الشـامـان
شخصيات /
دينية /
0000-00-00
الشـامـان
الشامان ( Chaman ) : زعيم دينيّ له خصوصيّة ، وتعود أصوله إلى الاتنيات في آسيا الشماليّة . وهو يعتبر وكأنّه يمتلك قوى فوق ـ طبيعيّة ، تسمح له بأن يمارس الكهانة والشفاء، إلخ ... إنّ أصل الكلمة " الشامان " ( Chaman )، يصدر من لفظة في لغة "التانغوز" (Toungouse ) في سيبيريا . وهي إحدى المناطق حيث إنّنا نجد الشكل الكلاسيكيّ لـ"الشامانيّة " ( la chamanisme ). ولقد لوحظ أنَّ ثمّة أشكالاً عديدة من الشامانيّة موجودة في بعض المجتمعات البدائيّة المنتشرة في أنحاء العالم : في آسيا الوسطى ، في أميركا الشماليّة ، وفي مناطق المحيط (الأقيانوس ) .
هذا وإنّنا نلاحظ أحياناً ظاهرات الشامانيّة في الدين ذي الثقافات الأكثر تنظيماً كالدين الصينيّ أو الديانة اليابانيّة ، غير أنّنا لسنا متأكدين من وجود ارتباط هذه الأديان مع الشامانيّة.
وإذا كان الشامان ( Chaman ) في إمكانه أن يحصل على مقام أو نظام دينيّ عن طريق الوراثة أو الاكتساب الشخصيّ أو الموهبة أو الإلهام الربّانيّ ، إلاّ أنّ الاعتراف من قِبَل الجماعة أو الإقرار لهذا الفرد ، يلعب دائماً دوراً أساسياً في ارتفاعه ورقيّه إلى هذه الحالة الجديدة . ويكون الشامان بصورة عامة رجلاً ، وبخاصة وسيطاً أو ناطقاً باسم الأرواح الذين أصبحوا شياطينه ، الأليفين له ، وذلك عند تدريبه وتعليمه ( الأسرار). وفي أثنائها يخضع لصوم طويل وعزلة وتجارب أخرى توصل إلى رؤى وأحلام كثيرة . يتبع ذلك عمليّة تكوينه وتأديبه من قِبَل مجموعة من الشامان الخبراء المجربين .
إنّ الوظائف الدينيّة الأساسيّة لأيّ شامان هي الشفاء والكهانة . وهي وظائف يمكن القيام بها ، إمّا عن طريق ربوبيّة روحيّة وإمّا ارتفاع روح الشامان نحو السماء أو إلى جهنم . وهناك روايات وقصص كثيرة حول البعث الإعجازيّ الذي يقوم به الشامانيون في بلد الأموات ، لكي يجلبوا معهم ويعودوا بروح الميّت . وفي إمكان الشامانيين وفي مقدرتهم أيضاً أن يتنبأوا بحلّ أيّ قضيّة أو موقع العدو أو الطريق المثلى لحفظ المواد الغذائيّة أو لزيادة الإنتاج . كما أنّ الشامانيين باستطاعتهم أن يحتلوا مرتبة اجتماعيّة أو اقتصاديّة مرتفعة ، خصوصاً إذا كانوا من أولئك الذين يحسنون الشفاء جيّداً .
لقد جرت محاولات عديدة لشرح وتفسير ظاهرة الشامانيين وأساليبهم في الشفاء . إنّ بعض العلماء أقام متوازياً بين عمليات الشفاء والتحليل النّفسيّ ، وانتهى إلى نتيجة وهي أنّه في الحالتين اعتمدت رموز ناجعة وعلاجيّة التي تُحدث نوعاً من الارتياح البسيكولوجيّ والشفاء الفيزيولوجيّ . لقد رفض كثير من الأنتروبولوجيين النظريّة التي تقول إنّ الشامانيين قد يكونون في الأساس عُصابيّين ، بل قدّموا الفرضيّة التي تزعم أنّ الشامانيّين قد يمتلكون بعض الطاقات المعرفيّة ، أعلى بصورة واضحة من طاقات باقي الجماعة . وعلماء آخرون يفسّرون الشامانيّة كما لو أنّها في أساس نسق دينيّ أكثر تنظيماً أو أنّها تقنيّة للوصول إلى حالة من النشوة أو الاختطاف الروحيّ .
