مفهوم الحوار والحوار الديمقراطي-الملتقى الثقافي الأول
لقاءات /
ثقافية /
1994-04-10
المنـاقـشة العـامة *
الدكتور مصطفى دندشلي
... في الحقيقة ، وبعد أن استمعت للتعقيبات والمداخلات القيّمة ، ازددت اقتناعاً بأهميّة توضيح ، التوضيح العلميّ والمفاهيميّ والمنهجيّ ، لهذا الاصطلاح الذي نستعمله بكثرة دون أن نعطيه حقّه في المضمون ، وفي المعنى ...
إنّني من هؤلاء الأشخاص الذين اهتموا بعملية الحوار بين المثقّفين بصورة خاصة منذ فترة طويلة ، تكاد تصل إلى أكثر من عشر سنوات... ومن خلالها ، كنت أتصوّر بأنّني فهمت فهماً واقعياً وحقيقياً معنى الحوار ، ومفهوم الحوار وشروط الحوار ، وأهداف الحوار... وعندما فكرنا في أن نبتدئ جلساتنا الأولى بعقد هذه الخَلوة الدراسيّة ــــــ الفكريّة ، لم يكن عبثاً على الإطلاق أو عفوياً اختيارنا مفهومَيْن للمناقشة : مفهوم الحوار والحوار الديمقراطيّ ، ومفهوم الديمقراطيّة … وذلك لسبب أساسيّ وهو أنّنا كحركة ثقافية ناشئة ، جديدة ، تغييريّة في العمق وفي الأبعاد ، يجب ، بادئ ذي بدء ، أن توضّح مفاهيمها ، أن توضّح أفكارها ، أن توضّح أسلوبها في العمل … فهذا منهج في التفكير وفي العمل أساسيّ ، إذا كنّا فعلاً نريد أن ننشئ شيئاً جديداً ، أو تياراً ثقافياً مميّزاً ...
فهل وقعنا في وَهْدة التنظير ، وابتعدنا عن الواقع ، فأنا لا أرى ذلك أبداً ... وكنت أظن ، عندما اخترتُ بحث هذا الموضوع ، إنّني سوف أعالجه وانتهي منه في وقت قصير، بما أنّه موضوع ليس بغريب عني ... ولكن صدقوني إذا قلت إنّني في أثناء البحث والعمل ، وجدته أكثر صعوبة وتشعباً ممّا كنت أتصور ، ذلك إذا أردت أن أعالجه بموضوعيّة وشموليّة وبمنهجيّة علميّة جديدة... فهو يحتاج فعلاً إلى وقفات هادئة علميّة ، شاملة ، وإلى مراجع، وإلى تحليل واقعنا السياسيّ والفكريّ والثقافيّ انطلاقاً من لبنان... ونرى ، على صعيد الدراسات الميدانيّة ، كيف كانت تتمّ عمليات الحوار في ما بيننا. وهل يمكن أن نسميها " علاقات حواريّة " ؟!… وهل هذه التسمية أو هذا الاصطلاح في ظاهره ، ينطبق على المسمّى أو المضمون ..؟!… وهل الدال يتطابق مع المدلول ؟!…
فمن خلال ما سمعت وأسمع ، وجدت أنّ هناك عدم وضوح فكريّ كلّيّ ، وغموض في الاصطلاح بادٍ وواضح كلّ الوضوح … فهنا قلت بيني وبين نفسي بأنه يجب علينا نحن كحركة ثقافيّة وفكريّة ناشئة، جديدة ـــــ وفعلاً تطمح أن تكون جديدة ومميّزة ، ولِمَ لا !!… ـــــ أن تتوقف لتوضح هذه المفاهيم ، وهذه المصطلحات . وفي بداية ورقتي، التي قدّمتها إلى المؤتمر، كنت دائماً أتساءل، لأوضّح مضمون هذا المفهوم لنفسي ، قبل أن أنقله إلى الآخرين ، ما هو الحوار ؟!… هل مثلاً ما يجري من نقاش متعدّد الجوانب ، بين الرجل والمرأة ، في البيت ، ويتعلق بشؤون المنزل والمعيشة ، يمكن أن نسميَه حواراً ، حواراً حقيقياً ، بمعناه المنهجيّ والفكريّ والفلسفيّ والسياسيّ ، إلخ..؟... أم أنّنا نطلق عليه، كما يطلق عليه علماء الاجتماع ، " الفعل الاجتماعيّ " أو " العلاقات الاجتماعيّة " الخاصة والمميّزة والمحدّدة ، التي تنعقد بين الرجل والمرأة ، ضمن إطار العائلة وما يستتبع ذلك من أمور الحياة المنزليّة والمعيشة والتربويّة وخلافه ؟... وما الفرق بين هذه العلاقة الاجتماعيّة العائليّة ، والحواريّة التواصليّة في الأساس، وبين العلاقات " الحواريّة " التي تتمّ على صعيد السياسة ، أو على صعيد الأديان ، أو على صعيد ، كما نقول الآن ، " حوار الحياة " بين الناس من بيع وشراء وتواصل اجتماعيّ على مختلف المستويات ... أو حوار المثقّفين والمفكرين والفلاسفة ؟!… وقد ورد على لسان بعض الأصدقاء أنّه في أثناء الحرب ، كان المتحاربون أو المتقاتلون ، يتحاورون ، كلمة "يتحاورون "، فهل يصحُّ هذا التعبير هنا ؟… وهل هذا هو ما نقصده نحن من الحوار ؟!.. أم أنّنا يمكن أن نسميه بتسميات أخرى تنطبق على هذا النوع من علاقات المتخاصمين مثلاً: المفاوضات ؟…
هذه التساؤلات التي أطرحها الآن ، كانت قد استجدت في ذهني من خلال تحضيري للورقة التي قدمتها في هذه النّدوة … ويمكنني بهذه المناسبة أيضاً أن أطرح تساؤلاً من وحي الساعة ، مثلاً ، الاجتماعات التي تعقد في الظرف الحالي ، بين العرب وإسرائيل ـ والتي سوف تنتهي حتماً إلى تطبيع العلاقات ـ هل يمكن أن نطلق عليها اسم "حوار "، أم بالأحرى هي مفاوضات بين دول وقوى إقليميّة متخاصمة، كلّ واحدة منها تسعى إلى الدفاع عن مصالحها ، ومن أجل الوصول إلى أهداف محدّدة ، غالباً ما تكون ، في هذه الحالة ، مفروضة بطريقة أو بأخرى ، على هذا الفريق أو ذاك ؟!... بل ، وأكثر تحديداً ، إذا كان هذا حواراً ، فهو حوار بين مَن ومَن ؟... وهل هو يستوفي الشروط والمبادئ والأهداف التي نضعها أو نفهمها نحن من هذا المصطلح ..؟!... وكما أشار الصديق الأستاذ بشارة منسّى إلى أن حزب الكتائب والقوات اللبنانيّة ومنظمة التحرير الفلسطينيّة ، وأحزاب الحركة الوطنيّة، جميعاً ، فقد كانوا جميعاً " يتحاورون " أثناء الحرب ، وأحياناً خلال المعارك المحتدمة ، فهل هذا النوع من الـ marchandage ،هذا النوع من المساومة بين قوى سياسيّة وعسكريّة متخاصمة ومتناقضة ، نسميه "حواراً " ؟!…
فأنا أرى بأنّه يجب علينا ــــــ نحن كمثقّفين طليعيّين ـــــــ أن نعطي للكلمات مفاهيمها ، وللاصطلاحات معانيها الحقيقيّة ، ومحتواها الصحيح والمتنوّع ، حتى نفهم ، حقيقة ، ما نريد ونوضّح ما نهدف إليه، وكيف يمكن أن نصل إلى تحقيق غاياتنا القريبة أو البعيدة ...
