الدكتور جمــال الأتاســـي (2)
مقابلات /
سياسية /
1986-10-25
المقابلة الثانية مع الدكتور جمــال الأتاســـي
بتاريخ 25 تشريــــــــن الأول1986
* * * *
س: إذا سمحت، د. جمال (الأتاسي)، أن نتابع حديثنا السابق عن البدايات الأولى، بدايات التكوين لحركة البعث، وعن العلاقة التي كانت قائمة آنذاك بينكم كمجموعة من الطلبة وبين الأرسوزي وعفلق والبيطار وغيرهم...
ج:..... لقد كنّا نحن ملازمين لزكي الأرسوزي ـــــ وقد سكنت معه بضعة أشهر في عام 1941ـــــ وكانوا يسمّوننا "الأرسوزيين". ولكن نحن كنّا مجموعة من الشباب، من الطلاب العرب. وصلاتنا وانطلاقاتنا أيضاً مع المجموعة المهاجرة من اللواء. والأستاذ زكي الأرسوزي كنّا نعتبره أستاذنا، دائماً ملازمون له، وكان دائماً هناك دافع حيوي وموقف أيضاً محدَّد ومعيَّن، موقف متطرّف: الموقف العروبي، التمجيد للأمة العربية، والاندفاع الوحدوي، خاصة أنّ أزمة اللواء التي وَلَّدتْ عند اللوائيين هذا الإحساس بالحرقة والحاجة للاندماج القومي، والتطلّع إلى أنّ وحدة الأمة هي الطريق لقوّتها وطريق استرجاع مجدها وماضيها... ولكن كان ذلك أيضاً ممزوجاً بشحنة عاطفية، روحانية.
في هذا الجوّ، فإنّ هناك تأثراً كبيراً بفكر الأرسوزي، وتأثراً بالنازية، حتى الفكر العنصري النازي، في تلك المرحلة.... ولكن في الموقف الوطني، كان الموقف قاطعاً: ضد كل القيادات السياسية القائمة، القيادات التقليدية، وهي متَّهمة بالنسبة إلينا وبالتالي لقد تولّدت لدينا نحن هذه النَّزعة وهذا التشكيك بكل هذه القيادات وبوطنيّتها، ليس فقط أنّ مشروعها الوطني عاجز وقاصر، وإنما كان، مباشَرة، الاتهام بالخيانة سهلاً بالنسبة إلينا...
لكن، هذا الدافع، كان دافعاً لمجموعة، لطليعة مثقّفة، كانت تحاول ـــــ وهو الذي دفعنا إليه، إلى الأرسوزي، وكان له فضل كبير فيه ــــــ أن تتثقّف وتندفع للاطلاع على الفكر الغربي.... وإنما وقتها ظروف الحرب.... وكان مضّيقاً عليه (الأرسوزي) في تلك المرحلة... حتى الحصول على الكتب كان الأمر صعباً. لذلك كنا نتبادل الكتب ونحرص عليها..
وهو، الأرسوزي، كان يلعب دور "المعلم"، فكل يوم يعطي التوجيه ويعطي الدروس... وهذه الحلقة، عددياً، كانت مفتوحة، كانت كالمنتدى. ففي البيت المقيم فيه، كان يأتيه أشخاص كثيرون، كنا شِلة ما يقرب من ثلاثين طالباً، وكلنا طلبة من الجامعة. ولكن لم يكن هناك بلْوَرة في صيغة تنظيم سياسي!! لقد كنا نحن نعمل في السياسة وتُصدر هذه المجموعة الطلابية أحياناً نشرات وبيانات ضد الأجنبي المحتل ونوقّعها بتواقيع مختلفة، وخاصة ضد الحكم الضعيف والقيادات السياسية الضعيفة... وقد كنا معروفين في الجامعة بمجموعة الأرسوزي، أو الأرسوزيين.
فهذا كان تياراً في إطار تيارٍ أعمَّ وأوسع هو التيار البعثي... ولماذا نسمّيه التيار البعثي؟ ذلك أنّ زكي الأرسوزي والذين بقوا مرتبطين به ومتعصّبين له، يعتبرون أنه هو البعث، باعتبار أنه يمكن أن يكون هو أول من استعمل هذه الكلمة، كتعبير عن الخط السياسي العام، كلمة البعث العربي هو أول من استعملها. ولذلك كان دائماً يحرص في النهاية، عندما تشكّل البعث، على أن يقول: إنّ هذا الاسم هو له والآخرون "سلبوه إياه". ولكن، في الحقيقة، لم يكن الأرسوزي عقلاً منظِّماً سياسياً ولا منهِّجاً أو مخطّطاً سياسياً، ولم يكن يملك المقوِّم لإنشاء حزب سياسي... وربما يكون عنده رغبة في ذلك..
في بعض المراحل، مع بعض إخوانه، في العام 1940، كانوا دائماً يذكرون أنه جمعهم وشكّل حزباً تحت اسم "البعث العربي"، وأقسموا اليمين وقالوا إنهم أنشأوه وجعلوا تاريخ تأسيسه في يوم إربعاء وشهر معيّن، تيمناً بيوم تأسيس هتلر للحزب النازي. ولكن، الحقيقة، لم تستمر هذه المحاولة، كتنظيم. ولم تأخذ صيغة تنظيمية.
الإحياء العربي، كذلك كان اتجاهاً، رافق تلك المرحلة ويجوز أنه كان منظَّماً أكثر.. ولكن أيضاً كان مجموعة شِلَل من الطلبة والمثقّفين. وكما قلت لك، كان تعبيراً عن يقظة قومية ووطنيّة في آن، في مواجهة الوجود للحزب السوري القومي غير الطبيعي، وفي ظل الانتداب والاحتلال. كان هناك اندفاع نحو الوحدة وبصورة خاصة تجاه العراق والمشرق العربي.. وإننا نجد أنه قد سَبق هذه التيارات "عصبة العمل القومي"، والعصبة لم تكن مالكة هذا العقل وهذا الفكر الثقافي ليغذّي نشوء وعي قومي جديد.
