حركة البعـث العربي البدايات الأولى، مرحلة التكويـن -د. جمال الأتاسـي (1)
مقابلات /
سياسية /
1986-10-09
مقابلات مع د. جمــــال الأتاســــي
المقابلة الأولى مع الدكتور جمــال الأتاســـي
بتاريخ 9 تشـــريـــــن الأول 1986
الموضوع: حركة البعــث العربي
البدايات الأولى، مرحلة التكويـن
* * * *
د. جمال الأتاسي من مواليد عام 1922 في حمص، ومن متخرّجي كلية الطب من الجامعة السورية في دمشق في العام 1947، ذهب بعد ذلك إلى فرنسا للتخصّص العالي، حيث بقي هناك مدة ثلاث سنوات عاد بعدها إلى سوريا عام 1950.. أقام في مدينة حماه وعمل فيها فترة زمنية، لم يُشارك فيها في العمل السياسي العام، إلاّ من خلال التنظيم الحزبي هناك وعن طريق الكتابات من بعيد...
****
س: ... دكتور جمال، إنّ تاريخ حركة البعث العربي، وحزب البعث عموماً، لا يزال حتى الآن، مع مضي أكثر من أربعين سنة على مرحلة النشوء، لا تزال هذه المرحلة غامضة في أذهان الباحثين وكثير من المراقبين. فأودّ لو سمحت أن تعطينا صورة تفصيلية، إن أمكن، عن هذه المرحلة خاصة في ما يتعلق بالمرحلة الأولى، مرحلة التكوين والعناصر التي لعبت الدور الأساسي في تكوين حزب البعث وتحديداً دور زكي الأرسوزي في تأسيس البعث...
ج: ... تلخيصاً لهذه البدايات أو العوامل والقوى التي دخلت في تاريخ تكوين حزب البعث، هذا مع العلم أنّ هذا التاريخ، أنا افترقت عنه منذ العام 1963، وصار لي فكرياً وسياسياً تاريخ آخر... لكن، في عام 1954، في المعركة الانتخابية التي جرت في سوريا، وخاضها حزب البعث وسجّل فيها أول انتصار سياسي في تلك المرحلة، وقد كان هو التعبير عن مرحلة التغيير في سوريا، بعد زوال دكتاتورية أديب الشيشكلي، لقد كنت أنا في حماه. أعمل كطبيب وفي نفس الوقت كنت أمارس نشاطي الحزبي هناك، فكلّفت وقتها لإلقاء "محاضرة جماهيرية" ـــــ كما أسميناها في تلك المرحلة ــــــ أو خطاب سياسي، بمناسبة الانتخابات عن حركة البعث ونشوئها وعن القوى الداخلة في تكوينها، خاصة في تلك الانتخابات برز البعث على أنه مكوّن من عدة تيارات وعدة اتجاهات، فقد كان وقتها المرشّح في اللاذقية د. وهيب الغانم، الذي كان هو وعدد من العناصر الحزبية يمتّون بِصِلة لاتجاه الأرسوزي. في حماه، كانت الحركة الشعبية على رأسها أكرم الحوراني ومجموعة الشباب من حوله، وحركتهم هذه كانت مساندة من القوى الفلاحية والقوى ضد الإقطاع. وأيضاً، هناك في دمشق، كان البعث الأساسي الذي حمل هذا التكوين الأول والذي عبّر عن مجموعة المثقّفين وطلبة الجامعة الذين كانوا يحملون هذا الاتجاه القومي، على رأسهم ميشيل عفلق وصلاح البيطار وإخوانهما... في تلك الفترة، نشرت المحاضرة في الصحف، في حماه فرع الحزب وفي المنطقة الجنوبية كلها، هذه الكلمة اعتبرت بياناً انتخابياً للحزب، باعتبار أنّ الحزب كان في تلك المرحلة، يمرّ ببعض الصراعات الداخلية وخلافات داخلية، حتى في تلك المرحلة، فلم يصدر الحزب بياناً عاماً انتخابياً. فاعتُبرت هذه المحاضرة كبيان انتخابي عام... وقد قلتُ فيها كيف أنّ الحزب في نشوئه يعود إلى تيارات ثلاثة، اندمجت وكوّنت هذا الاتجاه...
أما أنا شخصياً، في الحقيقة، فقد كنت وسيطاً بين هذه التيارات الثلاثة وعشتها كمراحل في حياتي، وكانت صِلتي بها وكنت من العوامل التي تحرص أن توجد هذه الوحدة لهذه التيارات الثلاثة.
عاصرت الاتجاه الذي كان على رأس هذه المجموعة من المثقّفين القوميّين التقدميّين منذ كنت طالباً في الثانوي: صلاح البيطار وميشيل عفلق، كانا أساتذة لي... وأنا من مواليد عام 1922 والأستاذ صلاح البيطار درسنا منذ عودته من فرنسا خلال سنة، في عام 1936 في حمص. بعد ذلك، هنا، في دراستنا البكالوريا القسم الثاني، الأستاذ ميشيل عفلق أيضاً أستاذنا وكذلك صلاح البيطار أستاذنا في الرياضيات والعلوم... وقد تخرّجت في المرحلة الثانوية عام 1938... ومن بعدها، درستُ في الجامعة السورية، في كلية الطب... وهكذا فقد عاصرت الحزب منذ تكوينه إذ إنه مرّ بأطوار ومراحل، فكانت هناك هذه الحركة من المثقفين التي كان لها نواة أولى في "عصبة العمل القومي"، بعض عناصرها، ومجموعة هؤلاء الشباب الذين تعلّموا في الغرب والذين أخذوا بهذا الاتجاه، اتجاه التغيير والتحرّر الوطني والتقدّم، واتجاه العدالة الاجتماعية والاتجاه الاشتراكي وفي نفس الوقت الاتجاه الوطني، وهذا النزوع القومي الوَحدوي لتحرير الأمة ووَحدتها كان مطروحاً منذ الثلاثينات وكانت مطروحة هذه الاتجاهات الوطنية والقومية وكانت تتكوّن شِلَل ومجموعات بعضها جاء من عصبة العمل القومي، عندما تعثّرت الحركة أو من هذا الشباب المثقف، خاصة الذين منهم درسوا في أوروبا، فلم تكن ترضيه صيغتها التقليدية في العمل السياسي وأيضاً الأفكار التقليدية فيها لم تكن تقنعه أو ترضيه.. فبدأت تتكوّن شِلَل من هذه المجموعات حول أساتذة من المثقفين، وكان مجال صِلتهم الجامعية ـــــ لذلك نسمّيها حركة المثقفين أو الطلائع الثقافية الأولى القومية، خاصة هنا في العاصمة ـــــ كانت الجامعة هي بؤرة الالتقاء. ثمّ أيضاً في مدارس التجهيز، في الصفوف النهائية من المراحل الثانوية بين طلاب البكالوريا كان كل هؤلاء يكوّن دائماً هذه المجموعات، هي التي تُناضل، وكان يأخذ الأساتذة حالات التوجيه والأحاديث والمحاضرات خاصة خارج الدروس وفي البيوت وفي نفس الوقت في المناسبات السياسية التي كنا جميعاً نلتقي معاً في العمل والاندفاع وتوزيع البيانات وإقامة المظاهرات.
