الوفــاق اللبنانــي بين الثوابت المبدئية والمتغيّرات السياسية()
ندوات /
سياسية ثقافية /
1987-12-23
ملخص مداخلة السيد الأمين
حول الهُويّة الحضاريّة والشرق أوسطيّة
إن مصطلح "الشرق الأوسط" مصطلح استعماري يتجاوز هُوية المنطقة الحضارية القومية والإسلامية ... وهذا المصطلح يحدِّد مكان المنطقة استناداً إلى موقعها من مركز العالم أي أوروبا الاستعمارية . ومشروع الشرق الأوسط الاستعماري في بداية هذا القرن أخذ شكل تقسيم المنطقة وتوزيعها عَبر معاهده سايكس ـ بيكو !
ومشروع الشرق الأوسطية الجديد هو امتداد للمشروع الاستعماري السابق ولكنه هذه المرَّة يأخذ شكل توحيد المنطقة عَبر مركز جديد غريب عن المنطقة هو الكيان الصهيوني. أما طبيعة هذه الوَحدة فهي طبيعة اقتصادية، الهدف منها تعزيز انقسام المنطقة وعدم قيام حركة تنمية وتكامل اقتصادي مبني على أساس الهُوية الحقيقية للمنطقة .
إن تدمير هُوية المنطقة ـ القومية والإسلامية، كان دائماً في أساس مشاريع الهيمنة على المنطقة ، وعلى ثرواتها . إن مشروع الشرق أوسطية هو استباق لأحد مشروعَيْن حضاريَّيْن هما : مشروع الوحدة والنهوض القومي ومشروع الوحدة والنهوض الإسلامي. وهو المشروع الداعي إلى تكامل عناصر هُوية هذه المنطقة عَبر حوار القوى المعبِّرة عن الاتجاه القومي والاتجاه الإسلامي والمتمثلة في الحركات القومية وفي الحركات الإسلامية، وهي الحركات المحاصرة والمطاردة من قِبَل الأنظمة السياسية التي أقدمت على الانخراط في التسوية الراهنة للصراع العربي الصهيوني، وهي التسوية التي وضعت مشروعها ضمن مشروع أميركا لصالح الكيان الصهيوني، وبالتالي لصالح مشروع الشرق الأوسط الجديد .
نـدوة دراسيّـة 23 كانون الأول 1987
الوفــاق اللبنانــي
بين الثوابت المبدئية والمتغيّرات السياسية()
* * *
كلمة ترحيب وشكر للحضور
ـ شكر للمحاضريْن
ـ شكر لدار رعاية اليتيم
إن موضوع لقائنا: الوفاق الوطني اللبناني بين الثوابت المبدئية والمتغيِّرات السياسية... وهو موضوع يثير كثيراً من التساؤلات والخلافات في وجهات النظر ، من ناحية المضمون والمحتوى ومن ناحية التطبيق والتنفيذ لدرجة أنه، وبعد مضي ثلاثة عشر (13) عاماً على اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، التي اندلعت سياسية ، ثم لم تلبث أن تحولت تدريجاً لتأخذ الطابع الطائفي والمذهبي ، هل يمكن الآن أن نتحدث عن وفاق وطني لبناني على المستوى السياسي الرسمي، وهذا إذا لم نقل على المستوى الشعبي ؟.. وكيف يمكن أن يتحقَّق هذا الوفاق الوطني وعلى أي من الأسس والمقومات ؟!...
ثم وحدة العيش المشترك بين الطوائف والمذاهب ، والتي نحن هنا في صيدا والجنوب، متمسكون بها وهي جزء من تاريخنا الوطني، جزء مضيء فيه ، وحدة العيش المشترك هذه ، هل لا تزال مطلباً عاماً صالحاً ... أو مبدأ ممكن التحقيق في الظروف الداخلية والخارجية الراهنة ؟.. وكذلك : وحدة الدولة اللبنانية ، شعباً وأرضاً ومؤسسات، ما هي شروط إعادة لُحمتها ؟.. وما هي المبادئ أو الثوابت التي ينبغي أن تتحقَّق وَحدة الوطن على أساسها ؟...
