التوبة الوطنية في لبنان. أين نحن منها؟ - المطران جورج خضر
دعوات /
دينية /
1998-10-31
السبت في 31 تشرين الأول 1998
تعنايل، اللقاء اللبناني
التوبة الوطنية في لبنان. أين نحن منها؟
كلمـــــة
المطران جورج خضر،
التوبة الوطنية، بدءاً من قبول الآخر واختلافه، هي أن نعود معاً إلى لبنان واحداً وكما ينبغي أن يصير في أحيائه نفسه على طريق علوه بلا انقطاع. التوبة تبدأ بتمنّيها ثم تصير جهداً فإقامة في التطلع إلى الآتيات الممكنة أو المستحلية لكون المستحيل يصنع الممكن والمنظور إليه يصنع الآن.
رؤية لبنان الواحد تجلّت من محنة الحرب. بلْورتها آلامنا واعتقادنا إنّ الآخر قدرنا. ولكن أي قدر؟ أهو الذي تحكي عنه الروحانيّة المسيحيّة الشرقيّة عندما تقول إنّ أهل النار كان الحكم الإلهي عليهم أن يكون ظهر أحدهم إلى ظهر الآخر حتى لا يراه. هل بتنا عكس ذلك وجهاً إلى وجه في التعارف والتبادل والتحاب؟ لقد أسلم اللبنانيون في وثيقة الوفاق الوطني فالدستور بعد الثوابت الإسلامية لنهائية الوطن، بمعنى اللاذوبان في الكيانات الأخرى. وهذا في جوهره لا يبدو لي إلاّ تعبيراً آخر عن ميثاق 1943. ربّما استلهم ذلك من كون الفريق المسلم يتبوأ الحكم بهذه اللبنانية فَيزيل امتياز الآخر ليستولي عليه. أظن أنّ المسيحيّين هكذا فسرّوا الموقف في باطنهم. الموقع الامتيازي يحتلّه حزب أو يأخذه زوج في المجتمعات الذكورية. أحد يسود أحداً تلك كانت القاعدة. ولكن الزواج القسري له أن يتحوّل إلى زواج حب فيما بعد. ويكون المسلمون أشاحوا بسيادة طائفة ليقيموا سيادة آخرى فظلّوا إذاً على المنطق الطائفي. ومل الموارنة الحرب أو يئسوا منها فأعطوا إلى حين ما كان لهم على أن يستروه عن تبدُّل الأزمان.
يرفض الموارنة أنهم كانوا قبلاً يريدون امتيازات. قالوا ضمانات. ولكن من يضمنهم بعد أن يئسوا من الحمايات؟ ثمّ ماذا يضمن لهم؟ تصوّري أنّ الهاجس الحقيقي يبقى عند اللبنانيين السلطة التنفيذية وتالياً التفوّق السياسي. الإشكالية تبدو إشكالية حكم وتنازع عليه. لعلّ هذا آتٍ من تخيّل المسيحيّين أنهم في قبول الأوّلية للمسلمين يحسّون بأنهم غرقوا في البحر الإسلامي أو العربي الذي لا يدلّ شيء فيه على أنّ المجتمعات تصنع الحكم وكل فيه يشير إلى أنّ الدولة تصنع كل شيء. يُضاف إلى هذا أنّ الصحوَة الإسلامية أو الأصولية فيها هذا الصدق الذي يجعلها تقول إنّها تسعى إلى تطبيق الشريعة وتالياً إلى إقامة الحدود بِحق أهل الكتاب كما تقيمها بِحق المسلمين. المسيحيّون يحسّون بخطر الظلاميّة وتالياً بخطر الهجرة.
البُعبع الحقيقي عند المسيحيين في اقتناعهم بأن عددهم قلّ وقد لا يكون هذا صحيحاً إلى حد مريع. الطرفان في إشكاليّة التسابق وفي إشكاليّة الدولة أكثر بكثير ممّا هما في البحث عن التلاقي الاجتماعي الائتلافي. قلت هنا وهناك إننا لسنا مجتمعنا منصهراً وإننا مجتمع مؤتلف. الدولة في المساق الحضاري تأتي ثانية. قلت مجتمعاً مؤتلفاً في دولة واحدة ممكنة الاهتزاز لكوننا لونيْن روحييْن ولوعِشنا في ظل الثقافة العربية المنفتحة في إطلالتها الدائمة على العالم.
