تقديم محمد المجذوب لكتاب مصطفى دندشلي
إصدارات المركز /
فكرية /
1999-01-01
تقديــــم
للدكتور محمد المجذوب
رئيس المنتدى القومي العربي
رئيس الجامعة اللبنانية (سابقاً)
في 1/1/1999، وفي صحيفة (السفير) اللبنانية، وفي مقال بعنوان: "عندما تكتمل الثقافة بالعمل الوطني"، تحدّث المفكر العربي الراحل، الدكتور أنيس صايغ، عن المثقف الملتزم فوصفه بأنه ذلك الذي "يُكرّس تحصيله الأكاديمي ومخزونه العلمي لصالح الأمة، فيتعاطى الشأن الوطني فوق رؤوس اللعبة السياسية بجرأةٍ وإصرارٍ وثقةٍ".
هذا الوصف الدقيق للمثقف الملتزم بقضايا أمته ينطبق على الأخ والزميل الدكتور مصطفى دندشلي، الذي أتحفنا بكتابه الراهن، الحافل بالموضوعات المتعمقة عن الثقافة، ودورها الفاعل في المجتمعات، في الماضي والحاضر، وإسهامها في عملية التغيير الديموقراطي، وأثر المنابر الثقافية في الحياة العامة، وواجبات المثقف الملتزم إزاء مجتمعه المتخلف، وعلاقة الثقافة بنسق القيم السائد، وغير ذلك من الإشكاليات والتساؤلات والمفاهيم التي يطرحها ويثيرها كل حديث يتناول بالبحث والتحليل موضوع الثقافة وأهميتها على كل صعيد.
وجيلنا الذي أنهى، في منتصف القرن الماضي، تحصيله العلمي في المدرسة ثم في الجامعة، لا تُمحى من ذاكرته صورة ذلك الشاب الصيداوي الذي عشق الثقافة منذ نعومة أظافره حتى اقترن اسمه بها، وحتى غدت هذه الصفة أو الفضيلة الميزة الملازمة لاسمه التي يُعرف بها بين أقرانه.
وإذا كان العشق على أنواع فإن أسماها وأرقاها هو عشق الثقافة. وبما أنّ الثقافة لا تنمو وتزدهر وتبدع إلاّ في فضاء من الحرية، فإنّ العنصرَين (الثقافة والحرية) أصبحا، على مر العصور، متكاملَين متلازَمين متضامنَين يخضعان لمصير واحد. فعاشق الحرية مثقف ولو كان لا يُحسن القراءة، وعاشق الثقافة حرّ طليق ولو كان مكبلاً بالأغلال.
وعشق الثقافة العربية والإنسانية تجلّى وتجسّد في فكر الصديق الكريم وفي أعماله وأقواله وتصرفاته، ومنها إنشاؤه لـــــ "المركز الثقافي للبحوث والتوثيق" في صيدا، منذ أكثر من ثلاثة عقود، ورئاسته ورعايته له، وإشرافه على ندواته ومنشوراته التي غدت من المعالم البارزة في عاصمة الجنوب.
* * *
ومن ميزات واضع الكتاب أنه يؤمن بعظمة الكلمة الحرّة القادرة، في كل عصر، على هزّ عروش، وتحطيم أنظمة، وشحذ همم، والكشف عن حقيقة مزاعم وأساطير.
والحقيقة أنّ الكلمة وما زالت ظاهرة ثقافية. والثقافة ظاهرة إنسانية متحركة ومتطورة تتأثر بالبيئة والمحيط، وتتفاعل مع الأحداث الطارئة، وتنجز مهمّات جليلة في المجتمعات المتخلفة.
والعلاقة بين الحضارة والثقافة وطيدة. فلا حضارة بلا ثقافة. والحضارة تسمو بسمو الثقافة فيها، فإذا انحطّت هذه الثقافة أو ساءت أو فسدت فقدت الحضارة جوهر وجودها وتألّقها. وإذا كانت الحضارة تدل على وجود مجتمع متقدّم يتمتّع بقسط وافر من العمران والمدنيّة والحريات، فمن المؤكد أنّ هذه الحضارة لا تخلو من وجود ثقافة متطورة فيها. وإذا كان بالإمكان تخيّل ثقافة بلا حضارة، فمن الصعب تصوّر حضارة بلا ثقافة.