هـذا من جهـة ومن جهة أخرى ، يأتي اسم الشامانيّة (la chamanisme ) من نمط شخصيّة دينيّة . والشامانيّ يبدو بادئ بَدء ويظهر عن طريق علامات سلوك مميّز وشخصانيّ في آن ، يُعرف تحت اسم " الارتعاد والإثارة " : وهو عبارة عن قفزات ، وصراخ ، وحركات وإشارات وأحياناً ارتجاجات ، يتبع جميعَ ذلك عموماً وقوعٌ في الجمود والقصور . وهذا السلوك يختلف من شامانيّ إلى آخر ، ومن حالة إلى حالة بالنسبة لكلّ واحد .
وهذا شيء غريب كلّ الغرابة بنظر المراقبين المسيحيّين المعتادين على موقف دينيّ عبارة عن خلوة مع الذات والعودة إليها . وينسب هذا السلوك من قِبَل المجتمعات المعنيّة بالأمر إلى الاتصال المباشَر بالكائنات الفوق ـ طبيعيّة ( الماورائيّة ) أو الأرواح .
فإذا كان هذا النمط من الشخصيّة إنّما هو خاصيّة المجتمعات القديمة (archaïque ) البائدة حيث وحده الموجود فقط ، ( المجتمعات السيبيريّة والأميركيّة الهنديّة بخاصة ) إلاّ أنّ هناك أنماطاً أخرى من السلوك والممارسات شبيهة بذلك النمط من الشخصيّة ، توجد أيضاً في كثير من الأماكن الأخرى في العالم ـ وإن كان ذلك بشكل جزئيّ ، محرّف ، مختلط بتأثيرات مختلفة (مسيحيّة ، إسلاميّة، بوذيّة) أو بصورة قريبة من الأشكال التي تَدَّعي بأنَّ فيها مسّاً من أرواح الجنّ أو الشياطين، حتى وإن كان ذلك فقط في مناسبات وغايات وأغراض هامشيّة.
وهكذا فإنّ عناصر شامانيّة كانت قد لوحظت سواءً كان ذلك في المجتمعات القديمة البائدة أم في بعض الأوساط الصناعيّة المعاصرة ( مثلاً في كوريا الجنوبيّة ). فتكون تلك الظاهرات، والحالة هذه ، والتي توصف بالشامانيّة ، كثيرة التنوّع بالنسبة إلى سياقها ومحيطها وأغراضها في حياة المجتمع ...
نسق التفكير
إنّ تنوّع ظاهرات الشامانيّة ، كان قد أدّى في دراستها ، إلى متغيّرات وتبدّلات متعاقبة كثيرة . هل هي دين ؟!… كما كان يعتقد علماء الاجتماع في القرن التاسع عشر . ولكن ، كيف يمكن الإحاطة بها ( الشامانيّة )، مع أنّها تخلو من أيِّ عقيدة دينيّة ، أو كنيسة أو رجال دين أو حتى من طقوس شبه عالميّة . كما أنّ الشامانيّة إنّما هي متغيّرة إلى أبعد الحدود من مجتمع إلى آخر ، كما من شامانيّ وشامانيّ ، وهي متلازمة مع نمط من الحياة بدائيّ ، ومهيّأة لأن تظهر إلى جانب الديانات الكبرى ، وعرضة في احتكاكها وإمكانها أن تتكيّف معها ( مع هذه الديانات )…
ميل أو استعداد نفسانيّ :
لقد حَسَم ذلك بعض الكتّاب في مواجهة فردانيّة الممارسة العمليّة : " ليس ثمّة دين شامانيّ، وإنّما فقط نوع خاص من الرجال الشامانيّين"، كما كتب فان ـ جنّب (Van Gennep) عام 1903 . ولكن ، هذا النوع من الرجال ، قد اعتبره البعض نمطاً مَرَضياً ، وذلك للتشابه في السلوك الشامانيّ مع بعض الأشكال الهستيريّة ، كما اعتبره البعض الآخر نمطاً من الكاريزما ، لأنّ الشامانيّ كان يبدو طبيعياً خارج الحالات الاحتفاليّة وفعاليّة طقوسه وتأثيرها. وإنّ المسؤوليات الكثيرة التي تُحمّلها له الجماعة التي ينتمي إليها : فكيف تولي إذن مصيرها إلى مجنون ؟…
