حفل تكريم منيف موسى في المركز الثقافي للبحوث والتوثيق
لقاءات /
ثقافية /
2000-05-24
حفلة تكريمية : منيف موسى
كتابه مرايا الزمان
بتاريخ 24 حزيران 2000
يشّرفني أن أخوض في الكتاب , وفي الكاتب , بغير تمدّح , وبصدق ومحبة , وبغير عدوان. هذه المناسبات هي أشبه بجمعية عامة حول الثقافة والأدب وأهلهما, ِبحُرية لا تخشى الكردينالَ المفتش ولا رقابة عبد الحميد.
من مواضيع الكتاب استوقفني موضوعان :
رأيت أني لخّوانٌ إلمَّ أتصدَّ لهما.
الموضوع الأول : طه الحسين الذي يراه المؤلف منيف موسى قدوةً في النقد وعملاقًا في الفكر. وانا أخالف الصفتْين لأني على يقين أنَّ طه حسين لطَشَ مئة بالمئة جميعَ معركته العظمى , التي شهرته في العشرينات المنصرمة, لطَشَها من إرنست رينان وادّعاها . ويوم تُنشر أطروحةٌ ما في لبنان , فسوف يذوب التمويه والمساحيق وسيعرف الناس أن الرجل ابتدأ , كما انتهى علناًًَ, داعية للتطبيع الاسرائيلي.
الموضوع الثاني:هو مجلة شعر وجميع ُ أحصنة طروادة في معتصماتنا. لقد كُلّفوا تكليفاً بغيضاَ ومدبّراً باحتلال المواقع الثقافية والإعلامية , وروّجوا لمقولات لا تقلّ غاياتُها عن تدمير الذاكرة العربية , وعن تشويه اللغة, وعن بعثرة لغة القرآن وإلغاء العروة التي تُواصل ما بين المشرقيْن والمغربيْن . حاخامو مجلة شعر خرّبوا وبعثروا وعجّموا حتى لما يروي عربيان , اثنان في العالم العربي , جملةً عنهما, وحتى لما يجمعُ أيُّ بيت من الشعر بين مثقَفَين اثنين. بل جنّدوا الأجهزة الإعلامية , بقدرة قادر, لنشر العاميّات الشعوبية , ولنشر النسيئة والغربة من المحيط إلى المحيط. وقد حذّر حديث شريفْ احذروا كل منافق عليم !
ولن أناقش يا صديقي منيف نظرية لبنان القوي بمساحته الصغرى , وبطموحه الكبير, أي بلبنان الذي قوّتهُ في ضعفه . لن أخوضَ في المهاترات. بل يكفي أن اذكّر , وأنا الضابط السابق (والحالي) أنّ لبنان المستعجم بَخَلَ على الجيش بكل شيء حتى كاد أن يلغي جوهره ومادتَه , وحتى خاض ( أو تفرّج) الحروب, بعديدٍ أقلَّ مما كان ايام الانتداب , وكأنّ اسرائيل لم تكن .
***
أما الكاتب !! الكاتب الصديق , فأفتتحُ الكلام عنه بمطلع ملحمية سُمّرية عنوانُها" في العُلى لمّاً",حوالي العام 4000 ق.م .
يقول المطلع :" ابتغَى الاَلهةُ كمالاً وارتقاءً وتجوّداً فتأنسَوا . الألوهة بغير تأنسٍ سرابٌ خلّب وإنْ كان سراباً سماوياً". وذلك منذ 4000 سنة قبل المسيح .
لاحقتُ نشوءَ الأديب منيف موسى فلمحتُ ثلاثةَ مداميك, ثلاثَ أمثولات , ثلاثَ أاصايل . هؤلاء ربّوه تربية :
الأولى: امتطى الفتى جوادَ أبيه, الفارس في لواء الخيالة بالجيش, فشُبّه له أن الأصيلة أسلست له , وأنه اتقن الفروسية . بعد برهة ألقتْه الأصيلةُ أرضاً ورفضتْه محمحمةً.
قد توهَّمَ الغّرُ أن الفروسيةَ تُنال بالقربى والزلفا فساءَ فألُه.
المتنبي: قد قال لولا المشقّةُ ساد الناسُ كلّهمو الجود يُفقر والأقدام فتّالُ.