مثلاً في عام 1938، هنا في دمشق، تشكّلت مجموعة واسعة من الأساتذة، أو أغلبهم كانوا أساتذة، أو من بعض أصحاب المهن الحرّة من المثقفين والمحامين، أو كان بعضهم أيضاً لم يصل بعد إلى العمل السياسي وكان من مواقع وظيفيّة... بعدها تبَلْورت اتجاهاتهم... بعضهم كانوا ماركسيّين... وإذا كنت أريد أن أذكر بعض الأسماء فيأتي منهم: ميشيل عفلق، صلاح البيطار، كان هناك أيضاً مثل: نظيم موصلي، أليس اسكندلفت، شاكر العاص، وجميع الأسماء الأخرى لا تحضرني الآن... كانوا يكوّنون جماعات أو شِللاً مع أنصارهم، يتوجّهون نحو مَنْ؟ نحو الطلبة... ولقد كانوا في مرحلة ما يتعاطفون مع الدكتور عبدالرحمن الشهبندر، وذلك حين عودته، وهو لم يكن من هذه المجموعة، فهو من جيل سابق. ولكن الشهبندر عندما عاد، حاول بعضهم أن يفتّشوا عن هذا النمط من القيادة الجديدة، وكان لهم لقاءات معه واتصالات، وأيضاً نحن كطلاب في تلك المرحلة، عندما كان عائداً من المنفى حديثاً وكان يلقي الخطابات وتتجمّع الناس عنده. ولكن رأينا فيه أنه من زعامة تقليدية ولم يكن هذا الذي يرضينا. وقد أُحيط بجوّ معيّن وبعدها اغتيل قبل أن يستطيع أن يُبلْور اتجاهاً سياسياً ـــــ حتى بالنسبة لوضعه، لقد كنا ننطلق من موقف الرفض لكل هذه القيادات التقليدية. وكنا نعتقد أنه بالرغم من أنّ الشهبندر كان شخصية قومية فكراً وسياسة ـــــ إلاّ أنه كان من الذين هم داخلون في اللعبة السياسية العامة، خاصة في العلاقات الدولية والصراعات بين الانتداب الإفرنسي والنفوذ الإنكليزي..
لقد كنا نحن منذ ذلك الحين آخذين بيننا وبين هذه القيادات خطاً فاصلاً، أي الفصل بين هذا الاتجاه الجديد الذي يتلمّس طريقة ويُبلْور حركة سياسية وحركة نضالية وبين هذه التيارات والقيادات التي لها طابع تقليدي. وفي الحقيقة، بقيت هذه الأمور هكذا في مخاض ولم تُحسم.... وفي الواقع، لم تُحسم إلاّ بعد العام 1943، حيث إنها أخذت وقتها اتجاهاً... وقد بقيت تتأرجح جميع هذه الحركات، مثلاً في عام 1943، جرت الانتخابات النيابية وترشّح ميشيل عفلق، كتعبير عن هذه المجموعات المثقفة من الشباب، كممثّل لهم...
ولكن وقتها شكري القوتلي الذي كان يعبّر عن الاتجاه الوطني التقليدي هو المتزعّم للحركة الوطنية. وكان هناك نوع من الحوار للتعاون معه، وكنا نحن بعد في موقف المتعاون مع اتجاه الأستاذ ميشيل وإخوانه، ولكننا وقفنا حينذاك موقفاً ناقداً وضد، وكان رأينا أنه كيف يتعاون مع هذا التيار التقليدي، عندما أصدر نشرته المعروفة في الانتخابات، "لماذا نخوض المعركة"، "ونحن نقلع الأشواك ولا نزرع الرياحين، وأنّ طريقنا طويل".. ولقد كان في ذلك رد علينا.. وهو رد على الشباب الذين أخذوا ينتقدونه. وقد بدأنا ننتقد هذا الموقف وهذا التعاون والتعامل مع التيار الوطني التقليدي القديم..
س: من هم زملاؤك وأصدقاؤك الذين كانوا معك؟
ج:... كانت دائماً تتكون الشِلل كمجموعات من الطلبة وكان رفاقنا الذين هم من حمص ومجموعتي عندما جئنا إلى الثانوية، تتكوّن من سامي الدروبي، ظهير موسى، المرحوم الدكتور كمال مشارقة.. وغيرهم.. وكنا دائماً في إطار تلك المرحلة، الذين هم من المحافظات السورية غير دمشق، يتكتّلون. وهكذا فقد كان معنا شِلّة دير الزور وفيها عبدالخالق النقشبندي وهناك أيضاً من محافظات الجنوب من درعا... وقد كانت اللقاءات تتمّ بين الطلبة في وقت فراغهم في مقهى الكمال القديم في المرجة.. وقد كنت تجد جميع هذه المجموعات التي تتكوّن من الأساتذة والسياسيين وهي عبارة عن شِلل، شِلل، فكنت ترى خالد بكداش وإخوانه شِلة من جهة، عدنان أتاسي ومجموعته من جهة، ميشيل عفلق وأصدقاؤه مجموعة على حدة.. وهذه قبل مرحلة "الطاحونة الحمراء" في عام 1943 وقبلها مرحلة عام 1940...
