الأستاذ فائز إسماعيل (2)
مقابلات /
سياسية /
1989-08-08
المقابلة الثانية
مع الأستاذ فائز إسماعيل
الزمان والمكان : 8 آب عام 1989 ، طرطوس سوريا
أجرى المقابلة : د. مصطفى دندشلي
* * *
س : أستاذ ، بادئ ذي بَدء ، أودّ أن أسألك سؤالاً حول الناصرية في سوريا "شو" رأيك؟... هناك أحزاب وحركات ناصرية عديدة في سوريا . فما رأيكم في مستقبل هذه الحركات الناصرية والناصرية عموماً في بلد كسوريا ومن ثمَّ في الوطن العربي ؟...
ج : ما مرَّ القائد الكبير جمال عبد الناصر في تاريخ الأمة العربية مروراً عابراً . ذلك لأنّه لم يكن حاكماً في مصر وحدها وإنما كان قائداً عربياً . والعرب عَبر التاريخ ما خلَّدوا إلاّ الأنبياء والقادة العظام . أما الحكام ، فقد مروا في تاريخهم مروراً عابراً . هذا الرجل الكبير ، حين جاء إلى مصر ، لا جدال إنه أعطى كثيراً حين غيّر الصورة السابقة من نظام ملكي إلى نظام جمهوري ، من تغييب الجماهير إلى إبراز الجماهير . هنالك ظاهرة أهمّ بكثير : إنه انصرف إلى الأمة العربية برمّتها . وعبد الناصر كان يتصور أنه إذا حرك الجماهير ، فهو قد حرّك القومية العربية وقد وصل إلى ما يريد . الحقيقة التي يجب أن نقف أمامها ، وهي أنّ جماهير الأمة العربية سواءٌ قامت الأحزاب السياسية فيها أو لم تقم ، كلها بطبيعتها ، بتكوينها ، بعواطفها ، بما أخذته من التراث ، تعيش الروح العربية ، تعيش الفكر العربي ، ولكن بشكل غائم وغير واضح ، وغير واضح المعالم ، كما أشرنا في مقابلة سابقة . حين جاء عبد الناصر ، كان ثمّة نضال قومي في سوريا كبيراً . وهذا النضال القومي كان يتطلع إلى القائد . وكانت سوريا تفتقر إلى القيادة . وكل أحزابها السياسيّة القوميّة ، ما كانت تملك هذا القائد الذي توليه اهتمامها وتسلِّم إليه مقاليد أمورها وترى فيه أنّه هو المعبِّر عن مشاعرها. مجيء عبد الناصر : ما جاء عبد الناصر مجيئاً عابراً كمجيء الحكام، وإنما جاء من خلال المعركة. وما خلا عام من حكمه إلاّ وكان يخوض في هذا العام معارك لا حصر لها . هذه المعارك ، في الحقيقة ، هي التي وجهت أنظار الشعب العربي إليه وأخذت تتطلع إليه على أنّه المنقذ، وعلى أنّه القائد والأمل.
سوريا ، كما تعلمون ، بطبيعتها ومنذ زمن طويل ، وهي رائدة من روّاد القوميّة العربيّة ، ذلك لأنّ كلّ الجمعيات السريّة التي قامت زمن الدولة العثمانيّة ، كانت فيها كثرة كثيرة من السوريين. طبعاً ، حين أقول سوريا ، أقول سوريا ولبنان أو بالأحرى سوريا الطبيعية ، لأنّه ما كانت سوريا منفصلة عن لبنان وماكان لبنان منفصلاً عن سوريا . فلذلك كان رصيد عبد الناصر في سوريا أكبر من رصيده في أيّ بلد عربي آخر. وأستطيع القول : أكبر من رصيده حتى في مصر أيضاً ، لأن الخطّ الذي سار عليه عبد الناصر كان متكاملاً مع الخطّ الذي آمن به وناضل من أجله شعبنا في هذا القطر السوري المناضل . من هنا أقول : إنّ ثمانية عشر عاماً يصل فيها قائد كبير كعبد الناصر إلى السلطة ، وثمانية عشر عاماً تتفاعل فيه جماهير سوريا مع عبد الناصر ، هذه المرحلة لم تمر عبثاً ، وإنما تركت آثاراً عميقة في هذا القطر . لذلك ، الناصريّة قوية في سورية . وأستطيع القول : إنّ الناصري غير الملتزم (حزبياً) في سوريا أكبر بكثير من الناصريين الملتزمين . يعني لا يزال رصيد عبد الناصر موجوداً لدى كل الجيل الذي رآه على شاشة التلفزيون أو سمع صوته من خلال المذياع . نحن، وحزبنا ، حركة الوحدويين الاشتراكيين ، كما تعلم ، كان ردة فعل على الانفصال ، نحن جميعاً بعثيون في الأصل ، قادة من قيادات حزب البعث ، لا مانع أن نكون بعثيين في الفكر والسلوك ... حين قام الانفصال ، أنا أذكر بعد الانفصال بيومين ، يعني نحن كنا مع الذين أسهموا في التصدّي لهذه الظاهرة (الانفصالية) وتحريض الجماهير على التظاهر ضدها . وما مضى يومين إلاّ وكنّا في السجن على أساس أنّنا نحن السبب في التظاهرة . وكانوا (الانفصاليون) يقولون : إنّ كلّ القوى السياسيّة معنا (بمعنى أنها ضد التيار الوحدوي)، كل القوى السياسيّة بدون استثناء كانت تقول إنّها معنا (أي أنها مع الحركة الانفصاليّة) وأيدتنا فعلاً . أما الميثاق الذي وَقِّع عليه الانفصاليون في دمشق ، فقد وقَّع عليه من قِبل القوى السياسيّة برمّتها ، سواءً كانت رجعيّة أن تقدميّة .