أبوه الخيّالُ الممتهن, والعقيد جوزف سمعان قائد اللواء , شرحا له معنى حمحمة الأصيلة . قالت الأصيلة :" صهوتي يا غرُّ لا يعتليها سوى خيّال أشبهيّ يلجُمُني بالسؤدد وبآداب الوغى. انا سليلة الضابحات المكرّمات يُجاعُ لهنّ العيالُ ولا أُُجاعُ. حديثٌ مرفوع رسَمَ إنّ تنقيةَ علفي صلاةٌ وصدقة وأنه إذا ما أُُذّن يا خيلَ الله اركبي فمعراجهم الجنّة .
الدرس الثاني تولتّه اللغة العربية وهي كذلك أصيلة الأصايل .
بعد قصيدة ألقاها الفتى في الابتدائية خُيّلَ إاليه أنه أُوتي جوامع الكلم. أحلامُ الشباب اغتصبنَ برائته البكر فأدّبته الحياةُ باكراً بأنّ عنبَ المية ومية ما استوى وإن أدب التسرع حصرمٌ مرّ وأنّ في الخمر معنى ليس في العنب .العربية, عُليا معدّ, العنودُ العصماء الغيورة العنقاء, صدّته بجفاء حنون : أنّ دون امتلاكها أهوالاً وأنها, منذ فجر الخليقة وحتى قيام الساعة, لن تنفكّ تختار مَن يحتلون ليلَ معانيها, وأسرارَها وعبقرياتها. الجاحظ, صحّاهُ استغفارُ بدويّ جلفٍ أميٍ , في الربع الخالي , كان أنهى صلاته مجادلاً اللهَ:
"أغفر لي اللّهمّ !! نحن أمة مهديّة وربّ غفور" . فالتمعت في وجدان الجاحظ قولةٌ غيّرت حياتَه : إذا كان القرآنُ تنزّلَ على واحدٍ بَيْدَ أنه عبقريةُ أمةٍ جمعاء. وراح العبقري ينقّب عن الشوارد يقتنصها,ويتنصّت على ذبذبات البلاغة والعبقرية أينما ثقِِفَها, حتى ارتقى هو الى رتبة متنبي النثر( ولو قبل المتنبي) فيما اصبح أبو الطيب بعدَه جاحظَ الشعر. وأصبحا الجاحظ والمتنبي قائمتي سلّمِ الرتبٍِ في الأدب:شعرهِ ونثرِه. منيف موسى وسواه من كوادح القلم والأبداع مرصودون للتصنّف على هذا السّلم . وطوبى (للفائزين!!)
الصدمة الثالثة التي أيقظت منيف موسى هي الأصيلة حّواء . حواءُ منيف حوّاآته هي هويته وعنوانُه: لأنها تساكنُ فيه القلمَ والوجدانَ. من حوّائه تعرفونه. حواءُ في المطلق حباها ربهَّا حدساً كالنحل وتروز به المترشّحَ لوردّها : أَدخيلٌ هو الى خدرها الأُنُف أم فاتكٌ وقنّاصُ مصير ؟هذا المثولةُ المستشفع ُربابَه ,الطارقُ برمحه على الوتر والوتد هل هو ذو مرةَّ ومهابة , أم هو مبتزّ للصهوة العذراء؟! أمتذلّكٌ أم حيدرٌ نمرودٌٌ يُهدي حبَّه اللبوة قنيصَ الدخلة لعلهّ يستحلّ لُبدتها الحرام. الأصيلة لا كانت اذا استردّها من لا يستحقها . البدوي يقول تفنى الأصيلة ولا كديش يردّها!!
الأصايل الثلاث علّمن الفتى أن العلم ابنُ المشقة والسعي وأن المرأة ملك للجَسور وأن العربية لا يحيط بها إلا كالأنبياء . والجندي المتأدب تعلّمَ انّ خير الرماة مَن سبقَ ظلّه وأرداه. الظل كالاجترار عدوّ . والظلّ كالمومياء والأطلال معيق للتقدم.
التثقف المغني كَثَّرَ القلق المحييَ في الفتى وطرح الاسئلة.(المستحيلة:) مَن المقَّدم : القاموس أم الاسلوب؟!
هل الشعر يحتكر الهدير الجواني , والهديلَ أم النثر أ يضاً؟
الأصالة والحداثة : متى بدأتا , ومتى تتبدّلان ؟
وهل يتوقف الزمان ؟ أأنت ملك الزمـــان؟
وما شعرٌ بغير نشوةٍ ولا موسيقى ولا قافيــة؟
وما شعرٌ لا يُنشد ولا يُحفظ ولا يُسكِر العذارى؟
وأسئلة يطول بها المُقام.