ففي هذه المرحلة في الحقيقة، لم يتبلْوَر عمل سياسي منظّم. كانت مشاركة وتوجيه أكثر منه كصيغة تنظيم، ندوات ومحاضرات كل ذلك قبل الحرب الثانية.
س:.. هل كان هناك اسم معيّن تنضوي تحته هذه الشِلة من الشباب المثقف أو هذه الشِلل، اسم حركة معيّنة، الإحياء العربي مثلاً..
ج: كلا أبداً، الإحياء العربي، بعد المرحلة التي أتحدّث عنها، الإحياء العربي نشأ في سنة 1940 ـــــ 1941 وأنا ما أتحدّث عنه هو البدايات الأولى، في سنة 1937ــــــ 1939، في هذه المرحلة.
س: فلنبق هنا، أين يقع الأرسوزي في هذا السياق العام وما هو دوره في ذلك الحين؟
ج: الأرسوزي، في تلك المرحلة، أولاً جاء إلى هنا، في دمشق، بعد هذه المرحلة الأولية.... المرحلة التي بدأ فيها عملية ومحاولة بلْوَرة وصياغة البعث، هي في مرحلة عام 1940 حتى عام 1943، بعدها تشكّل (البعث) في نهاية عام 1943... الأستاذ الأرسوزي ـــــ أنا مخضرم، لقد مررت بتيارَيْن ـــــ في البداية من أساتذتي، ثمّ بعدها تغيّبت عندما درستُ سنة في بيروت في بداية الحرب. بعد ذلك، انتقلت إلى هنا، إلى الجامعة السورية في العام 1940ـــــ 1941، فلما أتيت هنا إلى دمشق، أول من التقيت (زملائي الطلبة)... وبقيتُ في الجوّ الدراسي في هذه المرحلة صِلَتنا مع أساتذتنا القدامى (عفلق، البيطار) كانت قد انقطعت ولم تتواصل... فكنا نحن نعمل كمجموعة من الشباب في النشاط الوطني العام، لقاءاتنا واتصالاتنا مع بعضنا البعض، فلم تتبَلْور أي صيغة تنظيمية ولكن خطنا هو هذا الخط الوطني ضد الانتداب الافرنسي... وكان دائماً شعار الوَحدة والقومية، عدا نضال الاستقلال الكامل والناجز الذي كنا نشارك فيه، كل ذلك كان سائداً في فكرنا ومنذ تلك المرحلة. وهذا هو الذي جذبنا في البداية نحو ميشيل عفلق واجتمعنا حوله ولقد وجدنا فيه شيئاً متميّزاً من هذا التيار اليساري الآخر وهو التيار الشيوعي الذي كان آخذاً نهجاً مغايراً، ولم يأخذ النهج الوطني الجذري وكان بعيداً في دعوته عن النهج القومي العربي. وفي بداية توجُّهاته والمقالات التي ينشرها، لم يكن طارحاً كل صيغته، فلم يستطع أن يشدّنا إليه. أما الذي كان يشدّنا فهو هذا الاتجاه الوطني الوحدوي العروبي...
في سنة 1940، عندما أتيت إلى دمشق، أولاً الشِلة التي كنت فيها هي الشِلة التي كانت تحيط بزكي الأرسوزي. وقد كان عندي ذكريات عنه، عندما كان في عصبة العمل القومي ويأتي إلى حمص ــــ فأنا لم أنتسب إلى عصبة العمل القومي ـــــ ولكن كنت وكنّا نحن جميعاً، نجد أنّ هذا التيار هو أقرب ما يكون إلينا كشباب لاندفاعنا وتطلّعنا. وزكي الأرسوزي وهو في اللواء كان يزور حمص وجاء عدة مرات إلى مكتب عصبة العمل القومي. ومنذ ذلك الحين، كنت معجباً بشخصه واندفاعه، وكذلك هذه الروح المعنوية العالية عنده. وهو مجلسه طريف، فيحرّض على التثقّف والثقافة. وكان يحيط به مجموعة من الشباب اللوأيين والحمويين والديريين، فهنا في دمشق، التقيت به وصادقته، بعدها استأجرنا بيتاً واحداً وسكنا معاً، وكان وقتها عائداً حديثاً (من العراق) وعشت وإياه وكنت من طلابه المقرّبين، كنت قريباً منه وعشت عدة أشهر وإياه في بيت واحد.. وكوّنا شِلة من الطلاب والشباب في الجامعة. وكنا متطرفين بالشكل السلبي، نتهم الناس بأنهم مقصّرون وأنّ وطنيّتهم هشّة وضعيفة، وكنا آخذين هذا الوضع العنيف وكانوا يسمّوننا بالأرسوزيين، طبعاً، بسبب هذا الوضع القومي العروبي وأيضاً بالقوميين...
هذه هي مرحلة المراهقة (السياسية) الأولى التي كانت عندنا. ولكن الشيء الذي كان يدفعنا إليه، إلى الأرسوزي ـــــ وكانت ظروف حرب ـــــ هو الدفع إلى التثقّف وخاصة الحرص على إتقان اللغة الأجنبية والمطالعة. ولم يكن هناك كتب وكنا نتداول الكتب فيما بيننا وكان دوره دائماً أنه يصرّ على عدد من الكتب يقف عندها: الإنجيل والقرآن وكتاب فخته "خطابات إلى الأمة الألمانية" كتاب نتشة: "هكذا تكلم زردشت"، بعض الكتب الأخرى التي كانت فيها بذور النازية مثل كتاب "شامبرلن" ـــــ ليس ذلك الذي أصبح رئيساً للوزراء، وإنما هو كاتب اجتماعي ومفكر، Les Racines du xIxs. وهذا الكتاب يقع في عدة مجلّدات، وفيه أصول الفلسفة النازية من قبل ظهور النازية من القرن التاسع عشر، وكان الأرسوزي أيضاً يقرأ في "روزنبرغ"، تاريخ القرن العشرينL'histoire du xxs. وفي كتاب تشامبرلن "جذور القرن التاسع عشر"، وفيه أشياء كثيرة عن الأصول الحضارية والشعوب وتمايزها العرقي والعنصري، وهو كتاب مؤسس لهذا الاتجاه النازي، ولكن كان الأرسوزي يركز على هذه الدوافع الروحية وتأخذ عنده مسألة اللغة حيزاً مهمّاً...