غير أنّ التحليل النفسانيّ يقدّم الفرضيّة التالية وهي أنّه " مجنون شافٍ " : بما أنّ الشامانيّ بعد ذلك يتجاوز اضطراباته ، ويصبح جديراً بأن يداوي الآخرين ويعالجهم . إنّ انتصاره على المرض غدا مصدر الكاريزما . لكن ذلك يؤدّي إلى إغفال الوظائف الأخرى للشامانيّ : فهو لا يقوم فقط بالمداواة والشفاء ، وإنّما كذلك أيضاً بالأذى والضّرر : الحرب والمداواة هما متلازمان بين يديه ، في كثير من المجتمعات الشامانيّة . بالإضافة إلى ذلك ، فإنّ الديانات التبشيريّة قد حدّدت هُويّة الشامانيّة بمثابة اعتقاد دينيّ وحاربتها على هذا الأساس. " مارسيا إيلياد " ( Mircéa Eliade )، محاولاً أن يوفّق بين جميع النقاط ووُجهات النّظر السالفة في هذا الموضوع ـ وهو الكاتب الوحيد في يومنا هذا الذي كتب مؤلفاً عاماً حول هذه المسألة ـ رأى في الشامانيّة التجربة الدينيّة في حالتها الأوّليّة الخام ( وهو يعتمد على فكرة الصعود إلى السماء ، انطلاقاً من محور العالم )، وهو يعرِّفها بمثابة تقنيّة الاختطاف الروحيّ (بالمعنى الصوفيّ )، متآلفة مع جميع أنواع المعتقدات الدينيّة . فقد بسط هذا الكتاب وُجهة نظر صوفيّة للشامانيّة ، موجودة سابقاً في بعض المصادر المستخدمة والمطبوعة بالنّزعة الصوفيّـة ( le mysticisme ) الضمنيّـة والكامنـة في الديانة المسيحيّـة الروسيّـة الأرثوذكسيّة .
لقد انتشرت هذه النظرة في البلاد الغربيّة ، بسبب النجاح الواسع الذي حقّقه الكتاب ، لدرجة أنّه حُرّف أحياناً عن معناه : كذلك وبفضل تيار الهبّيّ في الستينات ( من القرن العشرين )، الذي أظهر حماساً هيستيرياً للتجارب الغريبة ، غدت الشامانيّة نموذجاً لـ" بحث شخصيّ " يمكن الحصول عليه بالتطبيق " للوصفات " المعيّنة : مثلاً اللعب على الطبل ، ومختلف حركات الجسد وتقنياتها أو تعاطي الهلوسات والمخدرات . وبهذا المعنى ، أصبح هذا النوع في أيامنا، غرض بعض المؤسّسات التجاريّة التي وُجدت وانتشرت في الولايات المتحدة الأميركيّة .
إنّ الشامانيّة (chamanisme ) بالنظر إلى الأنتروبولوجيا المعاصرة ، إنّما هي نسق من التفكير : فلا يمكن إذن اختصارها وحصرها في أفعال الشامانيّ وحركاته الرمزيّة ، حتى وإن كان هو صانعها الأساسيّ ، بل وفاعلها الوحيد . ومن جهة أخرى ، فإنّ الشامانيّة تنضوي تحت تعريف واحد ، هو نفسه في جميع مظاهره وجميع وظائفه . يمكن أن يُستخلص تعريف كهذا انطلاقاً من خاصيّات هذه الظاهرة وخصوصياتها في مجتمعات الصيد، ذلك أنّ حياة الصيد معترف بها اليوم بالإجماع ، على أنّها الإطار للشامانيّة وبامتياز . وقد بقي هذا التعريف واستمر على أنّه إطار أيديولوجيّ، حتى بعد اختفاء هذا النوع من الحركات. وهذه الصفات الخاصة ، المتغيّرة والمعدلة إلى هذا الحدّ أو ذاك ، يمكن بالتالي ملاحظتها ورصدها في أنماط أخرى من المجتمعات .
