا أيضاً سؤال!!.. أرجو أن تكون الإجابة عنه مدار بحث وحوار أثناء مناقشتنا(*)...
___________________________________________________________________________________ (*) من الملاحظ وبشكل ملفت للنظر، أننا قد أخذنا في السنين الأخيرة وتحت تأثير وهيمنة "الثقافة الأميركية"، استخدام عشوائياً اصطلاح: "النُّخبة" و"النُّخب" في أدبياتنا، فنفول :النُّخبة الثقافية، النُّخبة السياسية، النُّخبة الاقتصادية، إلخ... دون توضيح أو تحديد معاني هذه "النخبة" ومَن هي وما هي مقوماتها؟
هنا، في هذا السياق، أودّ أن أتوقف حول هذه المعاني المستخدمة لدينا بكثرة. ولديّ في هذا المجال بعد الملاحظات أو حتى بعض الانتقادات، أو بالأحرى بعض الملاحظات الانتقادية الاستفزازية أريد أن أبديها. إننا نلاحظ في عملنا الثقافي أو حتى عملنا السياسي، فقدان المنهجية، هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى، هناك بعد عن الواقع و عدم معرفة هذا الواقع الذي نتحدث عنه كثيراً ونحن نعيش فيه "غرباء". ونستعيض عن ذلك باستخدام الأسلوب الخطابي واللغة البلاغية الأدبية. فهناك، أقول وأؤكد، علمياًعدم معرفتنا للواقع معرفة حقيقية موضوعية، وبشكل واضح. فهناك إذن هوّة بين الفكر وبين الواقع المحسوس.
كذلك، فأنه لمن الملاحظ أن لدى الثقفين بصورة عامة نوعاً من الفردية الطاغية، نوعاً من الأنانية المذمومة، مما يؤدي بالنتيجة إلى فقدان العمل الجَماعي، أو فشله وهو في المهد. فنحن نفتقد فعلاً إلى عمل جَماعي منهجي متواصل طويل النّفس، هادف، محدّد الأهداف والغايات، ورسم المخطَّطات للوصول إلى ما نريد و نبغي، مما يستدعي الصدر الرَّحب والنَّفَس الطويل. فمن الملاحظة بشكل واضح أن نَفَسنا ضيّق سواءٌ في العمل الثقافي أو التَّوجه السياسي. ونريد أن نصل ونحقِّق أهدافنا بأسرع ما يمكن وبأقل ما يمكن من بذل الجُهد والصبر والعمل الدؤوب . ونريد أن نصل إلى النتائج دون أن نبتدئ بطرح المقدمات الضرورية لذلك، من الناحية المنطقية.
وهناك نقطة أخرى، وهي أننا نجد في كثير من استعمالاتنا الهُوَّة السحيقة بين القول وبين العمل. هذه صفة عامة لدينا وليس صفة خاصة بالمثقفين. إننا نقول شيئاً ونمارس شيئاَ آخر، أحياناً إذا لم يكن غالباً، مناقض كلياً لما قلناه ونقوله وندَّعيه.
ثم، هناك ناحية أخرى، وهي علاقة الثقافة بالسياسة، وعلاقة السياسة بالثقافة. وعلاقة المثقف بالسياسة، هنا أيضاً فإننا لواجدون أن ثمة مراحل متطورة ومختلفة: إننا نجد في المراحل السابقة تبعيّة الثقافة للسياسة، وبالتالي تبعية المثقف للسياسة. لقد كانت مَهمة المثقف إنما هي بلورة الخط أو البرنامج السياسي للجماعة التي ينتمي إليها والدفاع عنه وإنضاجه وتعميمه ونشره وإقناع الآخرين به، إلخ...
فقد كانت وظيفة المثقف هي وظيفة ـ إذا صح التعبيرـ دفاعية عن المبدأ السياسي أو الاجتماعي الذي ينتسب إليه أو يؤمن به. وهذا ما هو واضح تماماً في سلوكنا اليومي. بل أكثر من ذلك، في ظرفنا الراهن، نجد بأن عمل المثقف هادف كذلك إلى لعبِ دورٍ سياسي، هو الوصول إلى أن يلعب دوراً سياسياً، أو إلى أن يتبوأ مركزاً سياسياً.. وأقرب طريق لذلك في ظروف لبنان الراهنة هو أن يلتحق بالزعيم السياسي. والمثل الأخير تعرفونه جميعاً ما جرى في الانتخابات الأخيرة من التحاق بعض المثقفين بإحدى الزعامات السياسية عندنا.