ربّما يمكننا أن نسمّي هذه العلاقات أو الاتصالات العلنية أو السريّة ، "مفاوضات " بين سياسيّين أو عسكريّين !!... ولكن كلّنا يعلم بأنّ السياسة هي فنّ الممكن . وسياسة الممكن هنا لها هدف محدّد وهو الوصول إلى السلطة . والوصول إلى السلطة يبرّر الوسائل ، مهما كانت ، كما قال ذلك ، وفي رأيي، في هذا المجال السياسي وهو على حقّ ، معلم الجميع في هذا الشأن ، مكيافللي ... فهو على هذا الصعيد لم يكن خاطئاً أبداً ، وحروب اللبنانيّين المتتالية والمتنوّعة في ما بينهم ، خير شاهد على ذلك ..
فعندما يتفاوض السياسيون ، لا يجوز أن نسمّي هذا حواراً ـــــ بالمعنى الذي نقصده نحن بتعبير " الحوار " ـــــ ذلك أنّنا انطلقنا في تعريفنا لهذا المفهوم ــــــ من جملة ما انطلقنا منه ــــــ من مبدأ المساواة بين المتحاورين ، واحترام الآخر، إلخ ... والعلاقات بين السياسيّين ، إذا كانت تفتقد إلى شيء، فهي أنّها تفتقد إلى الوضوح والصراحة والصدق والمساواة بين المتحاورين ... أو الاعتراف بمصالح الآخر والاعتراف بقيمته ، بحريّته ، بوجوده ... إلى آخر هذه المفاهيم التي ذكرتها في ورقتي ..
يُقال على سبيل المثال أيضاً إن اللبنانيّين تحاوروا في " الطائف "، فهل كانت هذه اللقاءات و" الصراعات السياسيّة " و " المعارك الحقوقيّة "، وتداخل مصالح القوى الإقليميّة أو الدوليّة وضغوطاتها المتنوّعة ، هل كانت فعلاً " حواراً "، فأنا أطرح أولاً على نفسي السؤال ، قبل أن أطرحه على أيّ إنسان آخر ؟!… أم أنّه كان " تفاوضياً ــــــ نزاعياً " صراعاً سياسياً ،بين قوى سياسيّة وعسكريّة وطائفيّة ، موجودة على الساحة اللبنانيّة، ولها مصالح أو تعبِّر عن مصالح، متداخلة سياسية طائفية، وكلّ فريق في صراع مع الآخر من أجل الحصول على " مكاسب " أكبر ؟!… والأستاذ بشارة منسّى هو أعلم بهذا الشأن ، ومؤلفه في الموضوع شاهد على ما أقول ؟!… وقد طرحتُ هذا الموضوع في كلمتي، فهل نسمّي هذه اللقاءات بين النواب اللبنانيّين في المملكة العربيّة السعوديّة ، هو حوار بين ممثلي الشعب اللبنانيّ؟ …
وتساءلت بيني وبين نفسي ، هل جرت قبلاً دراسة سوسيولوجيّة ـ سياسيّة عن كيفية أو دوافع أو غايات إجراء المفاوضات السياسيّة في الطائف ، ومَن هي القوى السياسيّة التي كانت تتفاوض ، ومصالح مَن كانت تمثّل ، ومَن هي القوى العربيّة التي كان لها التأثير المباشر وما هي الأبعاد ؟… طبعاً نحن نتحدث في هذه الأمور بإطلاق ، دون الدخول في تحليل التفصيلات …
فالمواقف السياسيّة عندنا هي أقرب إلى ردّات الفعل ، بحسب المتغيرات في موازين القوى والمصالح… لقد أقمنا لقاءات وندوات عديدة حول اتفاقيّة الطائف من جوانبها المختلفة ، ولكن صدقوني إذا قلت بأنّ هذا الموضوع التاريخيّ ليس فقط لم يزدد وضوحاً وإنّما مواقف الأطراف المختلفة كان يُشار إليها بالعموميات ، وتخضع لمتغيّرات داخليّة أو خارجيّة ، الرأي العام لم يستطع استيعابها أو فهمها وإدراكها … في حين أنّ ما نرغب فيه ، هو أن نصل إلى رؤية علميّة حقيقيّة ، تعتمد على البحث العلميّ الميدانيّ ، لما يجري على الأرض في بلدنا: مَن هي هذه القوى ؟!… مثلاً، عندما نقول بأن الولايات المتحدة الأميركيّة تدخلت وكان لها دور أساسيّ في إنجاز هذه الاتفاقيّة ، اتفاقيّة الوفاق الوطنيّ في الطائف ــــــ وكلنا يعلم تمام العلم بأن الولايات المتحدة الأميركيّة كانت ركناً أساسياً ، وكان لها وزن سياسيّ ودبلوماسيّ ، في هذا الشأن ـ ولكن عن أيّ طريق ، وكيف ؟!... الرأي العام يريد رؤية واضحة ، تحليلاً واضحاً لهذا الموضوع !...