ميثاق الانفصال ، بدي أعطيك منه نسخة . ميثاق وقَّع عليه مباشرة بعد الانفصال صبري العسلي ، ورشدي الكيخيا ، وخالد العضم ، وأيضاً أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار . ومضمون هذا الميثاق : الاعتراف بالظاهرة الانفصالية الجديدة وإدانة المرحلة السابقة . صلاح الدين البيطار وقّع على هذا الميثاق . هنا كانت المشكلة الكبيرة التي أّلمَّت بحزب البعث العربي الاشتراكي . إذن ، يجب عليّ أن أقف عند هذا الموضوع قليلاً . حين وُقّع على الميثاق ، نحن طبعاً سرنا ، تجمعنا من مختلف فروع البعث في القطر ، قيادات قرى القطر ، وتدارسنا الأمر ، كيف نبدأ ؟... أنبدأ باسمنا الطبيعي ، البعث ، ونحن الذين نمثل الحزب أم نبدأ بحركة جديدة ؟... فكان الرأي أخيراً أن لا ، يجب علينا أن نبدأ باسم حزب البعث . قلنا ، إذن ، لا يجوز أن نبدأ باسم البعث إلاّ إذا فُصل أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار ، لأنهما وقّعا على هذه الوثيقة . فهيأنا ، أعددنا وفداً لمقابلة الأستاذ ميشال عفلق ، قلنا له : أنت تعرف مَن نحن ، ونحن نمثل كلّ فروع الحزب ، فإذا وافقت معنا على فصل صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني باعتبارهما وقّعا على وثيقة الانفصال ، نحن نعمل باسم الحزب وأنت تكون عميداً لهذا الحزب . طبعاً ، كان عفلق يماطل مرة ومرتين وثلاثة وبعدئذ قال : أنا لا أستطيع أن أوافق على فصل صلاح الدين البيطار أبداً . إنّه رفيق العمر وأنا ملتزم به . والحقيقة ، ما وقّع صلاح الدين البيطار على الوثيقة إلاّ وبرأي ميشال عفلق بالذات وكان هذا الموقف هو ، في المضمون والأساس ، موقف عفلق ، مع بعض الاختلاف في الشكليات ، ذلك لأنّ كلّ تصريحات ميشال عفلق خلال تلك الفترة ، كانت تدين المرحلة السابقة وتهاجم جمال عبد الناصر .
س : لكن ميشال عفلق في ذلك الحين كان في بيروت ...
ج : كان في بيروت ، ولكن كانت تصريحاته كلها تصبّ في هذا المجال . حينذاك قرّرنا أن نبدأ من جديد وأطلقنا على أنفسنا اسم " حركة " وقلنا " حركة الوحدويين الاشتراكيين ". كنّا طليعة، طليعة الوحدويين الاشتراكيين ، فحركة الوحدويين الاشتراكيين ، فتنظيم الوحدويين الاشتراكيين فحزب الوحدويين الاشتراكيين . أربع مراحل مرّ فيها حزبنا . هذا بالنسبة إلينا نحن ، لقد وضعنا ميثاقنا وانطلقنا بعملنا . إلاّ أنّ الموضوع المفجع في الطرف الثاني هو كان عملية الرئيس جمال عبد الناصر . جمال عبد الناصر ، في الحقيقة ، لم يعالج ظاهرة الانفصال معالجة صحيحة بموقفَين إثنين: الموقف الأول : وهو رئيس دولة تدعى الجمهورية العربية المتحدة ، كان عليه أن يمارس دوره كرئيس دولة واحدة وكان عليه أن يتدخل بكل ما يملكه من قوّة عسكريّة من أجل ردع الانفصاليين وإنهاء الانفصال ، إلاّ أنّه لم يلجأ إلى هذا الموقف القوميّ والوطنيّ ، لأنّه كان في ذلك الوقت وطن واحد ، مع عملية قومية ، عملية وطنيّة ، لم يلجأ إليها . أرسل مجموعة من الكوماندوس وتخلّى عنها، ممّا جعلها تقع في أيدي الانفصاليين في اللاذقية . وكان المفروض عليه أن يرسل طيرانه ، يرسل جيشه ، يرسل قواته ، وينهي هذه الظاهرة ، ما أنهاها ...
س : يعني أنتم من الرأي الذي كان يدعو إلى التدخل العسكري لمنع عملية الانفصال ، هل كان هذا ممكناً في تلك الظروف العربيّة والدوليّة وكسوريين ؟...
ج : التدخل المباشَر ، طبعاً ، ممكن وما كان يمكن أن يستمر الانفصال يوماً واحداً . مجموعة عسكريّة صغيرة ، وكانت تنهي العملية هذه : لقد كان كلّ الشعب مع عبد الناصر والجيش معه. الجيش أصلاً كان محتاراً ، كيف يتصرف . لذلك العملية كان فيها تقصير كبير . هذه فجيعة كانت بالنسبة إلى شعبنا في هذا القطر وفجيعة أثَّرت على كلّ مسيرة الأمة العربيّة بعدئذ .
النقطة الثانية التي كانت فجيعة أيضاً بالنسبة إلينا نحن ، هي أنَّ الرئيس جمال عبد الناصر ، قد سار في طريق ما يمكن أن نقول عنه إنّه طريق التقوقع نسبياً ، التقوقع القطري . ذلك أنّه دعا إلى مؤتمر من أجل وضع ميثاق ، بمعنى ميثاق وطنيّ ، وكلنا تصورنا أنّ هذا الميثاق سوف نجد أنفسنا فيه ونجد طموحاتنا القوميّة في هذا الميثاق . لأنّه لا يمكن أن يصدر عن عبد الناصر إلاّ ما هو قوميّ وعربيّ .
س : شموليّ ، يشمل الوطن العربيّ .