إنني أطرح هذه المقدمات حتى أنتهي إلى شيء وهو، في رأيي، مخالف كثيراً لما جرت عليه وضعية المثقف، وسآتي إلى ذلك. في النتيجة، ومن مراقبة بسيطة جداً وسريعة لما يجري من عمل الجمعيات الثقافية، وكلنا يلاحظ هذه المؤسسسات والأندية الثقافية، فإنها في مجملها تعيش في اضطراب، في تناقض، في تمزق، في رغبة في أنها تريد أن تقوم بشيء، ولكنها تشعر بكثير من العجز عن تحقيق ما تريده، فهي تعجز عن تحقيق وحتى عن عملية تنسيق نشاطاتها فيما بينها، والتي هي في أحيان تكون في خط سياسي واحد ومعيّن،أو خط فكري وثقافي واحد ومعيّن. ما هو السبب في عدم المقدرة في عملية التنسيق فيما بينها أو عدم القيام بالنشاطات الثقافية المشتركة؟!...
أعتقد أن ذلك يعود في الدرجة الأولى للأسباب التي ذكرتها سابقاً، وللغموض في منهجيات العمل الثقافي، للأنانيات المتحكِّمة والمستحكمة في نفوس قياداتها إلى هذا الحد أو ذاك. ولربما تكون هناك رغبة دفينة في العمل السياسي والطموح السياسي انطلاقاً من طرح موضوع الثقافة والنشاط الثقافي. وهذا موضوع جدير بالنقاش والحوار، ذلك أننا في الفترة الأخيرة فإننا نشاهد أمام أعيننا كثرة نشوء الأندية الثقافية هنا وهناك، وفي كل قرية وبلدة ومدينة. وإننا نلاحظ أن كل مَن يريد أن يلعب دوراً سياسياً، ولا سيما أن الزعامات السياسية هي نفسها التي أخذت هي الأخرى تهتم بتأسيس المنتديات والمجمّعات الثقافية و تطلق عليها اسمها...
كيف يمكن تفسير ذلك؟!... يبدو أن الرأي العام طوال المدة الأخيرة أخذ يوجِّه الانتقادات العنيفة، أحياناً عن حقٍّ وأحياناً أخرى عن غير حقٍّ، ضد السياسة والسياسيين والأحزاب والحزبيين بعد الفشل الذريع الذي أصابهم جميعاً وبعدما أوصلوا البلاد إلى "الطريق المسدود" ومن كل النواحي والاتجاهات. فكان المخرج في هذه الحال تلقائياً وكتعويض عن هذا الفشل، هو اللجوء إلى "العمل الثقافي" كصيغة تمويهية، بديلاً مرحلياً عن العمل السياسي الصريح والمباشر.
وهكذا، وبما أن العمل السياسي أصبح بواراًَ والرأي العام رافضاً أيَّ تفكير في السياسة، من هنا، قد يكون أرباب السياسة والطامحون في العمل السياسي، وجدوا أن الوسيلة الناجحة الآن للحركة، للاتصال بالجماهير الشعبية، هو قيام هذه التجمعات الثقافية... وهنا خطورة كبيرة جداً، استخدام هذا المصطلح "الثقافة" غطاءً ولغايات ومآرب شخصية نفعية ذاتية، وتحويل هذا المصطلح عن معناه الحقيقي، مبنىً ومضموناً. وليس هناك من يسيء إلى هذا الاصطلاح في معناه ومبناه، كما يساء إليه في هذه الاستخدامات التي نشاهدها أمام أعيننا، وهي في الحقيقة استخدامات تُعبِّرُ عن مواقف في منتهى الانتهازية الفكرية والسياسية في آن.