س: هل كان عددكم كبيراً حول الأرسوزي؟
ج: تتّسع الحلقة وتضيق.. ولكنه كان جذاباً وبيته دائماً مليء وحسب ظروف الأزمات التي كان فيها البلد... فيتكاثر الشباب حوله. ولكن، هنا الخلاف، أنّ حول الأساتذة ميشيل عفلق وصلاح البيطار، كان يتجمّع أهل دمشق بصورة خاصة.. ونحن أيضاً كنا نلتقي معهم في عام 1940 و 1941. ولكن كنا نقّادين لفكر عفلق والآخرين ولهذه الزوايا الدمشقية في تلك الظروف الوطنية، وكان من تلامذته عدا مجموعة الطلبة: بديع الكسم، عبدالله عبدالدايم وآخرون، أيضاً مثل نزيه الحكيم وآخرون الذين كانوا يتعاونون مع جماعات العهد أو البعض المتعاون مع الافرنسيين من بعض الطلبة، فكنا ننتقدهم وننتقد الرخاوة التي تظهر لدى بعض عناصرهم. بعض العناصر الموالية لهم والتي تحيط بهم. لكن الحقيقة الخط والاتجاه كان واحداً.
في تلك المرحلة هم نظّموا، ميشيل عفلق وصلاح البيطار، حركة الإحياء العربي. وأنا لم أنتسب لحركة الإحياء، لقد بقينا كشِلة أو كمجموعة من الشباب المحيطين بزكي الأرسوزي والذين كانوا منذ ذلك الحين حاملين اسم البعث العربي ولكن ليس كتنظيم أو حزب. كان لدينا مكتبة، أطلقنا عليها اسم مكتبة البعث العربي. وحتى نحرص على الكتب التي نتداولها كان لها ختم نختم به الكتب، حتى مَنْ يستعير كتاباً، يُرجعه، فأول ما وُضع شعار "البعث العربي" هو كختم لمكتبة حتى لا تفقد الكتب بين هذه المجموعة التي كانت تتداولها وتكوّن اتجاهاً وتياراً وطنياً داخلياً، هذه هي النظرة والأصل في اسم البعث العربي.
لقد كان للأرسوزي بعض المحاولات التنظيمية، فأنا لم أحاول أن أشارك فيها.. ولكن، أن نقول إنه بلْوَر أو نظّم حزباً أو كوّن حزباً، فلم يكوّن شيئاً من ذلك، وصعب عليه أن يكوّن حزباً لأنّ له طابعه الشخصي. فكرياً هو يتدفّق، يعطي باندفاع. لكن الرابطة الفكرية مفقودة، منظومته الفكرية فيها دائماً حسّ الإلهام والإبداع، يعني يريد أن يعطي لنفسه طابع النبي أكثر من طابع المفكّر.
س: هل كان لديه رابطة فكرية؟!
ج: في الحقيقة، وحدة فكرية كاملة غير موجودة، إلاّ عندما يتعلق بفكرة العروبة، وحتى عندما يطرحها فإنما يطرحها بنزعة إمبراطورية حتى أنه كان يسمّيها بكلمة "إمبراطورية عربية"، كان دائم الحديث عن العصر والحداثة والديمقراطية وتكوين المجتمعات.. دائماً تجد أنّ هذه المنظومة ليست واحدة وموحّدة ولكن هناك شيئاً أساسياً بالنسبة إليه: وهو مسألة الأمة العربية، تكوينها، خصوصيتها، ضرورة وحدتها... ولكن دائماً كان عنده نزعة النخبة ونُخبة النخبة، دائماً الأصالة: الأصالة يجب أن تكون محدّدة بمجموعة نقيّة طهريّة كاملة.
ولكن لو تحقّقت الوحدة العربية في ذلك الحين على يد أي إنسان، لأتهمها هو ذاته إذا لم تكن على يده. كان يعطي حيوية وحرارة وكان حوله مريدين وله طابع الأستاذ. طبعاً دائماً كان اسمه "الأستاذ". ويريد أن يعطي لنفسه هذا الدور، مثل دور المسيح وتلامذته حوله وحواريه، أكثر من دور المنظر السياسي أو المنظر (الفلسفي) غير السياسي. كان يعطينا حرارة واندفاعاً في تلك المرحلة.
ففي سنة 1941، قامت حركة رشيد عالي الكيلاني. وزكي الأرسوزي كان له موقف منها: فكان يتّهم هذه الثورة منذ البداية أنها غير مخلصة. وهو، في تلك المرحلة، يتصوّر أنّ الإنقاذ للأمة العربية سيأتي ـــــ حتى تلك المرحلة، إذ إنه بعد سنة 1942 غيّر موقفه ـــــ سيأتي الإنقاذ عن طريق بريطانيا. لقد كان يعتقد في تلك المرحلة أنّ بريطانيا هي المُنقذ. فكان له موقف معاكس، ونحن كنا متحمّسين جداً لهذه الثورة.
فالأساتذة ميشيل عفلق وصلاح البيطار وتلامذتهما، وقتها كانت حركتهم السريّة التي أصدرت عدة نشرات باسم "الإحياء العربي"، ظهرت للعلن وبدّلت اسمها تحت اسم "نصرة العراق"، ومن وقتها صاروا يدعوننا للتعاون معهم وصار هناك لقاءات وتعاون. وأنا وقتها تطوّعت لنصرة ثورة العراق وذهبت للعراق وشاركت مع مجموعة من الطلاب الآخرين في الجامعة السورية، ولم يكونوا جميعهم من سوريا منهم اثنان من الأردن وواحد لبناني ـــــ فيصل طريفي من طرابلس ـــــ والأردنيان هما شوقي عميرة والآخر من آل التلّ ـــــ وقتها الأساتذة ميشيل وصلاح، أخذا معهما مجموعة من الطلاب، رغم أننا نحن كنا ذاهبين متنكّرين وسراً، مع ذلك أبوا إلاّ أن يودّعونا في محطة القطار، حتى يعطوا حماساً لطلابهم، رغم أننا لم نكن مُنتمين لحركتهم. مع ذلك هناك صِلة وتواصل إن فكرياً أو في اللقاءات أو الأعمال المشتركة في الظروف السياسية والمظاهرات بيننا وبين هذه المجموعة.