على كلّ حال ، في هذا الموضوع ، موضوع الحوار، لقد ازدّدت قناعة وتأكيداً أنّ هذا الأمر يحتاج منّا أن نوضّح هذه المفاهيم . أنا لا يمكن أن أسمّي ما يحصل بين السياسيّين اللبنانيّين ، هو حوار حقيقيّ ، بالمعنى العلميّ الذي نقصده نحن لمعنى الحوار، وإنّما ، كما يقول أنطوان مسرّة، على حقّ، هي "علاقات التكاذب "، أو " مفاوضات النّفاق "، و" المترسة "... وقد ذكرت ذلك في كلمتي وأشرت إلى هذا الموضوع إشارات واضحة ...
فإذن ، لا يجوز على الإطلاق أن نسميَ هذا " حواراً "، بل ربما نفاقاً سياسياً ، أو على الأقل ، ليس هذا هو الحوار في المفهوم الذي نعنيه ونطلقه نحن ، برؤية جديدة ، بمضمون جديد ، بواقعيّة جديدة ، وبهدف محدّد ... وهذا الهدف ، كما ذكرت في كلمتي ، من أجل تغيير المجتمع نحو الأفضل ولمصلحة الإنسان ، وحتى هذا التعبير الذي يبدو عاماً ـــــ الإنسان ــــــ يجب تحديده وتوضيحه : عندما نقول : لمصلحة الإنسان في لبنان ؟!… ماذا نعني بذلك ؟... يجب توضيحه ..
لذلك أرى من الأهميّة ، وهذه مناسبة ، ونحن كحركة حواريّة ، جديدة ، ناشئة ، وهذا هو المقصود من هذه الخَلْوة أن نتبادل وُجهات النظر والآراء، بهدوء وعلميّة وموضوعيّة، وأن تكون وقفة وعي ويقظة ، وحذر من استخدام المصطلحات والمفاهيم بكثير من العموميّة أو التسرّع ...
خشى البعض من أن نقع في التنظير أو التجريد أو البعد عن الواقع ... صحيح !... وهذه الخَشية في محلها ، ونحن من دعاتها ... ولكن ، أنا شخصياً ، صدقوني إذا قلت إني كنت أعتقد ، بأنّني منذ عشر أو خمس عشرة سنة قد " طلقت التنظير ثلاثاً ". ولكنني ، في هذا البحث ، عدت ورأيت أنْ ليس سيئاً كلياً وبإطلاق، التوقف أو الوعي المعرفيّ والمنهجيّ لفهم المصطلحات والمفاهيم التي نستعملها ... فنحن بحاجة إلى وقفات بين الحين والآخر، وقفات تفكُّر وتفكير وتعقّل وإدراك وبحث نظريّ في ما يجري في الواقع وفي أصل وطريقة استعمال هذه التعبيرات جميعها ومدلولاتها المتنوّعة ... ولاسيّما ، ونحن كمثقّفين ومن لبنان ، أنّنا نقع تحت تأثيرات فكريّة ومنهجيّة ، قد تكون صالحة ، وهي صالحة لمجتمعات متقدّمة وصناعيّة أخرى . ولكن قد تكون بحاجة، وهي فعلاً بحاجة، إلى بعض التعديلات ، أو إلى كثير من التعديلات ، إذا أردنا أن نطبّقها في مجتمعاتنا ...
لقد وجدت أنّ كثيراً من المثقّفين الذين يستعملون بكثرة تعبيرات شائعة عندنا ، في علم السياسة والفلسفة والاجتماع والأنتربولوجيا ، هي مستقاة من الخارج ويعودون ــــــ على حقّ ــــــ لفهم هذه التعبيرات والمصطلحات إلى مراجع وقواميس وعلماء أجلاّء ولهم وزنهم على هذا الصعيد ، ولكنّهم علماء أجانب من فرنسا أو الولايات المتحدة الأميركيّة، أو ألمانيا ..إلخ... وهؤلاء يعبّرون هم عن تطوّر مجتمعاتهم التاريخية والمعرفيّة والعلميّة والحضاريّة ... هذا صحيح... ولكن ، ما أطرحه على نفسي وما أطرحه أمامكم : هذه المفاهيم ، هل تصلح كما هي ، من الناحية الإبستمولوجيّة أو المنهجيّة المعرفيّة ، لفهم واقعنا ولفهم مجتمعنا في تطوّره المتشعّب والمتنوّع ؟!... سؤال أطرحه عليكم ...
قيل ، وهذا ما أشار إليه صديقي الدكتور جورج طربيه ، بأنّ حركة الحوار والثقافة في لبنان تريد أن تكون مميّزة ، لماذا ؟... وكيف ؟... طبعاً ، إذا لم تكن حركة الحوار الثقافيّ والديمقراطيّ مميّزة، فلا ضرورة لوجودها، ضرورة وجودها تنتفي ... مميّزة أولاً من الناحية المنهجيّة في العمل وفي التفكير .. وهي منهجيّة نحاول نحن كحركة ثقافية ناشئة أن تكون قائمة على الحوار والثقافة والديمقراطيّة ... أن نتحاور قبل كلّ شيء في ما بيننا ، حواراً صادقاً ، صريحاً ، موضوعياً، علمياً ... حتى نتفق على مضمون هذه المفاهيم والمصطلحات المستخدمة، وأبعادها المنهجيّة والعلميّة...
وقد تمّ التوافق في ما بيننا أيضاً على أن تكون منهجيتنا في العمل هادئة، غير انفعاليّة، وغير متسرعة ... بمعنى أنّنا نحن في لبنان نتصف بكثير من التسرّع ، اللبنانيّ يريد الوصول إلى غايته وهدفه بسرعة ... حرق المراحل ... إن كان طبيباً ، أو مهندساً ، أو تاجراً ، أو أستاذاً جامعياً أو طالباً: الجميع يريد أن يصل إلى تحقيق الهدف بأكثر ما يمكن من السرعة ومن الحصول على الفائدة المرجوة، وبأقل ما يمكن من الجهد ... وهذه ناحية طاغية في مجتمعنا .. نجدها كذلك عند الكثيرين عندما يقولون : يا أخي ! ماذا تفيد الدراسات والأبحاث والحوارات الفكريّة أو الثقافيّة أو السياسيّة ... نحن نريد نتائج ، نتائج عمليّة ، على الأرض ... كأنّنا نستطيع أن نصل إلى نتائج صحيحة ، سليمة مفيدة ، دون أن نبذل الجهد والصبر ودون أن نقوم بدراسات علميّة موضوعيّة سابقة .