إذا كان مفهوم الثقافة إنما هو مفهوم عام وشامل ومتداول الآن بكثرة متناهية، بالشكل أو التعريف العام الذي قدمته سابقاً، هنا، اسمحوا لي أن أقدّم أمامكم مفهومي الخاص للثقافة. فأنا أعتقد ـ وهذا موضوع مطروح للنقاش والحوار فيما بينناـ أن الثقافة، كما أشدِّد كثيراً وتكراراً، ليست هي عبارة عن شهادة علمية مهما كانت ولا هي معرفة علمية اختصاصية. وكما هو شائع ومعترف به لدى الجميع في بلد كفرنسا على سبيل المثال: فلا يُسمى مثقفاً، المهندس، الطبيب، المحامي، الأستاذ الجامعي، الإعلامي إلخ... فهذه المهن مع أهميتها العلمية الكبرى، إنما هي اختصاصات علمية فنيَّة تقنية. مثلاً، فليس كلُّ أستاذ جامعي حكماً هو مثقف. لا، أبداً!!..
في الحقيقة وبالإضافة إلى كلِّ ذلك، إن مشكلتنا الأساسية والعميقة هي أننا لا نقرأ، لا نقرأ وحتى أساتذة الجامعة عندنا، الغالبية العظمى منهم أنهم لا يقرأون ولا يتابعون ما يقرأون. وبما أنهم لا يقرأون، فإن الغالبية العظمى منهم لا تكتب، وبالتالي لا تبحث. فالدخول إلى الجامعة، إنما هو نهاية المطاف، وكفى الله المؤمنين شرَّ القتال!!..هنا في الحقيقة تكمن أَزْمة عميقة جداً وبالغةَ الخطورة. وهنا مصدر الخلل الفكري والثقافي في مجتمعنا. وهذا ما يثير الاستغراب، ذلك أن مَهمة الأستاذ الجامعي الأساسية والأولى هي تحقيق الأبحاث، الدراسات، بلورة الفكر وإنتاج المعرفة وتوضيح رؤية الواقع الاجتماعي والقضايا التي تهم الناس والمجتمع ونشرها. ذلك أن الأستاذ الجامعي هو المؤهل أكثر من غيره بحكم مهنته وعمله في مختلف الميادين العلمية والإنسانية... هنا في الواقع، نجد أنفسنا في مواجهة إشكالية عميقة ومخيفة على صعيد الفكر والمعرفة في نهاية التحليل ...
إنني أشير إلى هذه النواحي أو المآخذ أو الانتقادات اللاذعة، أو الانتقادات الاستفزازية الذاتية، لا للتشهير ولا لتثبيتها، وإنما لنفكر في واقعنا الثقافي من خلالها، ومحاولة الحوار والنقاش حولها وطرح الحلول ولو النظرية لها. ونعود إلى طرح السؤال: كيف يمكن أن نخرج من هذا الذي أسميه "مأزِق" ثقافي؟!.. ذلك أنه عندما يصاب مجتمعٌ معيّنٌ ومثقفوه بهذه الأَزْمة الثقافية العميقة، وبهذا القحط الفكري والمعرفي، وبهذا العجز الأدبي والفقر المنهجي، هذا يعني ببساطة أننا نعيش في مأزِق تاريخي، في طريق مسدود لا نعرف أو لا نحسن الخروج منه.
إذن، إلى هنا، اسمحوا لي أن أقدِّم أمامكم مفهومي الخاص للثقافة؟... إنني أقول رأساً إن الثقافة بالنسبة إليّ إنما هي الثقافة الملتزمة. بمعنى أن هذه الثقافة إنما هي ملتزمة بقضايا الإنسان، ملتزمة بالواقع الاجتماعي وقضاياه، متفاعلة تفاعلاً جدلياً معه، تأثراً وتأثيراً.
من هنا، كذلك، المثقف إنما هو المثقف الملتزم بقضايا الإنسان وبقضايا الواقع الاجتماعي، بمعرفة هذا الواقع الاجتماعي معرفة حقيقية موضوعية بهدف تغيير هذا الواقع الاجتماعي نحو الأفضل عن طريق الفكر ولمصلحة الإنسان.
