د. دندشلي - العلمنة والدين والدولة - السيد محمد حسن الأمين
محاضرات /
دينية /
1997-12-18
المركز الثقافي
للبحوث والتوثيق
صيدا السيد محمد حسن الأمين
بيروت في 18/12/1997
العلمنة والدين والدولة
قراءة في الإشكالات
في بداية هذه المداخلة حول (العلمنة والدين والدولة) أود أن أشير إلى أن هذه العناوين والموضوعات المتصلة بها ليست جديدة على الفكر العربي الإسلامي المعاصر وهي لم توضع قيد التداول الآن.. أي في ظل المتغيرات التي يشهدها عالمنا الراهن.. ولا في ظل الصحوة الدينية التي يشهدها منذ أول الثمانينات عالمنا الإسلامي.. وإنما برزت هذه العناوين للتداول في الفكر الإسلامي والعربي القومي منذ القرن الماضي أي في مرحلة ما نسميه بعصر النهضة وهي من ضمن أسئلته الكثيرة التي انقسم حولها النهضويون والسلفيون وقدموا إجاباتهم لها.. وجاء تقديمهم لهذه الإجابات متأثراً بعوامل وظروف متعددة أبرزها الظروف الناشئة عن الاستعمار الغربي لقسم كبير من بلاد العرب والمسلمين ما أدى إلى أن تتسم هذه الإجابات بتأثيرات حادة أملتها العوامل المذكورة وأبرز هذه التأثيرات إثنان:
1ـ بروز اتجاه ينادي بالسلبية المطلقة تجاه كل ما يتصل بالغرب بما فيه الجوانب العرقية والجوانب المتصلة بالاجتماع السياسي وبالدولة وبالعلمنة بوجه خاص.
2ـ بروز اتجاه نقيض لهذا الاتجاه يدعو إلى اعتبار الغرب نموذجاً وقدوة لا مفرَّ من الأخذ بموجباتها والعمل وفق النهج نفسه الذي سلكه الغرب لكي تستطيع الأُمّة أن تحقق ما حققه الغرب من تقدّم.
واضح مدى التنافر والتناقض بين هذين الاتجاهين الذين اتسمت بهما ردود الفعل النخبوية العربية الإسلامية تجاه العلاقة مع الغرب من جهة وتجاه المسائل والموضوعات التي تتصل بشكل أو بآخر بالفكر الغربي وخاصة منها موضوع (العلمانية).
لذلك كان الموقف من العلمنة بين المشتغلين بحركة النهضة الإسلامية يتراوح بين قطبَيْ اللعنة والتقديس الأمر الذي حرم فكرنا العربي الإسلامي من تقديم قراءة موضوعية جادة للعلمنة ولغيرها في المسائل التي كانت موضوعاً للانقسام الحاد بين رواد عصر النهضة وبين التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية المشتغلة بهذه المسائل.
وإني لأزعم أن قطبَيْ اللعنة والتقديس ما يزالان مغروسين في عقولنا تجاه العلمنة وأخواتها من الأسئلة والمسائل الحيوية التي سبق للغرب أن أجاب عليها كمسائل الحرية والديمقراطية وحق الاختلاف والتعدد وحقوق الإنسان وغيرها.
وإني لأزعم أن سيطرة هذين القطبَيْن: اللعنة والتقديس على العقل العربي الإسلامي تجاه هذه الموضوعات هو السبب الرئيسي في أن أسئلة عصر النهضة مازالت قائمة ومازالت هي هي رغم مرور أكثر من قرن على طرحها فلم نتجاوزها حتى الآن.. واني لأزعم أن الأمل بتجاوزها يرتبط في التحرر من هذه القطبية الحادة أي في تقديم إجابات موضوعية عقلانية متحررة من هواجسنا تجاه الغرب وخوفنا من شبح التبعية والتقليد له من جهة ومتحررة من الانبهار به من جهة أخرى.. وقد آن لنا أن نتحرر من كل ذلك بعد مرور أكثر من قرن على صدمة العلاقة مع الغرب وبعد مرور الزمن الكافي والهزائم الكافية لكي نكتشف اتساع الهوَّة التي تفصلنا عن ركب التقدم وهي تزداد اتساعاً كلما شهد عالمنا المعاصر نقلة جديدة في أوضاعه وها هي نقلة العولمة الراهنة التي لا نستطيع توصيف أحوالنا تجاهها إلاّ بمصطلح الارتباك.. فالحق أننا مرتبكون تجاهها وتجاه مستحقاتها الداهمة ولا أجد وصفاً لحالتنا تجاهها أبلغ من ذلك.
