مداخلة د. دندشلي - في الملتقى الثقافيّ الثالث
ندوات /
ثقافية /
1994-07-29
المناقشة العامة (1)
الدكتور مصطفى دندشلي ... [...] في الحقيقة ، كنت أودّ أن لا أتحدث في هذا الملتقى الثقافيّ الحواريّ الثالث الذي نعقده في رحاب مركز صلاح الدين التربويّ في قضاء راشيا ... إذ أنّني في الملتقيات الثقافيّة السابقة وفي اللقاءات الضيّقة الحميمة ، هنا وهناك وهنالك ، وفي مختلف مناطق لبنان ، وعلى وجه الخصوص في راشيا وزحلة والبقاع الغربيّ ، فقد كنت تقريباً المتحدّث الوحيد . فقلت ما عندي قوله ، وجميعكم يعرفه إما استماعاً أو قراءة ... لذلك أجد نفسي الآن بحاجة ماسّة إلى شيء من الصمت ، وأن أستمع ، وأن أصغي وأن أتعلم من الآخرين . وهناك تجارب غنيّة جداً ، من الأهميّة ، في ما أرى ، نحن كحركة حوار ديمقراطيّ ، أن نستفيد منها ، أن نتأمل ، أن ندرس هذه الخبرات الغنيّة، خبرات المثقّفين والهيئات الثقافيّة من تيّارات فكريّة واجتماعيّة متنوّعة... فيجب علينا أن نصغي لهذه التجارب وأن نفهم وأن نستوعب هذه الخبرات التي مرّ بها المثقّفون في مختلف مناطق لبنان ، والأدباء والشعراء كذلك ... فجميعها غنىً لنا وفائدة عميمة لحركتنا الناشئة والتي تسعى لأن تكون تعبيراً عن واقع الثقافة والفكر في المجتمع اللبنانيّ قاطبة ...
وفي الواقع ، حول ما قيل في هذه الجلسة الحميمة ، ليس لديّ من مستزيد. إنّما أودّ سريعاً أن أجيب عـن تساؤلين . التساؤل الأول هو التالي : الإنسان هو مجموعة من الملكات والمواهب والإمكانات المتنوّعة . فمن الأهميّة أن يُعبّر هذا الإنسان عن الواقع الذي يعيش فيه ، عن التجربة الحميمة التي مرّ أو يمرّ بها ، بطريقته الخاصة ، بأسلوبه الخاص ، وبحسب هذه المواهب والملكات، وأن لا تُفرض عليه صيغة التعبير أو أسلوبها . قد نقبلها أو لا نقبلها ، قد نوافق عليها أو لا نوافق بحسب وجهة نظرنا ، هذا شيء آخر ، ولكن علينا أن نحترم تلك الطريقة . فأنا لا أستطيع أن أفرض على إنسان أن يعبّر ، أن يفسّر ، أن يحلّل ، أن يقرأ الواقع بمنظار الفيلسوف ، مثلاً ، وهو ليس بفيلسوف ... وإنّما يحق لي أن أنتقد ، وأن أرى إلى أيّ مدى قد عبّر عن هذا الواقع بصـدق أم لا، بعمق أم لا ، بإبداع وخلق جديد ، أم لا !... هذا هو السؤال ... لكلّ واحد منا الحقّ في أن يعبّر عن هذا الواقع ـ بصدق وجدّية ـ من الزاوية التي يرى منها هذا الواقع ، وبحسب إمكاناته وقدراته ، كلّ ذلك طبعاً من أجل إصلاح هذا الواقع وتغييره .
من الأهمية أن نعبّر عن التجربة الذاتية موضوعياً ونطمح إلى تغيير الواقع ونكوّن، بوعي، صورة المجتمع المستقبليّ أو الوطن الذي نسعى إلى بنائه ، عن طريق الفكر والعقل والدراسات والأبحاث العلميّة والميدانيّة ... هذا مهمّ . وإنّما أيضاً في ما أرى ، من الأهميّة بمكان كبير كذلك أن نعبّر عن تجربتنا الخاصة والعامة من طريق الأدب والشعر والفنون على اختلافها ، من موسيقى ونحت ورسم ومسرح وسينما ، إلى آخر ما هنالك ... كلّ هذه الأدوات إنّما هي أدوات تعبير عن واقع معيّن ، وتجربة معيّنة ... وهي وسائل ورموز تعبيريّة يستخدمها المثقّف . وهي في الواقع وحقيقة الأمر من صميم الثقافة . فلا يجوز ولا بشكل من الأشكال ، أن تُفهم الثقافة من زاوية واحدة، وما عداها فهو مرفوض ، نقطة أول السطر !! لا !! وأنا كما أفهم الثقافة إنّما هي أوجهٌ متعدّدة ، متنوّعة ووسائلها التعبيريّة عن الواقع أو التجربة التي نعيش فيها ، كثيرة ... بل أكثر من ذلك ، ينبغي علينا أن نعبّر عن تجربتنا ثقافياً من الزاوية التي تتلاءم مع ميولنا وطاقاتنا وقدراتنا ومواهبنا وأهدافنا . ولكن ، وكما نعلم ، هناك ثقافة وثقافة . هناك مستويات متنوّعة ومختلفة للثقافة .. وهناك أيضاً مثقّف ومثقّف ...
