د. دندشلي - الأُمسية الشعرية - في مكتب الأستاذ عبدالرحمن الأنصاري
لقاءات /
أدبية /
1989-06-15
المركز الثقافي
للبحوث والتوثيق
صيدا
الأُمسية الشعرية بتاريخ: الخميس 15 حزيران 1989
في مكتب الزميل الأستاذ عبدالرحمن الأنصاري
كلمة الافتتاح
ألقاء: الدكتور مصطفى دندشلي.
إسمحوا لي بأن أفتتح هذا اللقاء الأدبي الأول بكلمة ترحيب بكم ، بالنيابة عن المركزالثقافي منظِّم هذا اللقاء ، وعن صديقنا الأستاذ عبدالرحمن الأنصاري الذي فتح لنا مكتبه وقلبه أيضاًً، وبالأصالة عن نفسي ، أُرحِّب بكم أجمل ترحيب ، في اللقاء الأدبي والشعري الأول الذي ينظّمه المركز الثقافي والذي نأمل أن تستمر هذه اللقاءات بشكل منظّم.
فكرة اللقاء هي فكرة في الحقيقة قديمة نوعاً ما. كانت دائما هناك رغبة في جمع الطاقات والمواهب الأدبية والشاعرية في صيدا والجنوب وتنظيم لقاءات دورية فيما بينها. ولكن يبدو بأن الظروف لم تكن مناسبة على الإطلاق لعقد مثل هذه اللقاءات. والآن تأتي الظروف لتسمح لعقد مثل هذه اللقاءات الضيِّقة ولتحريك الجوّ الفكري والثقافي في منطقتنا ولاكتشاف أيضاً ـ وهذه نقطة مهمة ـ المواهب الشابة وتشجيعها في هذا المجال الشعري والأدبي، وبما أن ظروفنا نحن في المركزالثقافي من الناحية المادية ومن الناحية الأخرى، البشرية، التقنية، أصبحت ميسورة نوعاً ما وأفضل نسبياً من السابق، فلذلك ارتأينا أن نبتدئ هذه اللقاءات وهذه الأمسيات الشعرية... طبعاً وكما قلت، الغاية من ذلك فسح مجال التعارف على بعضنا البعض، وبالمناسبة نفسُها بلْوَرَة هذا التيار الأدبي والشعري في المنطقة، واكتشاف المواهب الشابة والإفساح في المجال واسعاً أمامها لنشر إنتاجها ولعملية إطلاق هذه المواهب الشابة ليس فقط على صعيد المنطقـة وإنما، إذا كان بالإمكان، على صعيد لبنان.
في الحقيقة، فإنّ الصيغة التنظيمية لهذا اللقاء ليست بعدُ واضحة تماماً لدينا. إنّ ذلك متروك لنا جميعاً من أجل أن نجد صيغة تنظيمية ملائمة كي تناسبنا من حيث طبعاً المكان الذي سيكون مقر المركز الثقافي، ومن حيث التوقيت الزمني: شهري، أسبوعي أو كل أسبوعين، فهذا متروك لنا نحن الذين نقرِّر ذلك. ثم الصيغة المنهجية: هل ندعو شاعراً يلقي بعض قصائده ويتبع ذلك فيما بعد نقاش عام أو أن نستمع لبعض المواهب الشابة بعضاً من إنتاجها الأدبي والشعري ومناقشته إلى غير ما هنالك.. فهذه الصيَغ وغيرها متروك لنا مناقشتها وتحديدها...
هناك اقتراح وهو مطروح للمناقشة وهو أن نطلق على هذا اللقاء اسماً معيّناً: هناك اسمان: الأول اسم الندوة الأدبية، والثاني المنتدى الأدبي، التابع للمركز الثقافي...
هذا ما أريد أن أقوله في افتتاح هذه الندوة ولن أطيل الكلام، طبعاً، وقبل أن أعطي الكلام إلى سماحة السيد محمد حسن الأمين، فهل هناك من اقتراح أو من ملاحظة تنظيمية أو خلافه يحب أحدكم أن يبديها؟!.
ذكاء الحُر:... سوف يأخذ النقاش وقتاً، لذلك فإننا نفضّل أن نستمع، ثم بعد ذلك وفي الوقت المتبقي لنا، يمكننا أن نناقش مختلف الأمور...