مِن هنا نشوءُ هذه التيارات المختلفة. ومِن هذه التيارات مَن كان قريباً من اليسار والماركسية، حتى ميشيل عفلق وصلاح البيطار كان عندهما شيء من هذا التأثّر، وتأثّر بالفكر الاشتراكي والديمقراطي الفرنسي. ولكنهما استطاعا أن يُبلْوَرا موقفاً مِن خلال تعاملهما مع الطلبة، فكل ذلك كان يصبّ في اتجاه اليقظة القومية... إحياء هذه الثقافة العربية الواحدة والتفتيش عن مشروع سياسي لتوحيد هذه الأمة.
فكان هذا التيار عاماً. لقد بقيَ دائماً، في الحقيقة، التيار البعثي أوسع من البعث... في كل ظروف مراحل تنظيمه، أكان في هذه المراحل الأولية عام 1940 ثمّ في عام 1943 ــــ 1944، أول ما أنشئ حزب البعث، أو في سنة 1947 عندما أقام مؤتمره التأسيسي أو في سنة 1953، عندما توحّد مع الحزب العربي الاشتراكي... دائماً كان إطار البعث أوسع وكذلك الانتقال بين العناصر من هذه المجموعة أو هذه الشِلّة إلى المجموعة أو الشِلّة الثانية، يتمُّ دائماً بسرعة، إلى أن أوجدوا إطاراً تنظيمياً.
ولكن في الحقيقة، فقد اكتملت صيغة التنظيم لحزب البعث، كبعث قومي، في عام 1953، لمّا هذه التيارات الثلاثة: التيار السياسي، الذي هو متمرّس في العمل السياسي والنيابي والذي قاد، على هذا الطريق، في العمل السياسي، وعلى رأسه أكرم الحوراني، فقد كان نشاطه وشعبيته في المنطقة المتوسطة وبصورة خاصة هذه الحركة التي نشأت من عملية النضال ضد الإقطاعيين وتحرير الفلاحين، والحركة الفلاحية عدا مجموعات من المثقّفين والشباب الذين كانوا حوله (أكرم الحوراني)، هي أيضاً هذه القاعدة الشعبية التي كان يُخاطبها ويُحرّكها.
والتيار الثاني هو التيار الثقافي على رأسه صلاح البيطار وميشيل عفلق، والذي يمكننا أن نسميَه "التيار البعثي الأصولي"، والذي كان دائماً يحرص على أن يفرض، هو نفسه، الإطار التنظيمي والسياسي والفكري لحزب البعث، وذلك منذ العام 1943(!!) عندما بدأ تشكيله، كان يريد، في هذا الإطار، أن يحصر عمله ونشاطه... لذلك فإنّ عمليات التوحيد التي جرت، هي عمليات الضمِّ للبعث، مثل ضمِّ وهيب الغانم ومجموعته عام 1947، أي ضمَّ التنظيم الذي أقامه في اللاذقية تحت اسم "البعث العربي".
ولكن كان الحوار دائراً منذ العام 1945 مع أكرم الحوراني وإخوانه ومع بعض النواب الوطنيين.. حتى أننا كنا نجتمع اجتماعات مشتركة ونناضل نضالاً مشتركاً في تلك المرحلة مع أكرم الحوراني والمجموعة البرلمانية التي كانت إلى جانبه وتناضل من أجل تحقيق الجلاء.. فكان دورنا دوراً مشتركاً بين البعث وأكرم الحوراني واللقاءات دائمة، وكان البحث دائماً مع الأستاذ ميشيل عفلق والإخوان الآخرين، من أجل ضمّهم إلى التنظيم، وكذلك في المؤتمر التأسيسي عام 1947... (ولكن الكثيرين لم يرضوا ضمّ أكرم الحوراني في ذلك الحين..).
أما التيار الثالث، فهو تيار اللوائيين وزكي الأرسوزي. وبالنسبة لوهيب الغانم، فإنه من المجموعة الأرسوزية. وكان أكبر المجموعة سناً وأيضاً أكبر اللوائيين. فقد كان متقدّماً بالعمر وقبلنا في الدراسة في الجامعة ، وهو أكثر الناس صلة بزكي الأرسوزي وملازماً له. وقد أنهى دراسته في كلية الطب في الجامعة السورية عام 1944، وكان وقتها بداية تأسيس حزب البعث. في هذه المرحلة لم يكن مشاركاً في حزب البعث، فذهب إلى اللاذقية. هناك بدأ إلى جانب عمله الطبِّي والإنساني، وحوله مجموعة من الشباب خاصة وأنّ أكثرهم من الشباب المثقّف العلوي. طبعاً هو في الأصل ليس من اللاذقية، ولكنه ذهب وأقام في اللاذقية ذلك أنّ هناك توجد بيئة تحتضنه. فاندفاع هذه المجموعة أيضاً عروبي وتقدّمي وتحرّري وطني، إلى جانب هذه الصلة التي بقيت دائمة وثابتة بينه وبين مجموعتنا، أصدقائه القدامى وبصورة خاصة، مجموعة الشباب اللوائيين.. مثل صدقي إسماعيل، يوسف شقرا وعلي محسن زيفا...
أما فائز إسماعيل، فقد كان آنذاك يدرس في العراق وانتماؤه إلى الحزب جاء متأخراً وإن كانت صلته اللوائية وباللوائيين بقيت مستمرة حتى وهو في العراق... سليمان العيسى، درويش الزغبي وغيرهم كثيرون...
فأنا شاركت في تكوين البعث... وهذه المجموعة هي مجموعتنا، الأرسوزيين. في الحقيقة، كنا على احتكاك دائم مع الآخرين، ولم نكن نشكّل مجموعة (بالمعنى التنظيمي)، هم الآخرون كانوا يسمّوننا مجموعة الأرسوزي ويطلقون علينا هذه الصفة، ولكن نحن لم نكن مجموعة منظّمة ومرتبطة، بل كنا نعتبر أنفسنا أننا نحمل قضية ونناضل من أجلها. وكما ذكرت لك، فقد شاركنا في الرابطة العربية وفي هذه العلاقات مع طلاب الجامعة الأميركية في بيروت.. دائماً كان نشاطنا في إطار أننا طلاب في الجامعة.. أكثر من أننا كنا نشكّل هذا التكوين السياسي العام.
فوهيب الغانم، عام 1945، بدأ ينظّم وقام باتصالات معنا وأراد أن يشكّل فرعاً للبعث. لقد كان في البداية متحفّظاً وله ملاحظات تجاه الخط للأستاذَين ميشيل عفلق وصلاح البيطار. لكن كل رفاقه وإخوانه السابقين موجودون في إطار حزب البعث. فأسّس هناك فرعاً وبدأ ينظّم من حوله مجموعة من اللاذقية وكانت تجرى زيارات واتصالات.