ما بقيْنا متباينيين على صيعد العلم أو التعليم فقد خطا المسلمون فيه خطوات جبارة منذ 40 أو خمسين عاماً. أجل نحن مجتمع متعدّد أو مجتمعات متعدّدة. مع هذا لا يشبه تعدّدُنا أو تنوّعنا التنوّع السويسري أو البلجيكي. اختلاف الإثنيات أو اللغات يعرقل سير الدولة إلى حدّ كبير أو صغير ولكن الاختلاف الكبير القائم بين المسيحية والإسلام يجعل كثيراً من رؤانا الإنسانية والخلقية والدينيّة الأصيلة على كثير من الخلاف. أين يقف الخلاف ليصبح مجرد اختلاف؟
المحاولة الإيديولوجية قوميّة كانت أم اشتراكية أو علمانية حاولت أن تحجب التباين لتقيم أرضيّة أخرى نقف عليها معاً. نتجاهل الانتماء الديني ويبقى الاندماج في مكان تبيّناه أو اصطنعناه لنقول وحدتنا فيه. في تأملي أنّ القوميّة العربيّة لم تبقَ فاعلة أو جامعة وليس من إمارة تشير إلى بعثها في المنظور القريب. وهي تعنى وعياً قومياً دائماً ورُقّياً مجتمعياً وتكنولوجياً وحريّةً ونقداً دينياً أو ارتضاء النسبيّة التاريخيّة في قراءة النصوص المنزلة وإدارك إنسانويّة على النسق الأوروبي وفصل الدين عن الدولة ما يجعل القوميّة العربيّة بعيدة المنال وتستهلك جهودها إسرائيل أو تعرقل نهوضها بحيث انطوت العروبة بمعناها السياسي ولو بقيت أو أردناها أن تبقى ثقافة.
ولا إخالني مضطراً أن أنعي سقوط الشيوعيّة أو إنحجابها كلّها على اختلاف فصائلها فهذا هو الواقع العالمي. ونحن نذهب إلى الحج بعد عودة الناس منه. كذلك لا أحسب بإننا أدركنا العلمانيّة مجتمعاً ونفسياً وإن كان لا بُد من السعي إليها في تركيبة الدولة. الآتي هو العولمة التي نقدناها في غير مطرح وخوفي علينا منها إنها آتية لا محال وإنها سوف تكون محل تذييلنا للإعلام والمعلوماتيّة وتفريقنا إن لم نقاوم من شخصيّتنا الوطنيّة. أخشى أنها آتية وأنها تأتينا بحلول قد تكون هي إنتقالنا من مشاكلنا الحالية.
قبل هذا المتوقّع نحن مضطرّون أن نواجه مسألتنا الإنسانيّة بصورة جديّة وليس عندي وصفة لهذه المواجهة. أظن إننا كنا سطحيّين في عصر النهضة لما قلنا إننا نقيم أرضاً جديدة ليست الإسلام ولا المسيحيّة في تبنّينا شعار "الدين لله والوطن للجميع" غير عارفين أن علاقتك بالله أو صورة علاقتك به وبأهل دينك من الأشياء التي تحدّد العلائق في الوطن. العلمانيّة حل إداري لمشاكل الدولة وليست حلاً فلسفياً. تجاهل الموجود الفاعل في النفوس لا يقيم مجتمعاً واحداً.
على ضوء هذا لا يغري المسلمين أن يتوبوا إلى المسيحيّين كما هم المسيحيّون. ليس عليّ أن أقول إذا كان المسلمون هم كما هم لا ينبغي أن نتوب إليهم. الهزالة الروحيّة التي عليها المسيحيون، انغلاقيتهم في الطائفية والمجد الباطل القائمة عليه برجوازيتهم وانحدارهم الثقافي الحقيقي لا يجعلهم ساحرين. المسيحي لم يُولد بعد في هذه البلاد ما خلا قِلّة طاهرة فهيمة مُحبّة. ما القوى الروحيّة القائمة في الإسلام اللبناني؟ هل من إحياء روحي فيه، هل من ثورة تفسيريّة حقيقيّة لا تجتر الشريعة والفقه. هل من إبداع، هل من تأليه ما خلا المتّقين البسطاء. على المسلمين أن يجيبوا إذا امتحنوا قلوبهم وما ينتجون. عند ذاك يلتقي المألوه بالمألوه أيّاً كان المعتقد. السيّرورة الخلاّقة هي إلى مسيحيّة متصوِّفة وإلى إسلام متصوّف. أمّا النظم الدينيّة والعمل الفقهي والتفسيري المُحض وعلم الكلام التقليدي في الإسلام والكنيسة في انشقاقاتها واكليروسيتها المغالية وزواجها بقبليتها وآحادية التراث في هذا المذهب أو ذاك وإنطواؤها التاريخي كل هذا لا يجعلنا في الحريّة المبدعة والحق المحرّر والقدرة على لقاء المسلمين في أعماق الحب.