سالم شمس الدين: ... أرى أن يقتصر هذا اللقاء في هذا المساء على التعارف ونترك موضوع الناحية التنظيمية للقاء آخر، يستطيع كل منا أن يكوّن فكرة بينه وبين نفسه أو أن يكوِّن تصوّراً معيّناً يستطيع أن يطرحه في اللقاء التالي بحيث تأتي هذه الاقتراحات مدروسة ومنظّمة أكثر مما أن تترك الآن للمناقشة دون تحضير أو دون استعداد لموضوع من هذا النوع..
إدارة الندوة:... اقتراح الأستاذ سالم شمس الدين هو أن نترك القضايا التنظيمية للقاء آخر.. وهو كذلك.. الآن قبل أن نعطي الحديث الى سماحة السيد، أقترح أن يقوم كل واحد منا بالتعريف عن نفسه...
وبعد عملية التعريف والتعارف، انتقلت إدارة الندوة إلى تقديم السيد الأمين...
والآن، يسرّني أن أقدم لكم صديقنا العزيز السيد محمد حسن الأمين. كلنا يعلم أن سماحة السيد هو علاّمة وفقيه ومفكّر ومناضل سياسياً، هذه هي الصفات المعروفة عموماً عنه. والقليل القليل مَن يعلم بأن سماحة السيد، بالإضافة إلى ذلك كله، هو شاعر مرموق ومعروف بين أوساط الشعراء والأدباء. ولسوء حظنا لم تتح لنا المناسبات في السابق لكي نستمع إليه كشاعر. فهذا اللقاء مناسبة طيبة وسعيدة لنا نحن فى المركز الثفافي أن نقدمه إليكم بصفته كشاعر فقط، ويسرّنا أن نستمع إليه يُلقي بعضاً من قصائده، ثم بعد ذلك مناقشتها وطرح الأسئلة عليه..
السيـد الأميـن:
في البداية لابد من تقديم الشكر سواء للمركز الثقافي أو لهذا المنزل الكريم... والشكر الأساسي أيضاً هو أن يُتاح لي فرصة الحضور في هذا المجلس الكريم الذي يمثل هذه الوجوه المعروفة فعلاً، الوجوه الثقافية والحقوقية وفي كل مجالات العمل الفاعل المبدع والمنتج، والمجالات الفنية أيضاً ـ لأنني عرفت أن بيننا فناناً أيضاً وربما أكثر من فنـان ـ وبيننا من يكتب القصة ويكتب الشعر. لذلك أجدني محرجاً أن أتقدم اليكم بوجه هو وجه الشعر.. وربما كان من المطلوب أن نبرِّر لماذا كنت محرجاً أن أتقدم هذه المرة بصفتي شاعراً، إنّ مصدر الحرج في ذلك هو أنني أحب الشعر واحترمه كثيراً وعلى الرُّغم من اهتمامي المبكر بالشعر قراءة وكتابة، إلاّ أن الظروف الاجتماعية وظروف العمل وظروف المتطلبات العديدة التي واجهناها في السنوات الأخيرة وهي سنوات طويلة، صرفت الكثير عما كان يحبّه ويهواه، وعما كان يشكل هاجساً في ذاته وعما كان يشكل له حلماً من الأحلام...
هذه الحرب: صفتها أنها لم تدمّر المؤسسات ولم تدمّر البنية العامة للنظام السياسي، ولكنها تسلّلَت فدمرّت حتى أحلامنا الداخلية وغيّرت من مسارات الكثير منا فعلاً. وحين نعود إلى الشعر، برأيي أننا نعود الى الينابيع الصافية في ذواتنا، نحاول أن نرمِّم ما تكسر من هذه الذوات ومن هذه الأرواح وما تهشّم في هذه الحرب الظالمة التي نصلى نارها الآن.