ج : عبد الناصر ، الحقيقة ، أنهى موضوع ميثاقه في أيار 1962 ، أنهى هذا الميثاق وكنّا نتابع يومياً ما يجري من مناقشات في هذا الميثاق من خلال الإذاعة . أنا أقول إنّ هذا الميثاق كان نصراً وكان فشلاً : نصراً ، ذلك أنّ عبد الناصر لأول مرة في تاريخ حياته يقنِّن فكره ، يوضِّح ما يريد ، وفي الوقت نفسه ثمّة أفكار جديدة أضيفت إلى النضال الوطنيّ والفكر العربيّ سواءٌ على مستوى الديمقراطيّة أو على مستوى الاشتراكيّة أو على مستوى بناء الوطن والمواطن . ولكن كل هذا الكسب الكبير إذا أخذناه كما هو ، نقول إنّه حقَّق شيئاً إلى مصر من حيث تنظيمها. ولكنه من الناحية القوميّة العربيّة، كان هذا الميثاق فاجعاً . ذلك أنَّه لم يوجَّه الميثاق إلى الأمة العربية وإنما وجهه إلى مصر وسماه الميثاق الوطنيّ . ولم يكن ميثاقاً قومياً عربياً .
هذا من جهة ومن جهة ثانية ، إنّه حين جاء إلى الوحدة وكلنا كنّا نتصوَّر أنه يعبِّر عن إيمان قوي جداً في الوحدة وعن الالتزام بها وعن دفع الجماهير من أجل تحمل مسؤولياتها وأنّ الانفصال لم يؤثر فيه ، وإنما بقي الزعيم الوحدوي من أجل مضاعفة الجهد من أجل إعادة الوحدة ، وإذا به يقول إننا لا نقبل بقيام الوحدة إلاّ على أساس عودة الوحدة مع سوريا ، إلاّ على أساس استفتاء شعبي ، إلاّ بناءً على أسلوب ديمقراطيّ . وأنا أتصور أنه ليس للوحدة تاريخ قد تحقق في هذا الطريق . أصلاً لا يجوز لنا أن " نتدلَّل "، هذا إذا جاز لنا التعبير ، على شعار قوميّ كهذا . هذا الشعار لا يمكن أن توضع له شروط ، لكي نقبل به أو لا نقبل به . شعار الوحدة هو الذي يُملي علينا شروطه ، الشعار نفسه ، شعار الوحدة هو الذي يملي علينا شروطه . شروطه النضاليّة ولسنا نحن الذين نملي عليه شروطنا .
الحقيقة كان هذا ميثاقاً يُملي شروطه على الوحدة لكي يقبل بها وكأنّه يعني سوف يخسر إذا قامت الوحدة . هذه كانت الفجيعة الكبيرة بالنسبة إلى المناضلين في سوريا .
س : حول هذا الموضوع ، فإذاً برأيكم ، كما لاحظت ، بأنّ الجانب القوميّ ، جانب القوميّة العربيّة في الميثاق ، كان نوعاً ما باهتاً . يعني كنتم تطمحون إلى أن يكون التركيز أكثر على الجانب القوميّ العربيّ الوحدويّ .
ج : بالتأكيد ، ذلك لأنّ عبد الناصر بنضاله ، بمنجزاته ، بمواقفه القوميّة تجاوز الميثاق قبل أن يوضعه . لذلك طموحنا من عبد الناصر أن يضع الوحدة في مقدمة الأهداف ويعلن تحمُّله مسؤولياتها كافة ويدفع الشعب إلى أن يكون معه من أجل المعركة ، وإذا بنا وجدنا بالعكس ، وهذه كانت خسارة كبيرة بالنسبة إلى المناضلين .
وأنا أتصوّر أنّها كانت المنعطف للنضال القوميّ في تاريخ النضال القوميّ ، صدور هذا الميثاق وما أعقبه من إجراءات ، ذلك أنّه فعلاً لم يمارس أيّة محاولة وحدويّة في حياته بعدئذ . بعد عام 1962 حتى عام 1970 لم يمارس أيّة عملية وحدويّة مع أيّ قطر عربي آخر . وهذه اللحظة كانت نكسة وخطأ كبيراً وفجيعة كبيرة .
س : المحادثات ، على ذكر الوحدة ، محادثات الوحدة الثلاثية بين ثلاثة أقطار عربية : سوريا والعراق ومصر ، كيف تقيمونها ؟... لأنّها كذلك كانت محاولة وحدويّة ، وإنما فشلت في المهد.
ج : كما كانت عقدة الانفصال هي الموجِّه للميثاق الوطنيّ ، كذلك مباحثات نيسان 1963 ، كانت عقدة الانفصال هي التي توجّه هذه المباحثات الثلاثيّة ، وكانوا يملون على بعضهم البعض الشروط والشروط المضادة وكانوا يشكّون في بعضهم البعض . لقد كان يمكن ، مثلاً ، القطر العراقي ممثلاً بعلي صالح السعدي ، أن يكون ضدّ أيّة وحدة تقوم مع عبد الناصر ، ولكن الغالبية من البعثيين الذين يفاوضون عبد الناصر ، كانوا يريدون عودة الوحدة ، ولا يريدون عودة الوحدة كما كانت ، وإنما على أساس أن يتلافوا أخطاء الماضي . إلاّ أنّ الوفد العراقي ، كان دائماً وأبداً يضع شروطاً صغيرة . ممّا يجعل عبد الناصر يردّ عليها ، وتفشل الخطوات الإيجابيّة التي وصلوا إليها. لذلك فشلت مباحثات الوحدة الثلاثيّة . وسوريا وحدويّة بطبيعتها، إلاّ أنّ العراق انفعالي بطبيعته ، قطري بطبيعته، يعني ما كان في يوم من الأيام العراق وحدوي في تكوينه، ومنذ تكوينه، لأنّه لم يبن بناءً وحدوياً (!!)، وربما كان لموقعه من الجانب الشرقيّ من البلاد العربيّة وبعده عنها ، ربما يكون عاملاً من العوامل التي عزلته وشعوره بأنّه هو بداية وهو نهاية ، وليس له علاقة بالأقطار المجاورة له . لذلك لم يتحمل مسؤولية الوحدة في يوم من الأيام .