ولكن الحقيقة لم يأخذ صيغة اندماج (كلّي مع البعث في دمشق)... فهو كان يعتبر تابعاً لحزب البعث وما هو مرتبط الارتباط الكامل بحزب البعث. في عام 1947، عندما جرى التمهيد للمؤتمر التأسيسي لحزب البعث، جرت الاتصالات مع وهيب الغانم وإخوانه لكي يشاركوا ويساهموا وأن ينضمّوا إلى الحزب وإلى عَلنيَّة هذا التنظيم المرتّبة والمركّزة، والتي اعتبرت كمرحلة تأسيسية، وحتى أنّ ميشيل عفلق وصلاح البيطار قد زاراه في اللاذقية، وتناقشا معه وتحاورا.. وكانا هما أيضاً لديهما تحفّظات من "شطحات أرسوزية"... فكان هناك عمل مشترك للإعداد للمؤتمر التأسيسي للحزب.
ففي المؤتمر التأسيسي، هنا في دمشق، عام 1947، كان قد أنشئت لجنة تحضيرية منها: أنا (جمال الأتاسي) د. عبدالمنعم شريف وصدقي إسماعيل، وعلى أساس أن نتعاون مع الأستاذ عفلق. وقد عملنا مشروع ميثاق للحزب ومشروع نظام داخلي، لتقديمهما إلى المؤتمر. طبعاً كنا نتناقش ونتباحث مع الأستاذ ميشيل ونسجّل الملاحظات.... وجاء أيضاً وهيب الغانم من اللاذقية وهو يحمل مشروع ميثاق مكتوباً. وأنشأنا لجنة مشتركة لتوحيد هذَين المشروعَين بمشروع واحد حتى يُقدّم للمؤتمر...
وقد ظهرت مشكلة، وهي تُظهر كيف أنّ الأصوليين البعثيين أي الذين هُم مِن خط ميشيل عفلق، يعتبرون أنّ كل هذه الجماعات يجب أن تندمج بالخط البعثي المرسوم، سياسياً وفكرياً، كما بَلْوَروه هُم. فالمشكلةُ طُرحت أثناء المؤتمر، وكادت تؤدّي إلى أزمة وإلى خروج وهيب الغانم من المؤتمر، إذ إنهم طلبوا منه أن يُقسم اليمين الدستورية، بما أنه لم يُقسم اليمين الحزبي بعد ولم ينتسب بعد رسمياً للحزب. فكان شروط الانتساب، حسب النظام السابق، الانتساب الفردي، كل شخص يُقسم القَسم المعروف لحزب البعث...
طُرحت هذه القضية في المؤتمر، بعد المناقشات والتمهيدات الأولية والانتخابات الأولية لرئاسة المجلس وغيرها ـــــ وهي قضية انتمائهم للبعث وإدلاؤهم للقَسم.. هنا المشكلة: إذ إنّ وهيب الغانم يعتبر نفسه أنه هو أصل وأساس، كيف يمكن أن يقوم بذلك... والإخوان الذين هُم معه، هُم أيضاً من البعث، وتكوّنوا وتشكّلوا كما تشكّل البعث (لعفلق). لقد طرحها وهيب الغانم في هذه الصيغة وأنه... لا يُقسم...
فخلقت هذه القضية أزْمة، وأنّ وهيب الغانم لا يُعتبرُ حزبياً ولا منتسباً انتساباً صحيحاً للبعث، فيجب أن يقسم اليمين، وأن يُقسم أيضاً جميع الأعضاء المدعوين إلى المؤتمر من منطقة اللاذقية والمُنتسبين إلى الفرع الذي رئسه وهيب الغانم، يجب أن يُقسموا يمين الولاء للحزب. بعد ذلك أوجدوا حلاً للإشكال وهو أن أقسم وهيب الغانم وأنّ الآخرين انتحوا جانباً في غرفة منفردة حتى يُقسموا أمامه هو.. فقد أوجدوا هذا الحلّ للمصالحة وجرت بعدها أعمال المؤتمر...
* * *
طبعاً، من وقتها، أخذ وهيب الغانم مشاركته الجِديّة، والحزب دَعَمه في الانتخابات النيابية عام 1947، وكلنا ذهبنا إلى هناك، وكان لنا أمل في أن ينجح في المنطقة. وقد كانت له شعبيّته عن طريق العمل الطبي، وأيضاً عن طريق عمله الدعائي والثقافي هناك.. له شعبيته في منطقة اللاذقية، خاصة عند دعمه لعمال المرفأ وصراعه ضد المتسلّطين، وبرز كوجه سياسي في وجه السياسيّين التقليديّين هناك، من إقطاعيّين وغيرهم..
ونحن شاركنا في دعايته الانتخابيّة في اللاذقية. ولكنه لم يوفّق في تلك المرحلة. وإنما بعدها، في دورة عام 1954، فقد نجح في الدورة الثانية.. وقد رشّحه الحزب وكان ممثلاً له.. وكان وزيراً للصحة في الوزارة الائتلافية التي تشكّلت بعد ذلك...
س: لو نظرنا إلى الدستور لحزب البعث وأردنا أن نحدِّد مدى أثر فكر ميشيل عفلق في هذا الدستور ومدى أثر فكر الأرسوزي فيه أيضاً، إيديولوجياً، ومدى أثر وهيب الغانم في هذا الدستور كذلك ومدى ما وصلت فيه التأثيرات المختلفة..
ج: طبعاً، كل هذه الاتجاهات موجودة، بما فيها أيضاً الاتجاه الذي نسمّيه "الاتجاه العملي التجريبي" لأكرم الحوراني وللتيار الذي كان قد أمسك به. وكملاحظة على ذلك أنّ ميشيل عفلق وإخوانه، كما أنهم فرضوا في هذه العملية خطّهم، أي أن تأخذ العملية عملية دمج بالأصل... أو ليست خطاً آخر يريد أن يملي فكره أو اتجاهه كاتجاه أرسوزي لوهيب الغانم أو غيره... فكما أنهم لم يتركوا مجالاً في المؤتمر وأعطوا هذه الصيغة، أي أنّ الخط الأصولي المتّبع هو هذا النهج للحزب وللبقية، والآخرون يندمجون فيه...