ويبدو أنّ بعضنا أصبح يعتقد، بعد أن تمكنت التكنولوجيا وإفرازاتها العلمية من إزالة الكثير من الفواصل والحدود بين الأمم، أنّ العالم يتّجه نحو حضارة واحدة خالية من الفروق والثقافات المتعدّدة والمتمايزة. ولكن الاعتقاد السائد بيننا هو أنّ ثقافتنا العربية ستبقى، حتى في حال نجح تيار العولمة، متميّزة، وذلك لعدة أسباب، أبرزها اثنان، أولاً لأنّ وجود (أو فرض) حضارة عالمية واحدة بقيادة قوى غاشمة لا يمكنه إلغاء ثقافات قومية أهدت البشرية روائع إنسانية في كل مجال. وثانياً لأنّ ثقافتنا العربية هي مركّب متكامل وعريق يشتمل على جميع ضروب المعارف والفنون والقيم التي اكتشفناها أو اكتسبناها أو نشرناها خلال مسيرتنا الحضارية، حتى أصبحت جزءاً من كياننا تجسّد شخصيتنا، وتثبت نبوغنا، وتعكس آمالنا وتطلعاتنا.
* * *
وموضوع الثقافة يثير اليوم عدة تساؤلات مهمّة، أهمها ثلاثة، الأول يتعلق بمصير الثقافة ذاتها باعتبارها منظومة متكاملة من القيم والمعارف الهادفة إلى توظيف طاقات الإنسان في خدمة أبناء قومه، وترسيخ المُثُل الإنسانية الرفيعة في نفوسهم وممارساتهم، وتوثيق علاقات هذا الإنسان بغيره من أبناء الأمم الأخرى. والتساؤل الثاني يتعلق بكيفيّة الحؤول دون سيطرة ثقافات معينة، تُروّجها قوى سياسية معينة، على ثقافات أخرى. أما التساؤل الثالث فيتعلق بخطر العولمة الذي بات يهدّد بالزوال أو الانحلال منظومات القيم الثقافية الأخرى في الكون، لصالح ثقافة الاستهلاك المادي أو التجاري.
وينبغي لنا، إزاء التطورات والمخاطر الراهنة، بذل أقصى الجهود لتعزيز مكانة ثقافتنا العربية، وتطوير قدراتها لكي تتمكن من استيعاب المستجدات والمتغيرات والمتطلبات المتلاحقة التي يشهدها العالم، جيلاً بعد جيل.
والجهود يجب أن تتمّ داخلياً أو وطنياً بتعميم مبادئ الديموقراطية والشفافية والمسؤولية، وحكم القانون، وأن تتمّ إقليمياً أو عربياً يتجاوز الحدود والخصوصيات وتكوين اتحاد قادر على مواجهة المنافسات والتصدّي للتحديات، وأن تتمّ دولياً أو عالمياً بمشاركة العرب مع الشعوب الأخرى في إرساء قواعد ثقافية إنسانية شاملة تتّصف بالديموقراطية الكفيلة بترسيخ قيم الحرية والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان والشعوب. وتتّصف كذلك بروح التعاون والتفاهم، واحترام مبدأ التعددية والاختلاف دون صراع أو خلاف. وتتّصف أيضاً بالانفتاح القائم على الحوار والتواصل وتبادل الخبرات والحرص على سلامة المصير البشري.
وهذه الجهود لن تُؤتي أُكلها وتحقّق شروط حماية الثقافة وتطويرها إلاّ بالتعاون الوثيق الصادق بين الدولة، بما تمتلك من سلطات وقدرات وإدارات وأدوات، وبين المنظمات والهيئات الثقافية والاجتماعية، بما تملك من قيادات وخبرات ووسائل اتصال واحتكاك بالجماهير.
* * *
والثقافة القومية لا تستحق الإشادة إلاّ إذا استطاعت الحفاظ على الأصيل من تراث الماضي، ومزجته بالأصيل من تراث الحاضر، وواكبت، في حقل المعرفة والقيم، مسيرة الأصيل في الركب الحضاري، والإسهام مع مثيلاتها من الثقافات الأصيلة والسامية في خدمة الأصيل من المبادئ والقيم الإنسانية.