وإذا كان العام 1950 قد طرح موضوع مشروع الاتحاد مع سوريا ، فهذا كان طبعاً على أساس أن يكون العراق، القوّة الضاربة على سورية ، أن يكون هناك تاج للأمير عبد الإله ولي العهد، مع بلوغ الملك فيصل سن الرشد . يعني ، ما كان الموضوع مشروعاً وحدوياً بقدر ما كان ضمان تاج جديد لعبد الإله في سوريا . مشروع الوحدة في عام 1950 ما كانت إذن وحدة ، كانت عبارة عن تاج جديد لعبد الأله بالذات في سوريا .
س : وعبد الناصر في محادثات الوحدة . كيف يمكن أيضاً تقييم عمله ، هل كان من الممكن أن يتصف بشيء من الليونة والرغبة الحقيقية لإنجاز ما يمكن إنجازه بين الدول الثلاثة أم برأيكم كان هذا غير ممكن ؟...
ج : لو كان الموضوع بين سوريا ومصر ، لكان من الممكن أن يتمّ مشروع إعادة الوحدة . إما بحكم وجود العراق ، فهذا غير ممكن ومستحيل. ولهذا السبب، كل الدارسين يقولون وجود العراق هو الذي أفشل الوحدة ، وجود الوفد العراقي كطرف في المحادثات .
س : لنعد إلى سوريا ، ولمتابعة الحديث حول الناصريّة أو العمل الناصريّ في سوريا .
ج : قلت إنّ الجماهير في سوريا ، الجماهير الناصريّة أكبر من الأحزاب الناصريّة في سوريا ، نحن ، كما تعلم ، أول حزب ناصري وُجد في القطر ، بدليل أنّنا بدأنا عملنا التنظيمي من 23 آب 1961 ، أي بعد الانفصال بزمن بسيط . وطبعاً ...
س : آب
ج : آب 1961 ، في زمن الانفصال ...
س : (مقاطعاً) الانفصال حصل في أيلول 1961 ...
ج : في أيلول !! نحن بعد شهر ، عفواً ، بتشرين الثاني ، واحد تشرين الثاني عام 1963 ، نحن وقد بقينا في الساحة نستقطب الجماهير ، نخوض المعارك ، خسرنا كثيراً من الشهداء وكثيراً من أعضائنا فصلوا من وظائفهم ، كثيراً من أعضائنا أصيبوا بعاهات ، السجون ، لم يدخل السجون إلاّ الوحدويون الاشتراكيون والعاملون معهم حينذاك . لأنّه لم تكن هنالك حركة سياسيّة أخرى ناصريّة . نحن بقينا حتى عام 1964 . بعدما صدر الميثاق الوطنيّ 1962 في مصر ، صدر عام 1963 باسم الاتحاد الاشتراكي ، وفي عام 1964 جاءت الدعوة لقيام الاتحاد الاشتراكي في سوريا . وتعود للاتحاد الاشتراكي في سوريا قصة طويلة . لا أعرف إذا كان هناك داعٍ أن أتكلم عنها .
س : لا ، إذا كان باختصار حتى نصل إلى توضيح خريطة التيارات الناصريّة في سوريا...
ج : في الحقيقة ، نحن كنّا على اتصال مستمر مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر منذ عام 1961 وكنّا نرفض أن نلتقي مع أيّ موظف مخابرات في أيّ سفارة ، مع أي وسيط بيننا وبين عبد الناصر ، إلاّ إذا كان اللقاء مباشَر ، كنّا نرسل مندوبنا من سوريا إلى لبنان ويستقل الطائرة إلى القاهرة ويعود إلى لبنان ومن هناك إلى سوريا . هذا كان طريقنا نحن . وللتاريخ أؤكد لك أنه كان لنا رسولان، الرسول الأول هو زهير عقاد وهو الآن مدير شؤون القنصليّة في وزارة الخارجية السورية، وكان الرسول الثاني محمد الخيّر رحمه الله . وكان الاثنان من الطلائع الجيّدة جداً وناضجين . والاثنان طبعاً من ضمائر البعث في الماضي . وكانت قيادات البعث معنا . في عام 1964 طُلب منّا ، من القاهرة ، أن نشترك في الاتحاد الاشتراكي . أرسلنا من سوريا الأخ محمد الخيّر إلى بيروت حيث عقد المؤتمر هناك . وكان رئيس الاتحاد الاشتراكي حينذاك نهاد القاسم . وبعض الحكام أمثال عبد الوهاب حَوْمد ونهاد القاسم وغيرهما كوّنوا حينذاك تنظيماً دعوه بالجبهة المتحدة . ولكن لم تكن ذات تنظيم جماهيري شعبي إلاّ حين انضم إليها محمد الجراح . بعدئذ ، كان الاتحاد الاشتراكي يبدأ البدايات الأولى في سوريا وكان من جملة المشاركين فيه : القوميون العرب . إذاً ، الاتحاد الاشتراكي تكوّن من أربعة تنظيمات هي : الجبهة العربية المتحدة والقوميون العرب والاتحاد الاشتراكي والوحدويون الاشتراكيون . وكان يمثل القوميين العرب هاني هندي ويمثلنا نحن محمد الخيّر ويمثل الجبهة العربية المتحدة نهاد قاسم والاتحاد الاشتراكي، والله لا أذكر الآن مَن (...)، فهذا التنظيم كان قائماً ، ثم ما مضى زمن قصير حتى أصبحت أنا ، وكنت من القيادة السورية . عملنا ، نحن ، قيادة في سوريا وبدأنا نعدُّ العمل وأعلنا أنّه يجب أن نبدأ العمل بادئ ذي بدء على كافة التنظيمات الموجودة وأن تكون كلها اتحاد اشتراكي .
س : هنا سؤال توضيحي إذا سمحت : الأمين العام للوحدويين الاشتراكيين ؟!...
ج : نعم ، كنت أنا الأمين العام
س : منذ التأسيس ؟...