فكان لهم أيضاً ذات الموقف عام1953، عند التوحيد مع الحزب العربي الاشتراكي، الذي كان له كذلك ميثاق ــــ دستور وكانت الملامح الاشتراكية فيه بارزة أكثر من الدستور الأول لحزب البعث... فلمّا جرى الحوار فرضوا أيضاً ذات الشيء، أي الأخذ بالميثاق (الدستور) الأصلي لحزب البعث والتخلّي عن الدستور الآخر بنصّه.
هذا من حيث المحافظة على نهج فكري وسياسي معيَّن، قد فرضوه نفسَه. ولكن هذا النهج بذاته، فقد تأثّر هو الآخر، يعني هذا الفكر الأصلي الذي، إذا صحّ أن نسمّيه فكر عفلقي، تأثّر بفكر الأرسوزي وتلامذة الأرسوزي والآخرين، تأثّر أيضاً بالنهج السياسي الوطني التجريبي والعملي والذي يفكر بالجدوى، قبل كل شيء، وبالتوجُّه الذي أخذ هذه الصيغة للتعاون ولدفع كثير من أعضائه للانتماء للكليّة العسكرية وأن يكونوا في الجيش حتى يؤدّوا هذا العمل الوطني والسياسي..
أيضاً هذا الجانب قد أخذوه (عفلق وإخوانه) واستمدّوه من النهج الآخر... لقد فرضوا اتجاههم، ولكن كان هناك تأثّر وكان هناك تطوُّر ولو بقيت صيغة الميثاق الأوليّة (الدستور) كما هي. ولكن في العام 1954و 1955 أصبح البعث، في جريدته وتعابيره، متقدماً على الميثاق (الدستور) الذي كان بين يَدَيه...
س: يشدّد وهيب الغانم على فرضه على المؤتمر التأسيسي الجانب الاشتراكي بمفهومه هو، فما هو رأيك في هذا الموضوع؟
ج: طبعاً، في الحقيقة، ليس وهيب الغانم وحده.. بل كل هذه المجموعة... باعتبار أنّ أكثرها كان محروماً وهي (فئة اجتماعية) فقيرة وإحساسها بالمعاناة الشعبية الكبيرة.. وهي لا تقتصر على وهيب الغانم وإنما كل الذين دفعوا في هذا الاتجاه التقدّمي الاشتراكي.. فقد كان وهيب الغانم واحداً منهم، وليس كاتجاه لوهيب الغانم والأرسوزي، (لم يكن اشتراكياً) وإنما الاتجاه في المؤتمر، الذي كان يضغط، هو الاتجاه الذي أخذ الجانب الاشتراكي أكثر... فليس الاشتراكية العلمية، فلم تكن مُبلْوَرة وناضجة حتى ذلك الحين، ولكن في الحقيقة كان الدافع العام نحو الحرية والديمقراطية... هذا حافز تجلّى فيه كثير من الشباب لمواجهة نمط من التفكير، كانوا يسمّونه اتجاه يميني، على رأسه جلال السيد ويقترب منه بعض الشيء صلاح البيطار وكان عندهم أيضاً مجموعة من العناصر في داخل الحزب.. فإذن لم يكن هذا الاتجاه (نحو الاشتراكية بالمعنى الحقيقي للكلمة).. وإنما كان الاتجاه العام هو هذا الدافع الديمقراطي والتحرّري وأيضاً فكرة العدالة الاجتماعية والإصلاح الاجتماعي، كان ذلك أساسي... كان هو الدافع لكثير من الشباب.. وميشيل عفلق كان يتجاوب مع هذا الاتجاه ويستوعبه..
س:.. مَن هم الذين كانوا يُناقشون أكثر من غيرهم، لأنّ هناك مَن يشدّد ـــــ كما قرأت حديثاً هذا الشيء ــــ على أنّ الأكثرية الساحقة من المؤتمرين كانوا مِن حزب الصامتين، فما هو جوابك عن ذلك؟
ج: هناك بعض المؤتمرين كانوا يتكلمون... ووهيب الغانم رجل في الخطابة طلِق اللسان ومتحدّث، ولكن لقد كان في ذلك المؤتمر مَن كان يتحدّث ومَن يُناقش ويُجادل، مثلاً عبدالبر عيون السود، وعبدالله عبدالدايم وصدقي إسماعيل وغيرهم وأنا أيضاً كنت أُناقش باعتباري صاحب المشروع المقدّم وهو مشروع موحّد... حصل هجومٍ على هذا المشروع وأدخل عليه بعض التعديلات والاعتراضات طبعاً، ولكن كانوا يُناقشون كل مادة بمادة، مناقشة عامة.. وأكثر ما أثار من أزْمة، أكثر ممّا أثار موضوع الاشتراكية، هو موضوع صيغة الدولة، هنا برزت (المشكلة)..
إذن، في ذلك المؤتمر، وكما قلت، فإنّ الجدال الذي دار عند مناقشة دستور الحزب هو حول طبيعة النظام أو صيغة النظام السياسي والاجتماعي الذي يتطلّع إليه الحزب وصيغة التغيير. وكما تلمس من عودتك لذلك الدستور ـــــ الميثاق، أنّ الحزب بكل جهاته وأطرافه كانوا يتحاشوا كلمة الثورة ويستبدلونها بكلمة انقلاب، أي أنّ فكرة الثورة الاجتماعية كانت وكأنها تعبير للتيار الماركسي والشيوعي.. فحَوْل المنظور الاجتماعي دار نقاش. ولكن كان هناك اختلاف في الدرجات حول التطلّع إلى تحقيق نوع مِن العدالة، نوع مِن الإصلاح، وكان التوجُّه العام أقرب إلى التوجُّه الإصلاحي. والنقاش الأساسي الذي دار، هو حول الطبيعة الدستورية لنظام الحكم الذي يُراد له أن يكون.