وهذه الأصالة تقضي بوجوب الإفادة من علوم الآخرين وتجاربهم، دون اشتراط التبعيّة لهم وتبنّي أساليبهم. والإبداع أو الابتكار عنصر أساسي في كل أصالة. وليس من العار أن نقتبس أو نستلهم لسد حاجة، أو ملء فراغ، أو إعداد انطلاقة، أو تطعيم التراث بأفضل ما أبدع الغير، ولكن العار، كل العار، أن نكتفي بهذه المحفّزات، ونعتمد كلياً عليها لتحقيق أي إنجاز، وننصرف نهائياً عن مجالات التجديد والإبداع.
والثقافة تُشبه، إلى حدّ كبير، الحضارة في عمليات الأخذ والعطاء. وبمعنى آخر، فإنّ الثقافة، كالحضارة، لا تنشأ من عدم، ولا تنمو في قفار، فكل ثقافة جديدة وجديرة بالحياة تأخذ شيئاً أو أشياء من سابقاتها وتضيف شيئاً أو أشياء إلى لاحقاتها. وترتكب الأمة خطأً فادحاً عندما تختار العزلة الثقافية بدعوى حماية ثقافتها من التبعية أو الهيمنة أو الزوال. فالعزلة تؤدي حتماً إلى تجميد حركة التطور فيها، وتحرمها من نعمة التواصل مع التيارات والآفاق الثقافية المهمة في العالم. ومن المؤكد تاريخياً واجتماعياً أنّ لثقافة أمة تتّسم بالحيوية دوراً رائداً، في الفترات القاسية أو المضطربة من تاريخها، يساعد على خدمة قضاياها، والدفاع عن مصالحها، ولمّ شمل أبنائها، وبثّ روح الأمل والطموح والتقدم في نفوسهم. ولا نُغالي إن قلنا إنّ الأمة التي لا ثقافة لها لا حضارة لها، فهي، في هذه الحالة، ليست سوى مجموعة من البشر لا تاريخ لهم ولا ذاكرة ولا مكانة.
* * *
والثقافة مدينةٌ، بوجودها وقيمها واتجاهاتها، للتربية التي تُعتبر الأداة الصالحة لترسيخ القيم ونقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل. والقيم لا تبقى على حال واحدة. إنها تتغير في كثير من الأحيان، طوعاً أو كرهاً. والكل في المجتمع، دون استثناء، مسؤول. ولكن المناهج التربوية تتحمل القسط الأوفر من هذه المسؤولية.
ونلاحظ اليوم أنّ قيمنا العربية تتعرض لهجمة شرسة تهدف إلى تحجيم مُثُلنا وآمالنا، وتشويه سمعتنا وماضينا، وشلّ قدراتنا وطاقاتنا، ومحاولة إذلال أمتنا التي أهدت البشرية أروع الأديان السماوية وأعظم الحضارات الإنسانية وأسمى النفحات الفكرية الإبداعية. ولعل السبب يكمن في أمرَين: الخوف أولاً من صحوتنا القومية الكفيلة بتحقيق وحدتنا وتحويلنا إلى بركان حضاري وخزّان إنتاجي وعملاق مالي وشلال اقتصادي، والطمع ثانياً في ثرواتنا الطائلة وطاقاتنا الهائلة ومواهبنا الكامنة.
إنّ الإنسان، عندما انتقل من مجتمع الفطرة الأولى إلى المجتمع السياسي، أصبح يعيش في تجمعات بشرية لها أسلوب معيّن في الحياة والتفكير والتعامل يرتكز على مجموعة من المعتقدات والقيم. ومع مرور الزمن تراكمت هذه المعتقدات والقيم وترسّخت وغدت تراثاً يلتزمه الجميع ويسعون للحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال المتعاقبة. واتّبعت كل أمة طريقة خاصة لرعاية هذا التراث وإضفاء هالة من التبجيل والإكبار عليه. وتُعتبر التربية أفضل وسيلة لبلوغ هذا الغرض.
والأمم لا تتقدم إلاّ بتوجيه عناية خاصة للتربية الحاضنة للتراث القومي. ولهذا تخصص الأمم الراقية أضخم الميزانيات والجهود لرعاية العملية التربوية باعتبارها الوسيلة الطبيعية والسليمة والمنظمة لنقل القيم والتراث الثقافي من جيل إلى جيل. ولا نبالغ إن قلنا بأن التربية أضحت اليوم من أهم العلوم الإنسانية ومن أعظم المهمات القومية التي ترمي إلى تربية النشء على قيم ونظم يقرّها المجتمع ويعتبرها أساس تماسكه وعماد تقدمه.