ومن جهة أخرى ، هل هناك نظرة واحدة وموحَّدة إلى التاريخ اللبناني وإلى التفاعلات السياسية في مختلف أطواره ؟.. أم أن لكلٍ ، ولكل طائفة ، تاريخها اللبناني الخاص ؟!... وهل صحيح ، كما يقول أحد المؤرخين اللبنانيين ، كمال سليمان صليبي، في مقال صدر له حديثاً " إنّ التاريخ اللبناني لم يُكتب بعد ؟!...
من أجل الإجابة عن هذه التساؤلات ، وغيرها كثير أيضاً ... ومحاولة منّا طرح الموضوع ، نحن في المركز الثقافي ، وإجراء الحوار المنتج الخلاّق ومناقشة الآراء المطروحة لرؤية المصلحة الحقيقية للشعب اللبناني ، دعونا لهذا اللقاء الثقافي باحثَيْن مثقفَيْن واختصاصيَّيْن في الموضوع وهما : الدكتور حسين القوتلي ، مديرعام شؤون الإفتاء اللبنانية والمشرف العام على مجلة الفكر الإسلامي الصادرة عن دار الفتوى ، وهو المتابع الدائم للمؤتمرات الإسلامية ومؤتمرات الحوار الإسلامي ـ المسيحي التي تعقد هنا وهناك ، بين فترة وأخرى ... والزميل الدكتور جوزيف أبو نهرا ، أستاذ مادة التاريخ في الجامعة اللبنانية ( الفرع الثاني ).
ثـوابت الوفـاق اللبناني في الإطار السياسي
* * *
مداخـلـة
الدكتور حسين القوتلي
تُطرح من حين لآخر اقتراحات حلول للأزْمة اللبنانية بطريقة تتراوح بين الصدق والمراوغة، وبين الإخلاص والغفلة ، وبين الرغبة الظاهرة في الإصلاح والنيَّة الباطنة في الحفاظ على طائفية النظام وامتيازاته الفئوية . والمشكلة في هذه الاقتراحات التي تتقاذفها الأفواه عامة والقيادات المسؤولة وغير المسؤولة بشكل خاص أنها تأتي محكومة إما بقناعات جاهزة لا تقبل النقاش ، وإما برغائب الاستئثار والامتلاك التي تحمل بذور الفتن والحروب المتجدِّدة ، في الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه محكومة بثوابت موضوعية عامة أفرزتها الحرب الأهلية في لبنان بعد أن صارت هذه الثوابت ، بعد اثني عشر عاماً من الحرب الأهلية الدموية المضنية ، خليقة كي تكون المعيار والدرس والعبرة لكل سلام ممكن في لبنان الجديد .
وإنه لممَّا يدعو إلى النزق والدهشة واليأس معاً، أن قيادات حزبية وميلشيوية في الطرف الآخر ، ما زالت تطرح مثل هذه الحلول المحكومة بالقناعات الجاهزة التي لا تقبل النقاش ، وبرغائب الاستئثار والامتلاك التي تحمل في باطنها بذور الفتن والحروب المتجددة ، بل والتهديد بالتقسيم كذلك ، من غير أن يكون لكل ذلك أو بعضه أيُّ علاقة بما تولد من ثوابت جديدة على امتداد الحرب الأهلية في لبنان .
وآية ذلك أن هذه القيادات في الطرف الآخر دأبت على طرح مبدأ تدويل لبنان من أجل ثبيت حياده ، بين شرق وغرب ، بين صهاينة وعرب ، وذلك عن طريق الدعوة إلى انتشار القوات الدولية في طول لبنان وعرضه ، على زعم بأن هذا التدويل وذاك الحياد، يمكن أن يكونا من الثوابت التي يقوم عليهما سلام لبنان وسلام المنطقة بل وسلام العالم كله . إنها طروحات وحلول، في رأينا، أقل ما يقال فيها إنها طروحات وحلول ضحلة وساذجة ، لأنها لا تعتمد على الإخلاص للبنان بقدر ما تعتمد على استغفال بنيه ، كل بنيه الذين ما زالوا يدركون أن الدعوة إلى تدويل لبنان وحياده ، على قاعدة نظام الامتيازات الطائفية وخلفيته التاريخية الدامية ، ليست في الواقع إلا دعوة لتدويل نظام الامتيازات الطائفية المنحاز بطبيعته البنوية، على الرغم من مزاعم الحياد، إلى نظيره الصهيوني القائم على حدود لبنان الجنوبية .