أفهم أن تقولوا أنّ المجتمع يُسوّس الناس كما هم الناس. عند ذاك لا مهرب لنا من إنسانويّة علمانيّة وليبراليّة واليوم يرى الناس اختناق الإنسانويّة اللاإلهية وإنسداد الطرق أمام الليبراليّة الجديدة حتى بُتُّ أتساءل إذا صحّ تحليلي لسقوطنا الروحي العام إن كنّا أيضاً أمام أزمة حضاريّة رهيبة تهدّد الكبار قبل الصغار. التأزّم الاقتصادي الكبير في العالم وتهافت العقائديات كلّها لا يجعلاننا بمنأى عن كل هذه الأخطار. لذلك لست أومن إلا بانبعاث روحي عظيم يجمّل كل وجه فإذا بلبنان ملتقى الوجوه الحيّة المتجدّدة بنضارتها.
هذا يعني أن مشروعنا هو الناس لا الدولة وإنّ صراع الطوائف فيها مرتبط بخشونة الطوائف أو ركاكتها كما هو عليه عنصرها الإنساني اليوم.
أمام هذا السؤال الباقي هو إننا هنا وإننا نتعامل والنسيج اللبناني كما نلمسه. ماذا نعمل ببابل هذه أو بهذه البعثرة الرهيبة؟ هل يهب الروح في هذه العظام وينضمّ إليها لحمها كما يقول حزقيال النبي. أفهم أن الوطن ليس ديراً وأن السياسة فن تعاطيك لهذا الفتات. غير إني مُدرك أيضاً أنّ السياسة بلا ثقافة تُفه كبير وأن الثقافة بلا أخلاق فذلكة مُترِفة وإنّك تالياً أمام مشروع حركة دائماً بين الدولة والمجتمع ذهاباً وإياباً وإنك في حركة تصاعد إلى الله وإلى رؤيته حتى تنزل منه إلى الإنسان الآخر وإنّك في حركة صدق وتنزّه عن الظرف وعن الموروث واستقلال عن جماعتك وحريّة من تاريخك ورهبة أمام الآتي واستشراف راجٍ له حتى تكون تمتمة الحروف الأولى من التوبة.
مع ذلك لا مفرّ لنا من أن نحيا معاً. العيش المشترك ليس فقط قدرنا ودونه الانتحار ولكنه خيارنا الراجي. البلد يتوحّد في اقتحامه الواحد للإنسان على ضعفاته وإخفاقاته المتكرّرة. هذا ليس مجرد براغميّة. البراغميّة مراس لا بد من الكثير منه في السياسة. ولكنها ليست فلسفة. هي تُحل لنا تطبيقاً لأن البلد، كل بلد مريض. خطأ اللبنانيّين اعتقادهم أنّ المريض يُعالج اولاً بالسياسة. لا، السياسة ليست أكسيراً. هي واحد من الأدوية. والعيش الواحد نحياه كثيراً في الوطن الصغير. الفنون الجميلة والأدب الرفيع والتهذيب الذي ألفته كلّ مجموعاتنا بما فيه الذوق المشرقي الذي يجعلنا على رهافة كبيرة وهو عميم عائلاتنا الروحيّة لا ينبغي أن نستهين بها موحّدة. أرجو ألا تجتاحنا الفرديّة الغربيّة التي قتلت مجتمعاتهم وأعمت بصائرهم عن المشترك وعن القِيم الثوابت. أرجو ألا تجتاحنا لئلا تفنى العائلة والضيعة والحي والتقاليد الإنسانيّة في الفرح والترح وحرارة التلاقي.
على هذه القاعدة ينبغي أن نبني مشروع المجتمع المؤتلف إذا قبلتم هذا الاصطلاح أو المجتمع القائمة فيها عناصر ائتلاف وعناصر انصهار مثل التي ذكرت في عيشنا المتوحد. نحن في نمطنا الشرقي العربي على توبة مقيمة ولكني ناديت بالتوبة الدائمة التي الله مجريها ومرسيها. إني أؤمن أنّ لا آله إلاّ الله وإذا عكست الشهادة على أرضنا أنا أؤمن بالإله فيك وبالإله فيّ كائنة ما كانت كتبي وكتبك لأن الربّ اذا هيمن أو أردتّه أن يهيمن يقيمنا في ذلك الإسلام الذي تكلّم عنه القرآن أو ـ إذا شئتم لغة آخرى ـ يعمدنا جميعاً بروحه. كنيستنا الواحدة لبنانيّين هي قدسيّة الإنسان المتصاعد أبداً إلى فوق والتواق إلى الإنسان الآخر في دعوته وبكارته.