وكان في ذلك المؤتمر التأسيسي قد تمثّل فيه "الفروع" للحزب خارج سوريا، إذ كان مؤتمراً تأسيسياً عاماً وخاصة الفرع الأساسي القائم في الحزب هو في الأردن، وهناك كنت قد سألتني عن بعض الأشخاص الذين حضروا المؤتمر مِن الخارج منهم: الصيدلي أمين شقير (الذي كان طالباً هنا في الجامعة) مثلاً ومجموعة مِن الطلاب والشباب الأردني، تمثّلوا في هذا المؤتمر، وقد كان هناك مراقبون عراقيون مِن حزب الاستقلال، قريبون مِن حزب البعث، حضروا المؤتمر، ولكن لم يعتبروا أو لم يكونوا أعضاء في الحزب ولا في المؤتمر... وقد تمثّلت في هذا المؤتمر أكثر المحافظات السورية، ولكن كان أكثر العناصر من دمشق والغالبية كانت أيضاً من طلاب الجامعة، خاصة من كلية الطب مثل: الدكتور فيصل الركبي، د. عبدالخالق النقشبندي، د. عبدالخالق المرعشي، د. سعيد السيد درويش، د. أديب أصفرى (منطقة إدلب)، والبارز أيضاً د. عبدالمنعم شريف، ولكن لم يكونوا بعد قد أصبحوا أطباء، وإنما كانوا لا يزالون في صفوف الطلاب وفي السنوات النهائية. ومن هنا من دمشق د. مدحت البيطار وكان من القيادة وانتخب في القيادة أيضاً... وفي ذلك المؤتمر كان مشاركاً الأستاذ صواف والأستاذ يوسف خباز، وهما مِن الحقوقيين، إميل الشويري... هؤلاء كلهم من المجموعات التي شاركت وساهمت في النقاش وفي الحوار الذي دار حول مختلف هذه المواضيع، فكان هناك مساهمة طبعاً...
فكان هناك حول الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية تباين في وجهات النظر، لكن مِن حيث الدرجة... بقي التشبّث بمبدأ المِلكية والإرث وغيره. ولكن حتى في المواضيع الأخرى التي تتعلق بالمِلكية الزراعية وبالرأسمال الوطني، فقد كان هناك اتّجاه إصلاحي باسم اشتراكية، أكثر مِن أن يأخذ الدافع الاشتراكي الكامل.
لكن في موضوعة الصيغة الدستورية للدولة، فالنقاش دار حول مسألة الجمهورية: هل يُعلن عن حزب البعث أنه يريد نظام جمهوري أم نظام برلماني دستوري عام، على اعتبار وجود بعض الأنظمة العربية المَلكية وقد كان هناك تشبّث مِن بعض الإخوان على أن لا ينصّ على مسألة الجمهورية في نظام الحكم، خاصة مِن الأعضاء الذين هُم من الأردن..
غير أنّ التيار العام هو تيار إقامة نظام جمهوري، ولكن دار نقاش حامي الوطيس حول هذه المسألة باعتبار أنّ العراقيين والأردنيين لا يريدون أن ينصّ على ذلك إذ إنّ عندهم نظاماً مَلكياً، فلمُجرد أن يقوم حزب ما يحمل هذا الطابع، سيعتبر حزباً مناهضاً لنظام الحكم ليس فقط يمنع من القيام بالعمل، بل سيُتابع وسيُعاقب، ويعتبر المنتسبون إليه كجماعات مُعادية للنظام، يريدون تغيير وقلب نظام الحكم.
لهذا فقد بقي الدستور عند هذا التعبير العام الدستوري: نظام حكم دستوري برلماني، دون أن ينصّ على طابعه الجمهوري أو أي نمط مِن الحكم الجمهوري، هذا ما دارت حوله المناقشات. ولكن في النهاية الميثاق ــــ الدستور الذي انتهوا إليه، كان عليه موافقة إجماعية، إلاّ أنّ بعض المؤتمرين سجّلوا بعض الملاحظات، وقد سجّلت هذه الملاحظات فقط في ما يتعلق بطابع الحُكم، أي أنّ البعض سجّل اعتراضه على مسألة عدم ذكر الجمهورية، أما موضوعة الاشتراكية لم يسجّل أحد أي اعتراض..
س: هنا، لدي عدة أسئلة، أولاً ما هو دور الأستاذَين ميشيل عفلق وصلاح البيطار في صياغة دستور الحزب، وثانياً في مجرى النقاش؟!
ج: طبعاً، كان لهما دورٌ أساسي وبارز، كذلك لا ننسى أنّ موضوعة الصياغة، صحيح أننا كنا لَجنة للصياغة، لصياغة الميثاق أو دستور الحزب، لكن كانت التوجيهات العامة أو الأفكار هي الأفكار التي كانت مُتبنّاة مِن قَبْل والتي كان يُعبّر عنها الأستاذان ميشيل عفلق وصلاح البيطار بالدرجة الأولى في أحاديثهما وحتى عندما وُضع نصّ الميثاق ـــــ الدستور، كان ذلك بعد تداول، خاصة مع الأستاذ ميشيل، ووضع رؤوس الأقلام أو الجوانب التي سيتمّ بحثها وتداولها..
نرجع إلى الموضوعة التي تتعلق بموضوعة الأرسوزي، لم تكن عندئذ مطروحة كموضوعة، على أنّ هناك تياراً أرسوزياً. صحيح أنّ المجموعة مِن اللوائيين ومِن المحافظات السورية الأخرى، كان طابع التطرّف بارزاً فيها وأيضاً الدفع باتجاه يساري، أكثر من طابع العناصر الدمشقية. طبعاً قِسم منهم كان له الارتباط السابق بزكي الأرسوزي أو هذه العلاقة علاقة أستاذ بتلامذته، والتلاميذ يأخذون أحياناً باتجاه الأستاذ ولكن لا يأخذون بكل شيء..
الحقيقة، ما حصل بعد ذلك (إثارة هذا الموضوع)، طُرحت المسألة بعدما حدث التغيير في سوريا، وبعد أن استلم البعث الحُكم. وهذه المجموعة من الضباط التي أصبحت مُسيطرة، وبدأت الصراعات داخل الحزب، في حين أنا كنت في هذه المرحلة خارج الحزب، وإن كانت قد بقيَتْ لي صلة الصداقة والمحبّة مع الأستاذ زكي الأرسوزي التي لم تنقطع... في تلك الفترة كأنّ تلك المجموعة (من العسكريين أو اللوائيين..) أرادت أن تعطي لنفسها أنها هي الأصل في التوجُّه الفكري، وحتى أنها أخذت تركّز على الأستاذ زكي الأرسوزي وعلى كتاباته وعلى إعادة طباعة كُتبه ونشراته. وكان يأخذه الضباط الشباب معهم ليُحاضر في التوجيه المعنوي وبين الضباط، حتى يعطوا لهذا التيار وكأنه التيار الأساسي في حزب البعث. ولكن هو بذاته لم يكن دائماً راضياً عن ذلك، إذ إنه أحسّ في المرحلة الأخيرة من حياته أنه يُستغل في هذا الاتجاه أو لتوظيف اسمه وفكره في الصراعات الداخلية الدائرة داخل صفوف البعث نفسه.