هذه الأحداث كانت في سنة 1941، ولكن هذه الحركة ضعفت، عندما أُخرجت قوات "فيشي" من سوريا، ودخلت قوات "ديغول" والبريطانيين، ففرضوا عليهم حلّ تنظيمهم وأيضاً زكي الأرسوزي طورد ونفي إلى اللاذقية في تلك المرحلة. عندئذ اقتنع لما اضطهد أنّ بريطانيا لا تعمل لصالح (الأمة أو البلاد العربية)، لقد كان يعوّل عليها أن تساعد على تحرّر سوريا من الانتداب الافرنسي وتساعد على وَحدة سوريا والعراق، إذ إنه كان مطروحاً آنذاك وحدة سوريا والعراق من أيام الملك غازي، وكان دائماً في قناعته أنّ الملك غازي قُتل اغتيالاً وأنّ الشهبندر أيضاً قد اغتالته مجموعة جميل مردم بك ومجموعة "الوطنيين" الآخرين معه... وكان الأرسوزي قد شهد في المحكمة التي أُقيمت، شهد ضد جميل مردم أنه متآمر... وأتى برواية سمعها في العراق، أنّ هؤلاء متآمرون ومتواطئون ومن وقتها عدّل موقفه وصار يشكّ في بريطانيا... بعد أن كان يعتقد أنّ بريطانيا ستساعد على تحرّر العرب وعلى تحرّر سوريا من الفرنسيين وعلى وحدة هذه المنطقة، المشرق العربي، وكان وقتها تصوّر الوحدة: فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، لقد كان تصوّر الوحدة في هذا الإطار.. طبعاً كنا نتحدّث عن الوحدة من المحيط إلى الخليج في تلك المرحلة...
بعد تلك المرحلة، جاءت سنة 1943، التي بدأ فيها التحرك الوطني وبداية المطالبة بالاستقلال، يعني عندما انتهى عهد وجاء عهد آخر، عندما تشكّل المجلس النيابي، صار هناك قدر من الحرية.. في ظل الانتداب، حصلت الانتخابات وأصبح هناك دستور بعد انتهاء عهد الشيخ تاج... ومن بدء عام 1942و1943، ابتدأ بعد ظروف الحرب وبعد الانفراج الذي حصل، ابتدأ الحلفاء يسجّلون الانتصارات وحركة تراجع النازية. رغم ذلك، كانت الاتجاهات دائماً في تلك المرحلة وكان التوجّه القومي يتعاطف مع الألمان ومع النازية، في جزء منه ولكن القسم الآخر، لا، فإنه منذ ذلك الحين كان واعياً لهذا الاتجاه الخطر والتعصّبي والاتجاه العنصري.
ولكن كان هناك تأثّر عام بهذا المناخ، باعتبار هذا الطرح القومي وباعتبار أننا مُحتلّون من الدول الغربية، الفرنسية والبريطانية... بدأت عندئذ هذه التحركات القومية وبدأت تتيقّظ هذه الحركة القومية أنّ في سوريا أو في لبنان: في الجامعة الأميركية في بيروت والعروة الوثقى فيها وبعض الأساتذة هناك مثل قسطنطين زريق...
وكان هناك مجموعة من الطلاب يأتون إلى هنا لزيارتنا ونحن نذهب لزيارتهم وكانت الزيارات متبادلة بين الجامعتَيْن، دائماً نتبادل العلاقات... وأيضاً هنا بدأ "النادي الثقافي العربي" بإقامة المحاضرات، وهذا النادي كان لمجموعة من المثقّفين، قسم منهم كان يتعاون مع الحركة الوطنية التقليدية، إلاّ أنّ طروحاتهم كانت طروحات عروبيّة، والاتجاه العام هنا هو الاتجاه العروبي، وكل الحركات والجميع في تلك المرحلة تطرح الطرح العروبي، ولو أنه كان قسم منها متركّزاً فيها الوطنية الإقليمية، وآخرون منذ ذلك الحين لا ينظرون هذه النظرة ولا ينظرون للتحرّر الوطني إلاّ مِن أُفق وَحدوي. حتى في أيام العصبة، كانت هي موجودة وكانت الكتلة الوطنية، ولكن الحركتَيْن كانتا تتحدّثان في الوحدة العربية. ولكن هناك حزباً قوامه على أساس الوحدة وحزباً آخر يراها من ناحية الاستقلال الوطني ومن ثمّ الوحدة. بينما الطرح الآخر، فمن الآن، يطرح قضية الوحدة.
بدأ هذا النشاط إذاً ونحن في الجامعة السورية، هذه المجموعة من الشباب العربي ومن خلال لقاءاتنا وعلاقتنا مع الطلاب في الجامعة الأميركية في بيروت، شكّلنا هنا جمعية أطلقنا عليها اسم: "الرابطة العربية" وكانت تقتصر على طلاب الجامعة وذات اتجاه وحدوي وكان فيها من البلاد العربية، لبنانيين وأردنيين وعراقيين وسوريين طبعاً، والجميع كانوا مشاركين فيها.
في تلك المرحلة، بدأ يعاود الأستاذ صلاح البيطار وميشيل عفلق نشاطهما ويقيمان محاضرات في النادي الثقافي العربي عن القومية العربية وموقفها من الشيوعية، ثمّ أعقبها موقف صدر في سنة 1943، وهو أنّ ميشيل عفلق ألقى محاضرته "في ذكرى الرسول العربي".
ونحن أيضاً في "الرابطة العربية" أقمنا مهرجاناً ـــــ وكان في حينها قد تشكّل البرلمان ـــــ فحضر النواب الجدد: أكرم الحوراني ورئيف الملقي وعدنان الأتاسي ومجموعة النواب الشباب الجدد، فقد كانوا حاضرين في هذه المهرجانات وكانوا يشاركون. وقد ألقيتُ أنا محاضرة في افتتاح نشاط الرابطة العربية، وكان لي أيضاً زميل في كلية الطب، أصبح بعد ذلك معنا بعثياً وهو د. عبدالمنعم شريف من منطقة إدلب.