هل تغفـــرون؟
أخيراً عندي سرّ أحتار هل أُفشيه . ولكنكم مستودعُ الأمانـات . فلا بأس !
ُقدّر لي أنْ لطشتُ شريطاً مسجّلاَ سّرياَ بَعَثت به الأصـايلُ الثلاثُ(اعلاه) إلى منيف. هذا نصّــه:
"اتبتغي صَهَواتِنا ذُللاً, صفواً وعفواً , كما يجّمْلك كدمةٌ ولا نُدبة, ولمّا تُشطَّب ؟ وخيرُ الوجوه المشطّبُ؟! مَهْ! ما أنتَ , وليس في سجلّك أحلامٌ فاشلة ولا أتواقٌ منحطمة ولا جهالاتٌ مشاعــة ؟
أين أشلاؤُكَ مبعثراتٍ مُعْتجراتٍ على دروب جرأةٍ ومغامرة؟ أين احلامك؟ ُأتراكَ وُلدت كهـلاً ؟؟
أين أثارُ عنفوانِك الأشعث , وقصائد حبّرتَها بالدموع, ورسائلُ نبــغَ بها حــدودُ الجميلات ؟
وأين صوَرُ مغناجٍ خَفِرةٍ , وأنوثةٍ تفوح , وجمالٍ إذا ما أطلّ قيلَ جهجه الضحــى؟!
اذا لا , إلاّ؟ فَهيتَ لكَ الدنيا مباحة ً فاغتصبْها !! وما لنا ولأنسان خامٍ.
وما مومياٌء مقمّطة في ذَهَبها ؟ انتهى البلاغ رقم واحد.
خبّرتني العصفورُ ان منيف صُدِمَ وقرّر كسرَ القشرة.فغاب بغير خَبَر. وعادَ الى خليلاته الثلاث,متقلداً شاهراً سجّلاً عدليّاً مُفَهْرساً , بتوقيع مئة مختار.
قوامه ممنوعٌ من الاقامة أينما حلّ. مشاكسٍ يتبعُه الغاوون. مجهولُ المبيت ابداً. مَن يتعرّفْه داخلَ أي حَرَم فليرجْمهُ!!
وأقسمت العصفورة أيضا أنه منذ كان عيدٌ عند الخليلات الأصايل . الخليلات ُ وجدنه وقينــه الأذى, لقد قام من بين الأموات , والتَهْمنه كالقربان مغمّساً في خمرةٍ من كروم المية ومية , منذ أيام عشتار عمرها من قبل أن يخلق الكرم. والعهدة على الراوي.
ومن يومها, من بعد مرايا الزمان , قرّر منيف أن يرديَ ظلّه بالضربة القاضية, وبرصاصة الرحمة, وأن يتجاوز حالة الرضى التي تُفْقده وتعقّده,وأان يمشي على الماء, وان ينسى ما كتب , وأن يبدأ الجهاد الأكبر, وأن يكيدهنّ كيداً, إن كيدهنّ لعظيم.
تحية حُبٍّ إلى صيدا
هي تُكرّم منيف موسى- يوم السبت 24 حزيران سنة 2000
في المركز الثقافي للبحوث والتوثيق
هيَ صيدا , ونحنُ اليوم
أ قبِّلُ جبينهَا العالي يجمعُنا , على النَّصرِ
وألثمُ رمْلَ شاطيها شهيدٌ مِنْ دراريها
هي منّي, وهذا الساحلُ الأخضرْ
أريج الزَّهر إلى صُوْرٍ, يعانقْنا
ونُبْل الوَعدْ وَبعْدُ,
وكِبرْ العَهْدِ ,أهديها إلى شبْعا ,وقُنَّاتٍ
هُنا, لنا فيها
كنتُ.. صغيراً في نواديها أمجادٌ.. وراياتُ,
أُلاعبُ طيفَ ماضيها وأبطالٌ .. تحاميها..
أَدورُ في شوارعِها هي أرضي
معي معروف, رعاها اللهُ.
يُمسكُني فلا خَوفَ على أرضٍ
يُعرِّفني وجوهاً من أهاليها. ببذلِ الذات
هُمُ أَهلي نفديها.