وعلي الرغم من وجود قيم خاصة بكل فرد أو مجتمع فإن ثمة قيماً عامة تشترك فيها الغالبية العظمى من المجتمعات البشرية، نذكر منها:
1- الفضائل الخلقية، كالصدق والأمانة والوفاء والتسامح وعزة النفس والعفو عند المقدرة وإغاثة الملهوف والكرم والشجاعة والشهامة.
2- العدالة الاجتماعية التي تقوم على المساواة وتكافؤ الفرص والتضامن الاجتماعي.
3- الديموقراطية التي تُعد نظاماً سياسياً واجتماعياً وفكرياً يقوم على حرية الرأي والمعتقد، واحترام الحقوق والحريات، والعمل بمبدأ مشاركة الجميع في اتخاذ القرارات.
4- الحرية التي تتميّز بالمسؤولية إزاء الآخرين واحترام آرائهم والتزام حدود القانون.
* * *
وتتّسم القيم بميزتَين: الأولى هي أنها معتقدات مصدرها الثقافة، وتقوم على ثلاثة عناصر: المعرفة والعاطفة والسلوك. ففي البداية نعرف القيمة وندركها، ثم تصبح هذه القيمة جزءاً من كياننا تمسّ شعورنا وتُثير عواطفنا، وبعد ذلك نقوم بأدائها وممارستها كسلوك يميّزنا من غيرنا. والميزة الثانية هي أن القيم تتّسم بالاستمرار النسبي، فهي تبقى مستمرةً إلى أن تظهر ظروف جديدة أو قيم جديدة تنقلب عليها وتُثبت عدم صلاحيتها للاستمرار. غير أن تغيّر القيم يتمّ في شكل تدرّجي.
والقيم في المجتمعات البشرية أنواع لا حصر لها: قيم جمالية (معايير الجمال والقبح)، وقيم دينية وأخلاقية (معايير الخير والشر)، وقيم منطقية (معايير الصواب والخطأ)، وقيم عقلية (معايير القيمة في التفكير العقلي)، وقيم اجتماعية (معايير الصفات المرغوب فيها في ثقافة معينة).
ومن العوامل التي تُؤدّي إلى إحداث تغيير في القيم:
1- نموّ الأفكار وتطورها وتفاعلها مع غيرها، داخل مجتمعها وخارجه.
2- التغير في أساليب الإنتاج والاستهلاك محلياً وعالمياً.
3- التقدم الهائل في وسائل الإعلام والاتصال، الذي خيال الإنسان.
4- اكتشاف ثروات طبيعية نفيسة، بشكل مباغت وسريع، وبزخمٍ غير منتظر، في أقطار كانت تعيش على هامش التاريخ، فتدفقت العائدات المالية الفلكية على حكامها بصورة تحيّر الألباب.
5- تأثير القادة والمفكرين والمصلحين الذين يستلهمون عِبَر التاريخ ومتطلبات المصلحة العامة وآفاق المستقبل الإنساني فيطرحون، بسلوكهم وأفكارهم، ما فيه الخير والصلاح للفرد والجماعة والبشرية جمعاء.
6- تأثير الحروب والفتوحات والثورات الاجتماعية والعوامل الخارجية التي تترك آثاراً بالغة في العقليات والمفاهيم.
لقد طرأ على قيَمنا، في الآونة الأخيرة، تغيّر ملحوظ. وهذا التغيّر ليس للأحسن، بل للأسوأ. ومردّ ذلك إلى عوامل داخلية وخارجية. فنحن، في الوقت الراهن، أمة مغلوبة ومنهوكة القوى، وخارجة من ظلام الاستبداد والقهر والجهل، تتلمس طريق النور والاستنارة. "والمغلوب ـــــ كما يقول ابن خلدون ـــــ مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه".
ولأننا نعتقد الكمالَ في من غلبنا وقهرنا وشتّت شملنا ونهب ثرواتنا فقد رُحنا نُقلّده في كل ما يفعل دون تفكير أو تقدير أو تدبير. وانتهز الغالب هذه الفرصة فراح يُغرقنا بالتوافه من عاداته ونظرياته وصرعاته، ويوهمنا بأن قيَمنا ومُثُلنا التي أنتجت حضارتنا أصبحت في ذمّة التاريخ ترقد إلى جانب المومياءات المصرية.