أعود إلى الشعر، يعني أعود إلى بواكير الشعر عندي. لأنه بكل أسف أن المرحلة الماضية لم تكن مرحلة إنتاج حقيقي. لم يخلو الأمر من كتابة بعض القصائد ولكنني لا أعتبرها مرحلة الإنتاج الحقيقي, كذلك سأثقل عليكم لتقديم نماذج من شعري القديم، باستثناء قصيدة واحدة كتبتها مؤخراً وبوَحْي من الشهيدة المناضلة "سناء محيدل". وهي قصيدة صغيرة، قصيرة، ولكنها تحمل ما أتمناه تجاه هذه المرأة المضيئة في تاريخ المقاومة الوطنية اللبنانية. وسمّيتُ هذه القطعة:
كوني الخرَابَ الجميل
تَجيئين في آخرِ المرحلةْ
غمـامةَ حـبٍّ ومـاءْ
وشمسـاً من الكبريـاءْ
فينبت عشبٌ على خشبِ المقصلةْ
وتنفجرُ الأرض عشقاً
وتأتي يمامةُ عينيكِ
مِن وجعِ الأسئلةْ
تَنْقرُ في الصدرِ،
تفتحُ نافذةً للرياحِ
وتطلق أشواقنا المقفلةْ
تجيئين في آخرِ المرحلةْ
لتبدأ من دمكِ الغيمةُ المقبلةْ
قصائدنا لم تكن قبل عينيك تعرفُ هذا البهاءْ
ولـم تكُ تعرف كيف تحطُّ على شجرة القلبِ
أو تهزُّ إليها بأغصانه المثقلـةْ
إذن، أوغلي في جفافِ مواسمنا
جوْعـي أرواحنا صَدئِ القلبِ
كونـي التفتّحَ والنهرَ والسنبلةْ
وكوني سناءَ التي تسكنُ العشبَ
كونـي سناءَ التي ترتدي الياسمين وتستَوْطن القنبلـةْ
وكوني السوادَ العظيمَ، الخرابَ الجميلَ، الحرائقَ والريحْ
ثوري إلى أن يقومَ النهارُ
وينبثـقَ الوطنُ المستحيلُ
مـن الـوطـنِ المهـزلة
هذه القصيدة كانت آخر القصائد. لذلك كانت (في هذه الأمسية) أول القصائد (التي أحببت أن ألقيها أمامكم). فهي يمامة القصائد.
عودةُ الصديق الجميل
عودة الحزن
أهو الحزنُ أم خُطوات المساء الذي يتثاءب في داخلي الآنا
هذا الغريبُ الحبيبُ، الصديقُ الكئيبُ،
لقـد باعــدت بيننـا السنـواتْ
وهـا هو يأتـي، يدبّ أليفاً، خفيفاً،
ويعـرف مطرحـهُ فـي الضلوعْ
سلامٌ، إذن، أيها القائدُ المتواني كعادتهِ
أيها الغامضُ الوامضُ المتسربلُ ثوبَ الخشوعْ
أأنتَ الذي كنتُ أبحثُ عنه
الـذي كنـتُ ضيّعتــه
ولم أدرِ مـاذا أضعـتُ!!
أأنتَ إذن من توَهّمته عاد ذات مساءٍ طويلْ
وتوهمته ذات إضحية غائمةْ
وتوَهّمتـه فـي البكاءْ
فحين تلمّسته، لم أجـده
أأنتَ إذن، أأنتَ إذن مَنْ تثاءب في داخلي الآنا
أنتَ إذن! مرحباً أيها الحزن!!
يا أجملَ الأصدقـاءْ
ويا أنبـل العائديـن
أقمْ بين جُرحي وبيني طويلاً، أقم..
أيها الطائرُ الذّهبيُّ الجناحْ
أيهــا الولـد الغجـريُّ،
تقدم صباحاً إلىّ وداعب بكفّيْك وجهي
وليكن لك متكأٌ في جبيني،
يـا صديــقَ الجـراحْ
يا حبيبَ الأغاني التي سافرتْ
والتــي لــم تسـافـرْ
وحبيـــب الفـصـولْ
إذنْ، أنت من يقرعُ الآن صدري
وينسابُ طفلاً كسولاً جميلاً إلى وحشةِ الروحِ
يا سيّد الروحِ،
كيف أضمّكَ كيما تظل على عرشها في الزمان النجيلْ,
مرحباً أيها المتوهجُ
هل تشاركني قدحَ الشاي هذا الأصيلْ
هل تتسلل أكثر في غُربتـي
وتشاطرني عُشبها المستحيلْ
مـا الـذي ردّك الآن لـي،
بعد أن باعدت بيننا سنواتُ الرحيلْ
أيّ هذا الصديق الجميلْ
أيّ هذا الصديق الجميلْ
* * *
* ملاحظة: قصيدة سناء محيدلي قيلت من وقت قليل جداً.. والقصيدة الثانية كذلك ليست بعيد العهد من حوالي الثمانية سنوات، قصيدة الحزن في الثمانين.