فَنِعْمَ الدارْ
ونِعْمَ الجارْ
كلانا من مَغانيها
منيف موسى
حزيران2000
الى الشاعر والناقد الدكتور منيف موسى
شعر مكرم سعيد حنُّوش
شمولُ في الثقافة ِ واللسانِ وشعّرٌ , مَهْدهُ فيضُ الجنَانَ
وعقلٌ باتَ للإلهـامِ ثغـراً يزّودُنا الفرائدَ في البيـان
فيرسلُهـا مشاعُر آسـراتٍ من الواجدِ المكّللِ بالأماني
فَكَمْ في الشعْرِ منْ غزلٍ انيقٍ تُرددهُ القلوبُ مدى الزمانِ
وكمْ في النقدِ من نهْجٍ أصيلٍ تواكُبهُ الحيـاةُ ولا بفـانِ
فما الإعجازُ إلاّ بَيْت شِعْـرٍ تعانقُـهُ المشاعـرُ كُلَّ آنِ.
منيفٌ في الابانـةِ والبيـانِ وعقلأٌ ثاقبٌ فَوْقَ ارتهـانِ
ونَقْدٌ صياغَهُ غُصناً فغُصيناً فاشجاراً تؤولُ إلـى جِنانِ
توخّى دقـة الأحكام حتـى تطابقت المعاني والمبانـي
فجاءَ الزهرُ قِبْلةَ كُلِّ عيـنٍ وجاءَ الثَمرُ شهدة كُلِّ جانِ
فأضحى النقدُ إبداعـاً وخَلقاً يُحِّفزُ كـُلَّ ما كَتَبتْ يدانِ
وباتَ الجهدُ وجهاً مِنْ ضيعٍٍٍ يُجسِّدُ كُـلَّ آدابِ اللسـانِ
منيفٌ , قَد غَدوْتَ رفيق فكرْ أُبادلُهُ المـوّدةَ والأمـاني
وأسرفُ في سجالٍ مَعكَ آنا يؤولُ إلى التباعد لا التداني
َ فَقَدْ عارضتَ فيكَ بيانَ شِعْرٍ بهِ أَوغلتُ في شَحْذ السنانِ
كما ارجفتُ نقدي في "نهارٍ" رآهُ الخُـلُّ وأداً للدنـانِ
وإنَّا لـَنْ نعـودَ إلى لقـاءٍ نلامسُ فيه أطراف البنانِ
منيفَ الفِكْرِ يـا أدباً طليقـا فأنتَّ العقلُ منطلقُ العِناقِ
تعدُّ النقـد شَرعاً في وجودٍ وحقاً لا يُواجهُ بامتهـانِ
وتقبلُ في رحابِ العْلمِ فكراً ورأياً مُشرعاً في كُلِّ شانِ
وَجَدْتكَ في قبول النقد فـذاً كأنَّكَ حَائِزٌ حُلوَ الأمانـي
فقدْ عََزَّزتَ نقدي في كتابٍ صَنَعتَ بهِ "مرايا للزمانِ"
فما اغراك مَدْحٌ مِنْ صديقٍ ولا أضناكَ وَجْهٌ من حِرانِ
جلالُ الشعْر حُكما اذ تناهى يفوزُبكُلِّ أسبـاب الرهـانِ
فلا التنظيرُ يَنفي حُسْنَ شِعْرٍ ولا الصهباءُ تحْبَسُ في الدنانِ
ولا الإبداعُ يدفنُ في فصولٍ وغاياتٍ لكُـلِّ حقيرِ شـانِ
منيفٌ في الصبابةِ والجنانِ وقلبٌ عاشقٌ حتّى التفانـي
وعمرٌ عاشـهُ حُراَ طليقـاً يُحاورُ فيه أجسادَ الحِسـانِ
تغزّل: شعْرُهُ ألـقٌ رفيـقٌ وكم تنساق للغزل المغانـي
فَكم ألهََن فيضاً من حنيـنٍ تألقَ في قصائدِ من ُجمــانِ
وكمْ فَتَحَ التغزّلُ من جفونٍ ورطبَ سحْرهُنَ بصَوْلجـانِ
منيفَ الشعر تسكُنُ كُلَّ قَلبٍ فَكيَفَ إذا خصصْتَ به الغواني
منيفَ الرأيَ ترهَِفُ كُلَّ فِكرٍ فكيف اذا رفعـتَ به المجاني
فأنتَ البَدْعُ تكتبُ كُـلَّ نصٍّ وتبقى النار فيـهِ بلا دُخـانِ
حزيران 2000
البحّار الغريق
جوزف حرب
أوقعتني هذه الدعوة في َحيرة , تمنيتُ أَلاّ أَقعَ فيها, لسببٍ أتمناه , وهو رغبتي في تقديم مطالعةٍ, جماليةُ تظهرُ ما أراه ُ ذا قيمةٍ عالقة , في فكرِ منيف موسى وإبداعه.