وإذا سمحتم لي أن أشير هنا سريعاً إلى كيف أرى بصورة عامة إلى الثقافة أو إلى الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الثقافة ... لهذا فقد قسمت المثقّفين إلى ثلاثة أنواع عامة ، وبوجه خاص في هذا الظرف وفي هذه التجربة الثقافيّة التي نمرّ فيها في لبنان . وهنا أقدّم تعريفاً سريعاً إجرائياً للثقافة كما أفهمها وأعبّر عنها الآن في هذا السياق ، فتكون الثقافة بهذا المعنى هي مستوى من مستويات التطوّر الفكريّ والعقليّ والروحيّ والأدبيّ والفنون على أنواعها والعلوم الإنسانيّة على اختلافها ... بهذا المفهوم أستخدم الثقافة هنا كتعريف ، كما قلت ، إجرائيّ ... فعلى هذا الأساس وضمن هذا التصوّر ، نجد في المرحلة التي نمرّ بها أنّ الأغلبية الساحقة من " المثقّفين " ـ أي المتعلمين ، حاملي الشهادات ، الخبراء ، التكنوقراط ، إلخ .. وبالنظر إلى الأوضاع والأزمة الخانقة التي نعيش فيها الآن ، أزمة متعدّدة الوجوه والأسباب اجتماعياً ، اقتصادياً ، سياسياً ، حضارياً إلى آخر ما هنالك ، فإنّنا نجد ـ أقول ـ أنّ معظم " المثقّفين " يحاولون أن يلتحقوا بركاب السلطات السائدة ـ هذا واقع ـ السلطات السياسيّة أو الماليّة أو الدينيّة أو الاجتماعيّة الموجودة على الساحة اللبنانيّة ، وذلك كما هو معروف لتأمين أوضاعهم المعيشيّة وتحسين أوضاعهم الاجتماعيّة أو بمعنى أصح لتحقيق طموحاتهم . فيصبحون كما نسميهم " كتبة السلطان" أو كما يسموْن الآن "المستشارين"، وهم الذين يعبّرون عن " سياسة السلطان " أو " سياسة القوة الاجتماعيّة " أو " سياسة الطائفة الدينيّة " التي ينتمون إليها ، وينشرونها ، ويبرّرونها ويدافعون عنها في وجه الخصوم ، ولديهم كفاءات فكريّة وعلميّة واختصاصات متنوّعة مشهود لها . إنّما هم تابعون ، في الواقع ، للسلطة السياسيّة أو غير السياسيّة ، من اليمين أو من اليسار . فيبرّرون مواقفها ، مهما كانت هذه المواقف ، ويعملون على بلورتها وإقناع الرأي العام بها ...
هذا صنف من المثقّفين الذين يُنسبُ عادة " مفهوم الثقافة " إليهم . وهناك صنف آخر من المثقّفين من أصحاب المهن الحرة والأساتذة على اختلاف أنواعهم وغيرهم أيضاً ... أسميهم "المثقّفون المنتظرون "، "المترقبون "... ومثلهم كمثل اليهود عند مخاطبتهم النبي موسى : إذهب أنت وربّك فقاتلا ، إنّا ها هنا قاعدون ... إنّهم ينتظرون كيفيّة رجحان نتائج الأوضاع ، فيضعون حسابات الربح والخسارة في الاعتبار ... فهم يحلّلون . ولهم رؤية صائبة أحياناً للظروف العامة ، السياسيّة أو الاجتماعيّة . ولهم فهم أيضاً لتطوّر الظروف السياسيّة ـ الاجتماعيّة ، محلياً وإقليمياً ودولياً ... فهمٌ صحيح ، مع مسحة كبيرة من التشاؤم والإحباط والشعور بالعجز وعدم فائدة أيّ تحرك مهما كان في هذه الظروف ، كلّ ذلك في الحقيقة تبريراً لعدم تحركهم أو نشاطهم ، أو تبريراً لفشلهم الذاتيّ ... لذلك ، لسبب أو لآخر ودون أن ندخل في التفاصيل الجزئيّة ، فهم يدعون أحياناً بطريقة ذكية إلى التمسك " بحبل الانتظار " و" الترقّب "...
ويبقى صنف من المثقّفين ، في الظروف الحالية وهم الذين يسميهم الأستاذ أنطون مقدسي "مَن عَصَمَ ربّك "، هذه القلّة القليلة القليلة من المثقّفين الذين يتصفون بشيء من الصلابة ، وبكثير من الرؤية التاريخيّة لتطوّر المجتمع ، ويحاولون أن يكون لهم رؤية للواقع عميقة في بعدها التاريخيّ ، مختلفة ، مميّزة ، ناقدة ، وأن يكونوا هم ، من خلال نشاطهم وتحركاتهم وكتاباتهم ، ضميرَ الشعب الحقيقيّ وصورته المستقبليّة وطموحاته في عملية التغيير التاريخيّ ، الاجتماعيّ والحضاريّ...[...]
[...] ... وأودّ هنا أن أشير ، إذا سمحتم لي مرة أخرى ، إلى أنّ هناك ، سواء لحركة الحوار أو لي شخصياً ، كتاباتٍ حول هذا الموضوع بالذات وحول تعريفات الثقافة والمثقّف والحضارة والأيديولوجيا ، إلخ.. وكلّنا نعلم ومَن اشتغل في هذا المفهوم يعلم أيضاً ، أنّ من أصعب المفاهيم المتداولة في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا ، إنّما هو مفهوم الثقافة والمثقّف ... وكما ذكرت في إحدى كتاباتي السابقة أنّ كلّ مدرسة اجتماعيّة ـ أنتروبولوجيّة ، وكلّ فيلسوف وكلّ أديب ـ وفي مرحلة من المراحل ـ له فهم خاص للثقافة ... إنّما أنا الآن عندما تحدّثت عن المثقّفين قد عنيت تعريفاً إجرائياً عاماً ، كما ذكرت ، خصصت به " حملة الشهادات "، وقد أكون على خطأ من الناحية العلميّة ... ولكن لا غضاضة في ذلك إذا قصدت " المتنوّرين "، توضيحاً للفكرة التي أريد أن أوصلها وأعبّر عنها ... بهذا المعنى ، وبهذا المعنى فقط ، يُقصد بالمثقّفين أمام الرأي العام ، وهم المتنوّرون، حملة الشهادات ، أصحاب المهن الحرّة ، الأساتذة ، الصحافيون والكتّاب .. إلخ .. إلخ.. ولكن في الواقع ومن الناحية العلميّة ـ الاجتماعيّة ، من الصعب جداً أن نقول وأن نحصر بتعريف واحد موحّد أو بتعريف ، كما يقول المناطقة ، " جامع مانع " ونقول مَن هم المثقّفون . من الصعب جداً . حتى أنّه كثيراً من الأطباء أو من المهندسين أو من المحامين ، عندما تقول لأحدهم أنت مثقّف ، يجيب رأساً ، لا ! أنا لست مثقّفاً ، أنا اختصاصيّ بكذا أو بكذا ... مع أنّه إجمالاً وكتعريف إجرائيّ عمليّ ، يمكننا أن نعتبر هؤلاء جميعهم والأطر العليا من مختلف الاختصاصات العلميّة في مجتمع ما ، من جملة " فئة المثقّفين ".
