النظام الديمقراطي والحرية الحزبيَّة
دراسات /
سياسية /
2001-01-02
النظام الديمقراطي والحرية الحزبيَّة
إن السؤال الذي يُطرح في هذا المجال هو التالي: لماذا تزايد هذا الاهتمام أو هذا الميل العام لدى المثقفين والحزبيين إلى الاهتمام الآن بالمسألة الحزبية وبالظاهرة الحزبية وبالعملية الحزبية؟! إنّ الاهتمام البادي في هذه المرحلة السياسية الراهنة بالظاهرة الحزبية والسعي إلى نقد التجربة الحزبية ودراستها، إنما يعني فيما يبدو هذه الرغبة في البحث للخروج من الأزَمْة السياسية المُطْبِقة والخانقة التي يمرّ بها نظامنا الحزبي ـ السياسي، ويعني بالتالي إعادة النَّظر بالديمقراطية وبمستوى التطور السياسي للديمقراطية في البلد، وبذل الجهد أقله عن طريق الفكر والبحث الفكري والمعرفي، من أجل إعادة بناء النظام الديمقراطي الحقيقي، غير المشوّه في لبنان.
فإذا كنا حقيقة وفعلاً ديمقراطيين، فهذا يعني أيضاً وفي الوقت نفسه، أننا نؤمن بجدوى الحزبية وضرورتها ونؤمن كذلك بالتعدّد الحزبي ونسعى إلى تحقيقه في نظامنا السياسي والمجتمعي الذي هو تعدّدي اجتماعياً "وطائفياً"..
فالمجتمع الديمقراطي، وبالتالي النظام الديمقراطي إنما هو ملازم حكماً لوجود الأحزاب السياسية والتعدّد الحزبي وللحرية الحزبية وللحريات العامة على وجه الخصوص. فلا يمكن أن يكون ثمة نظام ديمقراطي حقيقي، دون توافر وجود الحرية الشخصية، والحريات العامة: حرية الرأي والمعتقد والتعبير في القول والعمـل، وبالتالي دون وجود الحرية الحزبية، وتعدّد الأحزاب، لماذا؟.. لأنه ـ وكما نعلم جميعاً ـ هنالك تلازم وتفاعل وعلاقة جدلية بين مفاهيم الديمقراطية والحرية الحزبية في النظرية وفي التطبيق العملي على حدٍّ سواء. فالديمقراطية تعني هنا، في ما تعنيه لنا: العدالة السياسية والاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص والمشاركة الحقيقية والحريّة الشخصية والحريات العامة وحقوق الإنسان بعامة، إلخ..
وهنا أسمح لنفسي أن أستطرد قليلاً وأن أبديَ ملاحظة سريعة وهي أن معظم الأنظمة السياسية في العالم، إذا لم يكن جميعها، وفي العالم الثالث بصورة عامة والبلاد العربية في المقدمة، يعلنون انتسابهم، بطريقة أو أخرى، إلى المبادئ الديمقراطية وانتمائهم إلى "الأنظمة الديمقراطية البرلمانية" التي يعتمدون فيها شتى أشكال الانتخابات وأنواعها، وبمشاركة "الشعب" أو مختلف قطاعاته وشرائحه الاجتماعية القائمة، سواءً أكان ذلك في الأنظمة المَلكية، أو الجمهوريات الرئاسية أو المجلسية أو البرلمانية. كما أنّ كثيراً أم قليلاً من الأنظمة الديكتاتورية والأتوقراطية تسمح في أنظمتها السياسية المختلفة وبشكل ظاهـريّ ونسبيّ وتحـت المراقبة "بحريـة" قيام شكل من أشكال الأحزاب والتعدّد الحزبـي، ولكن ضمـن إطار ما يسمى بـ "الجبهة الوطنيـة"، "أو السياسة الاستراتيجية" العامة للبلد، وتحت قيادة "الحزب الواحد" أو الحزب القائد".