غير أن هذه الدعوة, ليست بدعوةٍ إلى الكلام على أثرٍ من أثارِ هذا المبدع الذي أحبُّ قلمه, وليست بدعوةٍ إلى رؤيةٍ نقدية , أو إلى تكريم أو احتفال. إنها دعوةٌ بمناسبةِ صدور كتابٍ جَمَعَ مادَّته أصدقاء ُ منيف موسى , مما قاله فيه الاخرون , وهو في غالبيته , تَصعبُ عليّ مناقشته, لما يتضمنُ من حِسٍّ وجداني, ونجاوى وتَرسُّلٍ رقيق, وملاطفات , هي, رغم قيمتها الرفيعة أحيانا كثيرة , لا تشكل مادةً,يسهل الوصولُ من خلالها, إلى ابداء رأيك النقدي, أو الجماليِّ الخالص , في منيف موسى.
كتابُ " مرايا الزمان" , الذي يجمعنا اليوم , حولَ منيف موسى , كتابٌ من جميلِ معانيه, أَنَّ أصدقاءَ لمنيف , جمعوا مادتهِ ليخرجَ إلى النور, من أيدٍ مُحبة, ومعجبة , ووفية , كأنها أيدي منيف موسى , في محبته , وإعجابه , ووفائه.
أنا , يا أخي منيف , ليس لي, والحمدلله ,أصدقاء وسأكونُ غداً , كما أنا اليوم , َممْحواًّ من ذاكرة الجميع, كأنه قد تمَّ فيَّ قولُ الكهنة في الموتى: الرحمةُ الدائمة أعطيهم يا ربّ.
وكتاب "مرايا الزمان" , هو الكتاب الوحيد الذي غاب عنه منيف موسى , مبدعاً , وناقداَ, ودارساً. وهو في مسيرِتهِ الأدبية , لا ُيشِّكلُ أيةَ محطةٍ من محطاتِ قلمه . فماذا أقول؟! وماذا أكتب؟! وفي أيِّ نقاشٍ أدخل , أو في أيِّ جَدَلٍ أخوض؟! يُضاف إلى ذلك , أنه كتاب في منيف موسى وعنه, وليس بكتابٍ من منيف موسى وله. مع اعترافي أنه لَمُفيدٌ ومُهمٌ , أان يتنادى أصدقاءُ أديب , إلى توثيقٍ ما قال وما قيلَ فيه , ضمنَ كتابٍ يتحَّولُ في النهاية , مرجعاً سهْلَ المًتناول , عندما سيتنادى الدارسونَ والباحثونَ والنقاد, إلى الغوصِ عميقاً في ما تركَ منيف موسى على الكرةِ الادبية, من بحارِ نقدٍ وابداع.
لكن, رغمَ كلِّ الحيرة التي وقعتُ فيها, وجدتُ نفسي مشدوداً إلى الكلام على منيف موسى المبدع. فهو صائغٌ ماهر , وإيقاعيةُ الجملةِ الصوتيةِ لديه , امرٌ مُنَقىَّ ومُنتقى . وتتالي الحركات والسواكن, فيه الكثيرُ من القبض على سرِّ عبقرية اللغة العربية, في نغمية المدّ , والوقْف , والخفْض, والتتابع, والقطْع, والتناوُل والتبُّدل المقاميِّ في ايقاعيةٍ لا متناهية. ولعل أجمل ما في هذا كله هو تلك العفْويةُ النادرةُ التي يتمتعُ بها قلمُ منيف موسى , المبنيُّ اساساً , على دراسةٍ وافية, للقواعد التي يُخفي عنك منيف موسى موادَّها , وأُصولها, وجُذورها , لِيُبقْي لك منها مشهدها الرائع وكأنه يُغنيك برائحةِ العطر, عن معرفةِ مكوناتهِ.
أما الغنى الثاني , في إبداعية منيف موسى , فهو الصورة, متضمنةً الرمز, وإعادة التكوين , والتوالد,والإاضافة. كلُّ صورةٍ بالنسبة للابداع , إنما هي صورةٌ ناقصة , ومُهمتُه ان يُضيفَ إليها أو عليها لِتكتمل. ومنيف موسى , في هذا المجال , على براعةٍ تامة, في ايجاد صورة, توالدُها يعني اكتمالُها , واكتمالها يعني اضافتَها .