أما المنهجية السليمة والعقليّة العلميّة ، هي على العكس من ذلك : الوصول إلى الغايات المرجوة ، إلى النتائج المأمولة إنّما يتمّ عن طريق الجهد والعمل المتواصل والصبر والدراسات وتحديد الأهداف ، ووضع منهجيّة في العمل تناسب طاقتنا وإمكاناتنا .
لقد وجدنا في لبنان أن كلّ واحد منّا في الواقع، يتعاطى السياسة ، ولكنه يعلن عليها حرباً في الظاهر ... وكلّ واحد يريد أن يكون زعيماً ، في مجاله أو في غير مجاله : بمعنى أنّ الفرديّة هي الطاغية علينا ، بل وأكاد أقول الأنانيّة . من هنا ، في ما أرى ، لم نستطع أن ننجح في العمل الجَماعيّ طويل الَّنفس وبعيد الهدف ..
لذلك ، في حركة الحوار والثقافة ، في جلساتها التأسيسيّة الأولى الضيّقة ، قلنا في ما بيننا لنتخذ منهجيّة مختلفة ، إذا كنّا فعلاً نرغب في أن نكون حركة ثقافية مميّزة ، صادقة ملتصقة بالواقع الحيّ ، وبالأرض ... يجب أن لا نتسرّع في بلورة أهدافنا تفصيلياً ، أو الإعلان عنها قبل نضجها ، وقبل إتمام تنظيماتنا الداخليّة وأوضاعنا الفكريّة ومنطلقاتنا المبدئيّة وتوضيح خطّة عملنا على المستويات المختلفة والأساسيّة ...
بكلمة ، لا يجوز التسرّع في الأمور الجديّة والتاريخيّة والمصيريّة . يجب علينا أن نوضّح على الأقل وقبل كلّ شيء آخر ، أهدافنا ومبادئنا ونرسم طريقتنا في العمل وأسلوبنا في التفكير .. وأن نضع منهجيّة في التحرك ، على أن لا تكون هذه المنهجيّة مطلقة ، جامدة ، بل تتناسب مع إمكاناتنا المتواضعة ... وبحسب هذه الإمكانيات ، فكريّة كانت أم ماديّة أم بشريّة ، أن نرسم وأن نضع منهجيتنا في العمل ...
وإذا كنّا فعلاً نغالي في المحافظة على استقلاليتنا ، فيجب كذلك أن نحافظ على الاستقلاليّة الماديّة وأن لا نتعاطى السياسة بمعناها التقليديّ اللبنانيّ وبمعناها الشائع وهو حبّ الوصول إلى السلطة بأيّ ثمن وعن أيّ طريق كان ... لذلك قلنا : الهدوء في التفكير والرويّة في العمل ، وتوضيح المفاهيم ، ورسم مخطّط عملنا ، حوارياً وديمقراطياً ، كلّ ذلك انطلاقاً من الاعتماد على العمل الجَماعيّ، وليس على العمل الفرديّ ...
الفرد العبقريّ !! أين هو ذاك الفرد العبقريّ ، الفذّ الذي لديه جواب عن كلّ مسألة ؟!... ربما يكون زمن العبقريات قد انتهى !! وابتدأ الآن زمن العمل الجَماعيّ ، العمل الديمقراطيّ الحقيقيّ ، والعمل الحواريّ بين مختلف التجارب الثقافية والإنسانيّة ، والفكريّة والسياسيّة .
فقلنا في حركة الحوار والثقافة ، فلنطبّق هذا المبدأ ــــــ العمل الجماعيّ ، الحواريّ ، المشترك ـــــــ في ما بيننا ، انطلاقاً وقبل أيّ شيء آخر ... فعلى هذا الأساس ، إذا نجحنا في تطبيق هذه المبادئ الأساسيّة ، وهذه المنهجيّة في العمل وفي التفكير وفي السلوك ، على الأقل ، وهذا رهان كبير ، نكون عندئذ وعندئذ فقط ، في طريق تكوين حركة ثقافيّة ــــــــ فكريّة مميّزة .
ولقد قيل كثيراً وطُرح هنا: فلتلتق الجمعيات الثقافيّة في لبنان في ما بينها ، وتتوحّد ، وترسم لها برنامج موحّد في عملها .. سمعنا ذلك ، وكنّا نحن قد قلناه في ما مضى ... ولكن للأسف الشديد ، ومن خلال الممارسة العملية والتجربة على الأرض ، بقيَ هذا الطرح في أحسن الأحوال شعاراً ــــــ لا مضمون لـه ــــــ شعاراً عاطفياً ، لا يحتمل أيّ مجال للتطبيق العمليّ . لماذا ؟... لأنّ الجمعيات الثقافيّة في لبنان ــــــ وأقول ذلك عن خبرة وتجربة ــــــ تحتاج هي ذاتها ، جميعها وكلّ واحدة منها على حدة ، أن توضّح أهدافها الديمقراطية ، أن توضّح مناهجها في العمل بما يتناسب مع المرحلة الجديدة ، لا أن يبقى الأسلوب تقليدياً ، بل أن تعيد قراءة تجربتها ومراجعة واقعها ...
أكثر من ذلك ، لقد وجدنا، وأشرت إلى ذلك في كلمتي، الجميعَ الآن يقولون وحتى السياسيّين، ويدعون إلى الحوار والعمل الثقافيّ ... وهم يطلقون تعابير واصطلاحات : الثقافة والعمل الثقافيّ والديمقراطيّة والحوار والتحاور ..إلخ... إنّما لغايات بعيدة كلّ البعد عن الأهداف الثقافيّة الحقيقيّة ومنطلقاتها .. من هنا التناقضات وهي كثيرة بين القول والفعل ، بين المعلن والخفي ، وبالتالي في داخل المؤسّسات الثقافيّة وفي ما بينها ... من هنا ، التعثر في العمل ، أو كما نقول عادة : الأزمة الثقافيّة العامة في البلد .
هناك رأي ، وأنا من هذا الرأي ، ولا أزال أردّده وهو أنَّه من الممكن الاتفاق والالتقاء حول برامج عمل مشتركة ومحددة بين هيئات ثقافيّة متقاربة في الفكر والمنهج وأسلوب العمل والأهداف . هنا، في ما أرى ، إمكانية العمل في أن يكون منتجاً ، نافعاً ، ويصل إلى شيء ما ... أما ما كان يجري في السابق ، من تجمُّع الهيئات الثقافيّة المتناقضة في لبنان ، المتناقضة إيديولوجياً، منهجياً، سياسياً ، طموحاً ، فقد برهن من خلال الممارسة العملية وعلى الأرض فشله ...