* * *
الآن نقرأ قصيدة من الشعر العامودي وليس من الشعر الحرّ. القصائد التي قرأتها هي من الشعر الحرّ، موزون ولكن، لا يلتزم وحدة البيت وإنما وحدة التفعيلة.
مثلما يرتمي على الهُدْبِِ هُدْبُ، مثلما تَلمعُ الطيوفُ وتنحبو
مثلمـا يَسحـبُ المسـاءُ خُطاهُ وتُثيرُ الحنينَ دربٌ ودربُ
مثلمـا يَدْلهـمَّ في الصدرِ شيءٌ غامضٌ، مثلما يسافرُ قلبُ
أنتِ تأتين كل يوم إلى صدري، فينأى دمي ويبكـي ويصبو
سـاهمٌ منـذ طالَعَتْني عَينـاكِ، مسيـحٌ ولي بعينيكِ صَلْبُ
عاشـقٌ مُطْفـأُ اليقين، سمائي أنجمٌ تَعشَقُ الضبابَ وسُحْبُ
أنا يا طيـبُ، يا سَنَنْ من خُطـاها مُشرَئِبّاً، أنا فمٌ مشرئبُّ
أنا وجهٌ مسافرٌ في مرايا الحزن، طفلٌ أنا على الحزنِ يحبو
أنا منذ ارتميتُ في مطلع الهُدْب غريبٌ، ومنذ أبحرتُ صَبّو
غربتـي نزهةٌ يطـولُ مداها، غربتي نزهةٌ ووجهك درب
نزهـةٌ، فيـا قمـرَ الحـبِّ سلامـاً، هنـا الحجـارةُ حـبُّ
إنني أنحنـي، يلامِسُ وجهـي الأرض، إني أُحسّها كيف تربو
كيـف يمتـد فـي الجـذور ويمتد جناها. أراهُ كيف يصـبّ
أُبْصر الرملَ وهو يشرب وجهي أسمع الشمس في عروقي تَدِبّ
أتعـرّى، أغيـب في شجـر الحُلـمِ وينمو على جبيني عشب
كنت في أول الطريق، وغابت عن سمائي هناك شُهبٌ وشهـب
وتعرّيتِ أنـتِ في الحلم، سافرنا معاً، أَوْرَق الفضـاءُ الرحـب
صَفّق الرمـلُ، تلك باديـة الشـام ظـلال، سيناءُ ماءٌ وخصبُ
مـدنٌ تستفيق، صوت انهيارات، ريـاح تكبـو وأخرى تهـبّ
تتعـرّى بيـروتُ، بيـروتُ حقـلٌ للصبايا، بغداد للشوقِ هُدْبُ
وصحونـا معاً، صحونا أضـاءتْ برهـة حولنـا وأقمر غَيبُ
وطنـي هـا هنا على صدرك الغاوي امتداد، شَهْمُ المعابرعذب
وطنـي وردةٌ بصـدرك جذلـى واندهـاش على جبينـك رحب
وطنـي أنـتِ حيثُ يُمْرِعُ هذا الجسد الغضّ، حيث أبكي وأصبو
تعليق: الأستاذ سالم شمس الدين.
ورد في هذه القصيدة بيت وهو أنه لا أدري لماذا استعنت بالحزن لكي يحبو الطفل عليه، علماً أن الطفولة، لا سيما الطفولة المتشوقة، لا تعرف الحزن. وإذا كان لها أن تدب على أي شيء فليس على الحزن إطلاقاً. فهل كان لكلمة الحزن دلالة أخرى غيرها أم أن استعمالها جاء ليعبّر عن الحزن فعلاً. (استعمل كلمة الحزن مع الطفل علماً أن الطفولة لا تتفق. وقال أن الطفل على الحزن يحبو.. والطفل لا يحبو على الحزن...).