بعد هذه المقدمة ندخل في بحث إشكالية الدين والدولة والعلمنة.. واني أتعمد أن أصف العلاقة بين الدين الإسلامي وبين الدولة والعلمنة بأنها علاقة إشكالية وذلك بالمقارنة مع العلاقة بين الدين المسيحي وبين العلمنة والدولة حيث انتفت هذه الإشكالية وباتت محدَّدة تماماً مساحات اختصاص كل منها. ولا حاجة بنا للعودة إلى الأحداث والملابسات والثورات التي أدت إلى فصل الدين عن الدولة في تجربة الغرب المسيحي فالكثيرون منا يعرفون الكثير عن ذلك ولكنَّ الكثيرين يجهلون ــ بكل أسف ـ الطبقة المختلفة لكل من الدين المسيحي والدين الإسلامي من جهة وطبيعة الاجتماع السياسي المتأثرة بالدين لكل من الاجتماع المسيحي والاجتماع الإسلامي..
في الاجتماع المسيحي فإن الفصل بين الدين والدولة ساعدت عليه المسيحية بالذات حيث المسيحية لا تتضمن ـ أساساً ـ مبادئ وشرائع للاجتماع البشري على صعيد السياسة والحقوق والمعاملات فمملكة المسيح ليست في هذا العالم من جهة وهي في الأساس فصلت بين ما لله وبين ما للقيصر فجاء ادعاء الكنيسة لسلطة الحق الإلهي منافياً لمبادئ المسيحية بالذات ونافياً لحق الاجتماع البشري في إدارة شؤونه وتقرير مصيره لذلك فإن الثورة التي فصلت بين الكنيسة والدولة جاءته في جانب منها ـ تحريراً للمسيحية نفسها لأنها أعادتها إلى نطاقها الطبيعي وتبلور مفهوم العلمنة بوصفه مفهوماً لعملية الفصل بين الدين والدولة.. ولا نريد أن ننسى ـ هنا ـ أن مفهوم العلمنة تأثر بعوامل الصراع المرير بين سلطة الكنيسة وبين العلمانيين، فبدلاً من أن تقتصر العلمنة في الغرب على مفهوم الفصل بين الدين والدولة توَرّط بعض العلمانيين في نفي الدين بما هو دين فقام تيار العلمنة الملحدة إلى جانب تيار العلمنة المؤمنة التي لا تنفي الدين وإن كانت تنفي حق المؤسسة الدينية التدخل في شؤون الدولة.
في الإسلام وفي الاجتماع الإسلامي فإن الأمرـ من وجهة نظرنا ـ أكثر منه تعقيداً والإسلام في عقيدة معتنِقة دين ودولة في آن انطلاقاً من أنّ الإسلام منظومة من المبادئ والأحكام الشرعية في مجال الحقوق والواجبات الشرعية والسياسية وعلى نطاق المعاملات والعقود والعقوبات وقوانين عامة وتفصيلية في مجال الحقوق الفردية والجماعية.. ثم أن نبي الإسلام نفسه محمداً (ص) أقام الدولة وكان رئيساً لها وعقد التحالفات وخاض الحروب واضطلع بتنظيم المجتمع السياسي مضافاً إلى ذلك فإن تاريخ الاجتماع السياسي في الإسلام الذي شهد الكثير من ثورات الإصلاح لم يعرف حركة في تاريخه قامت على مبدأ الفصل بين الدين والدولة أو بين الدين ونظام الاجتماع السياسي أو الحقوقي بل كانت هذه الحركات غالباً ما تقوم على الدعوة للعودة إلى مبادئ الإسلام وشريعته في وجه السلطات التي كانت تنحرف عن إقامة العدل مستأثرة بالسلطة وبالمال العام مدعية.. أحياناً.. أنها تحكم الناس بموجب حق الهي أي بموجب حق لم يمنحه الإسلام لأحد من البشر.
بسبب من هذه الاعتبارات التي ذكرناها اتسمت العلاقة بين الإسلام ـ أو بالأحرى بين الفكر الإسلامي وبين العلمنة بالتعقيد وقد زاد الأمر تعقيداً نشوء الحاجة في عصرنا الراهن إلى قيام الدولة الحديثة وهي دولة علمانية بطبعها.