هنا ، أرجو أن لا يُفهم من كلامي إنّني ضد العمل الجماعيّ على صعيد الهيئات الثقافيّة في لبنان . لا ! على الإطلاق ! إنّني من أولئك الذين يؤيدون العمل الجماعيّ بين جمعيات ثقافيّة على صعيد لبنان ، انطلاقاً من منهجيّة واقعيّة على الأرض ، وانطلاقاً من تشابه في الفكر والمنهج والغايات ... أن تلتقيَ هذه الجمعيات المتشابهة والتي تريد أن تعطيَ للثقافة وللفكر دورهما الحقيقيّ والواقعيّ والهادف ، وتضع خطّة عمل لها موحّدة مرحلياً ... ولكن أن لا تجمع تجمعات ثقافيّة ومن كل وادٍ عصا وأن تقول هذا هو تجمع الهيئات الثقافيّة في لبنان ... فهذا النوع من العمل الثقافيّ التجميعيّ ، التناقضيّ ، أثبتت التجربة فشله الذريع في الممارسة العملية ...
إلى هنا ، أعتقد أنني قد أجبت ، ربما بشيء من التفصيل ، عن مجمل التساؤلات والأسئلة التي طُرحت عليّ ... وإذا كان لي من كلمة أختم بها حديثي ، فهي أنّنا نريد من حركة الحوار والثقافة في لبنان أن تكون فعلاً وحقيقة ، قولاً وعملاً ، فكراً وممارسة ، حركة جديدة ، حركة مبدعة، حركة خلاّقة .. أو لا تكون ...
* * *
هناك سؤال كان يتردّد على لساننا ، ولا يزال حتى الآن نردّده باستمرار : مَن نحن ؟... وهو سؤال يجب أن يُطرح علينا دائماً في لقاءاتنا الضيّقة أو لقاءاتنا الموسّعة : مَن نحن ؟... مَن هي حركة الحوار الديمقراطيّ ؟.. ما هي إمكانياتنا وإمكانيات حركتنا الناشئة ؟.. فبحسب هذه الإمكانيات البشريّة والفكريّة والماديّة ، والأجواء العامة والخاصة في مجتمعاتنا المحليّة أو العامة ، فبحسب هذه الإمكانيات، أقول وكما قلت ، يجب أن نبنيَ لنا خطّة عمل ثقافيّ ، تتناسب مع هذه الإمكانيات ... أنا مثلاً أريد أن أنتقل إلى مرحلة التنفيذ والتطبيق !!.. عال . أنفذّ ماذا ؟... ما الذي سأطبقه ؟!... وكيف ؟.. أريد أن أغيّر النظام اللبنانيّ !!.. عن أيّ طريق ؟... ما هي الوسيلة الفكريّة والعمليّة ؟... طبعاً : نستطيع أن نغيّر النظام اللبناني ، ولكن عن طريق اللفظيّة ، عن طريق الشعارات ، المعروفة والمستهلكة ... عن طريق المفردات المنتشرة الآن والخاوية من أيّ مضمون أو محتوى حقيقيّ واقعيّ . فيكون المقصود من ورائها أشياء بعيدة عن التغيير الحقيقيّ !!...
ومن الجهة الأخرى ، فقد ذَكَّرني صديقي طوني الراسي ، وهو أستاذ الرياضيات وذو العقليّة الرياضيّة ، ذكّرني بالطريقة والأسلوب في التفكير السائد في مجتمعنا : فنحن اللبنانيّين نميل بصورة واضحة إلى التلقين ، إلى السرعة ، بل إلى التسرّع في كلّ شئ ، إلى تحقيق ما نرغب فيه بأيّ طريقة وبأقرب فرصة ممكنة ... نحن اللبنانيّين نريد أن نصل إلى النتائج مباشَرة وبسرعة ، دون أن نمرّ غالباً بالمقدمات المنطقيّة وبالبدايات الضروريّة اللاّزمة: من هنا ، في ما أرى ، السرعة في طرح الأمور والتسرّع ... الوصول إلى النتائج : ولكن كيف ؟... عن أيّ طريق ؟... ومَن هو الذي يريد تحقيق أهدافه ، وما هي قواه وإمكانياته الفعليّة ؟... نحن ننساق بشكل عام رأساً إلى تضخيم قوانا الذاتيّة وإلى المبالغة فيها وإلى تغليب الجانب العاطفيّ الانفعاليّ في سلوكنا . من هنا الهُوّة بين الحقيقة والواقع ، بين الإمكانيّة الفعليّة والقدرة الواقعيّة على التحقيق والتنفيذ ....
فنحن الآن كحركة حوار ثقافيّ ديمقراطيّ في وضعيّة صياغة المقدّمات الضروريّة ـــــ إذا صحّ التعبير ـــــــ وتلمُّس الطريق ودراسة السُّبل التي سوف نسير فيها ونعبُر عليها لتحقيق أهدافنا ... كلّ ذلك بحسب إمكانياتنا الذاتيّة والموضوعيّة ، الفكريّة والبشريّة والماديّة في آن ...
نحن نريد أن نكون " شيئاً " جديداً ، خلاّقاً. ما هو ؟... هذا هو السؤال الكبير ، وهذا هو التحدّي ؟... نريد أن نكون ـــــ أو لا نكون ـــــ حركة ثقافية ديمقراطية جديّة، تطرح مختلف القضايا بالعمق المطلوب وبمنهجيّة حديثة، هذه القضايا المتنوّعة والكثيرة التي يُعاني منها المجتمع اللبنانيّ بشموليته ، ودون استثناء ، وبمنتهى الجرأة والشجاعة والحزم : طرح أيّ موضوع على بساط البحث والحوار والنقاش. ذلك أنّ أيّ موضوع وكلّ موضوع يدخل في صلب الثقافة : من القضايا الفكريّة والتربويّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وصولاً إلى القضايا السياسيّة وخصوصاً القضايا السياسيّة على أنواعها ... هذا إذا أردنا فعلاً ــــــ ونحن نريد ــــــ أن نكون حركة ثقافيّة وأن نكون أيضاً وبوجه خاص حركة تغييريّة ...