السيد الأمين: يبدو أن العلاقة مع الحزن وخاصة في هذا الوطن، بات لها أكثر من محتوى ومضمون وعلاقة. وأعتقد أنه نحن مدعوون لأن نجعل من أحزاننا فضائل لعزاء الإنساني. ونحن عندما نقترب من الحزن، نكون أكثر إنسانية في الواقع. وربما اختيار ـ طبعاً هذه القصيدة قديمة فعلاً ، من قصائد الصبي ـ ولكن أنا أعتقد أن هذا الحزن لم يستجد علينا الآن في الحرب اللبنانية، وهو جرح يرشح من أزمته بعيدة في ذاتنا ويكون حتى نظرتنا إلى الحياة وحتى نحن نتكلم في الجمال وفي المرأة وفي غيرها، الحزن يقحم نفسه دائماً في علاقاتنا بالأشياء ويعطيها هذا اللون الإنساني، يعني يسمونها نكتة مأساوية. ولكن أنا اعتقد أنها ترتقي لذلك إلى المستوى الإنساني الرفيع، وأن كل المشاعر العظيمة لابد من رافد كبير من روافد الحزن أن يكون في داخلها، وحتى عندما نتكلم عن المرأة، نقول إن الحزن يقحم نفسه في هذه العلاقة مع المرأة. ربما كان هذا من الموضوعات المهمة فعلاً والتي تستحق أكثر. ولكن الآن نحن نقرأ الشعر وأرجو أن أكون بالإيجاب عن ذلك ألقيت بعض الضوء على معنى الحزن هنا.
هناك قصيدة أقرؤها لأهمية خاصة فيها أنها تنبّأت بالوضع القائم، أي بالدمار، بدمار الوطن قبل أن يحصل هذا الدمار وهذه كُتبت عام 1973 وأُلقيت في بعض الندوات الشعرية ومنها نادي الشقيف في ذلك الحين.
تعليق: يعني وكأنما نحن نقف على حافة الوطن مثلاً: مثلاً في عام 1973 يبدو كنا نقف على حافة الوطن... وهو من الشعر الحرّ وليست من الشعر العامودي.
وعنوانها:
الوقوف على حافة الوطن
أيّها الوطنُ الواقفُ الآنا
عنـدَ حـدودِ الفضـاءْ
بَيْن نَجمـيْن يقتربـانْ
حيـث يَنحسـر الوقتُ
حيـث يَضيق الزمـانْ
مَن تُرى يَفتح الآن قنبلةَ الريحْ
أو يُعـلنُ الفـَقْـرَ
من يتجرأُ أن يَستردَّ من النافذةْ
رأسَـه دون أن يتشظّـى
وينفجرَ الدمُ مـلءَ المكانْ
هكذا أتلقاكَ محتقنـاً دائماً
غير أنَّ احتقانك لا يلد المعجزاتْ
ويُراهنني أصدقائي عليـك
فاستجوب الوهمَ في شفتيكَ
وخـلـــقَ السّـِمـاتْ
وأراهنُ أنك سوف تقومُ، فتجنحُ
أنّك سـوفَ تُغنـي فتنبـحُ
كنّا معاً ذات يومٍ ولسنا معاً
وتَداخلتُ فيك وأعلنتُ جلدَكَ خيمةْ
فتغيـرتَ، صـرتَ هــواءً
وصار الهواءُ خياماً مدى العينِ
فرّخت لي أخوةً فقراءَ وأعداءَ
يجتـذبـون ردائـي الوحيـدْ
ويقاسُمنـي جيشهُم كسرة الخبزِ
ويحتشـدون بجلـدي من البـردِ
أبصرهم في فراشِيَ عند الصباحْ
يغطّـون بالنــومِ،
أَنْفُضهمْ في الهواءِ، فينتشرونْ،
وخَلّفْتَ لي قَفـصاً من جنـونْ
فحملتك، ناءٍ بحمـلك ظهـري
وطُفْـتُ بك الأرضَ مُتَّهماً تارةً
وغريبـاً تحاصرُ وَجهي العيونْ
لستَ أغنيـةً كي أكـونَ المغنّي
غيــر أنـّّك تَعْبـرُ حنجـرتي
يتهـدّجُ بـاسمـك صوتــي
تعتـرينـي كَهَـمٍٍّ ثقيـل
فأصــرَخُ أنـكَ موتـي،
وحيـن يباغِتنـي شجـرٌ
طالــعٌ مـن أقاضـيكَ
أفــرحُ، أَهْمــزُ خيلي
وأصــرخُ مـلءَ فمـي:
أيها الريح هُزّي إليكِ بشعبي،
أعبروني، أبذري فيّ أسماء شعبي.