إنّما من وجهة نظري الخاصة وتعريفي الخاص في الموضوع هو أنّ الثقافة إنّما هي "الثقافة الملتزمة " وأنّ المثقّف هو المثقّف الملتزم بالواقع ويعمل لتغييره من أجل مصلحة الإنسان .. والمثقّف ، بما أنّه مثقّف ، عليه أن يلتزم على صعيد الفكر والممارسة ، بالواقع بكلّ تعقيداته بهدف فهمه وإدراكه ووعيه ونشر هذا الوعي . هذه هي في ما أرى وظيفة المثقّف التي تحدّد شخصيّته ومنحاه وأسلوب عمله ... وكما أرى ، ليس هناك على الإطلاق ، لا في مجتمعنا ولا في أيِّ مجتمع آخر ، في الماضي أو في الحاضر ، مَن يمكن أن يحلّ محلّ هذا " المثقّف " الذي يعي " المرحلة " أو الواقع أو " العالم " الذي يحيط به، ويهيئ بالتالي لعمليّة النهضة الاجتماعيّة ـ الحضاريّة الكبرى، على صعيد الفكر والرؤية التاريخيّة ... إنّما التنفيذ العمليّ ، تحقيق هذه الأهداف الكبرى التي صاغها " المثقّف " وبلورها وأنضجها وعمّمها يعود ، كما علمنا التاريخ ، إلى رجل السياسة ، إلى مَن يملك السلطة الماديّة أو العسكريّة ، إلى ذلك الذي ينقل الأفكار من حيّز الوجود بالقوة ـ كما نقول في الفلسفة ـ إلى حيّز الوجود بالفعل ، من الممكن إلى التطبيق ...
إذن، مهمة المثقّف هي أولاً أن يلتصق بالواقع الاجتماعيّ المحيط به، وأن يعبّر عن طبيعة المرحلة التاريخيّة التي يعيشها ، أن يعيها حقيقة وبالعمق المطلوب ، ومن ثمّ أن ينشر هذا الوعي عن طريق الكتابة ، والممارسة معاً ... كلّ ذلك طبعاً بهدف التغيير ولمصلحة الإنسان . هذا هو من وجهة نظري مفهوم " المثقّف الملتزم "...
هذا جانب ، ومن الجانب الآخر ، أودُّ أن أبديَ ، في هذا المجال ، بعض الملاحظات التوضيحية حول مفهوم الحوار . وهنا أيضاً نجد أنفسنا الآن أمام مفهوم متداول الآن بكثرة ، وهو مفهوم صعب جداً ومتعدّد الوجوه والأبعاد والمستويات : فمن أيّ زاوية تريد أن تدخل إلى هذا الحوار وأن تنظر إليه ، من المستوى الفلسفي ، أو التصوف مثلاً ، أم من الجانب السياسيّ أو الاجتماعيّ ... هناك أبعاد متعدّدة ووجوه يجب بادئ ذي بدء تحديدها قبل الدخول في مسألة الحوار : تحديد المضمون أو الموضوع ، تعيين الأطراف أو عناصر الحوار ، توضيح الأهداف والغايات من الحوار أيضاً ، إلى آخر ما هنالك من أمور كنّا قد ذكرناها في مكان آخر ...(2)
الإنسان لا يستطيع بشكل من الأشكال أن يعيش دون " حوار "، أقلّه أو أضعفه ، بمعنى من المعاني ، "الحوار مع الذات "، [ وهنا يسمى " منولوج " ] إذا لم تتوافر ظروف الحوار وشروطه ـ وهذا هو المهمّ ـ " الحوار مع الآخر "... نحن هنا ، في هذه القاعة ، تنعقد في ما بيننا عملية حوار منفتح ، حول موضوع محدّد ، وبهدف كان قد أُعلن سابقاً ... هذا الحوار هو حوار فكريّ ، ثقافيّ ، اجتماعيّ ، إنسانيّ ـ إذا صحّ هذا التعبير الأخير ـ بمعنى معرفة الواحد منّا للآخر بكليّته ، على حقيقته ، وكما هو ... فلا يمكن للإنسان ، أيّ إنسان ، وكلّ إنسان ، أن يعيش دون حوار ... وإلاّ في هذه الحالة أصبح أقرب إلى الحيوان ـ البهيم ، منه إلى الإنسان العاقل المفكر ... الحيوان هو الذي لا يتحاور ، بمعنى لا يمتلك هذه " الآلية "، أو الوسيلة العاقلة المفكرة ، لنقل ما يريده ، عن طريق الرموز ، إلى الفرد الآخر ... وحتى الآن ، هناك دراسات واكتشافات علميّة في علم الأحياء تشير إلى وجود نوع من الطريقة الحواريّة بين بعض أنواع من الحيوانات المتطوّرة ... على كلّ حال ، فإنّ الحوار هو ظاهرة إنسانيّة اجتماعيّة لا يمكن أن يعيش الإنسان ضمن الجماعة وفي مجتمع ما ، بدونها ...
ولكن السؤال الذي يُطرح في هذا المجال هو أيّ " صنف " من الحوار ... هناك مفاهيم متعدّدة ، كما قلت ، للحوار : الحوار الفلسفيّ ، الحوار الفكريّ ، الحوار السياسيّ ، الحوار الثقافيّ ، الحوار الدينيّ .. إلخ ... وكلّ واحد من هذه الحوارات أيضاً يجب تحديد مضمونه أو مضامينه ، وتعيين عناصره المتعدّدة والمتنوّعة، وتوضيح أهدافه وأغراضه، القريبة أو البعيدة ، إلى غير ذلك...