إن نظام الامتيازات الطائفية في لبنان هو إذن نظام متصهْيَن بطبيعته، انحاز إلى إسرائيل أم لم ينحز، دُوِّل أم لم يُدَوَّل ، وهو من أجل ذلك لا يمكن أن يكون نظاماً ديمقراطياً ولا نظاماً إنسانياً ولا نظاماً أخلاقياً ، يتساوى فيه الإنسان بالإنسان ، وآية ذلك ما يحدث اليوم في فلسطين المحتلة من ثورة على التمييز العنصري الطائفي، يقوم بها الشعب العربي الفلسطيني الأعزل بعد أربعين عاماً من أشكال التناقض الداخلي ، مشيراً إلى طريق الثوابت الوطنية على أنها ليست شيئاً آخر غير المساواة والعدالة في حق المواطنية ، وليست شيئاً آخر غير النظام الديمقراطي يحكم كل المواطنين على أساس من شرعة حقوق الإنسان .
إننا ونحن نسجل تحية الإكبار والثورة للشعب الفلسطيني الثائر اليوم على أرض فلسطين ضد العنصرية الصهيونية، لا يسعنا إلا أن نؤكد على أن نظام الامتيازات الطائفية ، وحتى نظام المساواة الطائفية ، باعتباره موضوع إصلاح، أصبح من المتغيرات اللبنانية وليس من ثوابت الوفاق اللبناني ، وأنه لمن الغفلة بمكان أن يقبل اللبنانيون الباحثون عن سلام حقيقي دائم بوضع المتغيرات في مكان الثوابت والثوابت في مكان المتغيرات .
الحديث عن ثوابت الوفاق اللبناني يستلزم بالضروة الحديث ، بداية عن متغيرات الوفاق اللبناني وذلك بهدف التفرقة بين ما هو ثابت وبين ما هو متغير في الكينونة السياسية اللبنانية ، حتى لا تختلط الأمور فنضع المتغير في خانة الثوابت ، ونضع الثوابت في خانة المتغيرات ، ولعل منشأ الأزْمة اللبنانية يقوم على هذا التداخل. ونستطيع هنا أن نقتصر على مثل واحد نقدمه كتعبير دقيق عن التداخل بين الثوابت والمتغيرات ويقوم هذا المثل على النظر إلى أمريْن :
الأول "وحدة لبنان" التي هي ثابت من ثوابت الكينونة السياسية اللبنانية ،
والثاني "السبع عشرة طائفة" التي هي متغير من متغيرات الكينونة البنوية اللبنانية، باعتبار هذا المتغير قابلاً للزيادة والنقصان. ومن هنا فإن مغالطة ذات نتائج خطيرة يمكن أن تنشأ عن هذا التداخل، عندما نضع السبع عشرة طائفة في خانة الوَحدة، لأن ذلك يعني أن الوحدة أصبحت معرَّضة للزيادة والنقصان ، وبذلك تصبح "وَحدة لبنان" متغيراً من متغيراته ، وليس ثابتاً من ثوابته السياسية ، الأمر الذي يهدِّد الكيان من أساسه .
والفرق الجوهري بين الثوابت والمتغيرات هو أن الثوابت مجموعة من مبادئ سياسية تولدت بالضرورة عن كيان لبنان السياسي، في حين أن المتغيرات هي مجموعة من رؤى طائفية تولدت بالضرورة عن مصالح شرائح وزعامات في هذه الطائفة أو تلك. والفرق إذن بين الثابت والمتغير في السياسة اللبنانية هو كالفرق بين كيان الوطن وكيان الطائفة ، بين المبادئ والمصالح ، بين حق السلطة في الحكم وحقوق الزعامات في التحكم .
بعد هذه التفرقة الضرورية، لا بدّ من التنويه بعنوان هذه المداخلة الذي اختير لنا وهو "ثوابت الوفاق اللبناني"... فهو عنوان يأتلف مع قناعاتنا السياسية في أن الوفاق لا يمكن أن يكون ، ولا يجوز أن يكون ، وفاقاً طائفياً بأي حال من الأحوال ، وإلا كان الوفاق نفسه مبنياً على المتغيرات ، وما بني على متغير فهو متغير ، في الوقت الذي نشعر فيه بالحاجة إلى أن يكون الوفاق منطلق الثوابت ومبدأها الأول ، حتى لا نجد أنفسنا كل عقد من الزمان أو عقدين بحاجة إلى وفاق جديد .