غير أنّ التوبة الحق ليست مني إلى كتلتك التاريخيّة الجامدة أو منك أنت إلى كتلتي الجامدة. هي توبتنا جميعاً إلى الفقير. مجتمعنا صار بالحرب مجتمع طبقات أكثر مما كان. واتسعت الهوة بين أهل الثراء الكبير والفقر الكبير. ودولتنا غافلة أكثر مما مضى عن المحرومين لظنِّها أنّهم ينتعشون آلياً إذا أقامت هي بنية تحتيّة. ليس صحيحاً أنّ الناس يفيدون على التساوي من الطرقات والجسور والمجارير والكهرباء وما إليها. إنّ السياسة الاقتصادية النيوليبرالية من شأنها أن تثري الغني والطفيْليّين الذين حوله ولا تحلّ مشكلة الطعام والمسكن والطبابة والمدرسة.
أنّ فقر الفقراء في حالة تقاعس الحكم هو الذي يدفعهم إلى اللجوء إلى طوائفهم ملاجئ إنسانيّة رؤوفة ويُحجب المجتمع الواحد. أنا مؤمن بالأسرة الروحيّة مطرحاً من مطارح الدفء البشري وقد دلّت تجربة الضمانات الاجتماعيّة المختلفة في أوروبا إنها لا تغني عن الحرارة التي يجدها الإنسان في عائلته الجسدية وعائلته الروحيّة. ولذلك لست أرى أن مؤسّسات الدولة هي بالضرورة بديل عن المؤسّسات الدينية المنفتحة التي تحبّ وترعى انطلاقاً من إيمانها. أنه غير صحيح أن المجموعات الدينية إنها تغذي بالضرورة الإنغلاق. لقد أثبتت معظم مدارسنا الخاصة إنّها تعامل طلابها في إحترام كبير وإنّها قلّما مارست الاقتناص الديني. المدرسة ذات اللون الروحي أفضل من مدرسة لا لون فيها وفي كثرة من الأحيان عطاؤها أجدى من عطاء موظّفين رسميّين لا رساليّة فيهم. الصراع عندنا لا يقوم بين المدرسة الخاصة والمدرسة العامة هذا إذا اعطي التعليم الديني بلا تشنج ولا تأكيد على كفر الآخر وإذا كانت المدرسة وطنيّة. أنا لم أشاهد المدارس تزرع التفرقة والعصبية. الكثير من صداقاتنا قام في هذه المعاهد حتى في إيام الانتداب. ولكن البون الذي كنّا نلمسه فيها هو البون بين أبناء العائلات المدعوة العريقة والعائلات الشعبيّة إلى أيّ دين أو مذهب انتمت.
مُكافحة الفقر هو المشروع الوطني الأكبر. دونكم هذه القصة. كان البطريرك غريغوريوس حدّاد قائماً على إعاشة دمشق في الحرب العالمية الأولى وكان يوزّع الحنطة بالإضافة إلى ذلك في البطريركية الارثوذكسية. مرة جاء إليه واحد من طائفته محتجّاً على المساواة في المعاملة بين المسلم والمسيحي. قال له البطريرك: أرني رغيفاً فأتاه برغيف. سأله البطريرك هل تقرأ على هذا الخبز كلمة مسيحي أو كلمة مسلم. قال: لا. قال البطريق: أعطه إذاً لكل من سألك خبزاً.
أنّ تجنّدنا في سبيل المحرومين هو طريقنا إلى مستقبل الإنسان. الإنسان الجائع يسكن فيه المسيح حسب قوله المبارك: "كنت جائعاً فأطعمتوني".
لست أرى مخرجاً من التفتّت المجتمعي ومن التساؤل عن هويّتنا الطائفية وعظمتنا المزعومة إلاّ بإقرار هويّة أخرى لست أقول إنها خارجة عن المسيحيّة والإسلام ولكنها هويّة الآخر. مسيحي هو الآخر. في هذا العطاء يرقى المعتقد الديني إلى صبغته الإنسانية. لا يصبح ذريعة للتقاتل. كم من مرة غطّيت الحاجة بصراعات طائفية كانت وهميّة.
تريدون أرضاً واحده نجتمع عليها وننطلق منها. إنها ليست الأيديولوجية التي نحاول بها لغة أخرى. فاللغة موجودة. هي لغة المحبّة التي لا خطابة فيها ولا إنشاء. أنّ سحر لغتنا العربية يلهينا عن التخاطب الحق واللقاء الحق بين المحروم والمحروم حتى يمنّ الله على الأغنياء بلغة الرحمة.
إذا وجدنا هذه اللغة نكون قد تُبنا أحدنا إلى الآخر ونكون قد شرعنا ببناء الوطن الذي ينشئك وينشئ الآخر. الصراع العقائدي الديني كما الصراع الطائفي يحيله الله إلى سر الحب. وإذا قال القرآن: "وللآخرة خيرٌ لك من الأولى" ففي إدراكي لعمق الآية أقول: أنّ لك آخره هنا وهي الآخر في سر فرادته وسر بهائه.