شامانيّة الصيد : تبادل مع قوى فوق ـ الطبيعة المغذيّة
والواقع ، أنّ الشامانيّة ، في المجتمعات الكلاسيكيّة التي يُنظر إليها على اعتبارها شامانيّة ، مرتبطة أشدّ الارتباط بالصيد : وظيفتها الأساسيّة ضمان استمراريّة الحياة ، بخضوعها لقواعد الحصول على الغذاء ، وإلزامها ( الشامانيّة ) بنظام يخفّف من عوارض ظهورها ويسمح بامتلاكها ( استمراريّة الحياة ) من قِبَل الإنسان . تلك هي الوظيفة الثابتة والجوهريّة . وهذه الوظيفة ترتكز على مفهوم أنّ الكائنات الحيّة الطبيعيّة التي منها يتغذى الناس جميعاً ( طريدة ، سمك ، نبات ) إنّما تحركها ( هذه الكائنات ) الأرواحُ التي هي بالنسبة إلى الحيوان أو إلى الأشجار، كما هي روح الإنسان بالنسبة إلى جسده. فهي (الوظيفة) تستند إلى إقامة العلاقات واستمراريتها مع هذه الأرواح لكي تجد منفذاً إلى الأرواح الطبيعيّة ، والتي هي تُحييها وتُحركها ( وبكلام آخر، إنّها (الوظيفة) تقوم على أساس التأثير رمزياً فيما هو فوق ـ الطبيعة (الماورائيات)، وينظر إليها كما لو أنّها تحرك الطبيعة وتحييها ، وذلك بغية العمل على زيادة هذه الثروات الطبيعيّة .
إنّ هذه العلاقات بين عالم البشر والعالم الخليط ، الخليط من الحيوانات والأرواح ، تفهم على صورة علاقات الناس فيما بينهم . وهكذا ، فإنّ امتلاك الغذاء والحصول عليه (امتلاك الشامانيّ رمزياً وامتلاك الصياد واقعياً : والأول يشترط الثاني )، إنّما يستلزم بالضرورة ، ككلّ امتلاك ـ عدا كونه غير شرعيّ ويثير ردّات فعل ثأريّة ـ أن يكون قائماً على أساس علاقة متبادلة ومعوَّضة بمقابل . وبحسب هذا المنطق ، فإنّ كلّ عالم من العوالم إنّما هو طريدة لعالم آخر : وكما أنّ البشر تأكل لحم الحيوانات ، فإنّ أرواح الأجناس المتوحّشة هي أيضاً مخوّلة أن تفترس لحم البشر وتشرب دماءهم . وإنّ تجدّد الأجيال البشريّة إنّما هو شرط لعودة ظهور الطريدة من جديد . هذه هي الإدارة العامة لهذا التبادل المنوط بوظيفة الشامانيّ .فإذا كانت النقطة القويّة والتي لها الكلمة الأولى ، هي الامتلاك ( الحصول على الطريدة بمعنى الغذاء )، فإنَّ العودة إلى ما هو مقابل ( عن طريق إعادة إنتاج البشر وموتهم ) إنّما هي أيضاً من مسؤوليّة الشامانيّ وصلاحياته . إنَّ هذا التبادل ينتظم انطلاقاً من اتفاق ، بل وحتى من علاقة تحالف حقيقيّة مع القوى فوق الطبيعيّة ( الماورائيات ).
ففي مجتمعات سيبيريا الأصليّة (في حالتها التقليديّة السابقة على المرحلة السوفياتيّة)، يبدو الأكثر بروزاً هذا النوع من علاقات التحالف ، وهو خليق في أن يوضّح المبادئ الجوهريّة والأساسيّة للشامانيّة ، والتي هي في الأماكن الأخرى الأقل ظهوراً وتحديداً : وهذا التحالف ( مع القوى الماورائيّة ) إنّما هو هنا من النمط الزواجيّ . ويقتني الشامانيّ في اختياره الزوجة ، من عالم كثير الغذاء . كذلك ، فهو يتزوج من ابنة روح ( جن ) تعطي الغذاء ، روح تُدعى عموماً روح الغابة ، وتُتصوّر على شكل من الحيوانات اللبونة من المجرّات ، وهي غذاء بامتياز ، أو زوجة من أرواح المياه ، وهي تعطي سمكاً غزيراً .