تَقـدســتِ أيتــها الريــح،
أيتها اللعنة المصطفاةُ التي لا تجي،
وحين يحاورني وجهها في المساءِ،
أقـول: ارجَعــي.
أُشعــلُ النـارَ في مدنِ الــرأسِ
ثـم أقـولُ: أضيئـي أو انطفئـي،
إنني هـاربٌ فاتبعيني أو انتظـري.
بِعْتُ عينيكِ، صدرَكِ في سوقِ عَمّانَ
هُـمْ قايضــوني عليـه براحـلة
أتخطـى على مَتنـها مُدنَ الأرضِ،
فانتظـري، انتظـري
أن أجيء على صهوة الريح ذات ضُحىً
أن ألمّـكِ بالهُـدْبِ والهُـدْبِ
أن أفتديكِ أن أغنّيكِ ما لم أغنّيكِ من قبل
أن أشتهيـكــي
بين وجهي وبينكَ
جسرٌ من الغرباءْ
وخيطٌ من الـدمِّ
تَغْزلهُ الشمسُ في السرِّ
والعِشْقُ في الصدر يأخذ شكلَ القذيفةْ
ويخامرني الآن موتٌ
على ضِفّتـكَ جميـلٌ
حذرٌ يتسلقني كاعتراش سفوحكَ
ها أنتَ تقتـرب،
الدَّم يمحو المسافة
والدَّم جسرٌ يمرّ عليه الرجالْ
وها أنت تفتح صدرك تعلنُ
فـي البـَدءِ كـان القتـالْ
الغزل: مقطوعة من شعر الصبي.
* الغزل ليس بُعداً عن السياسة وإنما هو اقتراب من السياسة.
عينـانِ، عينانْ ما الشعرُ
ما الإبـداعُ، ما الخطـرُ
آمنتُ أنهما في غُربتي قدرُ
نَهران أورقا عُمري في ضفافهما فِدىً
لتلك الضفاف الحلـوة الـعُمُـرُ
تَبسّمتْ فيهما لـي أنجـمٌ ورؤىً
وكان أوحشني في العتمة السفـرُ
وكنتُ أبحثُ عن ظلِّ وقافلتي تعبى
وخلـفَ ضلوعـي الجمـرُ يستعرُ
حتى طلعـتِ، فهبّت في مرايـا يدٌ
بيضـاءُ تبتـدعُ النُعْمـى وتبتكـرُ
وأترعت بالمنى كأسـي وأترعـت
فملء يدي ومقلتي من لُباناتِ الهوى صُوَرُ
مـن أنتِ؟ من أيِّ أفـقٍ طلعتِ على دربي
ومِـن أيّ حُلـم صاغـك القــدرُ
يــا نعمــةَ الزمــنِ القاسـي
ولفتَتَــةُ السمحــاءَ، بعـــدكِ
كــــلُّ الهــمِّ مغتــفــرُ,
حسنـاءُ، تاب زماني عـن إساءته،
وجاءنـي في مـدى عينيكِ يعتذرُ...
