انشطار العقل العربي، وفشل المشروع القومي، ولعنة الثنائيات: مفيد ديوب
دراسات /
ثقافية /
2004-12-25
انشطار العقل العربي، وفشل المشروع القومي، ولعنة الثنائيات: مفيد ديوب
2004/12/25
الثقافة التي لا تعي ذاتها وعيا نقديا, ولا تكشف عن عيوبها ونقاط ضعفها هي ثقافة لا تقتل نفسها فحسب, بل تنقضّ على الأمة وتعمل
على تدميرها, وتدمير مكوناتها, كما تدمر مشاريع نهضتها اللاحقة , وتودي بالتالي إلى إقصائها من العصر. مشكّلة أيضا آليات إعاقة تعمل على إحداث قطع حضاري يصعب على الأمة تجاوزها في المستقبل.. وتبرز هذه الإعاقات أكثر ما تبرز حين تعرض الأمة للمحن, أو لمجابهة عدوان أو تهديد خارجي . عندها يضطرب عقل الأمة اضطراب المرتعش خوفا, لاجئا إلى أشكال دفاعية, ومنشطرا بالوقت ذاته إلى اتجاهين رئيسيين:
الأول: متماهي مع ثقافة الحضارة الأقوى التي هزمته, مستقصّيا عن مفاهيم في تلك الثقافة تناسب مقاساته ورغباته وأمانيه في العصر, دون أن يخضع تلك المفاهيم إلى أي مطابقة تاريخية لواقعه الخاص, بل يلجأ إلى قسر الواقع كي يتطابق مع تلك المفاهيم, حيث يقوم بانتزاعها من واقعها ومن تاريخيتها . و يقوم باختيارها اعتباطا و انتقائية.
الثاني: شطر انكفائي (تبوّغي) يفتّش في ماضيه عن مبررات انكفائة ليقنع ذاته بانكفائه, خصيصا إذا كان ذاك الماضي يحمل في طياته ملامح ساطعة, وإذا كانت عناصر ذاك الماضي متشابكة مع الدين و مفاهيمه, الذي يحظى بالسطوة و الجلالة لدى شعوب متخلفة, و كذلك أيضا إذا كان ذاك الماضي دائم الحضور و طاغيا على الحاضر و المستقبل في عقل الأمة المتخلفة , و يشكل كل ذاك الماضي الهوية و الوجود و الشخصية, فيصبح أي جديد يهدّد مفاصله هو, و بالوقت ذاته يهّدد الوجود و الهوية, و يزيد من تمسّك البشر بذاك الماضي و اندفاعهم إليه.
و يتبدى عجز الثقافة لدى الشطرين " الهروبيين " الأول الهارب إلى الأمام و الثاني الهارب إلى الوراء , بالأدوات المستخدمة في مواجهة الأزمات و مخاطبة العقل , و في البحث عن الحلول للأزمات. فتكون الخطابة و الاعتماد عليها للتكيف مع الأزمات هي الأسلوب الرئيسي, و هي التي تزيد البؤس بؤسا جديدا, و هي التي بواسطتها يتم تحويل الهزائم إلى نصر, و إلى التعتيم على عمق الأزمة و التضيّيق على العقل بخياراته الأخرى الممكنة .
بهذه الركائز العقلية و هذه الأدوات واجهت ثقافتنا العربية مشكلاتها , التي بدت عنيفة في بداية القرن الماضي, و التي تبدى عنفها عندما أدركت شعوبنا شدّة تخلفها حين حصل الاحتكاك المباشر بالغرب الحضاري , الذي حضر إلى منطقتنا غازيا بجيوشه المتطورة و بمنتجاته و سلعه و طرق إدارته للمجتمعات. و بهذا المناخ تحققت شروط مساعدة للجيل الأول من القوميين العرب الذين طرحوا مشروعهم القومي العربي للإجابة على سؤالين مهميّن:
ـالأول هو: من "نحن"؟. و بذلك المشروع يتمكّنون من إجراء جراحة الفصل عن الرابطة و الهوية الدينية التي كانت تحت غطاءها يربطنا العثمانيون المتخلفّون بعربتهم, و بذريعتها يستمرون بالهيمنة و النهب. هذا من جهة , ويجد القوميون في مشروعهم القومي العربي (هوية) تقف أمام الطوائف و العشائر المتناحرة. و فضاء يجمعهم و يوحد طاقاتهم و يشكل أساسا وطنيا يمكن البناء عليه لاحقا, من جهة ثانية.