وإنّنا نعتقد أنّها ( الزوجة ) هي قد " اختارته " زوجاً . وبما أنّها تبقى حيواناً في علاقتها الزوجيّة مع الشامانيّ ، فإنّه هو الذي ينبغي عليه أن يلتحق بها . فيجب عليه إذن أن يذهب معها إلى ما وراء ـ الطبيعة . فهي التي تهيئ له " الرحلة " وتسهيلها ، والتي تتجسّد في طبلها (مُعتبراً بمثابة " ظبيّ "، أو مركب ، إلخ …)، وتنقل معها زوجها ، بكلّ ما تعني الكلمة من معاني .
كما أنّ الزوج ، يجب عليه أيضاً أن يتحوّل إلى حيوان، وهذا ما يعبّر عنه في لباسه ( رداء من جلد الحيوان، إكليل من الأشجار مع قرنا ظبيّ ، إلى غير ذلك )، والظهور بمظهر المتوحّش في سلوكه الطقوسيّ : فهو يمثّل إيماءً ، بقفزات كبيرة قويّة ، إخراج أصوات الحيوانات ، إبداء عنف الذَّكر ، والعدوانيّة الحيويّة في هذه المناسبة ، والمزاوجة والسفاد أو المزاوجة الجنسيّة ، مقلداً الرجولة المزدوجة لمثاله و نموذجه الحيوانيّ، والذي يُخضع امتلاكه الأنثى وينيطه بانتصاره على الذَّكر الآخر المنافس له ( وأغصان الشجر هي كناية عن السلاح).
وإنّ مفردات الشامانيّ وكلماته وأفعاله مرتبطة بصورة واضحة بنوع الحيوان الذي يتمثله ، أو بالقفزات والنطح وضربات الرأس ، التي هي كذلك نموذج " للرجولة " الجنسيّة والحربيّة على حدّ سواء .
هذا المنظور للزواج يرتبط عادة بما سيقرر مهنة الشامانيّ وعمله : أي مجموعة السلوك التي تبدو في سن المراهقة ، وتُفسّر عن أنّها التعبير على الدخول في احتكاك مع عالم الأرواح . هذا السلوك ، الذي يُعرف تحت اسم " مرض التعليم والتدريب "، هو متشابه وفي متناول أيّ مراهق، ذلك لأنّ كلّ واحد له الحقّ في أن " يحب " سواءً أكان فيمن وراء الطبيعة أم على الأرض . فقط الشامانيّ ، هو ملزم في " أن يتزوج " على هذه الطريقة ومن هذه الأماكن (فوق ـ الطبيعة)، وذلك تحت طائلة العقاب المميت من قِبَل الأنثى الروحيّة التي "اختارته ". إنّ المهنة تَتحدّد على أساس استعداده الفرديّ والضرورات السوسيولوجيّة . ومع ذلك فإنّ الحدود تبقى دائماً غامضة بين الشامانيّ والرجل العاديّ : يمكن للشامانيّ أن يفقد صفته كشامانيّ ، إذا ظهر أنّه غير جدير بذلك . أمّا الجاهل الدنيويّ ( غير الروحيّ ) فهو متحرّر من أن يقوم بأعمال الشامانيّ وغير ملزم بها ، بمعنى أن لا يُنشِد ولا يرقص للأرواح، ولكن يفعل ذلك لذاته ولشخصه ، دون أيّ دور اجتماعيّ . ولكن يمكنه أن يرى ممارسته الشامانيّة تؤخذ بعين الاعتبار من قِبَل جماعته .
أمّا بالنسبة إلى المرأة ، فهي باستطاعتها أيضاً أن تغدو وتكون شامانيّة ، وذلك بفضل حبّ روح حيوانيّة ( ممّا يؤدّي إلى الجنون وإلى الموت )، ولكن عن طريق تواطئ روح أحد الأموات . إنّ وظيفتها هي بوجه خاص التنبؤ والكهانة ، بهدف رأب الفوضى وإصلاحها . ولكن ، على أقلّ تقدير ، لا تستطيع المرأة الشامانيّة أن تقوم بالطقوس المعتادة للحصول على الغذاء ، وهو النمط الوحيد الثابت للطقس الشامانيّ : فالذَّكر هو الشامانيّ المثاليّ لحياة الصيد ، والذي يعطي قيمة لذلك .
