تعدد التفسيرات للأحداث التي حكمت العلاقات الإسلامية المسيحية في الشرق
دراسات /
دينية /
2011-03-14
تعدد التفسيرات للأحداث التي حكمت
العلاقات الإسلامية المسيحية في الشرق
تشكّل العلاقات الإسلامية المسيحية عَبْر التاريخ مشكلة أساسية ما زلنا نعاني أثارها حتى الآن. فلقد تنامت هذه العلاقات وتطوّرت تبعاً للأحداث السياسية وللظروف الاجتماعية والاقتصادية. كما انطبعت هذه العلاقات بفترات مظلمة تمثّلت بالظلم والاضطهاد أو بمحاولات التهميش. وقد اعتبر البعض أنّ هذه الفترات كانت قصيرة نسبياً إذا ما قيست بأزمنة التعايش بين الديانتيْن ويدعمون آراءهم بأنّ دوافع هذه الأحداث كانت غريبة عن تاريخ الإسلام ومبادئه.
أما البعض الآخر فيعتبر أنّ الإسلام يحمل في بنيته جذور التمايز بين المسلمين وأهل الكتاب حتى أنه يسمح بفصل هؤلاء عن المدنية الإسلامية وتهميشهم في المجتمعات المغلقة مما يتناقض مع أصول الديمقراطية الحديثة المعاصرة.
ويؤكّد ابن خلدون في مقدمته أنّ الحرب ضد الكفار ضرورة في الإسلام وإنّ تثبيت السلطتيْن الروحية والزمنية يقتضي تحقيق هذه الغاية. وأياً كان مجرى الأحداث التاريخية في العلاقات بين المسلمين والمسيحيّين فقد أسهم بعض المؤرّخين والمستشرقين على إضفاء طابع قاتم وعلى زيادة سموم التعصّب بتضخيمهم للأحداث وبإعطاء التفسيرات السلبية لبعض الظواهر الاجتماعية والإدارية.
أضف إلى ذلك عناصر في التاريخ ساهمت في صياغتها خرافات وأساطير ناتجة عن مبالغات الذاكرة الجماعية الشعبية قبل أن تبلغَنا بشكل بحث سياسي أو أيديولوجي.
إنّ الأراضي التي انتشرَ فيها الإسلام في عهدِهِ الأول كانت مستعمرات بيزنطية قديمة تقطنها شعوب مسيحية من أفريقيا الشمالية إلى مصر ومن أرمينيا إلى بلاد فارس مروراً بسوريا والعراق.
إنّ انقسام مسيحيّي هذه البلاد إلى شيَع وطوائف متناحرة معادية للدولة البيزنطية جعلهم يجدون في الفتح الإسلامي خلاصاً لهم بعد أن عانوا طويلاً من قهر واضطهاد البيزنطيّين حتى أنّ المسيحيّين الملكيّين التابعين عقائدياً لبيزنطية والمنتمين إلى المنطقة كانوا قد سئموا من تقلبات الأباطرة البيزنطيّين وسوء تعاملهم مع المعطيات المحلية.
على أنّ العرب الخارجين لتوهم من شبه الجزيرة العربية كانوا عازمين بدورهم على نشر الدعوة الإسلامية وإقامة سُلطة القرآن. ويمكننا أن نتخيّل المدى الهائل من التصفيات الجسدية وحمّامات الدم التي كان يمكن أن يقترفها المسلمون لو أنهم أتوا مصمّمين على فرض الدين الجديد بقوة السلاح على الشعوب التي أخضعوها لسلطتهم.
والإسلام منذ أيامه الأولى دعا الشعوب الخاضعة له إلى الاختيار ما بين الدين الجديد وتأدية الجزية. وهذا ما لم يكن ممكناً في الغرب إذ جرى الناس في أديانهم على سنّة ملوكهم ومَن عارض منهم تعرّض للهلاك.
إنّ استمرار الطوائف المسيحية بالتواجد على أرض الإسلام لهو دليل ساطع على تمسك الإسلام بمبدأ التسامح في حين أخضعت الدول الغربية العرب في نهاية القرون الوسطى لتصفيات سواء في جنوب اسبانيا أو في ايطاليا.
إلاّ أنّ البعض يعتبر هذا التسامح الإسلامي صادر عن إحساس بالتعالي والتفوق. وربما كان هذا الجانب السلبي من التسامح ناشئاً عن قناعة المسلمين بكونهم في الإيمان الحق بينما الآخرون في ضَلالٍ من أمرهم. وهذا ما يمنحهم ثقة وقوة تدفعان بهم إلى التسامح. والتسامح في لغة السياسة غالباً ما يعتبر ضعفاً ويعني القناعة بانتماء المتسامح إلى فئة الأسياد ويعني في الدين انتماء المؤمن إلى الشعب المختار.
في هذا الجو من التمييز الذي استمر أجيالاً عدة والذي دفع بالأكثرية من المسيحيّين إلى التخلّي عن دينهم والانتماء إلى دين المنتصرين، هل يمكن لنا الكلام عن التعايش والتآخي بين أتباع الديانتين؟ فبالنسبة إلينا نحن الذين أمضينا سنوات عديدة من شبابنا في ظل العيش المشترك قبيل اندلاع الحرب الأهلية المميتة ونحن الذين تلقّينا شهادات الجيل الذي سبقنا عن الأخوة والتعاون بين أفراد الطوائف المختلفة لا يسعنا إلاّ التأكيد على أنّ هذه العلاقات توصلت إلى شيء من النموذجية في سعي شباب هذا الجيل إلى ثقافة واحدة ومستقبل أفضل كنّا نجهد في بنائه سوية.
إلاّ أنّ هذه الشهادة أضحت موضع شك، بعد الحرب الشاملة والناشئة عن أحداث عمّت لبنان منذ عام 1975 والفرز السكاني الذي نتج عنها. وقد اتّخذت هذه الاضطرابات منحاً طائفياً عنيفاً بفعل تداخل عوامل إقليمية وخارجية كان لها الأثر البالغ في تحويرها داخلياً إلى صراع بين المسيحية المهدّدة والإسلام المحروم. وبدا في هذا الجوّ المشحون أنّ هيمنة المسيحية السياسية الاجتماعية المفرغة من معناها الخلاصي قد أبطلت كل أثر لتجربة أخوية في الحياة العملية اليومية.
إنّ هذا التعايش وهذا التآخي كانا قائمين في بلد إسلامي لم يكن دين السلطة يشكّل عائقاً يحول دونهما. فعلى الرغم من الصراع التركي الأرمني ومجازر الأرمن يشهد البطريرك أثينا غوراس على الحياة الأخوية التي عاشها في منطقة تسارا بلانا التي سيطر عليها الأتراك قبل سيطرتهم على القسطنطينية بعام واحد. هناك ومنذ القرن الخامس عشر يشترك كل من المسلمين والمسيحيّين باحتفالات المعمودية والختان. ولم تكن مشاركة الطائفتين في أعياد الأضحى والفصح والقديس جاورجيوس لتطرح أية مشكلة بل كانت أمراً طبيعياً.
وقد شهد المؤرخون في العصور العباسية المتأخرة ما كان للأعياد المسيحية من بهارج وما رافقها من مظاهر بذخ وإسراف كانت الأديار مسرحاً لها ولم يكن الخلفاء يتردّدون في حضورها شخصياً.