لقد عانينا من حرب أهلية طويلة امتدت إلى ثلاثة عشر عاماً من الزمان ، ومن المغالطة والمكابرة بمكان أن نزعم لأنفسنا أو للآخرين ، أن هذه الحرب هي حرب الأغراب على أرض لبنان ، صحيح أن قوى غير لبنانية خاضت غمار هذه الحرب بشكل أو بآخر ، متدخلة إلى جانب هذا الطرف اللبناني أو ذاك أو محرضة له ، إلاّ أن هذه القوى الخارجية ، مهما كثرت أعدادها ، ومهما كانت أهدافها وأطماعها ، فإنها لم تكن بقادرة على هذا التدخل إن لم تكن تتوفر لها هذه الأرض الخصبة لتدخلها ، هذه الأرض هي الصيغة الطائفية ، سواءً أكانت صيغة امتيازات طائفية أم صيغة مساواة مذهبية، لا فرق بين هذه وتلك .
لذلك فإن هذه الحرب الطويلة التي سقط فيها مئة وخمسون ألف ضحية ، وشردت مئات الآلاف من المهجرين ، وهدمت المئات من المساكن والمصانع ، وتركت ما تبقى من اللبنانيين فريسة للجوع والجهل والمرض والرعب ، إن هذه الحرب بهذه الصيغة المأساوية، ليست ككل الحروب التي مرت على لبنان . ومن هنا فإن الوفاق المطلوب ليس ككل الوفاقات التي اجترحها اللبنانيون صيغة للعيش فيما بينهم ، إنه وفاق ينبغي أن يأخذ بعين المسؤولية والاعتبار كل الأرواح التي زُهقت ، وكل الدماء التي سالت ، وكل الخسائر التي منيَ بها كل بيت ، إنه وفاق ينبغي أن يقوم على مبدأ الحرص على عدم السماح بتكرار التجربة ، بصرف النظر تماماً عن صيغ الوفاق التاريخية السابقة . وكلما كان الوفاق ثابتاً راسخاً في منطقه، كانت ثوابته أكثر رسوخاً في منتهاها ، وكان كيان لبنان السياسي أكثر رسوخاً في هذه البقعة من العالم .
وبعد، فإننا على ضوء ما تقدم يمكن أن نميز في ثوابت الوفاق اللبناني بين أمرَيْن: بين صيغة الوفاق وبين موضوعاته. أما صيغة الوفاق فهي في الحسم النهائي بأنها صيغة سياسية وليست صيغة طائفية ، سواءً أكان بالنظر إلى طرفَيِ الوفاق ، باعتبارهما موقفَين سياسيَّين متعارضَين وليس مصلحتين لطائفتين مختلفتين ، أم كان ذلك بالنسبة لموضوعي الحوار ، باعتبارهما هُويتَين قومية وطائفية ، وليس دينَيْن مختلفين : الإسلام والمسيحية .
إن هذه الرؤية الطائفية الأخيرة لصيغة الحوار تستتبع استبدال الثوابت بالمتغيرات، فأيُّ صيغة طائفية لوفاق وطني سوف تستتبع بالضرورة ، وبشكل منطقي، طرح المتغيرات الطائفية الديمغرافية وتحاول أن تبني عليها نتائج ومستلزمات وحقوقاً مشروعة . فالصيغة السياسية للوفاق إذن هي التي تتمسك بمبدأ الوفاق بين تيارَيْن سياسيَّين أو أكثر ، كما تتمسك بحصر موضوعات الوفاق في المبادئ السياسية والقِيَم الإنسانية المشتركة ، وهي وحدها صيغة الوفاق اللبناني الممكنة ، وهي وحدها تشكل الثابت الوحيد والأول للانطلاق إلى الثوابت الموضوعية التي يقوم لبنان عليها .
وأما ثوابت الوفاق فإننا يمكن أن نحصرها في خمسة: أولها العروبة ، وثانيها الاستقلال وثالثها الوحدة ، ورابعها الحرية وخامسها الديمقراطية . ولنا على هذه الثوابت ملاحظتان :
الملاحظة الأولى :
إن كل موضوعة من هذه الثوابت تلزم عنها الموضوعة التي تليها بالضرورة. فإذا كانت العروبة هي أول هذه الثوابت وأصلها جميعاً، فذلك لأن العروبة كانت ، تاريخياً على الأقل ، بمثابة صيغة الوفاق الموضوعية التي تولدت عن الصراع بين سلطة الخلافة الإسلامية وحقوق الأقلية المسيحية ، فالعروبة باعتبارها صيغة وفاق ، وهُوية موضوعية غير طائفية ، هي سابقة على الاستقلال ، ولأنها كذلك فهي شرطه الأساسي، وهو تابع لها بالضرورة . هُوية لبنان العربية من حيث هي انتماء تاريخي وجغرافي وحضاري ومصيري في الوقت نفسه . وبهذا المفهوم يصبح استقلال لبنان استقلالاً بالعروبة وليس استقلالاً عن العروبة .