ولهذه الصورة بُعدان: الصورةُ في ذاتِها, والصورةُ في أَنها مشحونةٌ بأعمقِ اللُّمع الوجدانية . ومنيف موسى بذلك , يَطرحُ جانباً , وبقصد , كلَّ المدارس , والأراء , التي " تَرى الى الصورة" الوجدانية, على أَ
نها عيبٌ أدبي , أو فنٌّ كلاهُ صدأُ التقليد . وأنا في هذا المجال , انحازُ إلى صورِ منيف موسى, لأنه فيها مُبدعٌ لا مَجّانيّ , ووريثٌ لا سارق , وصاحبُ جذورٍ لا طُحْلُبيّ , وشجرةٌ لا ظلّ.
أما الغنى الثالث , فهو المجاهيلُ التي وَصلَ إليها منيف موسى , والأبعادُ الشاسعةُ التي تنقَّل فيها , وعادَ منها بامتلاءٍ , وتجاربَ , وكنوزٍ, لا تقعُ على أي أثرٍ فيها, عندما تقرأُهُ بعمق. لقد ابقى في كتاباتِه على امتلائِه الخاص, وتجاربه الموصولةِ بمجاذيفه , وكنوزِه الُمنتقاةِ من اعماقِ روحه , تاركاً ما أتى به من تلكَ الأبعادِ والمجاهيل , أدواتِ صقل , وثقافةً, وتبحّراً اذ لا يصحُ ان تكون أديباً كبيراً , إلا إذا كنتُ مفتوحاً على رياحِ كنوزِ الفكر, وابعادِه , ومجاهيلِه.
صحيحَ , هناك ملحٌ للآخرين خَفيّ , في بحرِ منيف موسى , غيرَ أن هذا الملح , فرضْته تلك الصلةُ التي لا تنقطعُ بين ما يُوْلَدُ , وما يجبُ ان يظلَّ حياً , إنه الانفتاح , والتواصل , والامتزاج.
وهكذا,
فليس لمنيف استاذ. ولم يمتصَّ قلمهُ حبرَ أحد. ولم تَطِْر اوراقُه بريشِ أجنحةِ الآخرين.أما موسيقاه , فهي من الرنينِ والصدى الآتيينِ من رياحِه, وأعماقِ وديانه.
أخي منيف
عَمُقَ مجذافُكَ , وََوسَعُ مداك , وتحيةُ الجالسِ على الصخرة , إلى البحّار المغامر.
وأعمقُ حبي لكل ,أنني منتظر تَحَرقَك , فلا أراكَ إلا وانتَ في الاعماق.
كلمة د. سلوى الخليل الأمين
في ندوة عن الشاعر والناقد د. منيف موسى
بمناسبة صدور كتاب "مرايا الزمان"
المركز الثقافي للبحوث والتوثيق-صيدا
السبت في 24 حزيران 2000
مرحبا بالزمان تتفجرّ من داخله إيقاعات حروفيه, تتشكّل في بناء متناغم يحمل خصوصياته , لينثرها في المرايا لؤلؤات تبهر الناظرين لروعة بهائها.
د. منيف موسى , قبل أن أجول معك في مرايا الزمان, قرأتك في "إيقاعات على دفتر الحب" و"عاشق من لبنان" ,فإذا بك تسابق الزمن في ارتداده إلى كينونة تسكن الجسد والمرأة والوردة والحب والحنين والشوق , لتمهِّ د لمراياك التي عكست بنصوصها علاقتك بالشعر وبالنص الأدبي, المسترسل في شاعريته متزاوجاً مع دراسات أدبية تحليلية للعديد من الأدباء والمفكرين والشعراء,الذين قادوا مرحلة التحوّل التعبيري, لتشمل رحاب الكون بل لتتفاعل معه وترتقي به إلى حقيقة المعرفة.
هو ذا الرجل , شاعر وأديب وناقد , يشتد معه الإيقاع فيهب من صبوة مسحورة بلحظات الفجر الأولى, ليلفّ بخيوط الوجد يراعه, يسكبها رواء لبيض الصفحات حيث تهدأ مستريحة في رهجها المتلوّن بألوان البنفسج, لترقد في مرايا زمانه تحاذر الأبحار.
