صدى النهضة السورية القومية الاجتماعية - د. صفية أنطون سعادة
دراسات /
فكرية /
2007-06-21
مفهوم انطون سعادة للعروبة
صدى النهضة السورية القومية الاجتماعية
د. صفية أنطون سعادة
أبدأ بالقول أن سعادة كان واضحاً جداً وصريحاً في موقفه من العروبة إذ قال في خطابه يوم الأول من آذار 1940:
"إننا نحن السوريين القوميين، نوّجه كل قوانا فيما يختص بالمسائل القومية إلى أهداف امتنا نحن. أما فيما يختص بالمسائل المتعلقة بالعالم العربي كلّه فاني أعلن انه متى أصبحت المسألة مسألة مكانة العالم العربي تجاه غيره من العوالم، فنحن هم العرب قبل غيرنا. نحن جبهة العالم العربي وصدره وسيفه وترسه، ونحن حماة الضاد ومصدر الإشعاع الفكري في العالم العربي".
(الأعمال الكاملة، منشورات مؤسسة سعادة للثقافة، ج 4: 24).
يعتبر سعادة الأمة السورية المشتملة على العراق، وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، امة من أمم العالم العربي. إلا انه يختلف مع بعض المفكرين العرب في تحديد الهوية القومية للعروبة، ذلك انه اعتمد على علم الاجتماع الحديث وحددّ الأمة بناءً على الاشتراك في الحياة ضمن بقعة جغرافية معينة، وهو ما يسمى بالـ (Territorial Union) في موازاة انماط وأشكال أخرى اعتبرها بدائية لا تصلح للعالم الحديث وهي مبنية على الوحدة الشخصية (Personal Union).
ففي تنظيم المجتمعات ما قبل القومية كان التشديد على الدين أو صلات الدم. التنظيم الاتني والقبلي يُدخل في المجتمع الأعضاء الذين ينتمون إلى بعضهم البعض عبر صلات الدم. وتنظيم الإمبراطوريات الدينية، كان القاسم المشترك فيها الانتماء إلى دين معيّن.
هذان الانتماءان: الاتني والديني انتماءان شخصيان إذ أنهما لا يمتان إلى المتحد أو الأرض بصلة. فمن ينتمي إلى اتنية معينة أو دين معين يظل محافظاً على صلاته بدينه واتنيته حيثما ذهب، بينما يختلف الوضع جذرياً في المتحدات والقوميات الحديثة والتي ابتدأت تظهر في القرن التاسع عشر، حيث تعود هوية الإنسان وانتماؤه إلى الأرض التي يعيش عليها. مكان الإقامة هو الذي يحدد الانتماء. فاللبناني الذي هاجر وتزوج وأنجب أولاداً في الولايات المتحدة يصبح اميركياً بمعزل عن دينه أو اتنيته.
من هذا المفهوم القومي الحديث، تنبثق السلطة من شعب يقيم على ارض محددة. وقوانين هذه السلطة تمتد على الأرض التي يقيم عليها هذا الشعب، إلا انه ليس بمقدور هذه القوانين أن تتمدد إلى أبعد من حدودها الجغرافية، بينما يتبع القانون الشخص حيثما يذهب في المفاهيم الشخصية.
سأعطي مثلاً على ذلك: قضية الحجاب في المدارس الرسمية الفرنسية.
فحسب مفهوم الاتحاد الشخصي، يجبر الفرد على إطاعة دينه حيثما حلّ أو رحل، وبهذا إذا اقر الإسلام وضع الحجاب للمرأة يصبح لزاماً عليها التقيد به في اتحادها الشخصي. إما في المفهوم القومي، فليس من سلطة قانونية أعلى من سلطة الدولة، لذا الدولة الفرنسية التي هي دولة قومية، لها الحق أن تسّن وتقّر القوانين ضمن حدودها الجغرافية، وليس لأي سلطة أخرى، أكانت دينية أو أتينة الحق في القرار على الأرض الفرنسية. وهذا ما فطن إليه مفتي الأزهر حين قال: انه لا يستطيع أن يفرض على الفرنسيين ما يجب إتباعه.
اعتبر سعادة أن العالم الحديث، ومنه العالم الغربي، قد انتظم على مقولة الدولة القومية، وهذا التطور لا رجوع عنه، إذ يقول:
"في النزاع بين الإرادة القومية العامة، وبين السلطة المتحدرة من الدين، ابتدأت الإرادة الشعبية تربح وتزيد نفوذها على سلطة المؤسسة الدينية ومبادئ الحكم بمبادئ الله لا الشعب.