ج : لا ، إذن ، يجب أن أحكيلك كيف صارت وتطورت الأمور : بالنسبة إلى الوحدويين الاشتراكيين ، حين اجتمعنا في دمشق ، اجتماعاً تنظيمياً ، كنّا عدداً يقارب التسعة أعضاء ، تدارسنا من يجب أن يكون أميناً عاماً . في الحقيقة كان النضال والحركة والمواقف السلبية والنضالية والبطولية والضحايا ، كانت أغلبها من حلب . في أيام الانفصال خاصة ، نحن كنّا نخوضها (معركة وحدوية) ولكن نحن بحكم وجودنا في حلب ، غير قادرين على أن نتحرك في دمشق . لذلك نحن طرحنا وقلنا أن تختاروا شخصاً من دمشق يكون هو أميناً عاماً ، فما أمكن أن يُسمّى شخص إلاّ سامي صوفان في حينه . فدعونا سامي صوفان أن يكون هو أميناً عاماً للحركة . وطبعاً سامي صوفان استمر في العمل كأمين عام للحركة إلى أن وقعت (حركة الانقلاب الناصري) في 18 تموز 1963 . في 18 تموز 1963 غادر صوفان سوريا إلى مصر ، لأنّه كان من جملة المتهمين فيها . وحينذاك فُرِّغت كل وثائق الحزب ، صودرت ، وجرت أمور كثيرة واعتقلنا نحن أيضاً في سوريا . ومنذ ذلك الحين بدأت أنا : فكلّ القيادات طلبت مني أن أستلم الأمانة العامة . فاستلمت الأمانة العامة وبدأت جولة على كلّ فروع القطر ، أعيدها من جديد وأنظمها من جديد وأكوِّن لها ذاتيات جديدة ونبدأ نضالنا السري في حينه . ومنذ 23 آب 1963 حتى الآن بقيت الأمين العام للوحدويين الاشتراكيين .
س : إذن ، الاتحاد الاشتراكي تكوّن من أربع مؤسسات ناصريّة أو وحدوية .
ج : هنا ، نرجع إلى الاتحاد الاشتراكي ، طبعاً العرين هو سوريا ، أما القيادة السياسيّة فكانت موجودة هناك (في مصر). كنت أجد أن القوميين العرب يصدِّرون نشرات تحت اسم صوت الجماهير وباسم القوميين العرب , وكنت أجد أيضاً أنّ الآخرين يدعون أعضاءنا الذين طلبنا منهم أن يتركوا العمل الحزبي لأنّهم جميعاً برسم الاتحاد الاشتراكي ، كانوا يدعونهم لكي يدخلوا في أحزابهم . فوجعت بهذا الموقف ، فجابهتهم بالأمر ، وقلت لهم إنّني أجد كذا وكذا .... نحن كنّا صادقين بموقفنا ، ولكن لا أجد صدقاً من أحد منكم . طبعاً ما تجاوبوا ، راوحوا ، لفوا ، جئت إليهم ببياناتهم ، جئت إليهم بالأشخاص الذين اتصلوا بهم ، جئت إليهم بالاجتماعات التي عقدوها ، كل هذا طرحته أمامهم ووجدت أنّه لا يمكن العمل معهم . لذلك ما مضى عام أو أقل ، إلاّ وانفصلنا عن بعضنا البعض وكل حزب رجع إلى نفسه وعدت من جديد إلى تنظيم الحزب ، الوحدويين الاشتراكيين .
يعني أنا في مرتين نظَّمت الحزب بعد 1963 . وبهذا الشكل استمرينا وإذا بالاتحاد الاشتراكي بدأ حزباً لا يهمه إلاّ التصدي لنا والصراع معنا. وإذا بالقوى الناصرية الأخرى تشعر بأنها لا تستطيع أن تشق طريقها في هذا القطر ، إلاّ إذا صدَّت الوحدويين الاشتراكيين . وكنّا نصدر البيانات أن الحزب الوحدوي لا يعادي الوحدويين . وكنّا نؤكد لهم بأن الهدف واحد لنا جميعاً ، إلاّ أنهم لم يكونوا يستوعبون هذه الأمور وخاضوا معنا معركة ، ولم نحاربهم مرة واحدة ، لأنّنا نحن كنّا نعمل للهدف نفسه ، ولم ندخل في معارك جانبية مع أحد .
الناصرية في سوريا ، الحقيقة ، بدأت بدايات غير سليمة ، ذلك أنّه تكوّنت هذه الناصرية من كل مَن هو خصم للبعث ، فقد عُدّ ناصرياً . أي أنّه التقى في صفوف الرجعية والتقى أيضاً في صفوفها غير الرجعية ، ولذلك تكوينها لم يكن تكويناً صحيحاً وما كان يعبِّر عن موقف قومي حقيقي ، لأن أعداء البعث قد كان ينحصر فيهم الرجعي وكلّ الرجعيين أطلقوا على أنفسهم اسم اتحاد اشتراكي، لكي يختبئوا وراءه . البرجوازية اجتمعت وراء الاتحاد الاشتراكي لكي تحارب البعث لأنه كان البعث يطبق مبادئه الاشتراكية بالتأميمات وكان في صراع بينه وبين البرجوازية الوطنية والإقطاعيّة السوريّة .
نحن ، في الحقيقة بدأنا بدايات صحيحة وانصرفنا إلى جماهيرنا وبدأنا نغزيهم بالفكر القومي ونشرح فوائد الوحدة وضرورتها والابتعاد كلياً عن أيّة معركة جانبية مع القوى الوحدوية الأخرى. الاتحاد الاشتراكي لم يبق في موقع واحد وإنما أخذ مواقع متعددة وانشق على بعضه مرات عدّة ، حتى الأطراف الأخرى التي كانت معنا كلها انشقت ، الذين كانوا معنا كلهم انشقوا عن بعضهم البعض وبدأوا الصراع بين بعضهم البعض وبدأوا يصدرون نشرات تهاجم بعضهم البعض ، ونحن استمرينا في النضال وبقينا ...
س : ما هو تقييكم مثلاً لدور الدكتور جمال الأتاسي وهو من البعثيين السابقين ومن ثمَّ اتجه الاتجاه الناصري ، وأعتقد أنّه في فترة من الفترات تبوأ رئاسة الاتحاد الاشتراكي ؟!...