هذه الأعياد تحولت لدى الأقباط المصريّين إلى احتفالات اجتماعية تصحبها الولائم وترافقها المسيرات بالمشاعل والاغتسال بمياه النيل وكان الأقباط والمسلمون يشتركون في هذه الأعياد على اختلاف مذاهبهم رغم أنّ بعض قضاة الشرع قد حذّروا المسلمين مراراً من اشتراكهم في أعياد المسيحيّين.
إنّ كل هذه المظاهر التي جسدت التعايش والأخوة نقلها المؤرخون في فترات متأخرة إذ استند هؤلاء على مدوّنات تلك الحقب الغامضة ففي الكثير من الأحيان نرى أنه من المؤسف أنّ الأحداث المنقولة والمختارة تحمل معها صورة عن وضع المؤرخ وعن معتقداته أكثر مما تنقل صورة موضوعية عن الحدث ذاته.
من هنا يمكن القول مع ريمون أرون إنّ كل الآراء في التاريخ هي آراء خاصة. والتأثير الأيديولوجي في فهم التاريخ هو الأشد بروزاً وهو مرتبط بتغير التحالفات وتبدّل الظروف فالمؤرخون غير حريصين في إظهار نظام تفكيرهم فالمتطلبات التي تحدّدها الانتماءات الأيديولوجية تظهر جلياً في الخطاب والكتابات التاريخية غير مكترثة بالتطورات الحالية إنما حريصة على صورة الجماعة التي تنتمي إليها.
تلك الرؤى للأحداث وتحولات تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية خارج إطارها الطبيعي تمثّلت في الصراع الطائفي الذي شهدته البلاد. ولا شك في أنّ المسيحيّين يسعون إلى دولة حرة لا يكونون فيها أهل ذمة ولا يزال موضوع الشروط العمرية التي لا يعرف العامة الكثير عن جذورها يشكّل موضوع تهويل يتحدّث عنه المتعصبون سعياً إلى شحن الأجواء العاطفية الشعبية.
لذلك يحتم الحديث عن التسامح أو عدمه في الدين الإسلامي إزاء الطوائف المسيحية والتبشير بالأخوة والتعايش بين الديانتين أو الفصل بينهما، أموراً تعني اتخاذ موقف واضح في ما يتعلّق بمستقبل المسيحيّين في العالم العربي وهو يتّهم في لبنان ومستقبل نظام لبنان السياسي.
سنعرض بعض التحاليل والتفسيرات للأحداث والبنى والظروف بتسلسلها الزمني في عهود الخلافة العربية والإسلامية.
عهد الخلفاء الراشدين
لقد فُتحت خلال هذه الفترة بلاد يسكنها مسيحيون وخلال هذه الحقبة طُبقت فعلياً مبادئ التسامح للإسلام إزاء أهل الكتاب والواقع أنّ غالبية العقود تمت ما بين العامين 632 و 661 بين الخلفاء المسلمين من جهة وممثلي المناطق والمدن المسيحية المفتوحة من جهة أخرى. هذه العقود تضع المسيحيين في ذمة النبي كما تعفيهم من متطلبات الاشتراك إلى جانب المسلمين في حروب الجهاد ومصاريفها.
وفي هذه الفترة بالذات شهدت تحديد وتثبيت الجزية المدفوعة من قِبَل المسيحيين إلى الخلفاء المسلمين. وحدّد بعضهم الجزية بأنها جزاء مقابل الدم الذي لم يُهدر واعتبرت السبب المباشر للارتدادات المكثفة في صفوف المسيحيين إلى الإسلام.
وتختلف الآراء حول درجة استقبال مسيحيّي سوريا للقبائل العربية الغازية فقد أكد البعض أنّ مسيحيّي سوريا عاينوا اجتياح بلادهم كمجرد مشاهدين يستعرضون الجيوش العربية ويُظهرون حيالهم بعض التحيّز والمودّة، خاصة عندما أثبت هؤلاء عدم انصرافهم إلى السلب والتخريب في أملاكهم أو عندما عاملت الجيوش الناس الخاضعين لها طوعاً بليونة هذا ما جعل خالد بن الوليد يقول: "الشام تشبه جملاً نام بهدوء".
إلاّ أنّ بعض المؤرخين لم يكونوا أكيدين من هذه الدرجة من السهولة التي تمّ بها تسليم دمشق والمدن السورية الأخرى. بعضها أخذ بالسِلم وبالمعاهدات والبعض الآخر بالاقتحام. هذا ما يفسر تحوّل كنائس بعض المدن إلى جوامع واحتلال المسلمين للمنازل التي تركها المسيحيون الذين التجأوا إلى البيزنطيين.
وقد اعتبر كثير من المؤرخين نظام الجزية وإجراءات استيفائها الأسباب المباشرة لتخلي المسيحيّين عن دينهم. والواقع أنّ الذميّين وحدهم تحمّلوا تبعات الضريبة التي فرضتها الدولة الإسلامية الأولى. فكان على هؤلاء الذميّين أن يؤدوا الجزية كضريبة والخراج كضريبة عقارية على الأراضِ المزروعة.
وقد تباينت تبريرات القضاة المسلمين للجزية فمنهم من يعتبرها الثمن البديل عن سلامة حياة الذمي أو أداة إذلال وإخضاع فحسب. وينظر آخرون إليها باعتبارها تعويضاً عن الخدمة العسكرية، أو أقله، مجرد بدل إقامة الذمي في دار الإسلام. وهذه الجزية نسبية تتفاوت بتفاوت ثروة الذمي. إلاّ أنّ هذه الجزية التي كان يرتفع قدرها حسب البنود المسجلة ضمن صكوك فرضها المحتلون غالباً ما كانت رمزية. وعندما تمكّن المسلمون من المنطقة وأصبح وجودهم نهائياً فيها بلغت الجزية أربعة دنانير للشخص الواحد في السنة فقط. وإن كانت تصحّ المقارنة فإنّ دفع الخراج والجزية يبدو أبسط بكثير من ثقل الضرائب وتنوّعها في العصر البيزنطي. وربما سهّلت سياسة الإمبراطور هيراكليوس بإسرافاتها الاقتصادية وضرائبها التي أثقلت كاهل المواطنين مهمة الفاتحين المسلمين.
ورغم كل التوضيحات والتفسيرات على نظام الجزية وطريقة جبايتها لا تزال صفة الإذلال كما وصفها المؤرخون (وهم صاغرون) تشكّل موضوع أخْذ وَرَد. إلاّ أنّ ذلك لم يكن حال الفترات الأولى للإسلام وينسب إلى أبي عبيد أنّ هذا الإذلال لا يصحّ، فلا يجب إجبار الذميّين على ما يتجاوز قدراتهم ولا تصحّ معاقبتهم. إلاّ أنّ علماء الشرع والفقه الإسلامي في فترة الانحطاط أمثال الزمهشري وابن نقاش وابن تيمية كانوا يجيدون في وصف الطرائق والشروط التي رافقت تأدية الذمي ضريبة الجزية.