والانتصار الفاصل في النزاع هو الذي حدث في الثورة الفرنسية ومن الثورة الاميركانية، فنشأت فكرة الديمقراطية العصرية التي تعني في الآخر تمثيل الإرادة العامة في الحكم، أي جعل الإرادة العامة للشعب أو للأمة، الإرادة النافذة ومرجع الأحكام.
وقد انتصر هذا المبدأ انتصاراً نهائياً، ولم تبقَ سوى جماعات قليلة، ضعيفة الشأن، لا تزال تعمل بالمبادئ السابقة، مبادئ السلطة الدينية".
(المحاضرات العشر، المحاضرة السابعة، ص 115).
1. العروبة والإسلام:
من هذا المنطلق يختلف سعادة مع المفكرين العرب الذين اعتبروا الدين أساس القومية، وكذلك الاتنية واللغة.
فالقومية العربية لبعض مفكريها ملازمة للدين الإسلامي. والقومية العربية لبعض مفكريها ملازمة للغة العربية، والقومية العربية لبعض مفكريها هي العِرق العربي.
فميشال عفلق مثلاً في كتابه "في سبيل البعث" لا يفصل ما بين العروبة والإسلام:
"لنسّم الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة، فنستبدل بالقومية "العروبة" وبالدين "الإسلام" تظهر لنا المسألة تحت ضوء جديد، فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ عن قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح، فلا يمكن أن يكون ثمة اصطدام. وبعد، فهل القومية محصورة بالأرض كما يظن – بعيدة كل البعد عن السماء؟".
(ميشال عفلق، في سبيل البعث. بيروت: دار الطليعة الطبعة الثالثة، 1963، صفحة 43.
نستدل من هذا المقطع المواقف التالية:
أولاً: عدم الفصل بين العروبة والإسلام، واعتبار الإسلام جوهر القومية العربية.
(المصدر نفسه، ص 58)
ثانياً: رفض التحديد القومي بناءً لمبدأ المتحدات وربطه بالدين.
ثالثا: اعتبار العرب بأنهم عرب الجزيرة العربية وحدها، وان منطقة الهلال الخصيب لم تصبح عربية إلا بعد دخول الإسلام عليها، أي انها عربية بالدين فقط، وليس بالعنصر أو الجنس العربي، حتى ولا بالتفاعل الاجتماعي البشري. لذا، يطالب ميشال عفلق المسيحيين أن يتبنوا الإسلام، أن هم أرادوا أن يصبحوا قوميين عربا.
المعضلة في هذه المقولة، كما أراها، ليست في مفهوم القومية العربية، بل في طريقة فهم الإسلام. فبالرغم من أن القرآن شدد على أن الإسلام رسالة روحية ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، إلا أن معظم العرب متشبث بفكرة أن الإسلام رسالة عربية. هذا المنحى لم تأخذه الديانة المسيحية بالرغم من انها نشأت وترعرعت في فلسطين التي ليست بالبعيدة عن الحجاز. وقد يعود السبب في ذلك إلى أن الإنجيل مقدس في محتواه وليس في كلمته، بينما القرآن منزل قرآناً عربياً، أي أن اللغة أصبحت مقدسة أيضاً.
يريد العرب أن يبقى الإسلام إسلامهم، وهنا تكمن المعضلة. وفي مسعاهم لإبقاء الإسلام تحت سيطرتهم يعكسون الآية بتبسيط شكلي. فإذا كان المسلم هو العربي، فهذا يعني أن كل عربي هو مسلم. وليس أدل من ذلك ما يقوله عفلق نفسه:
"الإسلام كان حركة عربية، وكان معناه تجدد العروبة. فاللغة التي نزل بها كانت اللغة العربية، وفهمه للأشياء كان بمنظار العقل العربي. والمسلم في ذلك الحين لم يكن سوى العربي".
(المصدر نفسه، صفحة 55)
وتحت هذا الشعار يصبح الإسلام ديناً قومياً لا ديناً عالمياً، وهذا ما يتنافى والرسالة الإسلامية.
وقد عارض المفكر العربي زكي الارسوزي هذا المنحى، واعتبر أن الإسلام ليس إسلاماً واحداً، بل هو يصطبغ بصبغة المجتمع الذي ينمو فيه:
"وهكذا اختلفت الأمم في فهم الإسلام، ومن تفسير أحكامه، كل منها يسلك طريق عبقريته الخاصة".
(زكي الارسوزي، المؤلفات الكاملة. دمشق، 1973، الجزء الثاني، صفحة 380.
2. العروبة واللغة العربية:
المقولة الثانية توازي ما بين العروبة والتكلّم باللغة العربية. ومن ابرز مناصري هذا التيار ساطع الحصري، الذي حصر القومية العربية بهذا المفهوم إذ قال:
" أن كل الشعوب التي تتكلم العربية، كل الشعوب الناطقة بالضاد، حسب التعبير المشهور، هي عربية. وكل فرد ينتسب إلى احد هذه الشعوب، هو عربي".