ج : جمال الأتاسي أعرفه منذ أيام البعث ، منذ الأربعينات والخمسينات وكنّا في حزب واحد ، وكان بعثياً ، وكان يتميز عن سواه أنّه كان يكتب كتابات جيّدة وأغلبها كان مترجماً . إلاّ أنّه حين قامت الوحدة ، كان جمال الأتاسي قد تقرب من النظام في حينه واستلم جريدة الجماهير وصدر من هذه الجريدة 82 عدداً . وكان معه أيضاً إميل شويري في هذه الجريدة . بعدئذ تغيّر موقفه. وحين قام الانفصال بقي في الجوّ الذي كان فيه ، ولم يظهر له أيّ تحرك ولا أيّ نشاط ولا أيّ موقف .
حين قامت ثورة 8 آذار 1963 ، كانت علاقته وثيقة بحزب البعث ، فعاد إلى الحزب وأصبح وزيراً للثقافة والإرشاد القومي في حكم حزب البعث العربي الاشتراكي ، بعد 8 آذار أصبح ممثلاً لحزب البعث . في هذه الفترة كان له نشاط في الحزب بشكل بارز . ويؤكد جميع الدارسين بأنّه هو الذي أجرى لأمين الحافظ قسمه الحزبي ، أو ، على أقل تقدير ، هو الذي حضَّر قسم أمين الحافظ لحزب البعث العربي الاشتراكي في عام 1963 بعد عودته من البرازيل . ولكن بعد زمن (تموز 1963) كان هنالك بعض الفجوات بينه وبين البعثيين ، وما شعرنا إلاّ وأنّه بدأ اتصالاً جديداً مع القاهرة من خلال الدكتور سامي الدروبي الذي كان سفيراً لنا هناك ، وكوّن علاقة وبدأ يعلن أنّه سوف يعمل من أجل الناصرية . وذهب إلى بيروت وأخذ موافقة من نهاد القاسم في حينه على أن يكون هو أمين عام الاتحاد الاشتراكي : أولاً لم تكن ثمّة أمانة حينذاك ، بعدين أصبح أميناً عاماً للاتحاد الاشتراكي . وكان حوله مجموعة من الناس يحضرون دائماً إلى عيادته ويتكلمون في السياسة منهم كمال غالي وفوزي كيالي وفوزي عيون السود وكثيرون أمثالهم . وكلّ هؤلاء مسيَّسون ، ولكن لم يكونوا ملتزمين بأيّ تنظيم سياسي قائم فعلاً . إلاّ أنّه بغفلة من الزمن ، ما شعرنا إلاّ وأنّه سمّى فوزي كيالي معه في الوزارة ، ثم سُمي في الجبهة . وبعد زمن قصير انقض عليه فوزي كيالي ، واستلم الأمانة العامة ، وسمّى فوزي كيالي عناصر تعمل معه ، وكان في مقدمتها صفوان قدسي . وما مضى زمن إلاّ وانقضَّ صفوان قدسي على فوزي كيالي ، واستلم مكانه، طبعاً بعد إدانته : يعني لم يستلم أحد موقعاً إلاّ بعد إدانة الطرف الآخر والتهجم عليه وصدور نشرات تدينه. وطبيعي صفوان قدسي أيضاً، بينه وبين الأطراف الأخرى ، جرى صراع كبير جداً : يعني كان الأمين العام إسماعيل القاضي ، وكان هو الأمين العام المساعد ، فانقضّ عليه للأمانة العامة واستلم منه الأمانة . كان بينه وبين يوسف الجعيباني وحدة ، ولكن انشقوا على بعضهم البعض وأصبح كل واحد له حزبه والآن الصراع لا يزال قائماً في الاتحاد الاشتراكي ، ونتمنّى له أن ينهي صراعه هذا ويعود حزباً واحداً . ذلك لأنّه الآن في سوريا وجود : تنظيم جمال الأناسي ، تنظيم صفوان قدسي ، تنظيم إسماعيل القاضي ، تنظيم قواعد الاتحاد الاشتراكي، وهو تنظيم قائم بذاته ، وتنظيم الحوار الناصري ، هذه الأحزاب الخمس كلها اتحاد اشتراكي ....
فلذلك أنا أقول إنّ الناصرية في سوريا لا مستقبل لها كناصرية ، لأنّها لم توضِّح ماذا تريد . حين نسأل الاتحاد الاشتراكي ما هو فكركم ، يقولون لنا : الميثاق الوطنيّ . نقول لهم: الميثاق الوطنيّ خاص بمصر . أين هو الفكر الذي تدينون به ؟ ... وحين يكتبون في الصحف وفي صحيفتهم يقولون إننا (ننسخ) فكرنا من فكر الرئيس جمال عبد الناصر وفكر القائد حافظ الأسد . هذا كان كلامهم : والآن يعتبرون أنفسهم أنهم يأخذون بفكر الرئيس حافظ الأسد . وطبعاً هذه هي الناصرية في الاتحاد الاشتراكي . نحن ، في الحقيقة لم نقف عند فكر عبد الناصر ولم نقف عند فكر حزب البعث وإنما تجاوزنا فكر الاثنين معاً . كان فكرنا في الماضي يقوم على دعائم ثلاث : الوحدة والاشتراكية والحرية . ووضعنا الترتيب بهذا الشكل لأهمية الشعارات أن الوحدة أولاً فالاشتراكية فالحرية . في عام 1970 ، كانت لي دراسة تقدمت بها لأخواني في المؤتمر وقلت لهم : نحن ، يجب علينا أن نعيد النظر في شعاراتنا ، نحن أمة عربية واحدة ، وكل أمم الأرض لها هدف واحد وهو أن تحقّق هدفها القوميّ ، أن تحقّق وحدتها القوميّة . نحن إذن يجب علينا أن لا نضيِّع جماهيرنا في المفاضلة بين الأهداف : الوحدة قبل ، الاشتراكية قبل ، الحرية قبل . لذلك يجب أن يكون شعارنا قيام دولة العرب الكبرى الاشتراكية ، إذن يجب أن يكون شعارنا الوحدة الاشتراكية . شعار الوحدة لحاله ، يدفع الحكام العرب كافة إلى أن يدَّعو أنّهم وحدويون ، لأنّ هذا لا يكلّفهم شيئاً . أما حين نقول لهم : وحدة اشتراكية نتميز عنهم ولا يستطيعون أن يدعو إلى شعار كهذا. الوحدة الاشتراكية ، يعني وحدة الكادحين العرب : أن يستلموا هم السيادة ، كيف ؟... نحن نقول من البداية : النضال ، نضال الكادحين هو طريق الوحدة الاشتراكية وفي الوقت نفسه يستمر هذا النضال إلى أن يستلم الكادحون سدّة القيادة في الوطن العربي . وهذا لا يتمّ إلاّ من خلال التنظيمات الشعبيّة ـ القوميّة الموجودة في الوطن العربي . وهذا الشعار فسرناه وشرحناه ، وثمّة كثير من الدراسات حوله وأصبح الشعار الذي نُعرف به ، نحن ، دعاة الوحدة الاشتراكية. ولسنا من دعاة شعارات متعددة بالنسبة إلى الأمة العربية، ونعتبر أنّ الوحدة الاشتراكية ثورة الأمة العربية في التاريخ .