* هذه قصيدة إخوانية، كُتبت لأحد الأخوان الشعراء الأدباء، جواب على رسالة شعرية بعد تجربة مررت بها بعد عملية جراحية، أجريتها في لندن... فأرسل لي رسالة شعرية فأجبته عليها برسالة شعرية.. فهذه القصيدة ليست قديمة فهي من عام 1987، فهي حديثة:
يا سيّد الكلمات (صديقي)
آلاءُ شِعـركَ، ما العبـرُ وما الثَناءُ وما المُدامةْ
ما نجدُ، ما ريحُ الصدى تأتي وتذهبُ مِن تُهامة
رَفَّت علـى يَبَسِ الضلــوعِ، فكلُّ قافية غمامةْ
وتراقصت نَشْـوى فخفَّ لها دمي يُطفى أُوامـة
يا سيّـدَ الكلمــاتِ تَرْفَلُ بالأناقـةِ والوِسامـة
بالنُّبـلِ، باللّـُمَحِ الذكيـة، بالحَصافةِ والقسامـة
يا مُطْلِعَ الطّـُرَفِ البَهيّة جبهـةً تزهـو وقامـة
أسْكنْتهـا الإبـداعَ روحـاً والإبـاء شُموخَ هامة
وجَلوتهـا عُرسَ البـهاءِ ومِهرجـان الابتسامـة
خُطبٌ بذاكـرة المنابـر لم تزل رَيَّ الإقامــة
لكَ في الفصاحة، يا أخـاها الفذّ، تنعقد الإمامـة
أنا يا صديقي ما أزال على الهـوى أرعى ذِمامة
لم أَسْلُ عن وطني، وأُعْلى عن أذى الشكوى مُقامة
وأروحُ أخفي عن وُشاةِ السـوء في كبدي سِهامـة
أعطيـه ما يغلـو ويُسرفُ في البعادِ ولا ندامـة
لم أغتـرب عنـه التماسـاً للسُّـلُوِّ أو السلامـة
لكنَّ جُرحـاً من هـواهُ ألحَّ في كبـدي وضامـة
فَرَضَ النوى، فحللت لندنَ مطفئاً فيها ضَرامه
مُتَغرِّبـاً أَصلى برغـمِ صقيعها أبداً غرامـه
هي غربةٌ لم تُسلني فيها المتـارك والفخامـة
ليـلٌ يطـولُ ولا صباحَ بلنـدنِ يُنهي قتامـه
جيشُ الضبابِ هناك يَزحَمُ في دمي جيشَ السآمة
كلُّ العيـونِ من الزُجـاج، فلا تُحسُّ لهن نامة
إنـي لمحـتُ وراء كـلِّ مُمّرِّدٍ فخـمٍ ظلامـة
شقيت شعوب و استذلـت كي تقوم له دِعامـة
صورٌ تروعك من نقائضها البداعـة والأثامـة
وتروح تعجب كيف تُلتمس الصباحة في الجَهامة
يـا لَلخـلاعـة والتبتـل والتبـذل والكرامـة
وتُدِلُّ أنَّ العقـلَ رائـدها وأن لـه القِوامــة
أشقى ضحاياكِ العقـولُ وبعضُ قتلاكِ الشهامـة
وإذا الحضـارةُ لـم تَصَنْ حقـاً ولم تَدفعْ ظُلامَة
فالفـن ليس سوى سَرابٍ والمَتـاعُ سوى قُمامـة
وطنـي وبعض الفَقرِ يُزري بالكنوز وبالضخامـة
أحببت عُرْيك ما أعـزّ السيـفَ مُطّرحاً لثامــه
عُريٌ تزينه الجِِـراح كأنهـا للحُسـن شامــة
أحلـو وأنسِبُـها وتَعُـبُ في هواي لها الملامـة
أنا يا صديقي ما أزال على الهوى أرعى ذمامـة
لـم يبقَ في كأسي من العَبَقِ الشهيّ سوى لُمامـة
وإذا الصّـِبى ذَبُلَت رُؤاه وفَوَّضَت ريـحٌ خيامـه
وأطلَّ وجه الأربعين يُضيئ من شـَعْرٍ ظَلامـة
مـاذا يظل من الدروب سـوى التّجهُّم والصرامة
مـاذا يظل؟! أجـل يظلُّ الحـبُّ يمنحنا سَلامـة
وتَظـل قـافيـةٌ تُؤانسنـا كتطريـب اليمـامـة
ولُبانـةٌ أن نصفـع الطغيان، أن نُدمـي حِمامـة
وبأن يَرفَّ النصرُ في الأقصى وفي أرضِ القيامة
* * * *
المناقشـة العامـة:
إميل إسكندر: لقد نقلنا سماحة السيد إلى جنّة جميلة نشعر بها بالأحلام... وسؤالي يتركز حول القصائد. اللافت أن اللون الرومانسي غالب في هذه القصائد: الطبيعة، الألم، الحزن، تقريباً كل العناصر الرومانسية بارزة في القصائد، هل هذا يعود إلى تكوين شخصي، إلى قصائد شخصية أم إلى تأثير معيّن من قِبَل شعراء معيَّنين؟.