في ثلاثة وثلاثين سنة من حياته الفكرية والأدبية , ناور في كل الاتجاهات , سبر أسرار الكلمة بلغة انسيابية , زواياها عالية كالخط الكوني المملوء بكبرياء الروح العاشقة لجريان القلم, يخلق في حالة الانسجام مناخات تتفتح معها الحواس , لِتُشكِّل احتفالية مفتوحة على كل الكلام.
د.منيف موسى الناقد في كتابه " شجرة النقد" و"كلام في مسرى الحركة والحداثة" والشاعر والمحللِّ والأديب , لئن لمعت في مرايا الزمان نصوصه وأشعاره , ضاربة بجذورها في التراث العربي, يبقى الإانسان المقتحم الحياة الواقعية , مستكشفاً ذاتها ببراءة الحياة نفسها التي يعيشها , باشتياقه إلى البحث عن انتماء إنساني أعمّ وأشمل من حدود بلده إلى رحاب العالم, حيث لا تتوقف انتماءات البشر إلا للأشمل , بحيث يمارس قناعاته وحريته بذهنية فيها كل الصفاء والنقاء, المعكوسة في مراياه مشهدية تعبيرية ترتاح على عتباتها أصواتنا المملوءة بعشب التراب, المتدحرجة في المنعطفات وعلى مدى الفصول , تحمل في ألواح ذاكرتنا تواريخ عصورنا الذهبية.
أما في أبحاثه ودراساته , فهو الموغل في الإحاطة بالنص الأدبي وبصاحبه, فهو الذي أخرج جبران خليل جبران من الإطار التقليدي لوضعه في إطار العروبة والثقة بنهضة اللغة العربية وتراثها ."ص273 " مرايا الزمان.
وهو الذي طرح قضية الحداثة بقوله "الحداثة ليست عملية تجاوز مجاني للواقع أو لما هو قائم فكرياً وشعورياً , بل هي عملية تغيير واع له ودقيق, لا ارتجال فيه ولا مبالغة ولا ادعاء ."
هذا القول للشاعر الدكتور منيف موسى, يهيء لمسارات متدفقة العطاء , شمولية الأهداف , مشحونة بالحق الذي ما انداح عنه هواه ولا يقينه, رسالته التزام بالرأي السديد المحصّن بالذرائع الناجعات, والموصولة بصحائف العلم والمعرفة , تجري على الألسنة كنسمة الهواء العليل في الليالي المقمرة , ولأجل كل هذا كان خوفه على الحرية بحجم حُبّه الكبير , للوطن والأرض والله والمرأة, لذا فهو حين يتكلم عن ديوانه الشعري" عاشق من لبنان" يقول(ص29-مقدمة كتاب مرايا الزمان):
لست أدري , هاجس واحد كان يأخذ بي , مصير الوطن , والخوف على الحرية والانسان.أيعقل ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين أن تكون الحرية في العالم , في خطر؟ أيتصور ونحن في عصر عظيم أن يكون الانسان مضطهداً ومهدّداً في أمنه وأمانه أي لعنة تلاحقنا؟
د. منيف موسى, في مراياك وعلى أكتاف الصفحات , أصوات كثيرة يضيع معها صوتي , ويلهث في انعطافه متدرجاً من نص لآخر , يرتسم في ممرات الذاكرة, لتعطّر الكلمات ما أصابها من انطفاء , فإذا الرغبة تتفاعل لمزيد من إطلاع , لنطرد من داخلنا الشوائب ونقوّم الاعوجاج وشطط الأيام وانحراف العقل, لربما إستطعنا رسم خطواتنا من جديد في طرقات الصمت المجللة ببذور القلق.
د. منيف موسى, لن نقلق ونحن معك , ولن نخاف على ذاكرتنا , وتاريخنا الذهبي سينهض مجدداً ليعكس لنا في مرايا زمانك الغد الآتي .
صيدا في 24/حزيران /2000
هيئة العمل الوطني
راضي علوش
في زمنِ التردّي والسقوط في مَهاوي الانهيار القيمي تَبرُز الحاجة إلى العمل الوطني الذي يهدفُ الى تلمَس طريق الخلاص من واقع المحن المزمنة وتحقيق النهضة الوطنية الشاملة التي لم نشهدْ منذُ الإستقلال وحتى اليوم سوى إرهاصاتٍ لها . كيفَ يمكن محاربة الفساد بمختلفِ وجوهه بغير العمل الوطني بمختلف وجوهه.