ـ الثاني : لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟ فكان جواب المفكرون القوميون حينذاك هو بضرورة مجاراة الغرب بمشروع الحداثة وتقليد نمطه الليبرالي , بدءا من حرية الفرد والتساوي بين المواطنين, وصولا إلى الدولة الحديثة بسلطاتها المنفصلة والمستمدة شرعيتها من الشعب وعبر صندوق الاقتراع . بعد أن تم الإقرار بضعفها وهوانها وتحديد عناصر ضعفها ومستوى تطورها دون أن تقع في فخ الأوهام والمبالغات الزائفة ,وبعد أن تم تحديد الطرائق والسبل لتجاوز هذا التخلف وضرورة الإفادة من تجارب الغرب المتحضر وضرورة التثاقف معه . بعيدا عن النرجسية والعدائية للآخر ,"فكان للأيدولوجيا القومية العربية الدور المهم في إحداث النهضة الأولى وتحريك التراث الثقافي العربي والانعتاق التحرري سواء من التتريك أو في مواجهة الإمبريالية , وتحقيق الاستقلال في النصف الأول من القرن العشرين" *1 .
* * *
إلا أن الجيل الثاني من القوميين العرب حرف مسار التوجه بالاتجاه المعاكس باتجاه منظومة فكرية مختلفة تمام الاختلاف تكثفت جميع إجاباتهم على جميع الأسئلة في القومية العربية حسب افتراضاتهم, والوحدة حسب خيالاتهم. وعبر هذه الزاوية الوحيدة تم النظر إلى العالم. وتم التركيز على"النحن"بصفتها البداية والنهاية لكل شيء , والتي تحمل كل صفات الفخار وكل ما هو إيجابي, وبات "الآخر" تجسيدا لكل ما هو سلبي "وتم صياغة سؤال النهضة من جديد في إطار ثنائية الضعف والقوة, وبات السؤال:لماذا هم أقوياء بينما نحن ضعفاء ؟ وبذلك تشكل عقلا مفتونا بالقوة وساعيا إليها , وحريصا على الظهور بمظهر القوة حتى في وقت كان ينخر سوس التأخر والضعف في أساس البنيان وجدرانه... وجرى اختزال القوة بمعناها الواسع الذي تشتمل على مجتمع واقتصاد وعلم ومعرفة وبنيان سياسي وأخلاقي إلى أسوء مظاهر القوة وأكثرها خطرا أي القوة المادية فكان الاهتمام بالجيوش وكان اللجوء إلى الانقلابات طريقا لتحقيق الطموحات والأحلام, وبسرعة جرى اختزال القوة إلى العنف , وجرى استخدام العنف وتوظيفه في العلاقة بين أبناء الوطن, فكان أن تأسست تلك الديكتاتوريات الجهنمية ترغم الداخل على وحدة قسرية هشّة... لقد صنع الجيل الأول من القوميين العرب الدولة الوطنية إطارا سياسيا يتعلم فيه العرب السياسة لأول مرة , ويصوغون فيها أسس تقدمهم وربما وحدتهم, أما الجيل الثاني فقد جعلوا حياة هذه الكيانات مستحيلة بعد أن نزعوا عنها كل شرعية, وكل سياسة ما عدا سياسة العداء لخارج ما.. يضم الصهيونية والإمبريالية ويتسع ليضم الشيوعية والرجعيات العربية " *2
. كما اندفع الجيل الثاني إلى صياغة الأيديولوجية القومية بمفاهيم شوفينية قائمة على الأوهام والتضليل:"
"إن القومية العربية ليست نظرية, ولكنها مبعث النظريات, ولا هي وليدة الفكر بل مرضعته , وليست مستعبدة الفن بل هي نبعه وروحه, وليس بينها وبين الحرية تضاد, لأنها هي الحرية ... والقومية ليست علما بل هي تذكّر, تذكّر حي " كما يقول ميشيل عفلق (سبيل البعث ج1ص139 دار الحرية).