وإذا كانت العروبة موضوعية لا طائفية، فذلك يعني أنها هُوية توحيدية لكل مضامين الكينونة الاستقلالية ، نعني أنها صيغة التوحيد الممكنة والوحيدة بين الإنسان والإنسان ، وبين الإنسان والكيان ، وبين الكيان والمحيط . وكما كانت العروبة شرط الاستقلال فهي كذلك شرط الوحدة اللبنانية . وكما كان الاستقلال تابعاً للعروبة ، فإن الوَحدة بالعروبة تابعة للإستقلال من حيث هي كينونة توحيدية استقلالية مستحدثة ..
وإذا كانت كل من الطائفية والمذهبية قيداً على الحريات الاجتماعية والسياسية، فإن العروبة باعتبارها نقيض الطائفية والمذهبية، تبقى وسيلة التحرر الوطني وجوهر الحرية الوطنية وهُويتها الحقيقية . والحرية هنا هي حرية الإنسان اللبناني المتوحد في كيانه . فالحرية اللبنانية إذن تابعة للوحدة اللبنانية ولازمة عنها بالضرورة . وأخيراً فإن الديمقراطية هي التجسيد السياسي والاجتماعي للحرية وهي تابعة له ولازمة عنها بالضرورة .
من هنا فإن الثوابت الخمسة للوفاق اللبناني الموضوعي ترجع في الأصل إلى واحد وهو العروبة ، بمعنى أنه لا استقلال إلاّ بالعروبة ، ولا وحدة إلاّ بالعروبة ، ولا حرية إلاّ بالعروبة ، ولا ديمقراطية إلاّ بالعروبة . من هنا كانت العروبة هي الهُوية وهي الحل في الوقت نفسه . ولما كانت هذه الثوابت الخمسة تتوحد بالعروبة، فقد أصبحت كلا واحداً لا يتجزأ ، وذلك يعني أنه يستحيل الأخذ ببعض هذه الثوابت دون باقي الثوابت الأخرى . فمن أجل بناء لبنان السيد المستقل، إما أن تأخذ بكل هذه الثوابت مرة واحدة، فيكون لبنان ، وإما أن تترك هذه الثوابت كلها مرة واحدة، فلا يكون لك من لبنان شيء .
من هنا فإن النظام الطائفي الراهن، باعتبار الطائفة هي الهُوية ، وهي الانتماء، وهي الكينونة الوحدوية ، هو نقيض هذه الثوابت الخمسة لا يمكن أن يأتلف معها بأي حال من الأحوال . إن النظام الطائفي الراهن ، بل وأي نظام طائفي آخر ، هو نقيض الحرية والديمقراطية . لذلك ، فإن النظام البديل عن النظام الطائفي الراهن هو نظام الثوابت الخمسة ، ومن العبث محاولة التوفيق بين النظامَيْن، إذ لا ديمقراطية ولا حرية ولا وحدة ولا استقلال ولا عروبة مع الطائفية السياسية .
والملاحظة الثانية :
إن كل موضوعة من هذه الثوابت الخمسة تلزم عنها جملة من الثوابت الفرعية من جنسها ، فالعروبة تنشأ عنها ثوابت الالتزام بحقائق التاريخ والجغرافيا والحضارة وقضايا المصير المشترك . والاستقلال تلزم عنه ثوابت الكينونة والسيادة والنظام والسلطة . والوحدة تلزم عنها ثوابت وحدة الولاء ، ووحدة الانتماء ، ووحدة الشعب ، ووحدة النضال ووحدة المصير ... والحرية تلزم عنها ثوابت فرعية من جنسها بالضرورة كحرية العقيدة الدينية أو السياسية والحرية الفردية والحرية الاقتصادية . والديمقراطية تلزم عنها في آخر المطاف مختلف النظم والممارسات الديمقراطية ، كالنظام السياسي الديمقراطي ، وديمقراطية التربية والتعليم ، والديمقراطية الاجتماعية بشكل عام .