(ساطع الحصري، آراء وأحاديث في الوطنية والقومية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984 ص 79).
في هذا المقطع اعتراف بأن من يتكلم العربية شعوباً وليس شعباً واحداً. وكما أن الحصري لا يعير أية أهمية لوجود شعب واحد، كذلك ينكر أهمية الأرض والبيئة في تكوين امة ما.
(المصدر نفسه، صفحة 133)
وهكذا تصبح اللغة عند الحصري مرادفاً للأمة:
"وإذا أضاعت امة من الأمم لغتها، وصارت تتكلم بلغة أخرى، تكون قد فقدت الحياة".
(المصدر نفسه، ص 21-22)
يجدر بنا إبداء ملاحظتين حول موقف الحصري. الملاحظة الأول انه بالرغم من أن ايطاليا فقدت اللغة اللاتينية وأخذت تتكلم الإيطالية، إلا انها لم تفقد الحياة كأمة. وكذلك الأمر بالنسبة لأمم كثيرة كإيران التي تكلم مثقفوها وكتبوا باللغة العربية، ثم عادوا إلى اللغة الفارسية. الملاحظة الثانية أن أمماً كثيرة تتكلم لغة واحدة كإنكلترا واستراليا والولايات المتحدة الاميركية لكنها لا تشكل امة واحدة.
3. العروبة والاتنية العربية:
شدّد بعض العروبيين على إرجاع الأصل إلى الجزيرة العربية. فالعربي هو من يعود أصله إلى قبيلة في الجزيرة العربية. هذا التشديد ادخل العرب في متاهات كبرى، ذلك أن العروبيين يعتبرون أن الأمة العربية تمتد من مراكش إلى العراق. فهل يعني أن من يستطيع ارجاع أصله إلى الجزيرة العربية هو مواطن من الدرجة الأولى، مقابل مواطنين ينتمون إلى أصول اتنية مغايرة؟ وهل يصبح من أصله ارمنياً أو اشورياً أو كنعانياً مواطناً من الدرجة الثانية؟
أن هذه الإشكالات الخطيرة والتي تؤسس لمجتمع أقليات هي التي أقلقت سعادة، فحاول إيجاد صيغة للعروبة تتخطى الدين واللغة والعرق.
"العروبة التي تهمل المبادئ الجغرافية والإقليمية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية، ولا تستند إلا إلى الدين والى اللغة هي عروبة تعطي الدول الأجنبية فرصة للتسلط على أمم العالم العربي، لأنها ترمي إلى إيقاد نار الفتنة الدينية والحروب الداخلية في كل امة مؤلفة من أكثر من ملة المحمديين".
(الأعمال الكاملة، منشورات مؤسسة سعادة للثقافة ج، 247:5)
لقد أعاد سعادة الانتماء إلى الأرض، إلى المتحد، بمعزل عن جنس المواطن، أو أصله أو دينه أو معتقده. وحدد القومية بأنها "جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية – المادية في قطر معين، يكسبها تفاعلها في مجرى التطور خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات". (نشوء الأمم، ص 165)
لقد قدم سعادة مفهوماً حديثاً للقومية يجمع بدلاً من أن يفرق، ولا يستثني أحداً من المشتركين في الحياة على بقعة ارض محددّة. ثم أن هذه القومية تساوي ما بين المواطنين، مما ينهي موضوع الأقليات. فالعربي المسلم والعربي المسيحي هما في نفس المرتبة بالنسبة لسعادة لأنه ينطلق من الدولة القومية العلمانية التي تسمح بحرية الإيمان الشخصي، ولا تعاقب مواطناً لأنه ينتمي إلى دين أو عرق ما يسمى "بالأقلية". فالأكراد والسريان والأرمن وغيرهم مواطنون متساوون.
لقد وعى سعادة خطورة التقسيمات الطائفية والعرقية التي تنتجها أفكار بعض العروبيين، مما يقسَم الدولة إلى مجموعات متضاربة المصالح، فيصبح من السهل استغلال هذه الانقسامات من قبل الأعداء.
يكمن الحل بالنسبة لسعادة في أن "أمم العالم العربي لها صلات لغوية ودينية توجب عليها سلوك خطة التقارب والتفاهم ما أمكن. والطريقة الوحيدة للحصول على هذا التقارب وهذا التفاهم وهذا التعاون، هو في أن تنهض كل امة بنفسها، ويتمرن أفرادها على ممارسة الحقوق المدنية والسياسية، فتصبح قادرة على إدراك ما يمكنها أن تشترك فيه مع أمم العالم العربي. هذه هي العروبة الصحيحة".