وكانت محصلة التعقيد في العلاقة بين الإسلام والعلمنة أن النخب الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية في العالم الإسلامي انقسمت إلى فريقين:
1- فريق تورط بنفي الإسلام نفياً كاملاً من دائرة الاجتماع السياسي لظنه بأن هذه هي الطريق الوحيدة لإقامة الدولة الحديثة.
2- وفريق تورط بمعاداة الدولة الحديثة لظنه بأنها بديل عن الإسلام أو على الأقل لظنه بأنها بديل عن قيم الإسلام وشريعته في المجال السياسي والاجتماعي السؤال الذي نطرحه الآن: أين تلتقي العلمنة مع الإسلام وأين تفترق عنه وبالتالي هل يتنافى مشروع الدولة بمعناه الحديث مع موجبات كل من العقيدة والشريعة الإسلامية كيف ولماذا..؟
في الإجابة على السؤال الأول: نجيب أن الإسلام يتنافى قطعاً مع مفهوم العلمنة الملحدة ومع موجباتها ومنطلقاتها الفكرية وهذا عائد إلى كل من طبيعة الإسلام بوصفه عقيدة دينية وبين طبيعة العلمنة الملحدة التي تنفي الدين ولا نرى أن هناك مجالاً للتوفيق بينهما فالعلمانية الملحدة لا تنفي الإسلام وإنما تنفي الدين أساساً.
إذن فالعلمنة الملحدة ليست مجال بحثنا وبالأساس فإن الإلحاد ليس عنصراً مكوّناً لطبيعة العلمنة الأساسية وهي فصل الدين عن الدولة وليس نفي الدين بالمطلق.
أما بشأن العلمنة المؤمنة القائلة بفصل الدين عن الدولة دون التورط بنفي الدين فإنها تنطوي بنظرنا على استهدافيْن:
أحدهما: نفي أي سلطة إلهية باسم الحق الإلهي وتأكيدها على أن السلطة شأن بشري وأن شرعية السلطة مصدرها العالم أي البشر.
وثانيهما: إن البشر أحرار في التشريع لأنفسهم ولا يجوز إلزامهم باسم الدين بأي شريعة تتنافى مع اختيارهم ومع حقهم في أن يكونوا هم المشرعين لأنفسهم.
في موقف الإسلاميين من العلمنة المتسم بالرفض المطلق لها ثمة خللٌ مردُّه إلى عدم التمييزـ إسلامياً ـ بين موضوعتي السلطة والشريعة وهذا الخلل في التمييز بين موضوعتي السلطة والشريعة في الإسلام قائم أيضاً في نظرة العلمانيين للإسلام. فإذا كانت الشريعة ـ بموجب الإسلام ـ شأن إلهي كما هو الحق فقد ظن هؤلاء وهؤلاء أن السلطة هي أيضاً شأن إلهي فيم الحق أن الإسلام لم يعتبر السلطة شأناً إلهياً وإنما هي شأن بشري صرف على البشر أن يتدبروه بدليل أن مصادر الإسلام وأبرزها القرآن الكريم لم يحدد صيغة للسلطة على رغم خطورة هذا الرفق في حياة الناس بينما حدد لهم منظومة من الواجبات والمحرمات في مجالات التعامل هي أقلُّ شأناً بكثير من خطر السلطة وأهميتها ـ وفي مجال آخر خاطب الله تعالى رسوله في القرآن الكريم بقوله: (فبشر إنما أنت مبشر لست عليهم بمسيطر) بمعنى إنك لا تستطيع أن تجبرهم على الاختيار ولكن إذا اختاروا ما تأمرهم به بملء إرادتهم فعليك أن تحمي هذا الاختيار. وهذا ما مارسه الرسول (ص).
إذن فالسلطة في الإسلام هي شأن بشري وليست شأنا إلهياً والإسلام من هذا الجانب علماني يحمي العلمنة ويدافع عنها.. ولكنه من جانب آخر وإذا اختار الناس لأنفسهم تطبيق الشريعة الإسلامية فإنه يحمي هذا الاختيار الذي يدعو إليه أساساً ولكنه حين يحميه لا يفعل ذلك لأنه دعا إليه.. بل لأنه يؤكد على حق الاختيار الحر للإنسان ويدعو لحمايته.