إنَّ التصدي للفساد السياسي والإداري والأخلاقي والإجتماعي لا يمكن أن يتمَ إلا من خلال بناء الفكر الوطني الديمُقْراطي .وبهذا تتخذ عملية التغيير الديمقراطي مسارها الطبيعي السليم.
لقد باتَ من الضروري القيام بعملية تغيير جذري شامل يَنتشلنا من حالِ اليأس والاحباط ويضعُنا على طريق بناء الإنسان والوطن.
إنَّ العمل الوطني , في مفهومهِ الشامل, يشمل كافة وجوه النشاط الإنساني . ثقافةً وأدباً واجتماعاً وسياسة. هو ممارسة أخلاقية فعلية وصحيحة لوجوه النشاط هذه .
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى تعزيز الفكر الديمقراطي الإنساني الذي يهدف عن طريق الممارسة والسلوك إلى تعزيز القيم الإنسانية والأخلاقية . ولا يكون ذلك إلا بمحاربة الطائفية والمذهبية والمناطقية والدَعوة إلى تحرير الإنسان عن طريق تحرير إرادته فلا تكون مرهونة لجوع أو خوف .
من هذا المنطلق وفي هذا الاتجاه تأسست هيئة العمل الوطني الحديثة العهد. إنها تيار سياسي ديمقراطي لغته الإنفتاح والحوار وهدفه التغيير وبناء دولة الحرية والإنسان . ولا بد من الإشارة إلى أنَّ ما حققته المقاومة من نصر تاريخي عزَّ نظيره في التاريخ المعاصر من شأنه إحياء الأمل في نفس الإنسان بعد موات.
قد يسأل , ايهُا الأحبة , سائل : ما العلاقة بين هيئة العمل الوطني والندوات أو اللقاءات الثقافية والأدبية والفكرية؟
أبادر إلى القول: أن العمل الثقافي بمختلف وجوهه يشكل أداة سياسية من أدوات التغيير الديمقراطي المنشود. ومن هذا المنطلق كان إسهام هيئة العمل في إقامة هذه الندوة التي تضم نخبة من إرباب الشعر والثقافة والأدب . ولا أخفي أنَّ ثمة حافزاً اساسياً حملنا على الإسهام فيها. كيف لا وموضوعها نتاج رجل من رجالات الشعر والثقافة والنقد؟ كيف لا , وفي نتاج الدكتور منيف موسى ما يجعلنا نشعر بأننا وبأنه من أصحاب البيت. فنحن معنيون بتثمين كل عمل وطني. مسكون بالوطن يعيشه أرضاً وإنساناً وشمساً. مسكون به عشقاً وغضباً واشتياقاً واحتراقاً وسلاماً ونوراً وانعتاقاَ.
الحرية والإنسان خيطان أساسيان, يمسكان بمختلف الخيوط التي يتشكل منها نسيج شعره.
أما الحرية التي ينشدها فهي حرية تسمو بالإنسان وتجعله ينزع من الحيوانية التي فيه إلى الألوهية التي فيه. يتطلع الدكتور منيف موسى ونتطلع معه إلى نهضة وطنية شاملة , نهضة قيمية ترسخ البناء الوطني والإجتماعي فلا يهتز عند كل هبة ريح.
في رده على سؤال "أي لبنان تريد:" يرسم الدكتور موسى ملامح لبنانه إنه لبنان الحرية والعدل والمساواة والكرامة ونبذ كافة أشكال التفرقة والتمييز .إنه لبنان الإنسان الذي يرقى بمعرفته وعلمانيته وروحانيته إلى المقام الذي أراده الله له وبوأه إيّاه. ومن هذا المنطلق فان الإنفتاح والحوار والتسوية بين "الأنا والأنت " من أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في المواطن ليكون أهلا للوطن.
"أريد لبنان تربية قومية وطنية أصيلة وتعاطفاً انسانياً أكيداً وتعليماً مدنياً وبنّاءً وتثقيفاً سليماً رائده الوطن بكل عناصره وفئاته , وديدنه صَهْر الأسْر اللبنانية كافة بالزواج والمصاهرة لتكون العمومة والخؤولة ألجسرالممتد بين جميع أفراد الشعب."
أجل , دكتور موسى, إننا نشاركك الرأي فما أجمل أن يستظل اللبنانيون جميعهم بمظلة العمومة والخؤولة . في ظل هذه المظلة , أيها الأحبة تتشابك الإيدي وتتعانق القلوب في الوقت الذي تظل فيه الأبصار خاشعة لله عزّ وجلّ.