إن النظام الطائفي الراهن لم يعد يشكل خطورة على الإنسان والقِيَم الإنسانية فحسب ، إنما بات بالتأكيد يشكل خطورة على العقيدة الدينية نفسها . ففي هذا النظام اُستُبدل الدين بالطائفة ، واستبدل الولاء لله بالولاء لرأس الطائفة ، وأصبح الدين الذي هو بحجم الكون، شيئاً غريباً هو بحجم الميليشيا المذهبية المسلحة . إن على كل المؤمنين في لبنان أن يدركوا هذه الحقيقة الخطيرة ويعملوا على التصدي لها من خلال التصدي لنظام الطائفية السياسية ورموزه . إن ذلك لا يعني أبداً التصدي للطوائف ، ذلك أننا ندرك تماماً أن هناك فرقاً واضحاً بين الطوائف التي هي علامة غنى حضاري وثراء روحي ، وبين تسييس هذه الطوائف الذي هو علامة من علامات الابتزاز للمؤمنين، واستغلال الإيمان نفسه ، بل والتجديف على عدالة الله ووحدانيته .
في هذا النظام الطائفي السياسي أصبح للمواطن ولاءات غربية ، ولاء للطائفة بديلاً عن ولائه للبنان ، ولاء للمذهب على حساب ولائه للدين ، وولاء للخارج على حساب ولائه للداخل ، وولاء للمصلحة على حساب ولائه للمبدأ .
* * *
وبعد :إذا كنّا نركّز هنا على هذه الثوابت الخمسة وتفرعاتها باعتبارها أساساً لنظام بديل وإصلاحي للنظام الطائفي ، فإنه لا بدّ من الإشارة إلى أن فترة زمنية ، بشرط أن تكون محددة ، يمكن أن تكون ضرورية للانتقال من نظام إلى نظام ، على أن هذه المرحلة الانتقالية لا بدّ إلاّ وأن تلتزم بمبدأ توازن الضمانات: فإذا كانت المعادلة السابقة قد أعطت لبعض المسيحيين حق السلطة الأولى مثلاً كضمانة لهم ، فإن هذه المرحلة الانتقالية تفرض أن تكون للمسلمين ضمانة توازيها في حجمها وقوتها . لذلك فإن ضمانة المسلمين أن يكون النظام رئاسياً ينتحب فيه رئيس الجمهورية من قِبَل الشعب مباشرة وهكذا بالنسبة لأية ضمانات أخرى .
نقول هذا الكلام من منطلق المقولتين المزعجتَين: مقولة الخوف لدى المسيحيين ومقولة الغبن لدى المسلمين . نقول هذا ونحن نعلم أن الخوف والغبن كلاهما مصطنع وكاذب وابتزازي بالنتيجة ، ذلك أن الذين يدعون الخوف باتوا يتغلبون عليه بتخويف الآخرين ، وإن الذين يدعون الغبن باتوا يتغلبون عليه بإيقاع الغبن بالآخرين . من هنا تصبح المشكلة اللبنانية عندنا مشكلة أخلاقية، تعوزها استراتيجية تربوية محددة الأهداف الوطنية والإنسانية والخلقية .
نقول بمبدأ توازن الضمانات المسيحية والإسلامية ، بخجل كبير ، لأننا نعلم أن جدلية الضمانات ، هي جدلية التسابق على الامتلاك ، وليست جدلية التسابق على العطاء . فهي من أجل ذلك تتميز بأمرَيْن : بكونها مطالب تصعيدية لا تقف عند حد ، وبكونها مطالب اقتناصية لا تلتزم بأخلاق . لذلك فإن سرعة تخطي المرحلة الانتقالية تبقى هي الضرورة الملحة في هذه الظروف المتردية وبالغة السوء . وإن الانتقال من نظام المتغيرات الطائفية إلى نظام الثوابت اللبنانية ، من نظام الحرص على الامتلاك إلى نظام الحرص على العطاء ، أعني من اللا أخلاقي إلى الأخلاقي ، ومن اللا إنساني إلى الإنساني ، لا يتطلب كثيراً من الذكاء، ولكن يتطلب الكثير الكثير من الأخلاق ومحبة الإنسان للإنسان .