الحوار السياسيّ على سبيل المثال: يجب أن ينعقد في ما بيننا نحن اللبنانيّين حوارٌ سياسيّ، بمعناه الحقيقيّ والعميق والشامل ... وهنا لا أستعمل كلمة سياسة بمعناها السيئ ، وإنّما بمعناها الإيجابيّ ، العلميّ ... لك وجهة نظر سياسيّة ، أنت كلبنانيّ وأنا كلبنانيّ ، فليس من الضرورة أن تتطابقا كلياً أو جزئياً . من هنا أهميّة الحوار بيننا إذا توافرت الرغبة الصادقة في ذلك ... أنت لك وجهة نظر في عملية التغيير السياسيّ أو الاقتصاديّ أو التربويّ ... إلخ ... تختلف أو تلتقي مع وجهة نظري ، فيجب في ما أرى أن نتحاور في ذلك حتى نتبادل خبراتنا ومعارفنا الذاتيّة وتجاربنا الشخصيّة ... حتى يغتني كلُّ واحد منّا من الآخر ، حتى تغتني وجهةُ نظرك ، إذا كانت صحيحة ، وحتى تغتني وجهة نظري ، هي الأخرى ، إذا لم تكن صحيحة ... فالحوار ، كما قلت وأعيد القول ، له شروط وله أساليب وله موضوعات وله هدف ...
وفي ما يتعلق بنا نحن كلبنانيّين وفي هذا الظرف الوطنيّ العام بالذات، عندما اقترحنا اسماً لحركتنا : حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، بدل اسم : حركة التغيير الديمقراطيّ ، فكلمة : الحوار الديمقراطيّ لاقت ، في مختلف المناطق اللبنانيّة ، ترحيباً كبيراً وواسعاً . لماذا ؟... ذلك أنّنا نحن بعد هذه التجربة، " تجربة الحرب اللبنانيّة المريرة"، وجدنا فعلاً أن اللبنانيّين لا يعرفون بعضهم البعض ، حقيقة ، واقعياً ، أو صراحة ، دون خلفيات فكريّة أو سياسيّة أو طائفيّة سابقة . كنّا نعيش بمعنى من المعاني في " غيتو " ( ghetto )، في جُزُرٍ اجتماعيّة ـ سياسيّة ـ إذا صحّ هذا التعبير أو ذاك ـ هناك انغلاق على الذات، سياسياً ـ طائفياً، بين مختلف الفئات الاجتماعيّة والمناطق اللبنانيّة، في كثير من الحالات ... وكلّ " جزيرة اجتماعيّة " معيّنة ، أو كلّ " قبيلة " من القبائل اللبنانيّة ، لها تصوّر مسبق ، " كامل متكامل في الذاكرة الجماعيّة "، عن القبيلة الأخرى أو العشيرة الأخرى ، أسميه " تصوّراً أسطورياً "، بمعنى غير حقيقيّ ، غير واقعيّ ، وهميّ ... المناطق اللبنانيّة ، في الأعماق وبحسب الانتماءات الطائفيّة أو المذهبيّة لكلّ منها ، كانت تعيش في دائرة نفسيّة ـ سياسيّة وأحياناً ثقافيّة تاريخيّة ، منغلقة على ذاتها ومتقوقعة في عالمها الخاص ، وكلّ منها تعتبر نفسها أسطورياً " مركز التاريخ "، " محور الأمة والوطن " وأساس الوجود اللبنانيّ السياسيّ ...
الآن ، ومن هنا، في ما أرى ، أهميّة أن ندخل في ورشة حوار في العمق، نحن كلبنانيّين، وبوجه خاص بعد هذه الأزمة ، بعد هذه الحروب الطاحنة في ما بيننا ، الداخليّة منها والخارجيّة على حدٍ سواء ، والمتعدّدة الأسباب والدوافع ، من أجل أن ندرس هذه التي أسميها " التجربة اللبنانيّة "... أن أبحث فيها ، أن أتحاور وأن أتناقش مع مختلف الأفرقاء ، وهم كثُرٌ ، ومع التيّارات من كلِّ نوع ، كلّ ذلك حتى أستخلص منها الدروس والعِبَر ، هذا إذا أردنا ، فعلاً وحقيقةً وصدقاً ، أن نعمل لبناء دولة حديثة ، وطن جديد ، قائم على أساس خبرة وتجربة . نحن بحاجة ، وانطلاقاً من هذا المفهوم ، بحاجة إلى حوارٍ ، حوارٍ كنّا قد أعطيناه صفة الديمقراطيّة ... بمعنى أنّه لا يمكن أن يتمّ الحوار إلاّ إذا انعقد بين متساوين أحرار متكافئين في كلّ الوجوه والمعاني ...[...]
... [...] كلمة أيضاً توضيحيّة : أرى أنّه لا يجوز أن ندخل في نقاش حول مسائل هي في الحقيقة خارج موضوع هذا اللقاء الثقافيّ الحواريّ ، أو أن نطرح مواضيع أو قضايا هي في الواقع faux problemes ، مسائل مغلوطة ، طرحها غير صحيح وخاطئ ...
إنّ الكلام العام ، الأسلوب الشعاراتيّ ، لم ولن يؤديَ إلى نتيجة علميّة حقيقيّة : العاطفة المجرّدة أو الانفعاليّة ، النيّات الطيّبة، التعبيرات والاصطلاحات المستعملة بكثرة في مجتمعاتنا الثقافيّة عموماً حول : العلم والعقل، والمعرفة ، والعقلانيّة ، إلخ... نحن نمرّ الآن بمرحلة نحتاج فيها بصدق وبجدّية ، وكمثقّفين ، إلى أن نعطي لهذه التعابير ولهذه المفاهيم ، مضمونها الموضوعيّ الواقعيّ الاجتماعيّ السياسيّ ، المعقّد أشدّ التعقيد ... فليس بهذه البساطة أو بهذا التسرّع ، تُطلق شعارات لنفي شعارات أخرى ، هي أيضاً تحتاج إلى توضيح ... فينبغي علينا أن نحدّد مضمون هذه المفاهيم وغيرها كثير ، بظرفها المعيّن ، وظروف مجتمعها الخاص ... فهذه المفاهيم بمعانيها ومضامينها ، قد تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، وفي المجتمع الواحد من مرحلة تاريخيّة معيّنة إلى مرحلة تاريخيّة أخرى ، وظروف اجتماعيّة متغيّرة ... هذه منهجيّة في التفكير وفي العمل ، يجب علينا أن نوليها عناية واهتماماً ...