وتذكر مصادر أخرى أنّ جمع هذه الضرائب أو جبايتها كان يتمّ من قِبَل وكلاء ينتمون إلى نفس طائفة المكلفين وتحت رعاية السلطات المحلية الدينية مما يجعلنا نعتقد أنّ هؤلاء الوكلاء كانوا في معظم الأحيان مسيحيين.
لقد نُظمت كل مسائل ضريبة الجزية والعلاقات بين المسلمين والشعوب الخاضعة لهم ضمن معاهدات. وهذه المعاهدات تضمن للمسيحيين حماية المسلمين لهم. فالذميون يرون في ذلك ضمانةً لحريّتهم الشخصية وحريّة معتقداتهم وحريّاتهم العامة والسياسية.
إلاّ أنّ هذه المعاهدات لم تتّخذ الطابع الجائر إلاّ في عهد متأخر والواقع أنّ أحداثاً سياسية مختلفة واقتصادية وبالأخص ديموغرافية وإكراهات وإخضاعات ستجعل من وضع الذميين أكثر سوءاً.
وقد ساهمت الشروط المنسوبة إلى عمر بن الخطاب في جعل المسيحيين هامشيين في حياتهم اليومية (المهنية، اللباس، المعتقدات...) إلاّ أنّ معطياتٍ كثيرة تُثبت الطابع المُزوّر لهذه الشروط التي لا يمكن أن تُنسب للخليفة عمر.
الخليفة الأموية:
خلال عهد الخلفاء الأمويين أخذت المجموعات المسيحية المختلفة تستعيد فعاليتها مع النظام الجديد. وما أن تجاوز المسلمون والمسيحيون الآثار الأولى للفتوحات وتنظيم الدولة حتى انطلقوا معاً في فترة انتقالية لبناء ثقافة مشتركة ستكون أساسية على امتداد العصور التالية. لقد أحاط بالخليفة معاوية مسؤولون مسيحيون كان لهم الأثر البالغ على جماعاتهم ونشير بالأخص إلى كاتب الخليفة (وهو منصور ابن سرجون جد يوحنا الدمشقي) والمسؤول عن المالية الذي يرتقي بأهميته إلى الدرجة الثانية بعد القائد العام للقوات المسلّحة. يأتي بعده مباشرة الطبيب الشخصي للخليفة ابن أوثال من الطائفة اليعقوبية الذي عُيّن أيضاً لإدارة مالية مدينة حمص. والشاعر الأخطل كان صديقاً ليزيد ولم يخشَ من أن يُبرز صليباً من الذهب وهو ينشد بالقصور الأموية قصائد المدح التي لاقت تقديراً كبيراً لدى الحكام.
ثمة شخصية رابعة ليست أقل بروزاً ظهرت في بلاط الخليفة وهو حفيد منصور ابن سرجون يوحنا الدمشقي الذي أصبح رفيق الصبا ليزيد. وقد اشتهر بنقاشاته الحادة مع العلماء المسلمين وغالباً ما أظهر صورة غير موضوعية للإسلام في نقاشاته.
كان يبحث في الإسلام عما يثبته بصلابة مواقفه المسيحية. وقد رفض في الديانة الأخرى ما كان تَعوّد قبوله في التوراة. لذلك لا يمكننا أن ندرك وجه الإسلام في الصورة التي أعطاها إذ أنه كان مراقباً للأحداث عن بُعد واكتفى بأن يوازي الأمور الجوهرية باللاجوهرية دون أن ينفذ إلى معنى الأشياء.
إلاّ أنّ الخلافات العقائدية والنقاشات التي قامت بين القديس يوحنا الدمشقي وفقهاء الإسلام في العهد الأموي لم تكن ممكنة في ظل الفترة السابقة وبخلاف حزم الخلفاء الراشدين في التصنيف بين رعاياهم كانت سياسة الانفتاح التي انتهجها معاوية قد خلقت جواً من التفاعلات المتبادلة بين الجموع والقادة المسلمين. في هذا الجوّ من التآخي لعبت نساء الخلفاء العرب المسيحيات دوراً أساسياً في التقريب بين الديانتيْن أشهرهن: ميسون زوجة معاوية ونائلة زوجة الخليفة عثمان وتماخر زوجة عبدالرحمن بن عوف.
في هذا الجوّ من التبادل والثقة كانت الطوائف اليعقوبية والنسطورية والمارونية والملكية تلجأ إلى تحكيم معاوية وأهل بيته والخلفاء أو الأئمة المسلمين في خلافاتهم اللاهوتية. نرى إذاً أنّ العهود الإسلامية لم تسهم في تطوير ذهنية مسيحيّي الشرق الذين بقوا على عداواتهم وعلى عصبياتهم التاريخية.
إلاّ أنّ التدخلات الخارجية وخاصة البيزنطية في هذه الصراعات الأخوية عملت على تشكيل فِرق مهمتها ضد هجمات الجيوش العربية.
في هذا الصدد لا يزال الغموض يكتنف وضع المردة والجراجمة ونشاطهم بين الطوائف المسيحية وتحالفاتهم. هذا الغموض لم يمنع البعض من عرض نظرياتهم وبكثير من الثقة رغم نقص المراجع والإبهام المحيط بهذا الموضوع.
قد يكون من المهم في إطار تحليل الوقائع التاريخية معالجة موقف سكان جبل لبنان، من المحاولات الأولى لتدخّلات الدولة الأموية. إنّ مختلف الطروحات التي قدّمت حول هذا الموضوع والتي لم تكشف الحقيقة حول أصل المردة الغامض تعبّر عن مواقف أملتها مصلحة الطائفة المارونية في مرحلة فاصلة ومهمة. ففي عام 1903 أثار مقال الأب لامنس في مجلة المشرق جدالاً حول شخصية المردة إذ يؤكد الأب لامنس استناداً إلى تيوفان المؤرخ الأقرب إلى الأحداث، أنّ المردة هم مجموعة من 12 ألف مسلّح كلّفهم البيزنطيون بالدفاع عن الثغور السورية.
ويؤكد المطران يوسف الدبس المؤرخ ومطران بيروت للموارنة أنّ المردة والموارنة شعب واحد وأنّ كلمة مردة هو اسم للموارنة أطلقه عليهم أعداؤهم في القرن الثامن. وهؤلاء الموارنة تمرّدوا على البيزنطيين وقاتلوهم إلى جانب الأمويين أما المطران دريان فيعتبر المردة فصيلاً من الخيالة اليونانية أُرسل بأمر من الإمبراطور قسطنطين إلى جبال الأمانوس في بداية الأمر ومن ثمّ إلى جبال لبنان بهدف تحريض الجبليين. على تقطيع أوصال الدولة العربية التي افتتحت البلاد السورية ومنعها من الامتداد نحو ممتلكات الإمبراطورية البيزنطية. مِن هذا المنطلق لا يبدو برأيه ثمة علاقة بين مردة وتمرد. إنّ المسألة التي تتعرض لها هذه المجابهات الكلامية لا تمسّ أصل الموارنة فحسب بل هي تكمن أيضاً في معرفة ما إذا كان وجود الموارنة في لبنان يعود إلى ما قبل المردة (حسب الدبس) أو إذا كان لدخول المردة على مسرح الأحداث الأثر البالغ في تحوّل الموارنة في لبنان الذي أصبح بفضل تدخّلهم وطن الموارنة. إنما هذه المسألة تتعلق بالأخص في تحديد طبيعة الأعداء الذين طُلب من الأمة المارونية أن تقاتلَهم هل هم البيزنطيون أم المسلمون؟.