يحصل الشامانيّ، من قِبَل زوجته الفوق ـ طبيعيّة على وعود من الغذاء (أو السمك) من أجل جماعته ، " الحظّ " الذي ينبغي أن يتجسد ويتحقّق على شكل حيوانات تصيبها سهام الصيادين بسهولة ، حاملة إليهم المبدأ الحيويّ أو " قوّة الحياة ". إنّ دور الشامانيّ إنّما هو القيام بالطقس السنويّ لـ" تجديد الحياة "، والذي يعيد تنشيط زواجه ويضمن له النجاح في الصيد في الفصل القادم، في آنٍ معاً . وهكذا ، لاعباً على الصعيد الرمزيّ دور الذَّكر العاديّ، فإنّه يأخذ المرأة ويختارها فيما وراء الطبيعة ، حتى يستطيع بالنسبة إلى الصيد ، أن ينال ما يحتاج إليه لكي يعيش . ويساعده في ذلك أرواح معاونة إضافيّة ، تأتيه بفضل زوجته ، وتكون له بمثابة دليل أو مطارد الفريسة ، لكي يتمكن من اصطيادها ، وذلك مثل ما يقوم بذلك ابن عمه ، أخو الزوجة ، في حالات الصيد الحقيقيّة . غير أنّ قانون التبادل يلزمه أن يقدِّم مقابل ما أخذه وما استولى عليه . وهو نفسه الذي يردّ ، بتقديمه في النهاية إلى ما وراء الطبيعة الحيوانيّة ، قوّة حياته الخاصة : ضمن الإطار الطقوسيّ ، وبعد إثارته موجة من الهيجان التوحشيّ ، يقع كما لو أنّه ميت ، محقّقاً بذلك ، بذات شخصه، كامل دائرة التبادل بين الإنسانيّة وما فوق الطبيعة .
وهكذا فهو محكوم بأن يضطلع حتى النهاية بمصير النموذج الحيوانيّ الذي نما معه بداية بالرجوليّة الذّكوريّة : فيجب عليه ، مثله ، أن ينتهي في طريدة غذائيّة . إنّ الشامانيّ ، حتى يقوم بطريقة مشروعة وناجعة ، ويحقّق صراعه فيما فوق ـ الطبيعة ( الزوجة ، وقوّة الحياة )، كما وكأنّه في المقابل يعود إليها ( جاعلاً من نفسه غذاءً لها ) ينبغي على الشامانيّ في آنٍ معاً أن يحترم القواعد الموضوعة وأن يستخدم الإغراء والحيلة ـ ذلك أنّ فنَّه كلّه هو أن يستحوذ على أكثر ما يمكن أخذه وبالسرعة القصوى الممكنة ، وأن يؤدّي أقلّ ما يمكن ويؤخّر إلى أقصى أجل ممكن . إنّ هاتين الطريقتين الإلزاميتين من الإجراء ، تنعكسان على الشامانيّ الطقوسيّ الذي يندرج في إطار مقنّن ، ولكنه يجري بحسب ميوله الشخصيّة ...
شامانيّة (chamanisme ) تربية الماشية : التبعيّة للأموات
بقدر ما تتقدم تربية الماشية أو الزراعة على الصيد ، يبدو تطوير إدارة الأرواح البشريّة والعلاقات مع الأموات ، تميل إلى أن تتقدم في نشاط الشامانيّ على العلاقات مع أرواح الحيوانات . هذه هي الحال في المجتمعات الريفيّة والرعويّة في سيبيريا ، حيث يلاحظ أنسنة الأرواح المسؤولة عن المواد الغذائيّة... ذلك لأنّ الحياة بداية تتعلق عندئذ أكثر بالعوامل الاجتماعيّة ( ملكيّة أراضي الرعي أو حقول الزراعة ) منها بالعوامل الطبيعيّة (المطر).
وفي الوقت نفسه يميل نظام العالَم ( الشامانيّ )، ويتحول من المحور الأفقيّ إلى المحور العاموديّ . فالقطب الأعلى يتجه من قمّة الشجرة إلى الجبل ، ومن ثمّ يجاور السماء ، في حين أنّ القطب الأدنى يغوص في باطن الأرض . إنّ اتجاه " أسفار " الشامانيّ ، صعوداً أو هبوطاً مستقبلاً ، يعكس هذه الطريقة العاموديّة ، الفوقيّة أو التحتيّة .