وعليه فمن وجهة نظرنا فإن الإشكالية بين الإسلام والعلمنة في جانب كبير منها هي مشكلة مفتعلة فلا الإسلام يقول بسُلطة الحق الإلهي أي بسُلطة المؤسسة الدينية على المجتمع ولا العلمانية تنفي حق المجتمع باختيار الشريعة التي يرتضيها لتنظيم إدارة شؤونه واجتماعه والفصل في خلافاته.
إن تاريخ الإسلام أي تاريخ اجتماعهم السياسي لم ينجُ ـ مع الأسف ـ من قيام سلطات تدعي سلطة الحق الإلهي كان لها آثار سيئة وسلبية على الإمكانات الضخمة لتطور هذا الاجتماع من خلال إضفاء الشرعية الدينية على مصادرة السلطة والاستبداد بها ومنع تداولها.
أما في الواقع الراهن للاجتماع السياسي الإسلامي فإنه يكاد يكون محاصراً بين نموذجي للأسلمة والعلمنة كل منها يلغي الآخر وينفيه.. وتبقى الدائرة الواسعة للقاء الإسلام بالعلمنة شبه فارغة. وبسبب ذلك سوف يظل طموحنا بقيام الدولة الحديثة دولة القانون والحرية والمساواة طموحاً مؤجلاً..
وهنا الجواب على السؤال الثاني حول ما إذا كان مشروع الدولة الحديثة يتنافى مع موجبات العقيدة والشريعة في الإسلام. لأقول أن الدولة الحديثة بمواصفاتها الشكلية هي صيغة قائمة فعلاً في البلاد التي يعيش فيها المسلمون ولكن هذه الصيغة تبدو قاصرة وعقيمة في مجال تطوير الاجتماع السياسي للمسلمين ودفع هذا الاجتماع إلى الدرجات الضرورية من التقدم وامتلاك شروط المعاصرة ومواجهة تحدياتها.
ولعلَّ أبرز الأسباب تكمن في أن الاجتماع والاجتماع السياسي الإسلامي محاصر بين علمنة تتسع للإسلام ولكنها تصر على نفيه وبين إسلام يتسع للعلمنة ولكنه يصُرّ على استبعادها ولعلَّ في هذه الحقيقة المرَّة ما يسلط ضوءاً على ذلك الانشطار العدائي الحاد في المجتمعات العربية والإسلامية بين المجتمع والدولة.
أما النقطة الأخيرة في هذه القراءة السريعة لإشكاليات العلمنة والدين والدولة فقد أردتها مثالاً معبِّراً عن المفارقة المؤلمة في موقفنا وممارستنا للدين والعلمنة وقيم الدولة وأعني به المثال اللبناني الذي نعيشه بل نكابده وفيه يتجلى التلفيق والترقيع.. فالدولة هنا علمانية ولكنها تأخذ من الاجتماع الديني أسوأ سلبياته وهو الطائفية السياسية حيث بالطائفية السياسية تتم تصفية أنبل ما نتوخاه من العلمنة وتستمر المفارقة وتتصاعد حيث تغدو الطائفية ـ في اجتماعنا السياسي ـ بديلاً عن الدين وقيَمُه الجوهرية العظيمة. أي في اجتماعنا السياسي اللبناني يتعطل أعظم ما في الدين وأعظم ما في العلمنة.. فإذا نادينا بالعلمنة السياسية التي تصلح الدولة وتجعلها إطاراً عادلاً لتمثيل المواطنين بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم. قال حماة النظام الطائفي السياسي لا.. وقايضوا إلغاء الطائفية السياسية بالعلمنة الشاملة وهم في حقيقة أمرهم لا يريدون العلمنة الشاملة ولكن يريدون المشاغبة على إصلاح الدولة.. لأنهم يريدونها مزرعة لا دولة.
أما نحن ومن خلال المنهج الذي نقرأ فيه العلمنة فإننا لا نرى أن العلمنة الحقيقية في روحها وفي مقاصدها تتنافى مع التعدد الديني والثقافي بل تقرُّه ولا تهرب من موجباته بل تحميها.. وعلى الأقل فإن بوسعنا ـ في لبنان ـ أن نأخذ من العلمنة مالا يتنافى مع موجبات أدياننا فلماذا نحرم من أهم خصائص العلمنة بذريعة الحرص الكاذب على الدين؟!.
كأن لبنان حتى في هذا المجال يصرُّ على أن يكون المثال المعبِّر والأشدُّ لما في هذا العالم العربي من.. مفارقات!