فهذا التركيز على هذا الاتجاه للأرسوزي والذي كان، بلا شك، من ينابيع حزب البعث بِوَجه عام!!!، لكن صار التركيز عليه بعد أن استلم البعث الحكم في سوريا، وصار التركيز عليه أيضاً أكثر، بعدما حصل التغيير في شباط عام 1966 وأُقصيت جماعة القيادة القومية السابقة: ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومنيف الرزاز، وذهبوا بعد ذلك إلى العراق.. لذلك فقد حصل تركيز أكثر.
هنا، أخذ دوره الدكتور وهيب الغانم... في حين أنه في مرحلة من المراحل وهي مرحلة الانفصال، عندما برزت الانقسامات داخل الحزب، أخذ جانب أكرم الحوراني وجانب المجموعة المناوئة لعبدالناصر وللوحدة وللقيادة القومية.
بعد ذلك، بعد التغيير في 8 آذار عام 1963 وبعد أن بدأت مآسي العرب في هزيمة حزيران، عادت الحوارات بين الأطراف، فأصبح هو يعدّ على الاتجاه العربي الاشتراكي، إذ بعد أن حدث انقسام في الحزب، عند إعادة تكوينه هنا في سوريا عام 1962، وهيب الغانم أصبح خارج الحزب، وأخذ جانب التيار الآخر. ومنذ ذلك الحين بقي فيما أعتقد وحتى الآن خارج الحزب. ولكن يدلي بآراء عن النشأة التاريخية ويريد أن يشدّ الاتجاه إلى أنّ الأصل في البعث وينبوعه ومصدره من هناك، بدءاً من لواء الاسكندرون ومن زكي الأرسوزي والاتجاه الآخر...
س: ألم يكن ذلك ظاهراً في السابق؟ بمعنى آخر، حول المؤتمر الأول، سؤال يفرض نفسه نظراً للظروف الحالية السائدة في بلادنا عموماً، هل كان تركيب المؤتمر الأول ينظر إليه على أسس طائفية، فئوية، مذهبية...؟
ج: لا، لم يكن ذلك وارداً في أي حال من الأحوال. وإنني أصدقك القول عندما أقول إنه في العلاقات التي كانت قائمة في داخل الحزب لم يكن ثمة بادرة في هذا المجال ـــــ ولو أنه كانت في أوساط الحزب، مثلاً هنا، مجموعة من المسيحيين خاصة أولئك الذين كانوا حول الأستاذ ميشيل عفلق وهم أبناء حيّه ونشأته في الميدان... ولكن اتجاههم واندفاعهم وتوجّهاتهم العامة كانت قريبة من توجّهات الآخرين.. وكان هناك حزبيّون من جبل الدروز وعلويون إلى آخر ما هنالك، وقد كنا نحن حتى بالأسماء لا نميّز، إذا لم يكن اسمه يحمل شيئاً مميّزاً، فلم نكن نميّز ولا كانت هذه المسائل موجودة أو واردة....
صحيح أنّ حزب البعث، شأن كل حركة ناشئة ونضالية، تجذب أول ما تجذب إليها العناصر التي تشعر أنها مضطهدة في بيئتها أو في مجتمعها، ولكن من خلال اندفاعها لكي تتوحّد مع الآخر وتلتقي بذات المزايا... هذه المجموعات كانت تحمل رغبة في الاندماج الوطني وأن لا تُعامل كأقليّات أو تُضطهد، لا أن تسود هي وتسيطر على الأكثرية..
س: هل يعني ذلك أنه كان هناك نوع من الاضطهاد أو شعور بشيء من الاضطهاد؟
ج: هذا شعور يوجد دائماً في المجتمعات، دائماً هذه الأغلبية في الحكم وفي السلطة، وذلك في طبيعة المجتمع، فكنت تشعر فيه بشيء من الغُبن... ولكن، في الواقع، الوضع في أيام فرنسا وفي أيام الانتداب، أرادت فرنسا أن تغذّي النزعة الطائفية وانقسام الوطن.. ولكن لم يكن ذلك فيه الفضل لحزب البعث. الحركة الوطنية بِوَجه عام كانت تأخذ وأخذت طابع الوحدة الوطنية، يعني تجاوز موضوعة الانقسامات، فكان ذلك دافعاً من دوافعها الأساسية، من أيام الثورة السورية وبعدها في كل النضالات التي جرت تحت راية هذه القيادات البرجوازية الوطنية هنا في سوريا في السابق: فكان شعارها "الدين لله والوطن للجميع"، وكانت تسعى للدمج والتقارب حتى لا يستغل المحتل هذه الفرقة.. الأجنبي إن كان في تركيبة الجيش أو في وظائف الدولة، كان يريد أن يجذب إليه الأقليات الطائفيّة والأقليات العنصرية ويُساندها. ومرّت فترات، في الحقيقة، كانت الأكثرية هي التي تشعر بالغُبن. ولكن الدافع العام هو دافع للوحدة الوطنية.
أكثر من ذلك، فقد كان، حتى بالنسبة للبعض، من جملة الحوافز والدوافع للتمسك الشديد بقضية الوحدة العربية وتقديمها كمطلب أول على كل المطالب الأخرى، هذا الشعور بالتمزّق الوطني وأنّ سوريا كتكوين مجتمعي شعبي، توجد فيها هذه الانقسامات الدائرة والتي تُطالب هذه الحركات التحرريّة بتجاوزها وشعورها أيضاً أنّ ليس لها مِن هويّة، حتى الهويّة السورية كانت مرفوضة لأنّ لها طابعاً مصطنعاً، افتعلتها القوى الخارجية بعد الحرب العالمية الأولى وذلك في هذا النظام الذي سمي بالنظام الشرق أوسطي، وكذلك أيضاً بسبب من ذاك الإحساس بالتمزّق الداخلي والتخوّف من أن يأخذ شكلاً من التبعثر الوطني والانقسامات الوطنية فكان حافز الإنجاز صفتها وهويّتها، في الإطار الأوسع والأكبر والذي هو الإطار القومي. فهذه لم تكن أشياء بارزة، لم تبرز هذه الأمور إلاّ عندما جرى الصراع حول السلطة وعَبر هذه القوى العسكرية وتشكّلت هذه النظم، النظم التي تسيطر فيها فئة أقلية على الدولة وعلى المجتمع، فتحتمي بها وأصبحت هي التي تغذي هذه العصبية لتشدّ إليها عصبيّة معيّنة تحتمي بها وتثق بها. فهذا الذي جرى فيما بعد ..