نحن الآن ، أقول ، نمرّ بمرحلة تاريخيّة ـ اجتماعيّة ، لها تعقيداتها المتشابكة ، الداخليّة والخارجيّة ، الإقليميّة والدوليّة . فمهمتنا نحن كمثقّفين لبنانيّين ديمقراطيّين حواريّين ، أن نفهم طبيعة هذه المرحلة ، قضاياها ، إشكالياتها الذاتيّة والموضوعيّة ... تحديد هذه القضايا والإشكاليات ، بحثها بواقعيّة وبمنهجيّة علميّة ، بجديّة صبورة ومتأنية ... ومعرفة ، معرفة علميّة واقعيّة ، ممّا يعاني مجتمعنا ، وهو يعاني من أشياء كثيرة ، وكثيرة جداً ، وعلى صعيد الفكر والثقافة والسياسة الوطنيّة ، هذا إذا حصرنا الآن اهتمامنا في هذا النطاق... أقول: ممّا يعاني مجتمعنا، وكيف العمل ـ كلّ ضمن إمكاناته الفكريّة ـ الثقافيّة المتواضعة ـ كيف يمكن فهمه لتغييره ، وبأيّة منهجيّة أو منهجيات ؟... وأين هي الطاقات والإمكانات على مختلف الصُّعد والمستويات ؟... هل يمكن فهمه عن طريق البعد النظريّ ، الغريب عن الواقع ؟... أو الاستيحاء من مفاهيم ومقولات خارجيّة ، غريبة عنه ؟... أم الانكباب على ما هو موجود لدينا من معرفة وتراث وأن نغلق تفكيرنا عمّا يأتينا من الحضارة العالميّة من مفاهيم ومعارف ومنهجيات شتّى ؟...
نحن نريد الآن ، بصدق وبجدّية ، أن ننفتح ، بالمعنى العميق لهذا التعبير ، أن ننفتح على واقعنا ، على ذواتنا ، على تجربتنا وتجارب الآخرين معنا ، أو في الخارج عنّا ... نريد أن نستنشق الهواء الطلق ، الصافي، من أين أتى، وأنّى أتى... دون عُقَد ، دون نرجسية غبيّة أو غرور فارغ... من هذا المنطلق ، من غير الصحيح أبداً أننا الآن ، والآن بالذات ، لسنا بحاجة إلى الحوار ... بالعكس من ذلك... ولا نفهم على الإطلاق " الحوار "، في منحاه الطائفيّ أو المذهبيّ ، بمعنى الحوار بين الطوائف والمذاهب ... وعندما نقول : مفهوم الحوار أو حركة الحوار ، لا نعني أبداً حواراً طوائفياً ، ولسنا نحن هنا من أجل أن نتحاور على أساس طائفيّ ... ولا أعلم أن أحداً منّا هنا ، لا الآن ولا قبل الآن ، قد قال بذلك ..لذلك أرى أنّه يجب أن نقيم ، في ما يبدو ، ندوات أخرى حول هذا المفهوم : الحوار ، والذي أرى أنّه لا يزال يثير التباساً في المعنى والمقصد ، أو أنّه لم تتبلور أهميته وفائدته في أذهان البعض، ولا جدواه ولا منطلقاته وأسسه أيضاً ... فهو أعمق بكثير مما قد نتصوّر، في أبعاده ومستوياته المختلفة ، أو مما سمعته الآن ، أو ممّا سمعته قبل الآن ... فهو ، كما قلت قبل لحظات ، لا يختصّ بشكل معيّن ...
لقد مررنا نحن في لبنان ، وخاصة في لبنان ، بتجربة عميقة جداً، متعدّدة الوجوه والأبعاد والمستويات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة ـ الحضاريّة ، إلخ ... عشرون أو خمسة وعشرون أو ثلاثون أو خمسون سنة وحتى الآن ، وقد كان في ما يجري بين اللبنانيّين هو أقرب إلى ما يمكن أن أسميه "حوار الطرشان "، أو بتعبير أكثر واقعيّة وصحّة ، " حوار التكاذب "... لم ينعقد في ما بيننا نحن اللبنانيّين ، وعلى وجه الخصوص بين المثقّفين ، حواراً ، جدّياً وعميقاً وصريحاً ، بالمعنى الحقيقيّ للكلمة ، وخاصة بين المثقّفين ، أعود وأشدّد على ذلك... اليسار له مثقّفوه ، واليمين كذلك له مثقّفوه ، وفي ما بينهما من مختلف القوى السياسيّة والفئات الاجتماعيّة لهم أيضاً مثقّفوهم ، فلم ينعقد في ما بينهم جماعة أو أفراداً أيّ نوع من الحوار الفكريّ أو الثقافيّ الجدّي والرصين والمنتج ... بل تراشق واتهامات وقذائف من عيارات فكريّة متنوّعة ... هذا واقع ... لم يقرأ ، على سبيل المثال ، أيُّ مثقّف لمثقّف من الخندق الآخر ، والعكس بالعكس ، مستخدماً في ذلك منهج النقد أو الحوار العقلانيّ ، بل القذع أو الرفض الأعمى... فهذا واقع .وعندما نقول ذلك ، لا نخترع البارود... معادلة الأحزاب السياسيّة والعلاقات في ما بينها ، كانت معادلة في منتهى البساطة و" الوضوح " منذ وجود لبنان حتى الآن : من جهة " هناك الأحزاب والتكتلات الطائفيّة ، العميلة ، الانعزاليّة "... إلخ.. ومن جهة أخرى "هناك أحزاب الشيوعيّة العالميّة أو الناصريّة أو الإسلاميّة المرتبطة بالخارج الذي يحاول أن يزيل لبنان من الخارطة ".. هذه أشياء ، أعتذر أن أتوقف عندها ، فهي معروفة عندنا ، بل ومُعاشة من قبل الجميع في ما بيننا ....