ومن جهة أخرى من العالم ، وفي المجتمعات المعروفة كلياً أو جزئياً شامانيّة، توجد أيضاً المبادئ نفسها ، مرتبطة بعضها بالبعض الآخر ، مع كونها غالباً ما تكون بطريقة ما مختلطة ، متداخلة ، مع كلّ أنواع الفروقات (nuances ) في التعبير . لكن القاعدة الأساسيّة تبقى هي نفسها : إنّ الحصول على المواد الغذائيّة يتعلق بإجراء عقد مع الأرواح التي تحكم الكائنات الطبيعيّة ، وأنّ هذا العقد يعتمد على التبادل بين العالمين حيث كلّ واحد منهما يغذّي الآخر، بطريقة مباشَرة أو مداورة بحسب المجتمعات . إنّ مفهوم التبعيّة أو الارتباط المتبادل بين المجتمع البشريّ والأنواع الطبيعيّة ، وهو مفهوم شائع في الإتنوغرافيّة الأوستراليّة ، يمكن أن يُعتبر بمثابة متغيّر . هذا المبدأ ينسحب في كلّ مكان (من المجتمعات الشامانيّة) على مفهوم العلاقة الضروريّة بين الموت والحياة ...
يُنظر إلى الموت في هذه الحالة والتعامل معه ، كما لو أنّه يضمن استمراريّة التبادل بين المجتمع ووسطه الطبيعيّ ، وذلك بفضل هذا النوع من إعادة تأهيل قوّة الحياة في حالة الموت ... وإنّ الأرواح الأساسيّة والرئيسة ، يُنظر إليها في معظم الأحيان على أنّها تعطي الموت ، بقدر ما تعطي الحياة . لا شيء ، على أقل تقدير ، كلّه حسناً أو كلّه لعنة ...
إنّ فكرة الزواج ، المرتبطة بفكرة العقد مع الطبيعة أم لا ، أو على الأقلّ بفكرة حميميّة الشامانيّ مع إمرأة واحدة أو أكثر ، نجدها في كندا ، كما لدى بعض الشعوب في جنوب شرق آسيا. إنّ هذه المرأة التي عُرفت في معظم الأحيان في الحُلم، هي التي تجعل من الرجل شامانيّ والتي تعطيه قوته . فإذا كانت العلاقة الزوجيّة معكوسة ـ كون الروح هو الزوج ، والإنسان ( سواءً كان رجلاً أم امرأة ) الزوجة ، فإنّنا نتحدث عندئذ عن اختطاف (روحيّ بالمعنى الصوفيّ ) أكثر ممّا نتحدث عن الشامانيّة ، كون المخطوف أو المسكون (روحياً)، مهما كان جنسه ، يُنظر إليه ويفهم على أنّه في موقع إمرأة … ذلك أنّ وظيفة الشامانيّ تستلزم دائماً حلف فرديّ مع الأرواح التي تتمظهر بصورة كائنات طبيعيّة ، بمعنى الحب أو الصداقة ...
طريقة لإدارة الظروف الاحتماليّة والاتفاقيّة
إنّ وظيفة الشامانيّة ، عَبْر تظاهراتها المتنوّعة ودرجات مثاقفتها بعضها مع البعض الآخر ، يمكن أن توصف بمثابة إدارة الظروف الاتفاقيّة أو المصادفويّة (من المصادفة)، وهي تتحقّق عن طريق العلاقات العقديّة مع شركاء فيما فوق الطبيعة . إنّ الصفة الاتفاقيّة أو المصادفويّة ، إنّما هي في الواقع النقطة المشتركة بين جميع الظواهر حيث عمل الشامانيّ كهدف له هو إظهارها وإبرازها ، وذلك بحسب هذا العمل يكفل إنتاج المجتمع أو إدارة فوضاه وتقلباته : الغذاء ، المطر ، الخصوبة ، الصحّة العقليّة (وذلك بوجود الروح في الجسد )، عدم تعرضه لسلاح الأعداء، اكتشاف الأشياء المفقودة، الحظّ في الحبّ ، في اللعب ، في الأعمال، في الامتحانات ، نجاح في الانتخابات . إنّ شكل قراءة الغيب للفعل الشامانيّ ، لا يتأسّس في معرفة المستقبل ، ولكن جعله أن يتطابق مع المعايير والقواعد الموضوعيّة ، أو أن يكون هذا المستقبل قابلاً للمعالجة ...