فبعد هذا الجوّ وهذا المُناخ، وهم ينشطون ويتحرّكون ونحن كذلك نعمل، وفي أواخر سنة 1943، الأستاذ ميشيل عفلق دعانا ـــــ طبعاً كنا سابقاً نلتقي دائماً ونتجادل ونتحاور ونتناقش وننتقد، وكنا نحن لا نزال مالكين قدراً من التعصّب الأرسوزي ولأطروحاته وإن يكن في حدود ـــــ دعانا ميشيل عفلق ودعاني أنا شخصياً إذ إنني كنت ناشطاً بين زملائي وكنت دائماً من المحرّضين agitateurs وفاتحني وقال لي: أنتم تتحدّثون بنفس اللغة التي نتكلم نحن فيها. نحن نقيم مهرجاناً أو احتفالاً أنتم تقفون معنا ضد خصومنا، وأخصامهم مَن؟ الشيوعيون والإخوان المسلمون. فكنا نحن ننتصر لهم. ونحن أيضاً في صراعاتكم نقف معكم... فمن الواضح أنّ اتّجاهنا الفكري هو واحد: اتّجاه قومي تقدّمي، تحرّري، وطني.
ولم نكن نطرح في ذلك الوقت أفكاراً اشتراكية، إلاّ بصورة بدائية جداً، كان الموضوع هو التحرّر الوطني والموضوع القومي وتأكيد الهوية (العربية) في مواجهة "سلب الهوية" أمام حركة الإخوان المسلمين والقوميين السوريين والشيوعيين... وكان هؤلاء يركّزون على نفي القومية العربية. ألم يكن مواقفهم، كل هذه القوى، تتّجه لنفي هذا الاتجاه الذي يصعد، وهو الاتجاه القومي العربي، لماذا؟ أَمِن أجل إعطاء طابع خاص لهم في هذا الإطار الوطني، لا! إنما كانت هناك محاربة: يعني مقاومة كل اتجاه سياسي آخر وتأكيد خطّه أو نهجه الفكري من أجل أن يصيغ عليه أيضاً نهجاً سياسياً.
وقتها إذاً بدأت المفاتحات لتشكيلهم التنظيمي وطلب منّي الأستاذ عفلق أن أجمع له مجموعة من الشباب معنا، سواءً كان في الرابطة العربية أو من طلاب الجامعة ومن اللوائيين وتلاميذ الأرسوزي. فالتقينا وتناقشنا: بعضهم بدأ يتردّد وينتقد بعض العناصر، وكان معه مثلاً في تلك المرحلة الدكتور مدحت البيطار وبرز اسمه وهو قبلها كان في الكتلة الوطنية. لقد كان عندنا نوع من التزمّت: مَن كان يعمل في عصبة العمل القومي أو في الكتلة الوطنية أو مَن كان يشتغل مع هذا الرعيل السياسي الأول، كنا دائماً نتهمه ونهاجمه ـــــ لقد كنا نوعاً ما في فترة المراهقة (الوطنية) ـــــ فصارت وقتها مواقف نقد لفلان أو فلان، ومواقف استنكار ونفي... وقد واجه عفلق هذه المسألة وطرح نوعاً من العقلانية السياسية وكيفية بناء التنظيم، وطرح أيضاً مسألة تنظيم الحزب، فكان هو وصلاح البيطار. فكثير منّا سكتوا عندئذ وطلبوا التأجيل حتى يتشاوروا. أما أنا فقلت له، رغم أنني كنت مستمعاً، قلت له: أنا موافق. طبعاً عندما وافقت، بعدها كثير من إخواني وافق، بعد أن كان أكثرهم من المتردّدين... وهكذا كان وكانت هذه هي البداية.
وأذكر أنه حتى يتثبّت هذا الشيء قال الأستاذ ميشيل عفلق أن نعقد لقاء آخر. وكنا نريد نحن شيئاً مكتوباً ومنصوصاً عليه. فلم يكن هناك شيء مكتوب. وقتها أتى بورقة وأنا معه وكتب 16 بنداً كمقوّم أساسي لعمل الحزب، 16 مادة على ما أذكر. في هذا الموضوع يمكن أن تعود إلى شاكر الفحّام... بعدها طلبنا طبعها وقد بقينا حتى عام 1947 بدون دستور. في عام 1944، طلبتُ أنا طبع هذه المواد الست عشرة تحت عنوان: "أهداف وغايات لحزب البعث العربي" ولكن بعدها اندثرت بعد المؤتمر الأول....
ولكن قبل عدة سنوات كان شاكر الفحّام يتحرّى عن أصول تاريخ حزب البعث، وأتى بهذه المواد ولقيتها عنده، وكان قد التقى بميشيل عفلق في بغداد وسأله متى تاريخها، فقال له: أنا لا أذكر. اسأل د. جمال الأتاسي، يمكن أن يفيدك...
فهذه المرحلة كانت أولى البدايات. في الحقيقة، هنا، لم يكن هناك مشاركة لزكي الأرسوزي في تأسيس وتنظيم الحزب. وهو كان وقتها يتهم ويقول: لقد سرقوا منّا طلابنا وأفكارنا وعملوا حزباً، سلبوا منّا طلابنا".. وبالفعل كنا طلابه. ولكن في الحقيقة كنا بين الجهتَين، مشاركين مع مجموعة الشباب القومي في الجامعة وفي الثانويات، والذين بعضهم أصبحوا موظفين: هؤلاء جميعاً هم الذين خلقوا التكوين الأول لحركة البعث.
وكذلك أيضاً ومنذ العام 1943، وفي تلك المرحلة، كان هناك حوار مع أكرم الحوراني ومع مجموعته وهو نائب، وكانوا يأتون ويشاركون في اللقاءات والاجتماعات. وكذلك عندما صدرت جريدته، أيضاً كنت أنا صديقاً له. وقد تعرفت على أكرم الحوراني وانعقدت بيننا صداقة منذ 1941، عندما كنّا في العراق، واعتُقلنا معاً في المعسكرات الفرنسية في دير الزور، عندما عدنا من العراق، وقتها تعرفت عليه. وكذلك عندما نجح في الانتخابات وأصبح نائباً. وقد كان ابن أخته صديقاً لي، محسن الشيشكلي، فدائماً كنّا نلتقي معاً فكان زميلي، فكنّا دائماً نلتقي مع أكرم الحوراني، وعندما أنشأ جريدته كنّا نشارك معه فيها... فمنذ ذلك الحين كانت هناك حوارات. فهذه هي التيارات الثلاثة، في الحقيقة، التي بقيت وطبعت البعث.