وكذلك الحرب اللبنانيّة ، فقد تداخلت فيها وتقاطعت مع " حرب شعارات "، هي في النهاية، ومع البعد الزمنيّ، شعارات انفعاليّة، غرائزيّة، عاطفيّة، فارغة من أيّ مضمون واقعيّ ، موضوعيّ، علميّ ، حقيقيّ .. بعدها ، حدث ما يمكن أن نسميه " صحوة "، " عودة الوعي " إلى الذات وإلى الواقع الحقيقيّ ... وأخذ كلّ فريق يلملم جراحه ويُحصي خسائره وضحاياه ، ويحاول ولربما قبل فوات الأوان ، أن يعاود قراءة واقعه ويعيد النظر ، بكثير من الصعوبة ، بفكره وسياسته وتطلعه للمستقبل .. وهنا في ما أرى المعضلة الكبرى والإشكاليّة الصعبة ، الملقاة على كاهل المثقّفين ... وابتدأ كلّ فريق ، بادئ ذي بدء ، أن يوجّه انتقاداته إلى ذاته ... المثل على ذلك ، أنّ الأحزاب قاطبة تمرّ الآن بأزمة ، كما يقولون هم أنفسهم ، وهم بحاجة إلى مراجعة الذات ، إلى مراجعة التجربة ... نحن كحركات ثقافيّة ، نمرّ كذلك بأزمة ، يجب علينا أن نحسن مواجهتها ...
إننا نتحدّث دائماً عن صعوبة العمل الثقافيّ ومتطلباته الماديّة والأدبيّة ... لنعترف بذلك صراحة ... فهذا الاعتراف ، بداية الوعي والصحوة الضروريّة لكلّ نهضة حقيقيّة ... فيجب والحالة هذه أن نتحاور مع الهيئات الثقافيّة الأخرى ، حتى يمكننا أن نجد صيغة موحّدة للعمل المشترك ... هل هناك من ضرر في إجراء هذا النوع من الحوار ؟!... هل هذا هو حوار طائفيّ أو مذهبيّ ؟!... إنّنا نحن الآن بحاجة ، وهذا هو شعوري الشخصيّ ، إلى أن نعقد لقاءات عديدة في مختلف المناطق حول هذا الموضوع ، نحن الآن بحاجة ـ أقول ـ إلى أن نتحاور مع الآخر... وليس هذا الآخر كله كان سيئاً .. كما لم أكن أنا أيضاً دائماً على حقّ ... فاكتشفنا الآن ، من خلال التجربة ، كم هي كارثة الأفكار المطلقة، والمواقف السطحيّة التقريريّة القاطعة !!... فيجب إذن أن تنعقد " لغة الحوار" العقلانيّ ، العلميّ ، الموضوعيّ ، المنفتح ، انطلاقاً من الواقع ومن التجربة التي مرّ بها لبنان ، أن تنعقد لغة الحوار هذه في ما بيننا أولاً ، وبداية ، أن يعرف الواحد منّا الآخر ، كأفراد وكجماعات ... وهذه المعرفة الحقيقيّة ، الواقعيّة ، القائمة على أساس الحوار ، هي في ما أرى بداية كلّ نهضة وشرط لها ... فهذا أجدى بكثير من أن أنطلق من مواقف تقريريّة ، من مسلمات معيّنة ، لفظيّة ، شعاراتيّة ، مطلقوها يكونون غالباً أبعد عن تطبيقها في حياتهم الخاصة ، وفي سلوكهم الاجتماعيّ العام ...
مَن كان يملك الحقيقة ، فليعلن عن نفسه !!... فلم يتقدم أحد !! كثيرون بعد هذه التجربة المرّة ، يقولون الآن علينا أن نعود ونحاول أن نكتشف الحقيقة مـن جديد ، أن نكتشف حقيقتنا الموضوعيّة ، أن نكتشفها كما هي ... يجب بذل المحاولة أو المخاطرة ، فهي تستأهل كلّ جهد وتضحية ... إنّنا نسعى إلى معرفة " الحقيقة "، الحقيقة الوطنيّة الاجتماعيّة السياسيّة ، ونريد أن نكتشفها من جديد ... وكلما اقتربنا منها خطوة ، تكشّفت لنا عن مخاطر أخرى وصعاب ، علينا أيضاً أن نتحمل المشقة لتجاوزها ...
وهكذا ... وهكذا ، وبتواضع شديد ، نحن نريد أن " نتعلم "... حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، وأقولها بصدق ، تريد وتسعى إلى أن تتعلّم من الآخرين ... لذلك لم نقدِّم ، كما يحصل عادة ، أفكارنا جاهزة ، كاملة ، تقريريّة ، قاطعة لا تحتمل النقاش أو الحوار... كثيرون من المثقّفين أو من الجمعيات عند قيامها ، قدّمت بطريقة شبه قطعيّة آراءها وأفكارها ووثائقها المتنوّعة في السياسة الوطنيّة والاقتصاد وفي العلاقات الخارجيّة ، وفي النظام السياسيّ ، وفي النظام الإقليميّ أو العالميّ الجديد ، وبجرأة متناهية ، إلى آخر ما هنالك ممّا هو معروف لدينا الآن جميعاً .. أما نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ فنقول بتواضع كبير، لا !... نحن لدينا منطلقات مبدئيّة مكثفة ومفاهيم نظريّة أساسيّة ، لها علاقة مباشرة بقضايا مجتمعنا في شتّى وجوهها ، هي ذاتها ـ هذه المفاهيم ـ مطروحة للنقاش والحوار مع الجميع وبمشاركتهم ... نحن لدينا، على أساسها ، جملة من التساؤلات، تساؤلات ملحّة ، تاريخيّة ، مصيريّة ، مستقبليّة ، نطرحها هنا وهناك ، بين المثقّفين والتيارات الفكريّة المتنوّعة في لبنان ... من لديه أجوبة عن هذه التساؤلات ، أو عن بعضها ... أجوبة علميّة ، موضوعيّة، صادرة من معاناة، من معاناة التجربة الفكريّة أو السياسيّة الوطنيّة، فليتفضل وليقدمها.. فنحن منبرٌ حرّ ، منفتح ... نحن فئة من المثقّفين نؤمن في هذه المرحلة ، وفي هذه المرحلة الانتقاليّة بالذات ، في أنّنا بحاجة ماسّة إلى أن نتبادل وجهات النظر ، أن نتبادل الخبرات ، أن نتبادل التجارب والدروس ...