ولم يكتف الغالب بذلكن بل سعى لاحتواء قيَمنا عن طريق عملائه من أبناء جلدتنا الذين تسلموا مقاليد الحكم عندنا، في غفلة من الزمن، وشوّهوا، بمجونهم وعبثهم وخفّتهم، تلك القيَم التي ظلّت قروناً موضع فخرنا ومعيار كلّ تقدّم في العالم.
وفي عهد هؤلاء الضالين انقلبت المفاهيم، وانحطت الموازين، وتقزّمت المبادئ، وهوت المُثُل، فأصبح الخائن وطنياً ألمعيّاً، والمجرم بريئاً كالملائكة، والمنافق صادقاً صدوقاً، والظالم قاضياً عدلاً، والدجّال مرجعاً أخلاقياً.
واكتشف العدو الغالب قصورنا وتقصيرنا واستعداد زعمائنا للّف والدوران، ليلَ نهار، حول النفس والمبادئ، فراح يُمجّد المنحرفين، ويشجّع المستبدّين، ويرعى المتآمرين، ويرفع من شأن الفاسدين، ويجعل من المارقين قدوةً للناشئين. والغرض من ذلك هو إيهامنا بأن التحلّي بهذه "المخازي" الرفيعة هو الشرط الوحيد للارتفاع والتحليق في سماء السياسة والإدارة، وعالم المال والأعمال، وفضاء المجد والشهرة.
وجاء التقدّم السريع في وسائل الإعلام والاتصال يُسهّل مهمة الحاقدين علينا ويُشرّع لهم أبواب منازلنا كي ينفثوا سمومهم في عقول أطفالنا. فالبرامج التلفزيونية التي تُذاع في بلادنا تُشكّل أكبر خطر على مستقبل أجيالنا. لقد حوّلوا التلفزيون من أداةٍ تثقيفية إلى أداةٍ تدميرية للقيم والشيم والفضائل.
فالجريمة الكبرى التي يرتكبها التلفزيون تكمن في أنه يُقدّم إلى أطفالنا معلومات تتناقض مع التعاليم التي يتلقّونها في الأسرة والمدرسة، لأن برامجه تتضمن مشاهد وقيَماً وقواعد حياتية تختلف كل الاختلاف عما ينطق به الأهل ويوصي به المربّون. وهذا ما يثير في نفسية الطفل نوعاً من البلبلة والحيرة والارتباك من شأنه التأثير سلباً في مقومات شخصيته واستقامة سلوكه. فالكذب والنفاق والخديعة والمراوغة تُصوَّر في المشاهد التلفزيونية على أنها منتهى الذكاء والدهاء وقمة المهارة والشطارة والنباهة.
نحن نُعلّم أطفالنا أنّ من جدّ وجد، ومن سار على الدرب وصل، ومن اجتهد نجح، ومن سهر الليالي تفوّق، فيأتي التلفزيون يعلّمهم أن النجاح ضربة حظ، وأن الثروة تهبط من السماء، وأن المذاكرة في الليل تُضني النفوس، وأن الاستقامة سلاح الضعفاء.
ونحن نعلّم أطفالنا دروساً في قيمة الصبر وفائدة العمل وجدوى الاقتصاد وأهمية التضحية والإيثار وعزة النفس، فيأتي التلفزيون يُلقّنُهم قيماً تجارية وافدة وضيعة تستخفّ بهذه الفضائل.
إن أطفالنا يرون الكاوبوي يمشي مرحاً ويُصعّر خدّه ويتبختر بثيابه الوسخة ولحيته المسترسلة، ويرون البطل يستعمل وسائل العنف لأتفه الأسباب، ويرون الأبناء يتمردون على سلطة آبائهم، ويرون المراهقين والمراهقات يتعاطون الرذيلة والمخدرات ويتهرّبون من الواقع ويستغرقون في الخيال والسلبية، ويرون أفراد العائلة الواحدة يتناحرون ويتخاصمون ويكيد بعضهم لبعض، فيعتقد هؤلاء الأطفال أن هذه التصرفات هي من شروط النجاح في الحياة ومن مستلزمات السلوك السليم في المجتمع الفاضل.