فقد يذهب المطران دبس في اعتقاده إلى أنّ الموارنة قاتلوا البيزنطيين وتنظّموا في أمة، وكانوا إبان خضوعهم للدولة الإسلامية يتميّزون بمواجهتهم الصريحة لباقي الطوائف المسيحية نظراً لشدة تعلّقهم بالكرسي الرسولي الروماني دون أن يقللَ ذلك من أهمية صراعهم ضد المسلمين. وبرأي المطران الدبس أنّ ارتباط الموارنة بالكرسي الروماني ارتباطاً كلياً كاد أن يشكّل المسألة الرئيسة لتاريخهم الديني والزمني.
في حين يؤكد دريان أنّ الموارنة واجهوا المسلمين على الأخص ولم يكن تحالفُهم مع المردة إلاّ لضربِ الدولة العربية الناشئة. إلاّ أنّ دريان سرعان ما تذكّر مواطنيته العثمانية فأشار إلى الجهود التي بذلها العرب لحماية سكان البلدان التي احتلوها حتى لو أظهر هؤلاء مقاومة عنيفة لهم. لكن العنصر الغالب برأيه ليس تسامح العرب لكن بسالة الموارنة وتعلّقهم بدينهم ومقاومتهم للإسلام. تلك الصفات التي نشأت عليها الأُمة المارونية وهذه الخصائل لديهم تنامت مع مواجهة الإسلام ومن المهم هنا الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ المعاهدة التي عقدها أبو عبيدة مع المردة عام 639 استثنت هؤلاء من الجزية واعتبرتهم معاوني المسلمين في الفتوحات بحيث يتقاسمون المغانم معهم.
الخلافة العباسية:
لم تُلغَ الامتيازات الممنوحة للمردة إلاّ خلال الحكم العباسي وذلك خلال فترة حكم المتوكل الذي أعاد فرض الجزية والأرزاق (ضريبة على الغلال الغذائية). المستقيم والتخلي عن معارضتهم التقليدية لسلطة الخلفاء. وكانت معظم التضييقات والاضطهادات موجّهة ضدهم.
وقد نَسَبَ كثير من المؤرخين إلى حكم المتوكل إعادته لشروط عمر وتَطبيقِها والواقع أنّ نُسخاً عدة ظهرتْ للنص ذاته حالت دون معرفة الأصلي من المزيّف إذاً لو كانت الشروط تعود فعلاً إلى الخليفة عمر لكانَ ذَكَرَها المؤرخون ووصفوها بدقةٍ وشمول. ومن جهة أخرى فإنّ هذا المحتوى لا يمتْ بصلةٍ إلى عقليةِ الخلفاءِ المسلمين العرب الأوائل. ويبدو أمراً بعيداً عن الاحتمال أن يكون عمر قد فرض على هؤلاء المسيحيين شروطاً بالغةَ الإجحافِ والإذلالِ في حين لم يكتملْ الفتح بعد.
قد تكون هذه الشروط، إذاً، ابتداعاً متأخراً من قِبَل مُنْتَصِرين غرباء مُنتمين مجدداً إلى الإسلام حَرَصوا ألاّ يَخْتَلِطوا مع مواطنيهم الأصليّين كي يجوز لهم انتماؤهم العربي وتُنْسى أُصولُهم الغريبة. ففي حين يَنْسِبُ بعض المؤرخين إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز ابتداع هذه الشروط بغية التضييق على المسيحيين يعتقد البعض الآخر جازماً بأنها وثيقة مزوّرة صيغت في القرن الرابع للهجرة فلا يجد الباحث النص الأول وبشكل مقتضب لهذه الشروط إلاّ في القرن الحادي عشر عند ابن حزم. فمن الممكن أن يكون هذا النص قد تمّ إعداده في دواوين المتوكل وبإيعاز منه استناداً إلى كل الفقرات السلبية أو المجحفة الصادرة في عقود الذمة.
والظاهر أنّ هذا الخليفة شجّع وأطلق كل المناظرات المعادية للمسيحيين وكانت عديدة في عهده وقد اهتم المتوكل شخصياً بنتاج الجاحظ في هذا المجال.
لقد كانت هذه الشروط بالغة القسوة بالنسبة إلى المسيحيين الذين اعتنقوا بأعداد كبيرة الإسلام فقد رسخت هذه التمييزات لديهم الشعور بالانتماء إلى طوائفهم بالمعنى الاجتماعي الضيّق والتباعد عن محيطهم. فمن وجهة نظر المؤرخ الحديث كان علينا قبل أن نصدر الحُكم على هؤلاء الخلفاء أن نضعهم إزاء منطق العصر ونفسيته وأن نقارنهم بملوك أوروبا المسيحيين في القرون الوسطى الذين تعاملوا بقساوة منقطعة النظير مع مسألة اليهود حتى لم يتوانَ الباباوات عن إقامة إحياء الغيتو في نفس روما.
أما مسيحيو المقاطعات العباسية فقد عانوا أيضاً ضعف السلطة المركزية التي كانت ماليتها وخزينتها تحت رحمة جبايات الولاة والموظفين المحليين وقد ظن هؤلاء أنهم سيكونون عند حسن ظن رعاياهم إن هم مارسوا التعصّب تجاه المسيحيين. فخلال عام 932 سُجلت عدة عمليات تهديم لكنائس في فلسطين ومصر وتونس دون مبرّر واضح. وقد أمر الخليفة المقتدر بإعادة تعمير بعض الكنائس غير أنها هُدمت من جديد أثر فتنة طارئة. إلاّ أنّ هذا الأمر لا يعكس سياسة محدّدة تَنْتَهِجُها السلطة باستمرار بل أتت هذه الاضطهادات نتيجة مزاجية الولاة والموظفين أو نتيجة غليان جَماعي أثر خطبة حماسية.
ولم يكن المسيحيون بمنأى عن الثورات الاجتماعية التي كلما نشبت ألحقت الأذى بأرواحهم وممتلكاتهم ففي بغداد عام 920 إثر ارتفاع حاد في أسعار السلع ثارت جماعات من الشعب وحطّمت أبواب السجون موفّرة الحرية لبعض العصابات تعيث فساداً في المدينة معرّضة بيوت المسيحيين للنهب والتخريب خاصة بيوت أمناء السر والكتبة.
ولقد عكست الحروب التي نشبت بين البيزنطيين والمسلمين خلافات عميقة بين مؤرخي هذه المرحلة وعامة ما كان لهذه الصراعات ردود فعل خطيرة على السكان المسيحيين في المناطق العربية.
وقد اعتبر البعض أنّ هذه الاضطهادات التي سبقت الغزوات المسيحية أو رافقتها أو تَبِعَتْها لم تكن سوى إجراءات أَمنية اقْتَضَتْها أحوالُ الحرب.