أنا أُقدِّر تقديراً عميقاً وصادقاً جميع الملاحظات أو الانتقادات التي قيلت بالنظر إلى حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان. ونحن هنا، في هذا الملتقى الثقافيّ الأول، فلكي نتحاور ونتناقش ونتبادل وُجهات النظر ، ولكي ينتقد بعضنا البعض الانتقاد البنّاء . وهذا أكبر إفادة لنا ...
فالملاحظة التي قيلت ووُجّهت إلينا ، وهي عندما نقول : حركة الحوار الديمقراطيّ هي حركة " مميّزة "، لا يُقصد بها على الإطلاق المعنى " السيئ "، معنى الاستعلاء، أو البعد عن الواقع، إلى آخر ما هنالك... وإنّما المقصود بها فقط الاختلاف ، وإلاّ لا مُبرر لوجودها ، الاختلاف عن التجمّعات الثقافيّة أو السياسيّة، أو السياسيّة ــــــ الثقافيّة الأخرى التي تكثر في هذه الأيام على الساحة اللبنانيّة ، كما نعلم ذلك جميعاً...
كلمة "مميّزة" لا تعني أبداً أنّنا سوف نعيش في برج عاجٍ بعيدين عن حركة الحياة بمعناها العميق ... وإنّما ، وهذه ناحية مهمّة برأيي ، ينبغي أن أشير إليها ، وهي تحتاج مستقبلاً إلى وقفات طويلة: كلمة مميّزة تعني في أذهاننا "طليعة ". لقد كنّا في السابق نرفض استعمال تعبير " النخبة " l'élite ، فهو تعبير برجوازيّ ، استعلائيّ ... ولكن ومن خلال التجربة المرّة التي مررنا بها ، التجربة السياسيّة والفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة ، وجدنا أنّ القيادات لم تكن على مستوى " الطليعة "، على مستوى القيادة الفكريّة والمسؤوليّة الثقافيّة العقلانيّة ، ولم تكن في انطلاقاتها السياسيّة تعتمد على الواقع ومصلحة الشعب اللبنانيّ الحقيقيّة ، بل كانت ترجح الاعتبارات السياسيّة الخارجيّة ، والعوامل الاستراتيجيّة الإقليميّة أو الدوليّة ، أو المصلحة الخاصة خصوصاً المصلحة الخاصة ، مصلحة الفئة أو الطائفة أو المنطقة ...
ولكن ، وكما قلت ، ومن خلال الممارسة العمليّة ، وعلى الأرض ، وبعد هذا الفشل العام والشامل لكلّ القوى السياسيّة وغير السياسيّة ، ومعها التجمّعات الثقافية في مجملها، لقد وجدنا كم نحن بحاجة الآن إلى " طليعة " حقيقية ، إلى " نخبة " ثقافيّة ، إلى قيادة فكريّة تصدر عن الواقع وتعبّر عنه وتلتصق به ، وأن لا تكون بأيِّ حال غريبة عنه ، لا الآن ولا مستقبلاً ... ذلك أنّ هذه الغربة عن الواقع ، الغربة عن الحياة الواقعية الحقيقيّة ، هذا الاستيلاب aliénation الفكريّ والسياسيّ ، يُستعاض عنه ويُموّه ويُحجب بشعارات عامة وجمل بلاغيّة وأسلوب إنشائيّ ، أصبح الآن مكروراً ومحفوظاً ...
من هنا لا يلبث أن يجد رافعو هذه الشعارات أنفسهم، عندما لا يتجاوب الرأي العام ، حتى المثقّف منه ، مع هذه الطروحات، يجدون أنفسهم في موقف حرج، في " أَزْمَة " : الجميع في أَزْمَة ، المجتمع في أَزْمَة ، القوى السياسيّة في أَزْمة ، الجمعيات الثقافيّة في أَزْمة . طبعاً أسباب هذه الأَزْمة طويلة وعريضة ، شاملة وعميقة في آن . ولكن أستطيع أن أشير إلى أبرزها ، وهو أنّ هذه الشعارات لا تتطابق مع الواقع الاجتماعيّ ، ولا تتناسب مع ظروفه التاريخية ، فهي غريبة عنه . من هنا هذا الانقطاع ، وهذا الانفصال بين القول والعمل ، بين الفكر والواقع الاجتماعيّ بين السياسيّين والمثقّفين وبين الرأي العام ...
هذا ، ولقد مرّ لبنان بتجربة منذ ما يقرب من ربع أو نصف قرن ، في غاية من الأهميّة . يمكن أن تُدرس هذه التجربة على مختلف المستويات : الاقتصاديّ يمكن أن يدرسها على صعيد الاقتصاد ، والسياسيّ يجب أن يدخل في أعماقها السياسيّة ، وكذلك المثقّف والمفكر والمؤرّخ وعالم الاجتماع وعالم النفس إلى غير ما هنالك ، كلّ يستطيع أن يبحث هذه التجربة الغنيّة من زاويته الخاصة وانطلاقاً من اختصاصه بالذات وأن يقوم بمراجعة عقلانيّة، علميّة، واقعيّة ، موضوعيّة ، لاستخلاص العِبَر والدروس التاريخيّة ، هذا إذا أردنا فعلاً أن نعود ونبني مجتمعاً جديداً ووطناً جديداً ...
ما دام جميعنا يُقرّ ويعترف بأنّنا كلنا فشلنا ، وكلنا أخطأنا . فلنتوقف إذن ولنتساءل بموضوعيّة وبتجرد : لماذا حدث هذا الخطأ أو هذا الفشل ؟... هذا السقوط؟ هذا الانهيار؟ هذا التراجع؟ هذه مسألة نراها مهمّة ، تاريخيّة . لا يمكن أن تتوضّح لنا رؤية المستقبل وأن نسعى إلى بناء مجتمع أفضل، إلاّ إذا توقفنا قليلاً وحاولنا أن نجيب عن هذه التساؤلات المقلقة والملّحة ... هذه منهجيّة في التفكير وفي العمل الجاد ، نراها أساسيّة وهذا ما نسعى إليه ... فكحركة ثقافية ديمقراطية ناشئة ــــــ أعود وأكرر ــــــ تريد أن تكون عقلانيّة، ملتصقة بالواقع وبالتجربة " المرّة "، علميّة، موضوعيّة ... فينبغي أن تصدر فكرة الثقافة وحركتها من الواقع، من "الأرض" وتلتصق بها . نحن لسنا منظّرين، بمعنى مجرّدين غيبيّين بعيدين عن الواقع . إطلاقاً . إنّما نريد أن تكون لنا نظرة عميقة وشاملة لتجربتنا اللبنانيّة من مختلف جوانبها .