حتى أكرم الحوراني، كان التفكير دائماً أن نأتي به إلى حزب البعث، هو وبعض مجموعة النواب وغيرهم. واستمر نقاش وحوار وبقيت صداقة وعلاقة، ولم يتم ارتباط حزبي. كانوا يظهرون بعض الخلافات السياسية والفكرية وفي المواقف، ولكن بقي الجدل قائماً حتى سنة 1953 حين تمّ الاندماج.
س: هناك سؤال: ما مدى تأثير الأرسوزي وفكر الأرسوزي في فكر حزب البعث؟ أو كيف ترى هذا التأثير؟ أو هل هناك تأثير برأيك؟
ج: والله تأثير الأرسوزي، في الحقيقة، على جيل من الشباب، كان له تأثير خاصة عندما نقول الأرسوزي، نقول مجموعة الشباب الذين جاءوا من اللواء وهم يحملون هذا الاندفاع القومي، هذه الحرقة والعذاب الذي عانوا منه، لاقتطاع جزء من وطنهم... هذا الاندفاع الوحدوي، هذه الروح الأولى للعروبة، مثّلها زكي الأرسوزي، وهؤلاء الشباب كانوا يشعّون. الشباب الذين جاءوا من اللواء، كانوا دائماً ناشطين واندفاعهم للثقافة واندفاعهم الوطني والقومي، فقد أعطوا هذه الروح وهذه الحياة لهذا الاتجاه ولهذا التيار، أكثر من أن يعطيه فكره بذاته. فكره بذاته (الأرسوزي) لم يكن ليكوّن منظومة موحّدة أو منظومة سياسية. كان اتجاهه السياسي اتجاهاً نقدياً. اتجاه وطني ونقد لكل التيارات. ولكن الروح النقدية كانت الأساس الذي شبّعنا بها، نقد الطبقة القديمة، نقد جذورها التاريخية، نقد علاقاتها، نقد انتهازيتها. هذه الروح النقدية وحب التثقّف، والذي كان دائماً يستعين فيه بمعينيْن: العلوم الغربية واللغة العربية، هذا كاتجاه، كحافز، كدافع: أعطى الروح. لكن كبلْوَرة الاتجاه السياسي، تأسيس حزب، تكوين إيديولوجية سياسية، فالأرسوزي لم يعط. فلو ترجع لكتاباته كلها، فلا تجد شيئاً، تجد تلك المقالات، تجد في المقالات هذا المستوى السياسي الذي في الجريدة اليومية، ومن ثمّ تجد الميتافيزيقا واللاهوت وغير ذلك. فتجد تفاوتاً واضحاً...
س: مدى تأثير بعض التعبيرات مثلاً: البعث، رسالة خالدة وغير ذلك.. هل تعتقد أنّ ذلك من تأثيراته...
ج: البعث، طبعاً، ولكن "الرسالة الخالدة" ليست من تعبيراته. ولكن فكرة الخلود وهذه النزعة المثالية والحافز الروحي أكثرها من جذور الأرسوزي. فكر صلاح البيطار وميشيل عفلق هو فكر قومي متأثّر بالفكر الديمقراطي الغربي أكثر من تأثّره بالفكر القومي النازي أو غيره... هو فكر متأثّر بالنزعة الوطنية والفكر السياسي الذي انبثق عنها... فكان عفلق والبيطار أكثر قدرة على صياغة تيار واتجاه موضوعي. ولكن الأرسوزي يتدفّق، في حين أنهما كانا قليلي العطاء. فمشكلة ميشيل عفلق أنه قليل العطاء، ولكنه كان يقدر أو كان حريصاً على أن يصوغ ترابطاً ذهنياً أكثر إحكاماً في ذلك. لذلك في تلك المرحلة، بين عام 1944و1947، كان التفاعل أو التعامل مع فكر ميشيل عفلق، ابتدأ في الحقيقة دور ميشيل عفلق وأصبح عندئذ مسيطراً على الحركة وعلى تيارات الشباب في الحزب واتجاهه الفكري...
س: شعارات الحزب الأولى والأساسية والتي لعبت دوراً مهماً جداً: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، هذه الشعارات كيف تكوّنت؟
ج: هنا أيضاً، كانت سائدة النزعة القومية التي فيها هذا الدافع الروحي، الصوفي نوعاً ما، وله جذور من قبل، وكان فيه أثر (الدين).. دائماً عندما تريد أن توقظ النزعة القومية (تعود إلى الماضي إلى التاريخ)... وهنا سوف نرى كيف يتميّز عبدالناصر عنهم بعد ذلك. البعث، حافزه ودافعه القومي الوحدوي قوي، أقوى من عند الناصرية، بينما ترى الناصرية أنّ اتجاهها مستقبلي، ولم تركز كثيراً على الماضي، واتجاهها استراتيجي من خلال الحاجة والمصالح والارتباطات الموجودة، وقد أعطى عبدالناصر اتجاهاً أكثر تطوراً وأكثر قدرة على تكوين مشروع قومي... أما هذه النزعة المثالية فيمكن بعد ذلك أن توظّفها في اتجاه آخر، كما هي توظّفت عند هذه الأنظمة الموجودة...
ومن الناحية الأخرى، هذا الشعار أمة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة، فإنّ إنشاء هذا التعبير كان من المصادفة... في العام 1945، وفي مناسبة الأول من أيار، أقام البعث مهرجاناً. فأنا في المهرجان، من جملة النداءات والشعارات التي ناديت بها والتي ختمت خطابي بها هي: أمة عربية واحدة / ذات رسالة خالدة، فعجبته للأستاذ عفلق وأذنه لقطتها*... فوضعت منذ ذلك الحين.. هكذا.. الصُدف...