وبالفعل لدى وصول جيوش الإمبراطور جان تزيميسيس إلى نصيبين عام 972 اشتَعلتْ فتنةٌ في بغداد تَسبَّبَتْ في انتشارِ الذعرِ عند المسيحيين واجتاح بعض الزمر قصر السلطان وانتهت الفتنة بمعركة بين السنة والشيعة. هذه المرة لم يتعرضْ أحدُ المسيحيين في العاصمةِ للأذى لأنّ البيزنطيين كانوا قد نهبوا كنائس نصيبين وأديرتها كما فعلوا بالجوامع ليس لاعتبارهم أنّ المسيحيين عرب بل لأنهم من اليعاقبة والنساطرة الخارجين عن دين الإمبراطور البيزنطي.
فخلال العهد العباسي وفي الظروف التاريخية لهذه الفترة وفي ظل هيمنة أهل الفقه والقانون استُبْدِلَ مفهوم "أهل الكتاب" بمفهوم "أهل الذمة".
هذا المفهوم "أهل الذمة" المحميين الموروث من الساسانيين ومن مفاهيم المجتمعات القديمة كان يفترض أن يشكّلَ مرحلة انتقالية مؤقتة لأنه يتناسب مع مرحلة تاريخية معيّنة كانت العلاقات بين الجماعات الإنسانية لا تُفهَم إلاّ بين مُسيطِرٍ ومُسيطَر عليه وفي وقت كان العالم كله يتحرك تبعاً لهذا النمط.
الفاطميون ـ المماليك والصليبيون:
يتّصف عهد العباسيين بأهمية تاريخية لكونه يمثّل الخطوط العريضة والمبينة لكلِ عهودِ الانحطاطِ في الحكم. فالظروف التي ذكرناها سابقاً والتي أدت إلى اضطهاد المسيحيين المتمتّعين بالقوة والنفوذ في بعض الوظائف العالية وضعف الحكم المركزي والأزمة الاقتصادية والتدخلات الأجنبية إلى ما هنالك. كل هذه الأوضاع كانت متوفرة في عهود الفاطميين والأيوبيين والمماليك. فكان يكفي قتل أو إبعاد وزير مسيحي مقرّب من الخليفة لإثارة الغضب أو النعرة الطائفية ضد كل المسيحيين دون أيّ تمييز على الأرض. فإنّ مقتل القبطي فهد ابن إبراهيم وزير الحاكم بأمر الله في مصر عام 1000 تَبِعَهُ اضطهاد عام للأقباط في مصر ولمدة تجاوزت العشرين عاماً فقد دُمّر أكثر من ثلاثين ألف كنيسة ودير في مصر وطورد المسيحيون وأُجبروا على الكفر بدينهم ورفضه. والغريب بالأمر أنه أثناء حكم هذا الخليفة كان معظم وزرائه وأطبائه من المسيحيين ويُقال أنّ خالَيْ الحاكم كانا بطريركيْن على كرسيّين شرقيّين. ولم يسمح لهما بإعادة بناء كنائسهما إلاّ في فترة متأخرة من حكمه. فهذه الاضطهادات ضد المسيحيين، كما في عهد المتوكل، لكن بطريقة معكوسة، ترافقت مع إجراءات مقيّدة منذ عام 1004 ضد المسلمين السنّة ودوّنت على جدران مساجدهم عبارات غير لائقة.
ويذهب بعض المؤرخين إلى القول أنّ الوزراء الذين وقّعوا أمر تدمير الكنائس كانوا مسيحيين وقاموا بذلك مرغمين. وفي أواخر عهد الحاكم بأمر الله تحدّث مؤرخون عن صداقة حميمة نشأت بين الحاكم والبطريرك القبطي الانبا سالومون حتى أنّ لقاءاتهما كانت يومية. ولدى اختفاء الحاكم أعطت أخته الأمر بالذهاب والإتيان به من دير قريب من القاهرة حيث كان من عادته لقاء البطريرك. وفي هذا العهد دُمرت كنيسة القيامة في أورشليم واعتُبِرَ ذلك سبباً مباشِراً لانطلاق فكرة الحروب الصليبية.
لقد كان عهد الحروب الصليبية مؤلماً دون شك لِمُسلمي الشرق كما لِمَسيحييه فبعد محاصرتهم مدن أنطاكية والقدس قام الصليبيون بطرد البطاركة الأرثوذكس منها وأبدلوهم بأساقفة لاتين. أما بالنسبة إلى اليعاقبة فقد هاجر معظمهم إلى مصر ومُنع الأقباط من الحج إلى القدس.
أما بالنسبة إلى تأثير الحروب الصليبية على حياة المسيحيين في الشرق فاعتبر البعض أنّ هذه الحروب الدينية أثارت ردود فعل عنيفة عند المسلمين ضد أهل الذمة. في حين يؤكد البعض الآخر العكس. إلاّ أنه من المؤكد أنّ الحروب الصليبية شكّلت منعطفاً مأساوياً لِمسيحيي الشرق وذلك على الصعيدين الكمّي والنوعي.
فبعد أن كان المسيحيون يشكّلون أكثرية السكان في مناطق سوريا والعراق ومصر أصبحوا يتوجهون إلى حالة الأقليات المتناثرة في أنحاء العالم الإسلامي. وعلى الصعيد النوعي تحولوا إلى جماعات هامشية منطوية على ذاتها غير آبهة، مثل في العهود السابقة، للمشاركة في الحياة السياسية والثقافية للمناطق التي تعيش فيها، جُلّ همّها تأمين معيشتها وأمن رعاياها.
فعام 1099 عندما استولى الصليبيون على القدس وانصرفوا حتى داخل المسجد الأقصى إلى شتى الممارسات الفظيعة، راح أئمة المساجد في بغداد يدعون المؤمنين إلى الجهاد المقدّس. غير أنّ ما يجدر ذكره أنه ما من روايات مسيحية أو مسلمة أشارت إلى أية حادثة تعدّي ضد المسيحيين.
لم تبقَ في الحال على ما هي عليه طيلة فترة الحملات الصليبية لأنّ محاصرة أنطاكية عام 1098 ومحاصرة حلب عام 1124 أثارت ردود فعل بارزة.
ولكن بُذلت جهود للتمييز بين الفرنجة وأهل البلاد المسيحيين الأصليين وبالفعل سنة 1144 ولكي يحصل على تأييد مسيحيين المنطقة احترم نور الدين زنكي الكنائس ذات الطقوس السريانية في حين حُوّلت الكنائس اللاتينية إلى مساجد أو إلى مخازن للعلف وزرائب. لكن عند تولّي الأيوبيين زمام السلطة في مصر كانوا مصمّمين على محاربة الصليبيين وعاد وضع الأقباط في مصر يشهد صعوبات من جديد إذ أُعيد فرض القيود على الملابس كما أُمر بتحطيم الصلبان إلى أن انضوى العديد من المسيحيين تحتَ لواءِ الإسلام.
لكن هذه الحالة تحسنت مع صلاح الدين عندما تأكد من انتصاره على الصليبيين عندئذ لم يكتفِ بأن يكون متسامحاً مع أقباط مصر لكنه ذهب إلى حدّ اتّخاذ البعض منهم في خدمته. ولقد اعْتَبرَ بعض المؤرخين أعمال صلاح الدين ضد مسيحيّي مصر على أنها حركة تطهير موجّهة ضد مؤيدي الفاطميّين.