لهذا، لا نتوقف كثيراً أمام بعض الاصطلاحات أو التسميات، ذلك أنّ بالنسبة إلينا تأتي فكرة التغيير كشيء أساسيّ ومنطلق رئيسيّ . وبالفعل ، فإنّ أيّ مثقّف لا يكون "تغييرياً " في الفكر وفي الفعل وفي السلوك ، تسقط عنه صفة الثقافة . فالمثقّف بطبيعته وتعريفه تغييريّ . وحركة الحوار والثقافة كحركة مثقّفين ، ملتزمين بقضايا المجتمع والإنسان ، عندما نقول ذلك ونعلنه ، لا يمكن أن تكون هذه الحركة إلاّ حركة تغييريّة بالمعنى الذي نعطيه نحن لمفهوم التغيير، بالمعنى العقلانيّ وبالمعنى العلميّ والمنهجيّ الموضوعيّ ...
كلمة أخيرة: بما أنّنا حركة ثقافية ناشئة ، فمن الطبيعيّ والحالة هذه أن نطرح ، منذ البداية ، للبحث والنقاش والحوار ، المفاهيم التي هي عنوان لهذه الحركة . لذلك فقد اخترنا لهذا الملتقى الثقافيّ الأول عنوانين أساسيّين : مفهوم الحوار ومفهوم الديمقراطيّة ... وليس المقصود أبداً إجراء بحث نظريّ ، مجرد أو غيبيّ... وإنّما وعلى وجه الخصوص ، حتى نتلمّس نحن أولاً كحركة تغييريّة ، معنى الحوار ومفهومه ، ومحاولة توضيح مفهومنا نحن للديمقراطيّة ... وهذا يتطلّب جهداً فكرياً مستمراً وصادراً من التجربة والمعاناة الاجتماعيّة والثقافيّة ...
هناك أمور أساسيّة ، مصيريّة ، تاريخيّة ، حدثت في حياتنا السياسيّة الماضية ، ولكننا للأسف الشديد ، لم نتوقّف أمامها لمراجعتها ونقدها وفهمها ولاتخاذ موقف علميّ مناسب منها ... فثمة خطورة ، خطورة حقيقيّة ، كامنة فينا وهي أن " المثقّفين اللبنانيّين " لا يقرأون كثيراً . أقول ذلك بمنتهى الصراحة . وإذا قرأوا ، لا يتابعون القراءة والمثابرة والصبر والاستيعاب . ولا يعرفون موضوعياً، عقلياً، علمياً، الواقع بتفصيلاته المتنوّعة والمتشعّبة والمعقدّة .
الكتابات الجديّة، على سبيل المثال فقط ، عن الحرب الأهليّة اللبنانيّـة ، أو عـن الأحـزاب السياسيّة في لبنان أو عـن غيرها من المواضيع التاريخيّة ، الاجتماعيّة والسياسيّة ، هذه الكتابات الجديّة نادرة إذا لم تكن مفقودة . النَّفَس العلميّ والبحثي قصير: نريد أن نصل بسرعة فائقة إلى " النتائج " وإلى " إعطاء الأحكام القاطعة "...
الثقافة ، والعمل الثقافي الجديّ ، إذا لم يرافقه معاناة فكرية ، معاناة حقيقيّة ، خلق وجداني، تسقط عنه صفةُ الثقافة والجهد الفكريّ . فالثقافة هنا كالحبّ ، لا يعرفها إلاّ مَن يكابدها ، مَن يعانيها ، مَن يعيشها بعقله وقلبه ووجدانه وحواسّه جميعها : هي صورة لعصرٍ ، ومرآة لمجتمع في منعطفاته التاريخيّة والاجتماعيّة . فإذا لم يحصل هذا "الانفعال " الجدليّ التغييريّ في ذاتك ، فلا تستطيع أن تؤثر في الآخرين ، أو تغيّر المجتمع ، أقلّه على صعيد الفكر والسلوك الفكريّ . فإذا لم يصبح مفهوم الثقافة ودورها ، أو مفهوم المثقّف ودوره، بمثابة عمليّة انفعال حقيقيّ ، تفاعليّ ، تأثير وتأثر بهذا الواقع الاجتماعيّ، لا للانجرار أو الانغلاق على هذا الواقع ، ولكن للتغلب عليه وتغييره ، تتحول الثقافة في هذه الحالة إلى " شهادة زور "، إلى تزوير أو تشويه للواقع ، إلى عملية استيلاب حقيقيّ...
إنَّ مضمون الثقافة الحقيقيّ ومفهومها الملتزم أن أتفاعل مع المجتمع ، مع قضاياه في الحاضر وفي الماضي، لتوضيح رؤية المستقبل وسُبُلِه، ومساره... كلّ ذلك بكثير من الصدق والوَعي والإرادة الصلبة للتغيير. وهذا، كما نرى ، ليس بيسير أو سهل المنال ... وهنا " الوجدانيّة " أو " الحلم" للتغيير وفي التغيير، ليس شيئاً سيئاً أبداً ، خصوصاً إذا اقترن بعقلانيّة وبموضوعيّة ...
سـؤال : ... إنّ مشكلة المثقّف في هذا العصر الذي نعيش فيه ، كما طُرحت في هذه النّدوة، هي أنّه يجد نفسه ملاحقاً يومياً بالقضايا المعيشيّة والقضايا الحياتيّة المعيشيّة والعائليّة .. إلخ.. فهناك هاجس ، هاجس عام في المجتمع لتحصيل الرزق وتأمين العيش اللائق ... فليس من قاعدة اقتصاديّة صحيحة تؤمّن متطلبات الحياة الصعبة اليوم للموظفين وللأساتذة والمثقّفين وأصحاب المهن الحرّة ومختلف الفئات الاجتماعيّة الأخرى ... فهذا الهمّ ، هذا الهاجس اليوميّ ، هو الذي يَصْرف الكثيرين ، خصوصاً الطبقات الوسطى ، عن الاهتمام بشؤون الفكر والثقافة والأمور الاجتماعيّة العامة ...