س: ... ننتقل الآن، دكتور جمال، إذا سمحت، إلى عهد الوَحدة السورية ــــــ المصرية: فبعد مضي عدة شهور على قيام هذه الوَحدة، ابتدأ ما يمكن أن نسمّيه بنوع من الصدمة، صدمة خاصة من القوى الوَحدوية، والقوى البعثية بالذات. هذا من جهة ومن جهة أخرى كان لك أنت شخصياً تجربة صحفية ربما لأول مرة وأنشأتم جريدة "الجماهير"، وقيل لي بأنّ هذه الصحيفة كانت مزكّاة من عبدالناصر شخصياً، وللأسف بأن هذه الجريدة لم تستمر طويلاً فقد أقفلت، قيل لي أيضاً، بسبب المضايقات أو بسبب الأزمة المالية، فإذا ممكن أن توضّح لنا هذا الجانب...
ج:... هذا الموضوع شرحه يطول... ولكن باختصار... لمّا قامت الوَحدة، حزب البعث حلّ نفسه في سوريا... والبعض أخذ يشكك بأنه لم يكن هناك إرادة للحل.. لكن الحقيقة، كان هناك تقبّل كامل لفكرة حل الحزب، ليس كاشتراط من جهة عبدالناصر لِحلّ الأحزاب، سوريا هي التي بادرت وعبدالناصر قال إنّ مطلبه الوَحدة، وفي الظروف التي كانت فيها الصراعات دائرة في سوريا، كانت دائماً القوى السياسية المختلفة، كل فئة منها ممسكة بمجموعة عسكرية..... والشيء الذي كان يهدّد الوضع دائماً هو أن تقوم انقلابات عسكرية. القوى السياسية موجودة كلها: إن كانت الشيوعية أو البعثية، وأيضاً القوى المحافظة في الجيش أو القوى المحافظة في المجتمع، أي حزب الشعب والحزب الوطني وغيرهما، والسلطة كذلك لها جماعتها في الجيش. وكانت مطروحة الوَحدة والحاجة إلى الوَحدة وأخذت هذا الدفع والمدّ الشعبي الذي فرض نفسه. فمرّت الفترة الأولى بالنسبة لعبدالناصر وصار الحوار والضغط، والضغط هنا من سوريا، ذلك لأنّ في سوريا الصراع كان سائداً، صارت أكثر القوى تدفع بل كلها أخذت تدفع باتجاه الوَحدة وأن تكون أيضاً مجالاً لخلاصها من صراعاتها مع نفسها. فالشيء الذي طرحه عبدالناصر، كان موضوع التأجيل بالوَحدة السياسية الكاملة، أن تكون هناك وَحدة في السياسة الخارجية والعسكرية وأن يكون هناك نمط من الوَحدة الفيدرالية...
بالنسبة هنا إلى البعث، هذه غير كافية. فكانت قوى البعث تطالب بما هو أكثر ولو أنها، بتصوّراتها، لم تطرح موضوع الوَحدة الاندماجية الكاملة، حتى أنّ الصيغة التي حملها معه صلاح البيطار بعد الاجتماع الموسّع لقيادة الحزب: المكتب السياسي والقيادة القومية والقيادة القطرية التي أنا كنت عضواً فيها ـــــ فأنا كنت في المكتب السياسي والقيادة القطرية في ذلك الحين ـــــ كان يطرح فيها مشروع تصوّر الحزب للوَحدة، كان يريد أن تكون هناك وَحدة ـــــ بعد ذلك، في أيام الانفصال وفي محاورات الوَحدة الثلاثية عام 1963، سمّيت بالوَحدة الاتحادية ــــ أن يكون هناك نمط من الوَحدة محافظة فيها على نوع من الاستقلالية الذاتية في القطر بتمثيله، وكان التصوّر أنّ موقف عبدالناصر لا يقبل بوَحدة اندماجيّة، بوَحدة كاملة. ولكن بمواجهته المشكلة، لعبدالناصر، عندما جرى الحوار وذهبت وفود الضباط إلى هناك، أنه كيف نُقيم وَحدة بين القطرَيْن بنظامَيْن سياسيّين مختلفَيْن وكيف يمكن السيطرة عليها وضبطها والإمساك بها في هذه المجالات وكيف نعمل إذا حصل انقلاب عسكري في سوريا، لذلك ذهبت الوفود السورية وعلى رأسها كل مجموعات الضباط، وجرت المبايعة: أننا نحن نطالب بالوَحدة الكاملة. هم الذين بادروا، ضباط الجيش، ورأوا أنه يمكن أن تحلّ كل الأحزاب السياسية وتلتقي في تنظيم موحّد وهو الاتحاد القومي.