س : جمال الأتاسي حاول أن يوفق بين الناصرية والماركسية ، فإلى أيّ مدى نجح ؟... وما هو تقييمكم لهذه التجربة .
ج : جمال الأتاسي يعتمد على كلمة وردت في الميثاق كلمة الاشتراكية العلمية ، ويقول إنّ عبد الناصر دعا إلى الماركسية ، ونحن يجب علينا أن نتبنى الماركسية . حضرت أنا حواراً في هذا الموضوع معه وكان مصراً على أنّ الماركسية هي الطريق (الوحيد للاشتراكية). وطبعاً ، أنا لا أزال أذكر أنني حين حضرت ندوة الاشتراكية العربية في الجزائر في أيار 1967 ، وفي هذه الندوة كان ممثل جمال عبد الناصر وزير العمل السابق ، لا أذكر اسمه ، بالتأكيد كان يقول : الاشتراكية العلميّة التي دعونا إليها هي الاشتراكيّة التي تقوم على العلم وجمعت العلم كله . وكان يقصد بهذا التوضيح بالنسبة إلى الميثاق ، لأنّه كان هنالك بلبلة ، إلاّ أنّه بقي جمال الأتاسي مصراً على الأخذ بالاشتراكيّة العلميّة وهذا ما دفع الكثيرين إلى التخلّي عنه لأنّهم ما قنعوا يوماً بأن تكون الاشتراكيّة العلميّة هي اشتراكيّة ماركس .
س : لنتابع حديثنا عن عبد الناصر ، كما تعلم وأنت أكثر من غيرك تعلم بأنّ عبد الناصر، كظاهرة قوميّة في الوطن العربي ، ظاهرة فريدة فعلاً ، استطاع بمدة وجيزة من الزمن أن يستقطب نفوس الجماهير العربيّة، عواطفهم وعقولهم، في الوطن العربي. وهذه ظاهرة كذلك ملفتة للنظر أن يتمّ هذا الحوار المباشَر بين القائد وبين الجماهير بشكل لم يُعرف فيما أعتقد في بلادنا من قبل ، بل وحتى أكثر من ذلك في باقي البلاد الأخرى ، وبخاصة العالم الثالث، هذا الاستقطاب الجماهيري ، هذه السيطرة على عواطف وعقول وقلوب الجماهير لدرجة أنّ عبد الناصر رُفع في بعض المراحل وفي أذهان بعض الجماهير العربية إلى مرتبة النبوّة ، هذا الاستقطاب قد استمر على الرُّغم من بعض الهزائم وبعض النكسات التي مُنِيَ بها عبد الناصر. مثلاً ، من الملفت للنظر وحتى عالمياً ربما ولأول مرة في التاريخ حاكم يخوض معركة فيخسر هذه المعركة وفي نفس اللحظة الجماهير تعيد تتويجه على رأس السلطة في مصر بعد عام 1967، أي الجماهير التي نسميها 9 و10 حزيران . كذلك وفاة عبد الناصر كانت مناسبة أعتقد تاريخيّة فريدة من نوعها في وطننا وفي العالم: هذا الحزن الجماهيري العام ، العميق والشامل ، في جميع البلاد العربيّة . الآن ، أنتم كناصريين وكمؤمنين منذ البداية بهذا الاتجاه الوحدوي وبشخصية عبد الناصر. كيف تقيِّمون هذه الظاهرة، هذا الاستقطاب الجماهيري الذي استطاع هذا القائد، الزعيم، أن يحصل عليه، هذه ناحية، وناحية أخرى أين هي الآن هذه الجماهير الناصرية ؟...
ج : سؤال وجيه جداً وهام بنظري جداً . أريد أن تعلم جيداً أنّ شعبنا العربي عَبر مراحل التاريخ كان يتطلع دوماً إلى قائد يقوده . وكان يفتقر إلى هذا القائد . تصوّر أنّه أعطى الكثير من احترامه وتقديره لقادة عسكريين: مثلاً حين تقول صلاح الدين الأيوبي!... صلاح الدين الأيوبي خاض معركة وحقّق فيها نصراً للعرب ، لا يزال حتى الآن موضع تقدير واحترام كل العرب . وكذلك الآخرون ، لقد كنّا حين نُعْدَمُ هؤلاء القادة وتفتقدهم لا نجدهم ، نفتقرهم ، كنّا نخلق هؤلاء القادة من خيالنا ونذكر كثيرين منهم في تاريخنا ... وثمّة قصص لا حصر لها منتشرة بين أيدي العامة حول أبطال في الخيال .
إذن العربي مولع بطبيعته بأن يجد أمامه " البطل "، يفتش عنه ، وبطل يملك صفات القيادة . فهذا البطل بعد الخيال الطويل الذي عاشوه تمثّل بشخص . لأنّه ما جاء عبد الناصر ، كما قلت سابقاً ، من فراغ وإنما جاء من خلال المعركة ، من خلال الموقف ، وسجل مواقف أمام الجماهير ، تعلقت به هذه الجماهير ، وقالوا هذا هو البطل الذي ننشده .