وبعد استيلاء العرب على القدس ورحيل الصليبيين عن سوريا وُجِّهَت حملتان صليبيتان ضد مصر، الأولى بقيادة جان دو بريين Brienne والثانية بقيادة الملك لويس التاسع. وكانت انعكاساتها جداً مأساوية على أقباط مصر لا سيما وأنّ السلطات استغلّت هذه الأحداث لتعويم خزائنها الواقعة تحت العجز.
وتابع المماليك جهودهم الحربية لإخراج الصليبيين من مصر وسوريا وكانت فترات الجهاد هذه قاسية مادياً على الشعب الذي كان عليه تقديم مجهوده عسكرياً ومادياً مما ألحق الضرر بالمسيحيين خاصة الذين استمروا في المناصب الحساسة في الإدارة (كتّاب، أطباء، مالية...) وأثار تقرّبهم من سلاطين المماليك وتأثيرهم عليهم وتقديم المشورة إليهم خاصة في عَهدَي قلاوون وابنه الأشرف خليل وأشغالهم وظائف المباشرين (محصلي الضرائب) كلها أمور أثارت نقمة الشعب عليهم.
والاضطهادات التي لحقت بأقباط مصر، خلال حكم المماليك، كانت من عمل الشعب المسلم الذي أرهقه الحكام، فراح يسعى للانتقام، فالسلاطين الذين كانوا يعانون نقصاً في السيولة في خزائنهم وجدوا في هذه الاضطهادات وسيلة لاستنزاف مدخرات المسيحيين أكثر فأكثر..
وتابع المماليك جهودهم لمحاربة الصليبيين، ولكنهم استطاعوا أن يُحوِّلوا أنظارهم عن مصر. وبالفعل فقد تمكنت العلاقات التجارية المزدهرة بين المماليك ودولة البندقية من تحويل ممر الصليبيين عن الإسكندرية نحو الأراضي المقدسة ففضّل هؤلاء المرور بالقسطنطينية ونهبها خلال الحملة الرابعة مما عمّق الشرخ بين الكنيستين الشرقية والغربية.
واستمر جهاد المماليك في سوريا وحافظ بعض الأقليات المسيحية والمسلمة على علاقاته مع الصليبيين. وكان هؤلاء رغم لجوئهم إلى جزر المتوسط يتابعون تعدياتهم المسلّحة وإنزالاتهم على الشواطئ السورية. في هذا الإطار تأخذ حملة نائب دمشق ضد كسروان بُعدها.
يتشبّث المؤرخون دائماً إزاء الغزوات بخلافاتهم بحسب انتمائهم الطائفي وموقعهم الأيديولوجي الذي تفترِضُه إثباتاتهم. فغزو المماليك لكسروان، يشكّل عاملاً مهماً في مسار المؤرخين لإثبات هويتهم اللبنانية. والمصادر المتعلقة بهذا الحدث نادرة ومبهمة. ولكن بدلاً من أن يدفعهم هذا إلى التحفّظ، على العكس لم يؤدِ النقص في المصادر إلاّ إلى المبالغة بالتفسيرات الذاتية.
كل المسألة تكمن لديهم في معرفة من هم الكسروانيون، الجبليون، والجرديون، الذين جابهوا قوافل مماليك نائب دمشق المكلّف إخضاع سكان جبل كسروان، فكل واحد يدّعي انتماء شهداء كسروان إلى طائفته. بالنسبة إلى المؤرخ الشيعي كان المقصود تجذير طائفته في الجبل الذي صار لاحقاً أساس لبنان السياسي.
أما بالنسبة إلى المؤرخين الموارنة فإنهم يسعون إلى إثبات المجابهة الحادة التي واجهت بها طائفتهم السلطة المسلمة الغربية الممثّلة آنذاك بالمماليك. فبالاستشهاد الذي تتكبّده طوعاً هذه الطائفة أو تلك تثبت لبنانية هذه الطائفة وتفانيها في سبيل الاستقلال الوطني. (بطرس ضو).
يمكننا كذلك أن نذكر الموقف السنّي المناقض الذي يبرّر موقف المماليك الذي يمثّل السلطة الإسلامية مُظهرين العداوة التاريخية للطائفة المناهضة للأكثرية متّهمين إياها بالتالي بالانعزالية. في هذه الحالة خاصة يتطابق الموقف السنّي (عمر التدمري) مع السلطة المملوكية.
هذا الجدل الكلامي ما زال مستمراً حتى أيامنا هذه على صفحات الجرائد. كون المسيحيين ليسوا وحدهم المتّهمين بالتعاون المخزي مع الصليبيين، هذه المرة يستمر الجدل بين سنّة وشيعة.
الخلافة العثمانية:
إنّ حلول الخلافة العثمانية على عرش القسطنطينية عام 1453 وضع حداً للإمبراطورية البيزنطية "محمية الله" وأحيط انتخاب بطريرك القسطنطينية جناديوس سكولاريس، بأبهة كبيرة وبكثير من الفخامة. فالسلطان محمد الثاني الذي تلفّظ بنفسه ببضع كلمات دينية قالها قَبلَهُ الأباطرة البيزنطيون، أعلن: "كن بطريركاً بسلام ولتحمك السماء، لك صداقتنا في كل الظروفِ حين تحتاجُها وانعمْ بكل الامتيازات التي حظيَ بها أسلافُك".
احترم محمد الثاني وخلفاؤه من بعده وضع الذميين وحلت كلمة رعية التي تعني في العربية (جماعة محكومة) محل تعبير الذميين (المحميين).
ولكن الأحداث لن تقفَ عند هذا الحدّ ستعود الاضطرابات من جديد وسوف تُنْتَهك الامتيازات الممنوحة هنا تختلف الآراء. ففي الواقع يؤكد البعض أنّ كلمة كافر لا ترد إلاّ ضد المسيحيين الأجانب ولا تظهر إلاّ في عهد الانحطاط العثماني. في حين يقول آخرون، أنه يوم وطد الأتراك سلطتهم، أثارت انتهاكاتهم المتكرّرة لامتيازات الجماعات غير الإسلامية، أكثر من مرة التدخلات الأجنبية.
في هذا الإطار، من المهم التأكيد أنّ هذه التدخلات الأجنبية، كانت سبب موقف المسلمين المشكّك إزاء المسيحيين إذ اتُّهم هؤلاء دوماً بالتحالف أو بالتعاون مع أعداء الإسلام. وقد عانى مسيحيو لبنان في هذه السنوات الأخيرة خطأ أو صواباً بما فيه الكفاية من هذا النوع من الاتهامات.
يبقى أنه عندما كان الموضوع يتعلق بإجبار الذميين في سوريا اعتناق الإسلام تحت حكم السلطان سليم (الذي قضى على 400 ألف شيعي في حروبه ضد فارس) كانت السلطات الغربية أعجز ما تكون عن التدخل. وكان المفتي الجمالي، عربي من سوريا هو الذي استطاع، مستعيناً بآيات من القرآن والسنّة أن يصرِفْ السلطان عن هدفهِ الديني.