الدكتور مصطفى دندشلي ... هذا صحيح ... هذا صحيح ... الجميع يتحدّث عن ذلك ، عن هذه الأَزْمة الاجتماعيّة الخانقة ، والعامة ... هذا صحيح ومعروف ، والصحف تبرزه بكثير من التفصيل ... ونحن جميعنا ، عندما نتحدث في هذا الشأن ، نلقي المسؤوليّة رأساً على هذه " الأَزْمة "، على هذه الأَزْمة الاجتماعيّة العامة ... بل أكثر من ذلك ، فإنّ جميع " عيوبنا " وأخطائنا وأزماتنا ، وما فينا من خلل اجتماعيّ ، فكريّ ، سياسيّ ، في الوقت الحاضر، نلقيه ونعزو أسبابه إلى الحرب اللبنانيّة... صحيح !... الحرب اللبنانيّة تتحمل مسؤوليّة كبرى في هذا الشأن... غير أنّها ، في ما أرى، هي نتيجة وليست سبباً ... وأرى في الأعماق أنّ العلة الأساسية تكمن فينا، في نظامنا، في تركيبتنا الاجتماعيّة والسياسيّة والتربويّة ...
وهنا ، تحضرني تجربة شخصيّة ، اسمحوا لي أن أشير إليها : عام 1971 ، اشتغلت بالصحافة وقمت بإجراء تحقيق واسع حول دور النشر في لبنان، وطرحت السؤال على بعض الوجوه الثقافيّة التي كان لها علاقة مباشَرة بأمور صناعة الكتاب والنشر والتوزيع ، وصغته على الشكل التالي: لماذا اللبنانيّ ( بإطلاق ) لا يقرأ ؟... لماذا المثقّفون ( تخصيصاً )، هم أيضاً ، لا يقرأون ؟. وأجريت حول هذا الموضوع كثيراً من المقابلات الصحفيّة مع أبرز المثقّفين في هذا الشأن ، في ما أذكر ، وهم المرحوم الأستاذ بهيج عثمان ( وكان مثقّفاً كبيراً ) مدير دار العلم للملايين ، والدكتور سهيل ادريس صاحب دار الآداب ، وناجي علوش مدير دار الطليعة ... إلخ ... وهم من أهم دور النشر آنذاك في لبنان .. وكان ذلك عام 1971 ــــــ وكما نقول الآن بأنّ لبنان كان آنذاك في قمّة ازدهاره ( ؟ ) ورخائه وبحبوحته ( ؟ ) الاقتصاديّة والاجتماعيّة... فلقد اعترفوا جميعهم ـــــــ وهم أصحاب دور النشر ــــــ وأكّدوا أن "اللبنانيّ " لا يقرأ ، وأنّ بيروت تصنع الكتاب ولا تقرأه ، وأن اللبنانيّين يصدّرون الكتاب ويوزّعونه ، والقلّة هي التي تقرأه ... إلى غير ما هنالك .. فكان بحثاً طويلاً وشاملاً ...
هناك في الواقع ، مشكلة ، مشكلة أساسيّة ، قد تكون بنيويّة على صعيد الفكر والتربية والثقافة ، وبالتالي على صعيد السياسة ... وكما أشرت في كلمتي الصباحيّة ، فإنّ لبنان تسيطر عليه ما أسميه " بأيديولوجيّة مركّبة " ذي وجهَين متلازمَين : التجاريّ والطائفيّ ... كلّ واحد منّا ، في تكوينه الداخليّ وردّات فعله العفويّة ، ونظرته إلى نفسه وإلى الآخر ، هو " طائفيّ " " بالقوّة "، هو "مذهبيّ بالقوّة "... (وذلك لسيطرة هذه الأيديولوجيّة الطائفيّة العامة في البلد )... وهو أيضاً وخاصة تجاريّ بالقوّة ... بمعنى أنّ الواحد منّا يعيش : ينشأ ويترعرع ويتكون من ضمن ما أسميه "الأيديولوجيّة التجاريّة " السائدة والمهيمنة. فكلّ لبناني هو " تاجر " " بالقوّة "، بمعنى من المعاني ، أيّ عن طريق السعي إلى الكسب السريع والفائدة الكبيرة ، ولكن بأقلّ ما يمكن من بذل الجهد والمشقّة والتعب ...
طبعاً هناك استثناءات ، لحسن الحظ ، ولكن ما هو سائد ومسيطر ومهمين عامة ، هو ذاك: الأيديولوجيّة المركّبة ، التجاريّة ـ الطائفيّة الكامنة فينا ... والفئة التي كانت تقرأ ، وتهتم بالقراءة وتتابعها هي فئة المتسيّسين نسبياً ... وقد أشار بعض الذين أجريت معهم هذا التحقيق إلى أن المثقّفين الفلسطينيّين والمتسيّسين منهم ، هم أكثر قراءة من غيرهم بكثير وهم الذين كانوا يشترون الكتاب
لذلك عندما خرجوا من لبنان ، قال لي أحد أصحاب دور النشر مرّة ، إنّ مبيعات الكتاب في لبنان قد انخفضت إلى ما يقرب 70 ٪ ... طبعاً ، هذا رأي ، مجرد رأي ، يحتاج إلى نقاش طويل، أكثر عمقاً وتحليلاً وتفسيراً ... وإنّما أحببت أن أعرضه أمامكم بصورة عفويّة وتلقائيّة. ومن هنا أيضاً أهميّة هذه اللقاءات الثقافيّة . وذلك لكي نتصارح ، لكي يقول كلّ واحد منّا ما يعتقده ، دون أن يكون هناك مراقبة أو حرج أو أيّ اعتبار آخر ..[...]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نرى مزيداً في التوضيح أن نورد إجابة الدكتور مصطفى دندشلي على التعقيبات التي أعقبت البحث الذي قدّمه تحت عنوان "مفهوم الحوار والحوار الديمقراطي" في الملتقى الثقافي الأول المنعقد بتاريخ 10 نيسان (إبريل) 1994. وقد جاء في مستهل التعقيب الأول للدكتور أنطوان سعد أمين عام جامعة الحكمة – بيروت وأستاذ مادة العلاقات الاقتصادية الدولية، ما يلي: [...] "إنّ تعقيبي على محاضرة الدكتور مصطفى دندشلي إنّما هو إلحاح عليه أن يَعمد إلى نشر هذه الدراسة وتعميمها على الصحف وعلى المثقّفين كافة لأنّها بنظري ، وثيقة أساسيّة صالحة جداً للانطلاق في كلّ عمل حواريّ يتمّ في هذا الوطن" .