ويعمد التلفزيون في برامجه إلى تمجيد المشاهير من نجوم السينما والمسرح والرقص والغناء والرياضة، فيرسخ في ذهن الطفل أن هؤلاء النجوم أهمّ بكثير من العلماء والعظماء، فيتابع أخبارهم ويتّخذهم قدوةً ويُقرّر إتّباع منهجهم في الحياة.
* * *
وإلى جانب التلفزيون الذي يُشوّه القيم هناك الخدم الأجانب الذين حلّوا محل الوالدين في تربية الأطفال. وتدفّق هؤلاء الخدم على بلادنا ظاهرة تسترعي الاهتمام وتتطلب دراسة متأنيّة لما يترتب عليها من آثار سيئة. فالأم، بسبب مشاغلها أو نزواتها، تتخلّى للخدم عن مهمتها التربوية والمنزلية. وبما أن هؤلاء يختلفون عن بيئتنا لغةً وقيماً وتقاليد وحرصاً على مستقبل أسرتنا، فإن تربية أطفالنا تأتي ناقصة أو مشوهة أو منحرفة.
وماذا ننتظر اليوم من فتيان ترعرعوا في أحضان الخدم الأجانب، واكتووا، خلال الحرب العبثية، بلظى الأحقاد والدسائس والعصبيات، وشاهدوا، بعد الحرب، أمراء الإجرام يسرحون ويمرحون ويتمتّعون بما نهبوا؟
وماذا ننتظر منهم وهم الذين يشاهدون كل يوم مسؤولين يُعلنون شيئاً ويضمرون أشياء أخرى، يدافعون عن قضيةٍ دفاع الأبطال ثم يتخلّون عنها بسرعة الغزال، يتخذون مواقف ويعاهدون الله على عدم التراجع عنها فإذا ما نزل الوحي أو احتدمت المصلحة تراجعوا عن مواقفهم وبرروا ذلك بحجج لا يدرك مغزاها إلاّ من تخرّج من "مدارسهم الخاصة"؟
ولكي نكوّن صورة واضحة عن انخفاض المستوى الثقافي لشبابنا الذين ترعرعوا في الحرب واعتمدوا على التلفزيون في اكتساب المعارف والقيم نكتفي بتقديم نموذج ينطوي على أكثر من مغزى على صعيد القيم الوطنية. فقد قُيّض لسفير لبناني سابق أن شارك في اللجنة الفاحصة التي أشرفت على مباراة للسلك الدبلوماسي. وبعد انتهاء المباراة نشر انطباعاته وبيّن مدى الانحطاط في اللغات (العربية والأجنبية)، ومدى النقص في الثقافة، ومدى الضعف في الاختصاص. وساق في هذا المجال "نماذج من المخازي الثقافية والهرطقات العلمية والجهالات الفكرية"، فقد وُجّهت إلى المرشحين أسئلة عن حرب الاستنزاف والدبلوماسية المكوكية، وعن الأدباء والمفكرين والصحافيين اللبنانيين، فكانت الإجابات ملحمةً في الجهل المطبق. فالمجاز في التاريخ لا يعرف من هو قسطنطين زريق. والمجاز في القانون لم يسمع بشارل مالك مع أنه يسكن في شارع يحمل اسمه. والفضيحة الكبرى أن عدداً كبيراً من المرشحين لا يعرف اسم أول رئيس لجمهورية الاستقلال في لبنان!
* * *
والحقيقة أن هناك نماذج كثيرة من تدنّي المستوى التربوي والثقافي لدى الكثير من شبابنا. وما طرحناه من انطباعات وملاحظات ليس سوى غيضٍ من فيض. والقراءة الممتعة والمشوقة لكتاب الزميل الدكتور مصطفى هي التي أوحت إلينا بتلك الأفكار المتعلقة بأوضاع الثقافة ومستوياتها في بلادنا. ولا يسعنا في هذا الصدد إلاّ أن نهنئ الزميل العزيز على ما أنتج وأذاع متمنّين عليه تقديم المزيد من هذه النفحات الثقافية الهادفة إلى معالجة خطر داهم يهدد مصير ثقافتنا العربية التي تُعتبر المدماك الأول في بناء نهضتنا وجمع شملنا وتوحيد مواقفنا.