فهذه الصِّيغ المتعدِّدة من صِيَغ الحكم أصبحت الآن لدينا معروفة تمام المعرفة، وذلك لتطبيقها سابقاً وكانت قد جُرّبت في بلدان الجمهوريات والأنظمة "الاشتراكية الشعبية" في أوروبا الشرقية، ولربما في غيرها أيضاً، وذلك في فترة طويلة نسبياً بعد الحرب العالمية الثانية… ولقد نُقل إلينا وطبقِّ عندنا هذا النموذج من الأنظمة السياسية "الوطنية والشعبية"، وكما تمَّ تطبيقه في كثير من بلدان أفريقيا وآسيا ومنها في بعض الدول العربية.. فنحن في الواقع، عندما نتحدث عن الديمقراطية والنظام الديمقراطي أو عن الحزبية والظاهرة الحزبية والتعدّد الحزبي، لا نقصد إطلاقاً هذا النوع من الأنظمة السياسية، حتى ولو كانت تسمى خداعاً أو قناعاً: "جمهورية (أو مَلَكية) برلمانية، ديمقراطية…"!!… فالتسمية في الواقع شىء، والتجسيد السياسي التطبيقي، شىء آخر…
والواقع أنّ الديمقراطية، أو النظام الديمقراطي الذي نعنيه ونقصده، الديمقراطية الحقيقية التي نسعى إليها ونعمل من أجلها، إنما هي تعني من جملة ما تعنيه: توفير الوسائل الضرورية اللازمة، والشروط الأساسية، المادية والاجتماعية، المعنويـة والسياسية والثقافية، حتى يستطيع الشعب فعلاً لا قولاً، وبمختلف فئاته الاجتماعية وتياراته السياسية المتنوَّعة، أن يعبّر عن حريته الشخصية والحريات العامة، عن حريته في القول والرأي وطموحاته المشروعة دون قيد من أيّ نوع كان.
والأحزاب وحرية الأحزاب وتأسيسها وتعدّدها، إنما هي الوسيلة التي تمكّن الشعب والمواطنين جميعاً، على مختلف طبقاتهم وفئاتهم الاجتماعية، أن يشاركوا وأن يشعروا فعلاً أنهم يشاركون في "السلطة السياسية"، في مستوياتها التشريعية والتنفيذية، وفي اتخاذ القرارات الأساسية، خصوصاً تلك التي لها علاقة بمصالحهم وطموحاتهم، وذلك عن طريق قيام الأحزاب وحريّة نشاطها وعملها، بما أنّ الحزب، أيّ حزب، إنما هو تعبير عن مصالح فئة اجتماعية، حتى لا نقول "طبقة"، أو مجموعة فئات اجتماعية معيّنة في البلد، وعن طموحاتها السياسية ومُثُلها العليا.. فتعدّد الأحزاب السياسية، بهذا المعنى، يعني في الوقت ذاته تعدّد تلك الفئات والشرائح الاجتماعية في المجتمع السياسي: تعدّد أو تنوّع أو اختلاف أو تناقض تلك القطاعات الاجتماعية في مصالحها وطموحاتها السياسية.
إن المجتمع السياسي، أيّ مجتمع سياسيّ، هو عبارة عن مجموعة شرائح اجتماعية، فئات اجتماعية معيَّنة، (وأحياناً طبقات اجتماعية محدّدة، بحسب تطور المجتمع وتقدمه اقتصادياً أو صناعياً أو كليهما) في مراحل معيَّنة من مراحل التطور التاريخي، هذه الشرائح الاجتماعية المتنوعة، إنما مصالحها مختلفة، بل وأحياناً تكون متضاربة وأحياناً متناقضة فيما بينها. من هنا نرى أهمية فسح المجال لوجود التعدّد الحزبي، حتى يكون تعبيراً حقيقياً وديمقراطياً عن هذا الواقع الاجتماعي في بنيته الاقتصادية وتكوينه الاجتماعي، وضمن خصوصيته الثقافية المعيّنة.
هذا، ومن جهة أخـرى، فإذا كان، كما قلنا، ثمة علاقـة جدلية بين الديمقراطية وحرية العمل الحزبـي، فالاهتمـام الذي ينصبّ الآن في دراسة الأحزاب السياسيـة إنما هو من أجل التحضير لإعادة بناء المجتمـع السياسي ولقيـام نظام حزبي حقيقي ومستقبلي، مستوحياً في تكوينه دراسة التجربة الحزبية السابقة، ونقـدها نقداً علمياً وموضوعياً و"ديمقراطياً"، بمعنى توافر الحريـة السياسية، الماديـة والمعنويـة وبمشاركة كل القوى السياسية التي لها مصلحة حقيقية في قيام النظام الديمقراطي.