وتتفتق عبقرية "الفيلسوف" القومي زكي الأرسوزي عن كلام غامض ضبابي أقرب إلى باطنيات المتصوفين, وعصور السحرة حيث يقول:
"إن ما يجب علينا والحالة هذه, أن نبدأ ببعث كلامنا وأن نحذر على حرفنا المقدّس هذا من الدخلاء على بيئتنا ... ولما كان صرح ثقافتنا من فقه وأدب وفنون قد شيدت على المعاني المنطوقة في الكلمات, وكانت المعاني في العودة إلى الينبوع, إلى الحدس المتضمن في الكلمات ... إن الأمة امتداد للأسرة وأنها تقوم على التعاطف الطبيعي بين الأخوة في المجتمع
وأن الاتجاه القومي هو اتجاه لبعث رابطة العشيرة على مستوى العصر... أنما الأمة تجربة رحما نية مثالية تقاس على عمق التجربة وبلاغة الاستجابه... والعروبة هي وجداننا القومي, عنها تصدر مثلنا العليا, وبالنسبة إليها تقدر قيمة الأشياء "(زكي الأرسوزي المؤلفات الكاملة مج1ص117297).
كم تحمل هذه المقاطع من دلالات كثيرة, وكم تخفي أو تصرح كل كلمة فيها على سوية هذا الفكر وعنصريته ونرجسيته وعدائيته للآخر, والتركيز على العنصر العربي الذي يتضافر مع بقية المفاهيم لينتج بالمحصلة فكرا عنصريا
قائم على الشحنات العاطفية والمثالية والنزوع التقديسية, ومركّزا أيضا على اللغة كعنصر رئيس, ومن ثم التلاعب بها ليصوغ خطابا تحشيديا يجّر الناس وراء قادتهم "الأبطال الأنبياء "ـ كما يصفهم الأرسوزي ـ إلى عبوديتهم, وبالوقت ذاته يحوّل القادة الأنبياء إلى فاشيين "أبديين", ومبتعدا هذا الفكر عن القانون والحقوق والإنسان والدولة حافظة الحقوق وحاضنة المجتمع وناظما لطاقات أبنائه وموارد الأوطان لصناعة المستقبل الأفضل . يقول ساطع الحصري: إن مفهوم الأمة يجب أن يفصل عن مفهوم الدولة فصلا تاما" على عكس ما قام به الجيل الأول حيث شدد على ربط المفهومين معا ومؤكدا على أن الدولة هي الطريق إلى اكتمال تشكل الأمة .
وبذلك يكون الجيل الثاني من القوميين العرب قد عكس اتجاه مشروع الجيل الأول محولا إياه إلى مفاهيم ثقافوية شعوذية
لقد "أبدعت" التصورات الرحمانية عند الأرسوزي, والشعرية المتوّهمة عند العفلق, فكرا أودى بمسار التطور الممكن للفكر القومي العربي إلى متاهات جهنمّية, بعد أن تحولت تلك التصورات إلى ثقافة شعبية فرضتها الديكتاتوريات القومجية على مدى عقود عدة, وتربى عليها عدة أجيال دون أن يتاح إلى غيرها مجرد التنفس .
* * *
ربما لم يكن بمقدور هذا الاتجاه الفكري القومي الشوفيني أن يتحول إلى ثقافة شعبية طاغية على كل الاتجاهات الفكرية الأخرى , ومن ثم يتمكّن من تحشيد "الجماهير " الغفيرة ـ من غفير ـ ويوصل قادتها إلى السلطة لولا تأثير الحدثين التاريخيين الكبيرين الذين هزّا المنطقة والعالم باثره.
الأول: هو الهزيمة الكبرى للعرب 1948 وولادة كيان غاصب طامع بالمزيد, ومدعوما بالوقت ذاته من أقوى إمبراطوريات الغرب الليبرالي, الذي كان الجيل الأول من القوميين يطالب بالإقتداء به, فالهزيمة كانت أكبر بكثير من هزيمة عسكرية, بل كانت هزيمة لكل المشاريع والآمال والأحلام التي بناها العرب خلال النصف الأول من القرن الماضي, بردم هوة التخلف مع الغرب وبناء مستقبل واعد, بل كان الأمر أشدّ من ذلك, كان زرع الكيان الجديد هو تهديد للوجود والأمن والهوية وكل شيء .. كان هزيمة للاتجاهات الليبرالية في كل التلاوين الفكرية التي عرفتها المنطقة, القومية والإسلامية والماركسية على السواء وتحضير الأرض للاتجاهات الراديكالية المتشددة فيها جميعا, وبات الرد على الهزيمة وتحقيق النصر العسكري على العدو الجديد غاية أولى تتصدر جميع الغايات , وعلى حسابها أيضا, وبات شعار " كل شيء من أجل المعركة " مسلمة وثابتا لا يمكن المساس به.