وبعد ذلك، كنا دائماً نختلف ونبحث عمّن يُفلسف لنا هذه الرسالة الخالدة... فأنا تورّطت.. ولكن، فهي ترضي هذا الاتجاه: خلود الأمة، هذا الدفع، أن يكون لها رسالة إنسانية... ولكن.. دائماً يُحرج... القومية، تكوين لأمة... وليس طابع الخلود والرسالة... يمكن النزعة الدينية أن تحملها... يمكن أن نقول مثلاً إنّ رسالة الأمة العربية هي الإسلام.. والخلود رسالة، عندما يأتي ويركزها بهذا الطابع.. فكان (عفلق) يحار بعد ذلك في التعليل والتفسير.. وله (عفلق) كتابات في هذا الموضوع، ولكنها لم تصل إلى نتيجة. وأنا بقيت بعدها أُكافح، حتى نرفع هذا الشعار، عندما جئنا ووضعنا تحتها: وحدة، حريّة، اشتراكية...
وهذا الشعار ليس بالصدفة وإنما وُضع بعد عام 1947، وذلك عندما أقمنا جريدة البعث الأسبوعية وضعنا هذه الصيغة الأخرى: وحدة، حريّة، اشتراكية. وبعدها في بداية الوحدة عام 1958، تابعنا نحن إصدار جريدة البعث، وشطبت شعار أمة عربية واحدة / ذات رسالة خالدة، وأبقيت على شعار: وحدة، حريّة، اشتراكية... فرفضت الشعار الأول الذي يعطي طابعاً فاشستياً... وفي المقدّمة التي وضعتها لكتاب "عرب وأكراد"، فقد نقدت هذه الفكرة، "الرسالة الخالدة"، لأنّ الكاتب يتحدّث عن الرسالة الخالدة... وعن البعث.....
س: كلمة أخيرة: مِن أين أتى شعار، الاشتراكية والاشتراكية العربية، إذا كان حزب البعث من اتجاه قومي، وحدوي، عربي، ونشأ في المناخ السياسي الوطني... ما هي تلك الظروف برأيك؟
ج: حزب البعث، منذ ذلك الحين، كان يطرح الاشتراكية، وفي كل تيار قومي تقدّمي كانت تُطرح... وفي هذا الاتجاه الذي كان سائداً في "الاشتراكيات الديمقراطية" في أوروبا. ولكن في الحقيقة، كان الاتجاه الاشتراكي هو اتجاه إصلاحي، ولو كان البعث يقول بالانقلاب، يعني فكرة الثورة... ولأنّ الشيوعية هي التي كانت تطرح فكرة الثورة كنظرية، كان البعث يقول بالتغيير الجذري من الأربعينات، ولكن كان يسمّيه "انقلاباً". فلم يعطها طابع الثورة الاجتماعية وإنما هناك اشتراكية كنزعة ولكن إصلاحية. ولم يكن هناك نظرة للتغيير الاجتماعي وللثورة الاجتماعية والتبديل، وبقيت هذه النزعة مرافقة للبعث حتى بعد المؤتمر التأسيسي في عام 1947، فبرزت عندئذ محاولة لتأكيد التيار الاشتراكي، ولكن بدأ هنا الصراع بين يمين ويسار داخل الحزب. وبدأ الاتجاه الاشتراكي العلمي يتأكد منذ الخمسينات...
س: سؤال أخير: يُقال بأنّ حزب البعث منذ النشوء هو عبارة عن حزب أقليات ويضمّ مجموعات من الأقليات، ما هو رأيك في هذا الموضوع؟! ومن يقول بذلك من قيادات الحزب السابقة، الأستاذ جلال السيد، في كتابه عن البعث...
ج: في الحقيقة، في البدايات لم يكن الموضوع مطروحاً كذلك. وفي تلك المرحلة التي تأسس فيها الحزب، الحسّ الوطني كان قوياً حتى أننا نحن بين رفاقنا لم نكن نشعر أنّ هذا علوي أو هذا درزي إلخ... مثلاً هؤلاء اللوائيون، أكثرهم علويون مع قسم من المسيحيين.. لم نكن نفكر أبداً أنّ هذا شخصاً طائفته كذا وطائفته كذا... والبدايات الأولى لم تكن بهذه الصيغة (الطائفية أو المذهبية)..
طبعاً، دائماً هذه الشِلل تتشكّل، وهذه العلاقات والروابط السياسية، مثلاً الأستاذ ميشيل عفلق وحوله مجموعة من الشباب الأرثوذكسيين من حي الميدان. صلاح البيطار، مجموعة من حوله تتكوّن من بيئته وأسرته... دائماً هذا الشيء... لمّا تبدأ، يأتي تيار جديد. في البداية، هذا التيار يأخذ شكلاً ثورياً... وعندما كان يُخاطب النخبة، تندفع إليه قوى الأقليّة ولكن مِن خلال تطلّعها على أن لا يكون هناك تمايز، إلى أن تصل حتى تندمج بالأكثرية.. وأنّ الأكثرية لا تتفوّق عليها وتضطهدها وتتغلّب عليها...
ولكن بعدها، عندما أخذت تقوى، وفي هذا الصراع مع المجتمع التقليدي، أخذت تبرز هذه الاتجاهات (للأقليات). مثلاً، حسب التكوين الأولي، دخلت فئات منها درزية واسماعلية وعلوية ومسيحية والأغلبية السنيّة... ولكن بعد ذلك، عندما دارت الصراعات الإيديولوجية داخل الحزب والصراعات السياسية بين الأطراف، مع الأسف، كانت قد صارت هذه التكتّلات تتكوّن وتتبلْوَر، وتتبلْوَر من خلال مطامح السلطة والصراعات.. وقد كان ذلك عندما بدأت عندنا هذه التطلّعات، فصارت تتبلْوَر... وصارت هناك احتمالات للتغيير، عَبْر العلاقات في الجيش والقوى العسكرية... وهي التي صاغت هذا الاتجاه الجديد للإمساك بالسلطة والسيطرة والذي صار يعتمد على الكتل التي يمكن أن تتراص على بعضها أكثر بعصبيتها....
********
* الحقيقة التاريخية أن هذا الشعار كان قد أطلقه ميشال عفلق في بيانه الانتخابي عام 1943 وجاء نص هذا الشعار في آخر هذا البيان. والبيان الانتخابي لعام 1943 منشور في أدبيات ووثائق حزب البعث العربي الاشتراكي منذ زمن بعيد. فليس صحيحاً إذاً أنه أطلق عام 1945.