نعود مرة أخرى إلى مفهوم الحوار ، فيجب علينا في هذا المجال أن نميّز بينه وبين مفهوم الجدل أو مفهوم السجال ... ولقد وَرَدَ في الحديث الشريف : " ما أوتي الجدلَ قومٌ إلاّ ضلوا " وهنا الجَدَل على الباطل وطلب المغالبة ... الجدل هنا أو ما في معناه ، يدخل في مفهوم إلقاء الكلام على عواهنه ، ظلماً ، أو غضباً ، دون رويّة أو تعقل أو حكمة ... أو هو الذي نسميه " المهاترات "، "النكايات "، أو الكلام الذي لا معنى له ولا هدف ... إذن ، لكلّ مفهوم أو اصطلاح أو تعبير ، يجب أن نعطيه المضمون العلميّ والواقعيّ المناسب ... فلا يجوز أن تختلط المفاهيم في ما بينها وتغيب عن أذهاننا المحدّدات المناسبة ... فتصبح علاقاتنا الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة هي علاقات " حوار الطرشان "...
فلكلّ مفهوم ، إذن ، ينبغي أن نعطيه مضمونه الحقيقيّ والعلميّ ... الحوار لغة من حار حَوْراً وأحَار محاورة ، بمعنى الرجوع عن الشيء وإليه ، وبمعنى المجاوبة والمراجعة ، مراجعة المنطق والعقل ( أنظر الكلمة في لسان العرب ) ... شخصان أو رأيان يتجاوبان ويراجع الواحد الآخر بالاعتماد على المنطق والعقل . كما أنّ شروط الحوار أن تنعقد المساواة والاحترام المتبادل بين المتحاورين... لا يمكن أن يتمّ حوارٌ حقيقيّ بين حاكمٍ ومحكوم ، أو بين سيّد ومسود... الحوار له شروطه : المساواة والاحترام المتبادل . أن أحترمك وأن تحترمني... فإذا فُقد الاحترام بيننا أو سقط، فلا يمكن أن ينعقد حوارٌ بيننا ... فلنسمه أيّ اسم آخر ، سوى الحوار ... وإذا لم تكن ، أنت ، على استعداد تام لفهم وتفهم وجهة نظري وتستمع إليها وتناقشها ، وأنا ، إذا لم أكن على استعداد تام أيضاً لإدراك وجهة نظرك ووعيها كما هي ومناقشتها بحريّة تامة، فلا يمكن أن ينعقد حوار بيننا... فإذا تظاهر كل واحد منّا بأنّه يريد أن يتحاور مع الآخر ، ولكنّه ضمناً يسعى إلى أن يفرض رأيه ويمليه بطريقة أو بأخرى ، كما يحصل ، خصوصاً بين السياسيّين ، فهو ما يمكن أن نسميه عادة "حوار الطرشان "، أو بكلمة واحدة : "حوارُ سياسيّين". وهنا يُقصد به "حوار التكاذب والخداع"... فليس هذا على الإطلاق ما نقصده من مفهوم " الحوار "، وآمل أن تكونوا جميعاً على قناعة تامة بذلك...[...]
[...] ... في الحقيقة، ومن الجانب الآخر، نحن كحركة حوار ديمقراطيّ ، كنّا قد أعلنا منذ البداية وعبّرنا عن رأينا في هذا المفهوم الخاص للثقافة والمثقّف ... ولم نعتبر نحن كهيئة ثقافيّة بأنّ شرط المثقّف هو أن يكون حاصلاً أو حاملاً شهادة علميّة ، مهما كانت .. فهذا الرأي ، وهذا الموقف واضح أشدّ الوضوح في جميع كتاباتنا ... وواضح أيضاً في جميع ما كتبته حول الثقافة والمثقّف ، ومَن هو المثقف !!... وليس ذلك الموقف هو ابن الساعة ومن الآن... وإنّما منذ مرحلة سابقة قديمة. ولكن مشكلتنا ـ وهذه ناحية أكررها دائماً واسمحوا لي أبديها أمامكم مرة أخرى ـ مشكلتنا هي أنّنا نحن " المتعلمين " لا نقرأ ... فنكتب ونكتب ونكتب ، ونعلن عن طريق كتاباتنا عن آرائنا وأفكارنا... ولكننا مِن ثمّ نصاب بصدمة .. ذلك أن ما كنّا قد كتبناه لم يُقرأ ...
ما أريد أن أقوله هو أنّه لو قرئت أدبيات حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، وما نشرته من منشورات متفرقة على قلّتها ، لوفّرنا علينا جهداً كبيراً وانتقلنا إلى مناقشة مواضيع أخرى ، أو لكنّا ناقشنا مفاهيم حركة الحوار أو انتقدناها عن إدراك ومعرفة ، كلّ ذلك حتى نصل إلى أشياء أخرى، كذلك لها أهميّة بالنسبة لنا ... لقد كان من الممكن أن تكون هذه الجلسة الثقافيّة أغنى بكثير في ما لو وُجّهت أسئلة محدّدة وطرحت على بساط البحث والنقاش والحوار ... مثلاً في الصفحة كذا أو صفحة كذا ، ورد شرح أو تعريف للحوار ، ونحن لا نوافق عليه أو نوافق ، أو لا نعتقد بذلك أو نقدّم تعريفاً آخر أكثر غنى ... إلخ .. أما أن نعود وننطلق من الصفر ، وبحث موضوعات كنّا في السابق قد توقفنا عندها مطولاً ، فهذا في ما أرى ، غير مفيد لنا جميعاً ....