طبعاً، هنا، بالنسبة لحزب يعتبر نفسه حزباً ثورياً وقومياً، ويريد أن يحقّق أهدافه لا يجوز أن يحلّ قبل أن يصل إلى هذا الهدف. ولكن محاولة الإقناع التي أعطيت هي أنّ هناك انسجاماً وتفاهماً كاملاً مع عبدالناصر وأنّ الاتحاد القومي لا يكون إلاّ وكأنه إطار موسّع لحزب البعث طالما أنّ توجّهات الرئيس عبدالناصر، هي توجّهات وحدوية وتحرريّة كاملة، فكان هذا القبول لحلّ الحزب. لكن القيادات بذاتها، كانت كل مجموعة من هذه القيادات تعتقد أنها هي التي سيكون لها الحظوة. كان هناك صراع دائر خاصة بين مجموعات أكرم الحوراني وميشيل عفلق وصلاح البيطار... كل واحد كان يحسب أنه هو الذي سيكون على قرب من السلطة وله التأثير أو الفعل في هذه العملية. الحقيقة عبدالناصر لم يعط أي وعود: الوَحدة هي مع الشعب السوري، والأحزاب قبلت طواعية أن تحلّ نفسها. ولمّا بدأت هذه التشكيلة السياسية الأولى التي تشكّلت من خلال صيغة الوَحدة ــــ فطبيعة النظام والحكم ـــــ بدأت تصدمهم (للبعثيين) باعتبار أنّ هذه القيادة كانت تعتمد أساليبها الخاصة والأقنية التي تعمل بها في اتخاذ القرارات السياسية. والسوريون الذين كانوا ممثّلين في السلطة، هم منقسمون وفي داخلهم صراعات... فبدأت تشعر بهذا الإحراج: ذلك أنّ طبيعة الديمقراطية التي نَعتمد عليها هنا في سوريا، تريد أن تُحكم الإمساك في الدولة، محاولة إقصاء وإبعاد الضباط المسيّسين، الذين أيضاً وضَعهم عبدالناصر، بعضهم وزراء وبعضهم نقلهم لمصر وكان ذلك لإحكام الوَحدة ولكي تأخذ مجراها ولا يبقى أي تحكّم لهذه القيادات، أو حتى القيادات السياسية، فئة أو طرف يحاول أن يفرض نفسه على السلطة والحكم. ففي المرحلة الأولى، كان هناك اندفاع كامل لحزب البعث. فنحن، وكنا مجموعة من الذين كانوا ممسكين بجريدة "البعث" الأسبوعية، في الفترة التي رافقت الوَحدة، قلنا بأن الحزب قد انحل ولكن الاتجاه الإيديولوجي والقومي لا يزال مستمراً...
* * * *
ملاحظة: بعد ذلك توقّف التسجيل، فأخذت ملاحظات مختصرة كتابة. فمن الأهمية متابعة الحديث حسب التصميم الموضوع له في المرات المقبلة:
أما أهم النقاط المكتوبة فهي التالية:
فقد استمرت مجموعة من البعثيين حول جريدة البعث بعد قيام الوحدة السورية المصرية في العام 1958 وكان مسؤولو التحرير البارزين: جمال الأتاسي، عبدالكريم زهور، صدقي إسماعيل.... استمرت الجريدة في الصدور عدة أشهر. وهي تمثل خط فكري وَحدوي، وتعزيز الخط التقدمي للوحدة..
يشير الأتاسي إلى أن القيادات السابقة، ميشيل عفلق، صلاح البيطار، أكرم الحوراني، لم يرتاحوا كثيراً إلى استمرار جريدة البعث بالصدور.. ويبدو أنهم خشوا أن يخرج هذا الاتجاه عن توجّهاتهم وسيطرتهم...
في المرحلة الأولى من قيام الوَحدة السورية المصرية، كان هناك اندفاع كبير وشامل، وحزب البعث كقواعد وكتنظيم حلّ نفسه.. ولكن الرفاق البعثيين بقوا ملتفين حول وزرائهم وبقيت علاقتهم الاجتماعية وعلاقات الصداقة فيما بينهم.... الأستاذ ميشيل عفلق، الأمين العام لحزب البعث، حوّل نشاطه السياسي والحزبي إلى خارج سوريا.
في تلك الفترة وفي بدايات الوحدة وبعد ما أقفلت الصحف السورية، أراد عبدالناصر أن يبرز في سوريا صحافة جديدة وتكون ناطقة باسم الحكومة والحكم والدولة الجديدين فأوعز بإنشاء جريدة تحت اسم: "الجماهير" رئيس التحرير الدكتور جمال الأتاسي، وهي تضمّ نخبة من الكتّاب البعثيين وأصدقائهم التقدميين وبعض الصحافيين المصريين: السوريون جمال الأتاسي، الياس مرقص، خليل الكلاس، نبيل الشويري (أستاذ في كلية الفنون الجميلة) صدقي إسماعيل، عبدالكريم زهور وغيرهم والصحافيون المصريون: رجاء النقاش (مدير تحرير جريدة الجمهورية) الشاعر عبدالمعطي حجازي، والناصري الماركسي محمد عودة (وهو غير مرضٍ عنه).
فالفكرة إذن هي تكوين داخل الجريدة مجموعة يسارية وَحدوية أخذت حكماً طابعاً من المثقّفين والكتّاب البعثيين التقدميّين. من هنا جرت محاولات من قِبل عبدالحميد السراج، وزير الداخلية، ورئيس المكتب الثاني في سوريا ـــــ للتغلغل داخل جهاز التحرير للاتصال ببعض العناصر... فكانت المشكلة الأولى التي واجهت الجريدة..
والمشكلة الثانية والأهم طرحت عندما تشكّل الاتحاد القومي في سوريا ففتحت الأبواب على مصراعيها: عبدالناصر كان مأخوذ بهذه الموجة الشعبية العارمة. وفي نفس الوقت، شعر البعثيون أنهم غير محميّين، وابتدأت الأصوات ترتفع لتهاجم الأحزاب وخاصة من جهة مصطفى وعلي أمين وقولهم: الحزبيون يجب أن يخلعوا الحزبية عنهم كخلعهم أحذيتهم من أرجلهم عند دخولهم المسجد...
لذلك كله، حصل عند البعثيين موجة معادية للاتحاد القومي واتخذوا موقفاً ضده.. وأخذت تنشر الانسحابات من الاتحاد القومي تباعاً بعد الانتخابات... رافق ذلك طبعاً تقرّب القوى التقليدية بمختلف فئاتها الاجتماعية والسياسية من السلطة، فحصل الضغط بهذا الاتجاه، وبرز التناقض في داخل الحكم ودولة الوحدة: من جهة حكم وَحدوي تقدمي ومن جهة أخرى ابتعدت القوى الوَحدوية وتقرّبت القوى التقليدية.
في محادثات الوحدة الثلاثية في عام 1963، أُشير إلى تجربة جريدة "الجماهير": وإلى آخر مقال كتب "الصمت موقف" وذلك بعد الصعوبات التي واجهتها من الناحية:
1- المالية
2- تدخل أجهزة السلطة
3- الخلافات في وجهات النظر سياسياً بين جهاز التحرير وأجهزة الحكم:
ملخّص المقال: الوَحدة يجب أن نحرص عليها، أمام صعود قوى انتهازية إقليمية. والاتحاد القومي لا يحمي الوحدة ولا يجسّد إرادة الوَحدة الحقيقية...
*************