السيد الأمين:... هذه المسائل الهامة، في الحقيقة، والنقاط المذكورة هي من مهمات الدراسات النقدية. أنا لا أعتقد أو لا أُصنّف نفسي حسب التصنيف المدرسي المتعارف بمدرسة شعبية معينة في الحقيقة. وأدّعي أن في قصائدي جوانب وملامح من الرومانسية ولكن هناك في قصائدي أيضاً ملامح من الواقعية ومن الرمزية أيضاً والبناء الكلاسيكي في شعري متوفر. وأنا أعتقد أن ما وصل إليه الشعر أخيراً هو أنه تمرَّد على المدرسية في الواقع. لذلك، الكتابة الحديثة لشعرنا العربي، نلاحظ أنها تشتمل على كل ما في هذه المدارس.. أنا لا أقدر أن شعري ينتمي إلى المدرسة الرومانسية بالمعنى الكامل، وإن كان في مرحلة من المراحل، لا شك أن الرومانسية كانت هي المدرسة الطاغية والهاجس الطاغي في هذا الشعر، لكن فيما أعتقد أنه بعد ذلك استطاع هذا الشعر أن يتخلص من آثار المرحلة الرومانسية وأعتقد أن قصيدة "سناء" التي قرأناها الآن ، صعب أن ندخلها في إطار المدرسة الرومانسية...
إميل إسكندر:... وأنا لا أريد أيضاً أن ندخل القصائد (التي سمعناها) في المدرسة الرومانسية، إنما أنا أعرف جيداً أن الشعر الجنوبي يقوم كُلّه على المعاناة وعلى هذا اللون الرومانسي، كل شعر الجنوبي يقوم على هذه الألوان بالذات، كنت أحاول أن أسأل إذا كان هناك تأثر بمدرسة معينة أو بشعراء معيّنين.
السيد الأمين:... أنا لا أعرف أني متأثر بشاعر بعينه، وإنما متأثر بكثير من الشعراء. هناك شعراء فرضوا أنفسهم، شعراء كتبوا الشعر الحديث وشعراء كلاسيكيين أيضاً، فرضوا أنفسهم. ليس هناك شاعر بعينه، وأعتقد أن هذا واضح في شعري، له ظلال خاصة في هذا الشعر. إنك تجد ظلالاً للشعر العربي، للكلاسيكية الجديدة، والشعر العربي الحديث، فشعري ينتمي إلى هذه الحالة تقريباً. إنني متأثّر لا شك بالكلاسيكية الجديدة وبالشعر العربي الحديث. وهذا التأثر واضح لأننا جزء من هذا النهر الكبير الذي اسمه الشعر العربي ونحن نشكّل قطرة وإنما نحاول أن تكون هذه القطرة لها ملامحها الخاصة ولها تكوينها الخاص أيضاً. وأنني أخالفك الرأي أن هناك شعراً يمكن أن نسمّيه شعر الجنوب أو الشعر الجنوبي، لأنه في الحقيقة هو جزء من الشعر العربي ويتضمن أمراض الشعر العربي كما يتضمن حسنات الشعر العربي.. نسعى لأن يكون لشعر الجنوب نكهة وطعماً خاصاً. وهذا طبيعي لأن لا نريد أن ندخل في هذه الجوانب التي سوف يطول شرحها ذلك أننا نفتقد أن الفن بشكل عام لكي يكون فنّاً إنسانياً عالمياً يجب أن يكون له خصائصه المحلية ويجب أن تكون له هويته الذاتية فعلاً. فلا أدري إن كان شعر الجنوب حقق هذه الهوية الذاتية، حقق هذه الفرادة الخاصة أم لا! إنما أنا أتصورها أنها هي مدخله إلى الشعر العربي الكبير والشعر الإنساني فعلاً...
نقرأ الآن مقطوعتين ونختم ... وبعد ذلك يمكننا أن نتناقش أكثر نظرياً عن الشعر. سوف أقرأ أبياتاً من شعر الصبي، أيضاً من شعر الغزل.. تاريخها من العام 1965 .
كُتبي يعني رسائلي
قولـي لأُمّـكِ إنْ يوماً رأت كُتبي لديكِ واستشعرت بوجهك القلَقـا
وطـاف في وجنتيكِ الورد من خجلِ وابتلَّ هُدْباك من خفريهما عرَقا
وهَـدْهَدَت رعشـة بيضاء صافية نهديْكِ فارتجفا في الصدرِ واعتنقا
قولـي إن أرادت حرقهـا غضباً: إنْ أنتِ أحرقْتِها يا أُمّي احترقـا