سيتّخذ هذا التدخل الأجنبي في البدء، شكلاً ودياً، سنة 1535، مع إبرام اتفاقيات سلام بين فرنسوا الأول والسلطان سليمان. وما كان ميثاق تجارة وسلام أخَذَ يسهل وصول المرسَلين اللاتين إلى الشرق، مرتبطين بمجمع التبشير المقدس الفاتيكاني في روما. وكان من نتيجة مهمتهم، أن انشقت الكنائس الشرقية المحلية إلى اثنتين: الأولى مستمرة في إتباعها التقليد الكنسي الأرثوذكسي، والثانية الكاثوليكية مرتبطة قانونياً بروما. ولم يكن ما يعتبره أدمون رباط عودة الشرقيين إلى الكاثوليكية اللاتينية، سوى انشقاق مؤسف للمسيحية في الطوائف الأرمنية، الأرثوذكسية، السريانية والكلدانية... بعض المؤرخين يَردُّ أصول هذه الوحدة مع روما إلى حوار وإلى رغبة في الوحدة عند البطاركة المشرقيين تعود إلى ما قبل الحروب الصليبية.
والحال أنّ ما كان حاسماً هو بالأحرى، عمل القناصل الفرنسيين، والمرسلين الواصلين حديثاً، حاملين إلى الشعوب المحلية وعوداً بحماية أكبر أيّ بتسهيلات تجارية أكثر. ولم يعترف الفاتيكان بهذه الشعوب التي أصبحت كاثوليكية في العام 1724 معترفة بسلطة روما إلاّ بعد 20 سنة من نشوئها وانشقاقها الفعلي، بالمقابل قد يكون مثيراً للاهتمام فهم الأسباب السياسية والثقافية التي ساهمت في نشوء الطوائف الكاثوليكية.
فبعد استيلاء القوات التركية على القسطنطينية، منح محمد الفاتح البطريرك الأرثوذكسي امتيازات جعلت هذا الأخير يظهر معها وكأنه وريث مجد بيزنطية هذه الامتيازات أحدثت خلطاً في الحقوق الروحية والزمنية وهي التي تعبر (أي الحقوق)، بشكل جيد نسبياً عن التطلعات الهلينية لمحمد الثاني في وقوفه ضد الأثنوقراطية التركية. هذه الحقوق اندمجت شيئاً فشيئاً بالشعور اليوناني الوطني ونصبتهم مدافعين عن الثقافة اللاهوتية اليونانية وعن اللغة اليونانية.
في فترة القرن الثامن عشر، دخلت الإمبراطورية العثمانية في مرحلة الانحطاط. فأخذ الولاة المحليون يعلنون استقلالهم الذاتي، وحتى استقلالهم عن الباب العالي أمثال علي بك الكبير في مصر وضاهر العمر في فلسطين. ففي بلاط هؤلاء الحكام كنا نجد الكتّاب وأمناء السر وأمناء الصناديق والتجار متأثرين بالطقس الكاثوليكي إذ أنهم وجدوا في هذه الحركات وسيلة لتوكيد ثقافتهم العربية ودعمها مواجهين بمساعدة المرسلين الأجانب وحماية القناصل، السلطة التركية التي كانت تساند الكنيسة اليونانية.
أما في لبنان فقد سعى الروم الكاثوليك إلى بسط سيطرتهم بإقامة الأديرة وبشراء أراضٍ في الجبل، وساعدهم ذلك، جهراً وعلانية، المقدمون الدروز، (أبو اللمع وجنبلاط) الذين استبشروا فيهم نصيراً جديداً لهم معادياً للعثمانيين ومدعوماً من قِبَل فرنسا، وهو نصير يختلف عن الموارنة الذين يعملون شركاء في أراضيهم.
هذه الانقسامات في الكنيسة الشرقية، إلى كاثوليك وأرثوذكس سيكون لها المسؤولية الكبرى في اضطهاد الجماعات المسيحية المشرقية، في واقع الأمر فإنّ هذه الجماعات ستعمل كل من جانبها في تنافسها على امتلاك أديرة جديدة وعلى توسيع رعاياها ومن ثمّ أبرشياتها وستعمد إلى محاربة المؤمنين من الطائفة الأخرى وعلى الاستيلاء على أديرة هذه الطائفة.
وأدّى كل ذلك إلى فرض عمليات ابتزاز بشعة... والانتهاء بسلسلة من الفرمانات كلّفت غالياً هذه الجهة أو تلك لاستعادة سيطرتها، هنا وهناك، على ما اكتسبه الآخرون.
لكن موقف العثمانيين لم يدم طويلاً. نستطيع القول أنّ موقفهم المتسامح هذا هو وقف على رعايا إمبراطوريتهم ما داموا في أوج مجدهم وبأسهم. وكذلك لم يدم شهر العسل بين اليونانيين والأتراك فلقد أثارت حرب الاستقلال التي خاضتها اليونان غضب الباب العالي. ففي بداية القرن التاسع عشر ترافق الموقف المتزمّت لولاة المدن السورية مع شعور بخسارة أراضٍ من الإمبراطورية العثمانية فألقيت تبعة هذه الخسارة غلى الغربيين. فهؤلاء الغربيين الذين كانوا حماة مسيحيّي الداخل هم الذين حرّضوا اليونانيين على الاستقلال، اعتبروا المسؤولين الوحيدين عن انهيار الإمبراطورية العثمانية وبالتالي الإسلام. ضمن هذا الإطار من انحسار السلطة المركزية تقدّم الوهابيون في أرض شبه الجزيرة العربية وأخذوا يهاجمون القوافل في الصحراء من أجل مراقبة طرقات الحج، وعملوا على زرع أفكارهم وترسيخها في عقول المواطنين الوافدين من المدن العثمانية. لذا فإنّ ولاة المدن السورية، الذين كان همّهم الرئيسي تأمين سلامة الحجاج المؤمنين الوافدين إلى الحج، عملوا على المزايدة لتجنّب إمكانية تجاوزهم من قِبَل الوهابيين في هذه المدن حيث تغلّبت السلطة الدينية على كل السلطات. فأخذت شروط عمر تطبّق من جديد على الجماعات المسيحية وخاصة في ما يتعلق باللباس، بالإضافة إلى عمليات أخرى مهينة ومحقرة وخاصة في دمشق.
هذا الموقف الذي فرضه المسلمون على مواطنيهم المسيحيين يجعلهم أمثال الأجانب ظهرت نتيجة ذلك أيضاً في مصر حين احتلت جيوش بونابرت هذا البلد. ففي الواقع أنّ حركات التمرّد التي قادها العلماء والمشايخ ضد الفرنسيين ترافقت مع ردّات فعل عنيفة وغير منضبطة ضد المسيحيين في القاهرة (ظهرت بعمليات اضطهاد المسيحيين وحرق بيوتهم وتدمير المحال والحوانيت ونهبها...).