فالمثقف، كما أفهم ذلك، ليس هو في موقع السلطة التنفيذية، كي يقوم هو نفسه بعملية التغيير الاجتماعي. إن وظيفة المثقف ومهمته الأساسية، إنما هو فهم هذا الواقع الاجتماعي بكل تعقيداته ومشاكله وقضاياه وخفاياه وبلورتها وتعميمها على الرأي العام، بهدف واضح وجريء من أجل التغيير. لا يمكن أن يكون المثقف "باطنياً"، بمعنى يخفي معتقداته وآراءه ولا يعلنها أمام الناس، أمام الرأي العام. ليس المثقف هو الذي يقول شيئاً و يخفي شيئاً آخر، بل العكس وضمن حدود معيّنة وظروف معيّنة، المثقف هو الإنسان الجريء، الذي يواجه انطلاقاً من قناعات فكرية ومعرفة اجتماعية، موضوعية وذاتية حتى يبنيَ هذه العلاقة التفاعلية الجدلية بينه وبين الرأي العام والجماهير الواسعة من الناس.
المثقف هو الذي يعي ظروف المجتمع و قضاياه من حيث التغيير الاجتماعي نحو الأفضل ولمصلحة الإنسان. وهو الذي يعتمد الفكر والعقل والتنظيم من أجل بلورة الوعي، وعي الواقع الاجتماعي وتكامل هذا الوعي ونشره وتعميمه. من هنا لا ثقافة ملتزمة دون ديمقراطية حقيقية، ملتزمة كذلك بحقوق الناس.
هنا، إذا سمحتم لي، حتى أتابع المنهج نفسه الذي أعتمده، أن أوضح ماذا أقصد ﺒ"الالتزام": لغة، إيجاب الشخص شيئاً عن نفسه، أي أن يفرض شيئاً على نفسه، يجب علية أن يفعل كذا... ألزم الشيء أو العمل، أوجبه على نفسه. والملتزم هو الرجل الذي يوجب على نفسه أمراً لا يفارقه. ومنه: العقل الملتزم وهو العقل الذي ينظر إلى ما تتضمنه أحكامه من النتائج الاجتماعية والأخلاقية بعين الجِدّ والرصانة، أو العقل الذي يُقرّ بوجوب وفائه بعهده وبضرورة محافظته على حق الأمانة في تأدية رسالته. ومن شروط هذا الالتزام أن يكون له غاية، غاية اجتماعية أو خلقية أو سياسية أو ثقافية وأن يكون مبنياً على مبدإٍ يقبله المرء بإرادته العاقلة.
هنا أيضاً، إذا سمحتم، من الناحية الفلسفية، إن الاتزام هو الاهتمام والعمل من أجل تقدير الحاضر في سبيل بناء المستقبل. وهذا لا يتحقق إلا بالحرية. لأن الحرية هي التزام الحاضر لبناء المستقبل وهي التي تخلق المستقبل ـ والحرية هي التي تصنع المستقبل. والالتزام من وجهة نظر الفلسفة الحديثة، هو الأمانة. وأُقدِّم في هذا السياق قولاً ﻠ"مونييه": إن الكلام الخالي من الالتزام ينقلب إلى فصاحة جفواء. والفصاحة الأدبية غير الملتزمة، لا تخلو في جوهرها من الرِّياء، وإن كان هذا "الرِّياء خفياً".
هذا هو في مفهومي معنى الاتزام و بخاصة عندما أقول: المثقف الملتزم، إنما هو الذي يفرض على نفسه قبل أن يفرض على الآخرين، أن يكون صادقاً مع نفسه ومع قضايا مجتمعه وأن بكون أميناً عليها ولها، وأن يكون مخلصاً لأفكاره و لديه الجرأة والشجاعة الأدبية الكافية للإعلان عن هذه الأفكار. يضاف إلى ذلك طبعاً أن هناك التزاماً أخلاقياً، والتزاماً اجتماعياً، والتزاماً سياسياً.
أصل أخيراً وليس آخراً إلى مفهوم الديمقراطية. وكما قلت آنفاً : لا ثقافة حقيقية ملتزمة دون ديمقراطية حقيقية ملتزمة هي أيضاً بحقوق الناس. إذن ما هي الديمقراطية؟!.. في الحقيقة ومن وجهة نظري، ليست الديمقراطية نصوصاً وحسب، وهي بالتالي ليست دستوراً فقط. طبعاً، النصوص والمواد الدستورية والحقوقية مهمة جداً. ولكنها ليست هي التي تصنع المجتمع الديمقراطي، مع أن وجودها شرط أساسي. إن الديمقراطية قبل كل شيء، هي ممارسة، هي سلوك، هي احترام الإنسان الآخر ومساواته، هي الاعتراف بحرية الآخر وحرية الاختلاف مع الآخر. بكلمة واحدة بسيطة جداًّ، الديمقراطية لا يستطيع أن يتعلمها الواحد أو يتلقَّنها عَبر الكتب والمحاضرات، أو في الجامعات.