وفعلاً تحقّق أملها لأنّه استمر بمواقف البطولة وما عاش استراحة المحارب . كما هو عادة كثيرين من القادة . استمراره في المعارك شدّ إليه الجماهير وحين اتجه إلى الجماهير هو نفسه ليشهر زمامها ويدفعها إلى تحمّل المسؤوليات معه وكان البلسم لأمراضها ، حين حلّ المشاكل الاجتماعيّة في سوريا ومصر من خلال التأميمات ومن خلال الإصلاح الزراعي ومن خلال إعطاء العمال والفلاحين ميِّزات في مجلس الأمة ، هذه المواقف كلها جعلت الجماهير تشعر أنّه هو أملها ، وهو رجاؤها .
إذن أنا أقول إنّه قناعة الجماهير بأنها وصلت إلى قائدها مما جعلها تشعر بأنّها الآن هي ملزمة بأن تعطي وتعبّر عن استعدادها للبذل والتضحية مع هذا القائد . وطبعاً الجماهير ليست هي جماهير سوريا ومصر فقط ، وإنما ، جماهير الأمة العربية برمّتها أنشدت إلى مواقف النضال التي كان يقودها جمال عبد الناصر حينذاك . وعبد الناصر كان موجوداً في كلّ الوطن العربي بمعاركه ضدّ الأجنبي والاستعمار وضدّ حتى الرجعية العربية التي كانت موجودة في الأنظمة وخارجها . فهذا هو الذي خلّى الجماهير تنشد لعبد الناصر . ذلك لأن تعلقها بالقائد ، وهي تفتش عن القائد في أيّ مجال كان ، قد لاقته عند عبد الناصر فأنشدت إليه فيه .
هذه الجماهير الناصرية أقول : أين هي الآن ؟!... هذا هو سؤال ، ثق أنّ معركة قوميّة واحدة يخوضها أيّ قائد عربي الآن يحرك كل الجماهير الناصرية التي كانت وراء عبد الناصر . وأنا قلت إنّه حين يخوض معركة قومية الرئيس حافظ الأسد وهو الوحيد المهيأ لأن يكون هذا القائد ، لأنه كل الآخرين حكام . هذا لا يزال حتى الآن يطرح شعاراته القوميّة ويعيش من أجلها ويتحمل المسؤوليات من أجلها . حين يخوض معركة قومية وحتى لو لم ينتصر فيها ، سوف يشدّ الجماهير العربيّة كلّها إليه. لأنّ الجماهير تريد أن تجد إنساناً يمثل الصمود العربي . ولكن الموقف الذي يمثل البطولة العربيّة هو موقف قومي . وأنا أتصور كل الجماهير سوف تنشد إلى هذا القائد رغم كل التعتيم الذي تقوم به الآن أجهزة الإعلام المصرية في الوطن العربي .
س : أليس من الملاحظ بأنّ شخصية عبد الناصر ، هذه الشخصية الوطنيّة ، ومنذ قيام ثورة يوليو ، إنما هي شخصية جريئة ومقدامة وتقتحم ، وهذه الصفة ، فيما أعتقد ، غير متوافرة في كثير من الحكام العرب الوطنيين : صفة الإقدام ، صفة الاقتحام ، صفة خوض المعركة وعدم التراجع ، مما يُظهر الحكام العرب الآخرون يقفون في موقف المدافع عن نظام حكم وطني معيّن . فليس من الملاحظ بأنهم قد انتقلوا ، أو لديهم إرادة في أن ينتقلوا إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة الهجوم . عبد الناصر من الملاحظ بأنّه بعدما ثبَّت نظام حكمه أو دعائم نظامه إلى حدّ ما في مصر ، بعد عام 1954 ، ابتدأت معاركه الهجومية فيما نسميها ذات الطابع الوطنيّ والقوميّ ، انطلاقاً من حضوره باندونغ وصفقة الأسلحة إلى معركة السويس ، إلى معركة الوحدة . هذا هو رصيد عبد الناصر وهذا الرصيد الذي لم يستطع أيّ قائد عربي ، بغض النظر عن نواياه الداخلية الوطنية ، لم يستطع تحقيق ذلك ، أليس ذلك صحيحاً ؟!...
ج : طبعاً
س : هذه الشخصية الشجاعة ...
ج : اسمح لي أن أقول لك نقطة واحدة . قلت : أيّ قائد عربي ، لم يكن في الوطن العربي أيّ قائد حينذاك ، لأنّه كان هناك قائد عربي واحد : جمال عبد الناصر لم يكن له منافس . يعني لم ينافسه أيّ حاكم عربي حينذاك . وحتى الحكام العرب كانوا يعترفون له بالقيادة ، وهذا ما جعل شعبنا العربي أيضاً يستمر بتأكيده وبدعمه. وحكام العرب لم يعترفوا بريادة عبد الناصر إلاّ لأنّه وُثِّقت يدهم. حين وجدوا أنّ الشعب برمته معه، فكانوا في لقائهم مع عبد الناصر يأخذون منه شهادات حسن سلوك: أنا من الشعب ـ هكذا كانوا يظهرون ـ لكي يستمروا في الحكم ... وعملية الاقتحام هي العملية التي يتميز بها القادة عن الحكام. يعني، وبعد ذلك صنع القرار ، صنع القرار كان عبد الناصر رجل قرار. وكان ليس فقط أن يصدر قراراً ، بل كان يصدر القرار وينفذه، بعكس كل حاكم في كل بلاد العرب . وهذه ميِّزة لا يتمتع بها أحد مثل ما تمتع بها جمال عبد الناصر . ولنقل الآن هذا الموقف نفسه ، الآن، موجود حافظ الأسد في سوريا يصدر القرار وتحمل تنفيذه ...
س : للحديث صلة ، شكراً جزيلاً أستاذ فائز ...