فلذلك ، وهنا لي رأي ، وأنا أقوله وأعمّمه منذ عشرين سنة ، عندما اشتغلت لفترة وجيزة في الصحافة ، ما يقرب من سنة في مطلع السبعينات ... ولقد لفت نظري آنذاك ، بعد أن كتبت بحثاً ـ وكان ذلك بعد أن قمت بإجراء تحقيق واسع عن دور النشر في لبنان ـ وكان عنوان البحث "لماذا اللبنانيّ لا يقرأ " ؟!... لماذا المثقّف اللبنانيّ لا يقرأ ؟... إنّ المتعلم اللبنانيّ لا يقرأ ... فإذا كان يقرأ شيئاً ، فإنّما يقرأ لذاته أو لشلته ، ولكنه لا يقرأ كثيراً للآخرين... فهذا الواقع مؤسف للغاية.. فاللبنانيّ لا يقرأ بصورة عامة... وهذا موضوع جدير بالاهتمام والمناقشة، وليس هنا مجال ذلك...[...]
أمّا حول مفهومنا للثقافة وللمثقّف ، فقد أوضحناه على سبيل المثال في صفحات عديدة، ونشرت في ما بيننا على نطاق واسع . فلو قرئت ونوقشت وأبديت حولها ملاحظات نقديّة ، لكان من الممكن أن نتحاور حول ما كُتب ، أو ما كتبه الآخرون حول الموضوع ذاته ... ولكان أجدى لنا جميعاً ... ولكن في بعض المناسبات وجدت نفسي أنّني أكرر ذاتي ...
وهنا أعطي مثلاً سريعاً يوضح جانباً من جوانب مفهومنا للمثقّف وهو أنّه من مؤسّسي حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، بعض الأشخاص الذين لا يحملون شهادات عالية أو ثانويّة ، وإنّنا مع ذلك اعتبرناهم ونعتبرهم من المثقّفين ، حسب مفهوم حركة الحوار للثقافة والمثقّف ... فلماذا نعود ، ونطرح السؤال حول مفهوم الثقافة والمثقّف ... ومن المؤسّسين لحركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، رسمياً وأسماؤهم في وزارة الداخليّة ، لا يحملون أيّ شهادة ... كلّ ذلك ضمن اعتبارنا ومفهومنا للثقافة والمثقّف : وهو الإنسان الذي فهم قضايا المجتمع الذي يعيش فيه ، فهماً واعياً مدركاً ويسعى للتغيير نحو الأفضل بجهده الفكريّ والذهنيّ والعقليّ ...
[...] ... جواباً على جميع الأسئلة والتساؤلات، هناك منهجان لحركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، كانا قد نوقشا منذ البداية وفي اجتماعاتنا التمهيديّة ... المنهج الأول : وهو أن نصدر "مانيفستو "، بياناً مفصلاً أو برنامجاً شاملاً نعبّر فيه عن رأينا ، طبعاً بعد نقاش بين الأعضاء ، في شتّى الموضوعات والمفاهيم المطروحة علينا ، من موضوعات الديمقراطيّة والثقافة والحوار والتغيير والطائفيّة والنظام السياسيّ ... إلخ ، إلخ ... ونحن جديرون ، في ما أعتقد ، بإصدار هذا النوع من البرامج الثقافيّة الوطنيّة والاجتماعيّة العامة ... فهناك من ضمن أعضاء المؤسّسين لحركة الحوار ، اختصاصيون في مختلف المجالات العلميّة والثقافيّة والسياسيّة .
والمنهج الآخر ، وهو يتلخص في طرح مفاهيم مبدئيّة أساسيّة والاتفاق حولها ، وطرحها للنقاش العام ، وإشراك مختلف التيارات الثقافيّة والفكريّة للتفكير معنا فيها ، والاستماع إلى مختلف الآراء ووجهات النظر المتنوّعة ... لقد وضعنا أكثر من عشرين موضوع للنقاش ، يجب علينا أن نقوم ببحثها خلال هذا الموسم الثقافيّ ونعالجها في ندوات ضيّقة كهذه الندوة ، وإشراك معنا طاقات وإمكانات ثقافيّة متنوّعة... نحن كحركة حوار ديمقراطيّ ، ونقولها بصراحة متناهية، لم نتكوَّن بعد.. ونقولها بالفم الملآن وبتواضع كلّي : نحن حركة حوار في طور التكوين ... مفاهيمها المختلفة ومن كلّ الوجوه تتكون طبيعياً وتدريجياً وبمشاركة كثيرين من المثقّفين ، تتكوَّن هذه المفاهيم علمياً وعملياً والتصاقاً بالواقع الحيّ وبدون أستذة أو فوقية، وهي نابعة وصادرة من هذه اللقاءات الثقافيّة الحواريّة. وهي كما ترون مسجلة بأمانة كليّة ... وقد أعطينا لأنفسنا سنة أيضاً ، حتى نأخذ وقتنا الكافي ونحضّر تحضيراً كاملاً لعقد المؤتمر التأسيسيّ الأول . عند ذاك ، سنقوم بتقديم وعرض ومناقشة خلاصة هذه الجلسات الثقافيّة ، وهذه المواضيع وهذه المناقشات الممتدة على مرحلة زمنيّة طويلة ، في برنامج مفصل وشامل لمختلف قضايا مجتمعنا اللبنانيّ داخلياً وخارجياً ويكون هذا البرنامج تعبيراً ليس عن رأي فرد أو عدد من الأفراد ، وإنّما حصيلة حوارات متعدّدة الآراء ، وتعبّر عن الواقع واعتماداً على مشاركة مختلف الإمكانات الفكريّة والطاقات الثقافيّة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) مداخلة الدكتور مصطفى دندشلي ، في الملتقى الثقافيّ الثالث (المناقشة العامة)، الذي أقامته حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، في قاعة محاضرات مركز صلاح الدين التربوي (مدوخا ـ قضاء راشيا)، بتاريخ يوم الأحد الموافق في 29 تموز 1994 .
2) أنظر : " في مفهوم الحوار والحوار الديمقراطيّ في لبنان "، بحث قدّمه الدكتور مصطفى دندشلي في "الملتقى الثقافيّ الأول "، 10 نيسان 1994 ، والمنشور في ( " الكتاب الأول "، منشورات حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، شباط (فبراير) 1995، ص 87 ـ 99).