الثاني: هو النصر الذي حققه الجيش الأحمر السوفييتي ـ قبل ثلاث سنوات فقط من هزيمة العرب ـ القادم من " الشرق" على النازية رمز قوة وجبروت "الغرب " العدواني والمتحضر , وبهذا المناخ العام لم تتمكن كل اتجاهات الفكر من إجراء جراحة الفصل بين الغرب المتحضر وبين عدوانيته أو بالأصح عدوانية نظمه السياسية وأطماعها.وبات ذاك النموذج المنتصر القادم من الشرق ـ وما تعنيه أو تعزف عليه رمزية الشرق , لما لها علاقة وثيقة بالماضي الزاهي وبالأمجاد ـ هو النموذج المطلوب والذي يلقى الاستحسان والقبول حتى ولو خالف ذلك كل ما يقّر به العقل.و"العقل الخاص بكل اتجاه أيضا.
وبالتالي بات أمر العودة إلى نظم الديكتاتوريات أمر مقبولا ولا يواجه بالممانعات. وباتت الاتجاهات الفكرية تؤلدج أفكارها ومفاهيمها للوصول إلى السلطة, وبات الجميع مفتونون بالسلطة وازدادت شهوتهم لها, لما تمكنهم من الحصول على القوة التي باتت غاية بحد ذاتها. على هذه الركائز صيغت الأيديولوجيات الزائفة والتضليلية , وأنتجت خطابات تحشيدية تمكنت من تجييش "الجماهير" وتوصيل قادتها "القومجيين" إلى السلطة , وجرّ تلك الجماهير إلى عبوديتها ثانية, حيث تحولت تلك السلطات بسرعة إلى أدوات قهرية شيطانية, وتحّول معها الخطاب القومي بنهاياته إلى خطاب غايته تأبيد سلطة الرفيق "الأمين العام" لاغيّا أي مكان فيه للإنسان وحقوقه , أو الأوطان وزيادة منعتها والحرص عليها. مما أسس للهزائم اللاحقة ومن ثم إعادة إنتاج الهزائم بعد أن تحوّل إلى انتصارات كاذبة ومزعومة.
وعليه ستكون مهمة من سيتنطح إلى مهمة إصلاح الفكر القومي الذي أنتجه الجيل الثاني من حملة المشروع القومي غاية في الصعوبة , لأنه لن يجد فيه أية مرتكزات يمكن البناء عليها تلائم احتياجات وثقافة العصر , وسيجد نفسه مضطرا للبحث في جذور المشروع الذي حمله الجيل الأول من القوميين عن بعض المفاهيم التي يمكن أن تلائم الاحتياجات المعاصرة , ومن ثم يغنيها بالمفاهيم التي أنتجها العقل البشري والتي تكون محورها وغايتها الإنسان وحقوقه, واحترام الآخر المختلف واحترام حقه في الاختلاف, واعتبار مبدأ الاختلاف مصدرا للغنى والثراء, وليس مصدرا للخوف والتوجس والريبة هذا من جهة , والإقرار بالعجز القائم وبالمشكلات "العويصة" التي تواجه الأمة , والبحث العقلاني العميق عن جذورها ومن ثم تقديم الحلول العملية, والإجابة على الأسئلة الكبيرة: الأول سؤال الهوية, و الثاني لماذا تقدمت وتتقدم أغلب أمم العالم (وليس الغرب وحده) بينما نزداد تخلفا وضمورا جيلا بعد جيل , هذا من جهة ثانية .وهذا الجهد يحتاج أكثر ما يحتاج إلى الشجاعة الكافية لكشف العيوب ومواطن الضعف والخلل والإقرار بها.