ضمن هذا الإطار، سيرحّب المسيحيون بتدابير المساواة التي طبّقها محمد علي حين احتل سوريا (1832 ـ 1840) فلقد شارك المسيحيون حينها في الجمعيات الاستشارية وتسلّموا مراكز عالية. هذه التدابير حافظ عليها العثمانيون بعد عودة سوريا إلى حضن الإمبراطورية العثمانية، مع حركة الإصلاح (كالخانة 1839، همايون 1856، الدستور 1876). هذه الإصلاحات تبنّاها العثمانيون بضغط من الدول الأوروبية ومن أجل الحصول على عطف الغربيين، مُنحت الطوائف المسيحية المساواة مع الرعايا المسلمين في الإمبراطورية وجعلتهم يتحرّرون من علاقات أهل الذمة. لكن هذه التنظيمات لم تكن لإرضاء رؤساء الدين المسيحيين الذين فقدوا امتيازاتهم من جراء التنظيمات. ولقد أحدثت هذه التنظيمات أيضاً صدمة وردّة فعل في صفوف المسلمين، إذ كان من الواضح أنّ عرّابَ هذه التنظيمات هو أوروبا المسيحية. وإذا نظرنا إلى أحداث العام 1860 التي وقعت في لبنان ودمشق، من ضمن هذا الإطار التاريخي نرى أنها ترتبط بهذه التنظيمات ارتباطاً أكيداً ولو غير مباشر.
لقد فسّر بعض المؤرخين هذه المجازر بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان وبين المسلمين والمسيحيين في دمشق، فقط ضمن إطار الصراع الاجتماعي. ففي جبل لبنان، بعد أن تمرّد الفلاحون الموارنة ضد الإقطاعيين الموارنة من آل الخازن العام 1858، امتدت حركة التمرّد وتوسعت إلى مناطق الشوف والمتن حيث أوشك الفلاحون، وهم هنا أيضاً موارنة، أن يتصدوا للإقطاعيين الدروز. فحوّل الإقطاعيون هذه المعارك إلى معارك طائفية لتجنّب المصير الذي لقيه آل الخازن، حلفاؤهم وأعوانهم.
وفي دمشق (كما في بقية أراضي الإمبراطورية) كان التجار المسيحيون قد أصبحوا وسطاء بين التجار الأوروبيين والأسواق الداخلية. فإنهم كانوا يُرسلون إلى أوروبا شرانق الحرير المادة الأولية الضرورية لصناعة الحرير حارمين بذلك الحرفيين المحليين من وسائل عملهم. هؤلاء الحرفيون الذين كانوا بمعظمهم مسلمين، لم يجدوا بُداً من الذهاب إلى بيوت المسيحيين لاستعادة الشرانق تاركين وراءهم ضحايا ومنازل محروقة.
وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ارتكب العثمانيون أحياناً مجازر يمكن أن نطلق عليها اسم الإبادة الجماعية وخاصة بحق الأرمن والسريان والآشوريين. لكن يجب أن نعترف بأنّ في أصل هذه الفظائع، أسباباً سياسية تُظهِر مسؤولية التدخلات الأجنبية وخاصة البريطانية والفرنسية.
هذه الأحداث التي عاشها المسيحيون بطريقة مأساوية لم تمنعهم من المشاركة في النهضة العربية. ولم تمنعهم من أن يكونوا محركيها الأساسيين. ضمن هذا السياق نستشهد بكتابات بطرس البستاني السياسية، أكثر منها الأدبية، فكتاباته (في مجلّتَي نفير سوريا والجنان) تدعو إلى تجاوز المجازر من أجل التعايش الوطني والعمل على التقدم. ويعتبر نجيب عازوري أنّ المسيحيين عرب مثلهم مثل المسلمين.
وفي مصر أيضاً نخص بالذكر الأخوان تقلا وشبلي شميل وفرح أنطون، هؤلاء الذين في دعمهم للعرب حضّوا العالم العربي على الدخول في مجال العصرنة الحديثة.
وهذا ما جعل مكرم عبيد القبطي الذي ناضل في حزب الوفد إلى جانب سعد زغلول في سبيل استقلال مصر يقول: "أنا مسيحي الدين وإسلامي الوطن".
في هذا الإطار باشر المسلمون والمسيحيون النضال جنباً إلى جنب ضد الاستعمار واستهدفت هذه النضالات في بادئ الأمر الإمبراطورية العثمانية ثمّ القوى المستعمرة (فرنسا وانكلترا) التي تقاسمت العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى نتيجة اتفاقية سايكس بيكو. وكانت غاية هذه النضالات إقامة كيان وطني مستقل يحكمه توجّه وحدوي يستقطب العالم العربي.
لقد زالت صفة الذميين في الشرق بعد توقيع معاهدة لوزان التي عقدت في 24 تموز 1923 بين تركيا والقوى الحليفة. وقد أعطى الأتراك الحجة على أنّ هذا الوضع الاستثنائي الذي كان له ما يبرّره في إطار إمبراطورية إسلامية ثيوقراطية أضحى الآن عرضة للخطأ في دولة الجمهورية التركية.
على أنّ المؤرخين يغفلون تحديد ـ أو أنهم لا يجدون علاقة ما ـ أنّ هذا الإلغاء ترافق مع نقل قسري وتهجير لمجموعات سكانية يونانية سريانية وأرمنية عن موطنها الأصلي في آسيا الصغرى باتجاه اليونان وسوريا ومجموعات سكانية مسلمة مقيمة في أوروبا الشرقية باتجاه تركيا.
نتساءل إذا كانت هذه المجموعات السكانية التي أضحت معدومة وبائسة تفضّل الاحتفاظ بأرضها وثقافتها بدلاً من أن تحصل على امتياز لم تستفد منه. وقد نُسب إلى بطريرك أنطاكية غريغوريوس الرابع حداد قوله قبيل هذه الأحداث "إذا كانت طائفتي أو ديني يسيئان إلى وطني فإنني أفضّل وطني".
إنّ مجرد بيان هذه الأحداث وتفسيراتها يكفيان للاستنتاج أنّ سبب انخفاض عدد المسيحيين في الشرق ليس كامناً في وقائع واضطرابات معزولة فحسب بل هو ملازم للشروط الحياتية العادية للجماعات في بعض الفترات. وقد دفعت كل أشكال الضغوط بالعدد الكبير منهم إلى الارتداد عن دينهم وهي بذلك كانت بمثابة اختبار قاسٍ لمدى ولائهم لإيمانهم.
ولكن كانت هذه الأوضاع أبعد من أن تنسب إلى الإسلام وإلى روحه وقوانينه فهي ناشئة عن انعدام التوازن داخل العالم الإسلامي: كلما أحسّ بتهديد من الخارج كحال الحروب الصليبية أو الغزوات المنغولية أو كلما مسّت كيانه أخطار مماثلة من داخله. وإنه لواقع معبّر أن تبدأ جلجلة الكنيسة في العالم العربي والإسلامي بسقوط الإمبراطورية العباسية حين كان للمسيحية الأغلبية العددية في بلاد ما بين النهرين وسوريا وبلاد النيل.
إنّ هذا الماضي الحافل بصراعات الشعوب وحروب الجهاد والحروب الصليبية والاستعمار التي تعاقبت في ما بعد، عاشته المجموعات والشعوب المحلية والإسلامية بطريقة متباينة: فالحروب الصليبية على أرض العرب ومن بعدها غزوات المنغول كانت الكارثة الساحقة بالنسبة إلى المسلمين، في حين اعتبرها بعض المسيحيين خلاصاً لهم وكانت بالفعل بداية تقهقرهم. وبالمقابل يبدو سقوط القسطنطينية بِيَد العثمانيين بنظر المسيحيين نهاية لحياتهم الثقافية والدينية وبداية دخولهم في ليل الأزمنة بينما تتج