وهنا اسمحوا لي أن أضرب مثلاً ذكرته مرة على سبيل الفكاهة، مفاده أن الديمقراطية إذا كان من الممكن أن يتعلمها الواحد عَبْر الكتب والنصوص، إذن، في هذه الحالة، جميع الأساتذة وطلاب كليات الحقوق الذين يدرسون ويحفظون عن ظهر قلب مفاهيم الديمقراطية والدساتير على اختلافها وأنواعها، هم المؤهلون قبل غيرهم أن يكونوا حقيقة وفعلاً من أوائل الديمقراطيين. ولكن الواقع، للأسف الشديد، ليس كذلك.... فالديمقراطية هي قبل كل شيء: بيئة اجتماعية، هي مجتمع ديمقراطي يُنشئ تربية ديمقراطية. بكلام آخر أكثر تحديداً، لا يمكن أن تتحقَّق الديمقراطية وأن تنشأ في مجتمع لا ديمقراطي. بمعنى آخر أيضاً، في مجتمعنا نحن، وهو المجتمع الذي نعيش فيه، بِنيته، تكوينه، مؤسساته، مقوماته هي مقومات غير ديمقراطيةعلى الإطلاق. بل أكثر من ذلك هي مقومات بنيوية تقليدية، عائلية، عشائرية، قَبَلِيَّة، طائفية... مجتمع، تكوينه وبِنيته على هذا الأساس، لا يمكنه أن ينتج مجتمعاً ديمقراطياً أو إنساناً ديمقراطياً بالمعنى الحقيقي للكلمة.
إذن، إن أهمية وجود المثقف الملتزم ودوره في الظرف الراهن هي أهمية أن يعمل عن طريق الفكر و العقل والنظر على بلورة هذه العلاقة التفاعلية، الجدالية بين الثقافة والديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة وأن ينشرها ويعمِّمها، وأن يواجه بكل جرأة وحزم الصعاب والعقبات، وهي كثيرة التي تواجهه في كل زمان ومكان، بشكل أو بآخر.
طبعاً، إننا نمر الآن بمرحلة، هذا إذا لم يكن الأمر دائماً كذلك، المثقفون فيها مهمّشون في مجتمعاتنا، ولا سيما في الظروف الحاضرة وفي المحيط الذي يحيط بنا: أُكتبْ ما تريد أن تكتبه، وانتقد ما تسعى إلى انتقاده، فهذا لا يغير أيَّ شيء. هكذا كان في السابق. وهذا ما هوحاصل الآن. فما يحدث الآن من استخفاف ليس فقط بالمثقفين، وإنما أيضاً وعلى الأخص بالرأي العام، وهذا ليس جديداً في مجتمعنا اللبناني.
وهذا الانتقاد مهما كان عنيفاً وقاسياً وصحيحاً وحقيقياً في جوهره ومضمونه، ولكنه لا يغير من الأمور السياسية للأسف شيئاً يذكر. في الحقيقة إن السلطات الحاكمة الآن وفي كل آن ـ هنا أو هناك وفي كل مكان من البلاد العربيةـ تستخفُّ بالرأي العام ولا تقيم له، في الأعماق أو الخفاء، أيَّ وزن يذكر. ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك في منتهى البساطة أننا نعيش في مجتمع "متخلِّف" اجتماعياً وتاريخياً. الثقافة والمثقفون هم هامشيون في مجتمع غير ديمقراطي وذلك بغض النظر عن كثير من المظاهر الخادعة و التي لا تُخفى على أحد .
هنا، السؤال الكبير الذي يُطرح ويُطرح علينا جميعاً: إلى أيِّ مدى هذه النُّخبة من المثقفين تعي هذه الظروف و هذا الواقع الاجتماعي السائد كي تتحوَّل مستقبلاً عَبْر النضال وعَبْر الكفاح الديمقراطي الحقيقي، ليس إلى أقلية هامشية، وإنما إلى "سلطة" ثقافية تفرض رأيها ووجهة نظرها على السلطات