إن المفاهيم التي احتواها الفكر القومي للجيل الثاني وأفضى إلى تصورات مثل مفهوم الأمة النرجسية, والانقلاب, والافتتان بالقوة والعودة إلى الماضي وتمجيده, والعدائية للآخر , ومقولة الشعبية والجماهير , والانغلاق على ألذات , والموقف من الحاكم ومن الدولة ومن القانون ومن الإنسان والحقوق, تجد لها متشابهات لدرجة التطابق أحيانا مع المفاهيم التي يتبناها الأسلاماويين الجدد. بعد أن فكك التعليم البسيط أميتهم وجهلهم, ومكنّهم لأول مرّة من التعرّف على دينهم بأنفسهم, وانفتح أمامهم إمكانية التحوّل السريع من رعاة وأشخاص مهمشين إلى "أمراء" بشر مثلهم, ومن ثم إلى "أمراء حروب" يأمرون من على منبر الأمير بأمر الله وينهون هم ذاتهم بما يرغبون مغلفين رغباتهم الرعويّة بحجة مزعومة ... والفارق بين الفكر القومي (الثاني) وبين الفكر الأسلاموي الجديد هو أن مفهوم الأمة لدى الأسلامويين قد توسع إلى درجة بلغت حدود الأرض التي بلغها, أو انتشر فيها الإسلام, ومفتونا أكثر بالقوة وبالعنف, ومتوسعا أكثر بميادين العداء ليس للآخر فحسب, بل للآخرين ـ المختلف معهم ـ أيا كانوا ومن أي جنس ولون حتى لو كانوا من أبناء جلدتهم.كما أن الأسلاموين أكثر نرجسية وعنصرية, فهم حسب أوهامهم " خير أمة " مهما كان حال هذه الأمة, وهم أكثر "عقائدية " وتشدد بمبدأ عقيدتهم ـ أي الإسلام كما يرسمونه ـ دين ودولة, وهو صالح لكل زمان ومكان, وكليّ القدرة, ويتضمن الإجابات على جميع الأسئلة مهما كان نوعها وحجمها, وفيه تحديد صارم لجميع أنواع السلوك, وطرائق التفكير وآلية عمل العقل, والحقول المسموح فيها والممنوع عنها. وجميع هذه المفاهيم تصوغ أيديولوجيا تحتقر العقل والإنسان وتعادي الحريات من أي نوع , وبالتالي تصوغ عبيدا فحسب . لذا تبدو فكرة إصلاح هذا الفكر على درجة عالية من التعقيد والصعوبة حتى لتبدو مستحيلة, إلا أن مواجهته الناجعة لن تكون إلا بتأسيس الدولة التي تعتمد فصل الدين عن الدولة, وكفّ يد وتدّخل الدين في حقل السياسة وإعادته إلى مكانه الطبيعي (أماكن العبادة), واستعادة الحريات للمواطنين ليتمكنوا من صياغة مستقبلهم بمعزل عن من يريد شد عجلة التاريخ إلى الوراء .
والآن "بعد أن خفتت موجة القومية الراديكالية على المستوى السياسي, فإن ما أتت به إلى الحياة السياسية والثقافية العربية ما زال حيّا ومزدهرا. فقد حلّ الإسلام الشعبوي محل الشعبية القومية وورث ميراثها, فالتوجس من الآخر والافتتان بالقوة ما زالا سيّدا الموقف, ومازالا أهم سمات الفكر السياسي العربي الشعبي ة "*2 وبدون أن تخضع جميع المفاهيم المذكورة إلى التفكيك عبر جلد ألذات بالحقل الفكري والنظري والسياسي لا يمكن أن تقوم لنا قائمة, بل بالعكس فإن استمرارها على ما هي عليه يبّشر بموجة رعويّة إسلامية هي أشد سوادا من الموجة الريفية التي ركبها القومجيون في النصف الثاني من القرن العشرين وهذا يعني بكل بساطة وتأكيد الخروج من العصر نهائيا دون أي أمل بالعودة إليه ثانية..
وهنا يلح السؤال التالي: هل تكفي هذه الهزائم التي مني بها العرب, والتي كان آخر ها سقوط بغداد لعودة العقل العربي إلى حالة من التصالح بين شطريه:الهارب إلى الوراء أي إلى الماضي المجيد, و بين الهارب إلى الأمام قافزا فوق واقعه ومشكلاته, بأوهامه ونرجسيته, حاملا بين كتفيه كل رعونة البداوة وهمجية الأرياف في آسيا ؟ هل تكفي هذه الهزائم لتعيده إلى رشده و"رشد يته" ويتوقف عند ذاته أولا وعند تاريخه ثانيا ليقرأ الاثنين قراءة نقدية جريئة, ويكشف عن العيوب, ومن ثم ينطلق للبحث عن حلول عقلانية ؟ أم أن الفاتورة تستوجب المزيد من الهزائم والحروب العبثية والدماء المسفوكة هدرا ؟ .
* ـ هاني نسيرة كتاب الأيديولوجيا والقضبان مركز القاهرة للدراسات
* ـ د جمال عبد الحميد|مقدمةكتاب الأيديولوجيا والقضبان
10122004
"خاص