د. دندشلي - تاريخ حزب البعث - الدكتـور علـي جابـر(1)
مقابلات /
سياسية /
1987-01-29
المقابلة الأولى مع
الدكتـور علـي جابـر
بتاريخ 29 كانون الثاني 1987
الموضوع: تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي
في لبنان، من خلال التجربة الذاتية…
أجرى المقابلة والتحرير: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … د. علي جابر، إنني سعيد جداً لمقابلتك ولقائك كي نتحدث عن تجربة تخصُّك أنت شخصياً وتخصُّني معك أيضاً، أعني بها تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان بشكل خاص وتجربتك الشخصية في حركة البعث العربي منذ البدايات الأولى. فأودُّ قبل أن نتحدث عن هذه التجربة الحزبية بالتفصيل، أودُّ لو سمحت أن تُقدِّم لي "بطاقة هُوية"، في ما يتعلق بالولادة والدراسة والمراكز الحزبية التي شغلتها، إلخ..
ج: … أولاً، أحيِّي فيك هذا النشاط الدؤوب والمستمر، الذي يمكن أن يُغني هذه التجربة الحزبية ويفيد الرأي العام العربي. كلُّ أمةٍ لها تجارب، وبمقدار ما يُستفاد من هذه التجارب، بمقدار ما تسلم الطريق من الأخطاء في المستقبل.
وفي ما يتعلق بي شخصياً، فأنا من مواليد الجنوب اللبناني، من النبطية، في عام 1923. قضيت دراستي الأولى في المدارس الحكوميّة. ثمَّ انتقلت لدراستي الثانوية إلى بيروت، في مدرسة حوض الولاية سنتَين، وفي كلية المقاصد في بيروت ثلاث سنوات. وبعد ذلك، كنت على وشك أن أدخل دار المعلمين، وهي الطريق التقليديّة لأبناء الجنوب في تلك الفترة، والتي هي أقرب تناولاً. إنما كنت نوعاً ما محظوظاً، إذ إن أخي الذي هو أكبر مني سناً مباشرة، تخرج من دار المعلمين، ولم يتسنَّ له أن يتابع دارسته بسبب أن أخاه الأكبر كان وصيّاً علينا، ذلك أن والدنا كان قد توفي في سنة 1929، وكنا صغاراً وأيتاماً. فأخونا الكبير كان وصيّاً علينا، ووَليَّ أمرنا. وباعتبار أن أخي الذي هو يكبرني كان قد تخرج من دار المعلمين، وذاق لذة العلم، فأحب أن أتابع أنا دراستي. فذلك كان مُفترقَ الطرق في حياتي، بعد تخرجي من المقاصد في بيروت. أي بين أن أعمل معلماً وبين أن أكمّل الدراسة. وكان تخرجي في العام 1943 ـ 1944.
فأذكر أنه في مرحلة الدراسة الثانوية، كنت في صف البريفيه في حوض الولاية، وفي السنة التي دخل فيها الجيش البريطاني للبنان، كنا نعاني بالفعل، من الحاجة المادية. لذلك أذكر أننا حضّرنا امتحاننا تحت "لمبة" كهرباء الشارع، وكنا نستنير بمصباح الكاز في المصيطبة في بيروت. وكنا ننقل "الزوّادة "الأسبوعية مرتَيْن، بيدنا، من ساحة عَصّور إلى منزلنا في المصيطبة، أنا وغيري. نعم، حياتنا حياة كدح. وفي النبطية، كنت تلميذاً في أثناء السنة الدراسية، وأثناء الصيف كنت أعمل في مصلحتنا في "ميفدون". ومصلحتنا هي مصلحة زراعية: زراعة الحبوب وزراعة الدخان…
س: … هل العائلة كانت من ملاك الأراضي؟
ج: … عائلتي من العائلات ذات المِلكية الزراعية، إنما التملُّك في تلك الفترة، لم يكن يُنتج كثيراً. فكنت أشتغل في الصيف، وكنت مسؤولاً عن المحاصيل، عن تجميع المحاصيل، ومسؤولاً عن ورشة الدخان. يعني أنني لم أتمتَّع بطفولتي أو بحياة التلمذة، كما كان يمتَّع غيري، مثلاً، في الصيف: حياة كشفية، حياة نوادٍ. كلاً!… كنت أعمل. لذلك أعتبر نفسي أنني بدأت حياتي من "كَعْب" السُّلَّم، من أول درجة في السُّلّم. عايشت الفلاح وطريقة عيشه. عايشت مزارع الدخان وطريقة عيشه. وفي الوقت نفسه، عايشت حياة شبه المدن، في النبطية: النبطية شبه مدينة. وانتقلنا من النبطيّة لإكمال عِلْمنا في بيروت حيث أمضيت فيها خمس سنوات كما ذكرتُ آنفاً..
س: … طيّب، لو أردت أن أصنِّفك اجتماعياً، فهل أستطيع أن أقول إنك من عائلة أو من شريحة ملاكي أراضٍ زراعية؟!…
ج: … أنا أصنِّف نفسي أنني عشت حياةً فيها عذاب، مع تعقيدات اجتماعية، يعني شخصية petit bourgeois كما يقولون، أي برجوازي صغير، ولكني كنت أتعب كالكادح. هذا يعني أنني أعتبر أنه كان هناك نوع من الازدواجية في حياتي وفي صغري: أي أننا كنا: لا معروفين فلاحين ولا معروفين إقطاعيين. مع الفلاحين نعيش مثلهم، مخلصين لهم، ولكن وفي الوقت نفسه، ينظر إلينا الفلاحون نظرة كملاّكين زراعيين..
وبعدما كبرت، رأيت نفسي أنني لم أعش الحياة الشعبية بفرحها بالكامل. مثلاً، ابن الفلاح ترى أن له تقاليده الخاصة، يعني الأعراس التي يعيشها، ونحن لم نعشها. نحن نتفرَّج من بعيد فقط، نحن "الجمهور" المتملِّك، نتفرَّج على الفلاحين، كيف يرقصون، ويفرحون.. إنما نحن لم نعش ذلك بالكامل، هذا النوعَ من الحياة. فكان هناك نوع من الازدواجية: هكذا أنا أحب أن أقيّمها. وهذه الناحية أثَّرت كثيراً في تطوُّر حياتي، هذه التربية غير المنسجمة مع الذات، بما أننا كنا من طبقة الوجهاء.
س: … طبقة الوجهاء هذه، ألم يكن لها حياتها الخاصة من حيث الرفاهية، النُّزهات، المسرّات..؟…
ج: … أجل، لقد كان لها حياة خاصة، وإنما ليست الحياة الشعبية الحقيقية. بمعنى أن حياة الوجهاء قائمة على المظاهر الخارجية أكثر. أذكر أن الواحد منا عندما يأتي إلى النبطية… والدتي من "ميفدون"، قرية بالقرب من النبطية، ووالدي من النبطية، فكنا نقضي الصيف في "ميفدون" في الحياة العملية، والشتاء نقضيه في النبطية.. فكان الواحد منا في صغره يستحي أن يلبس الثوب العمالي في النبطية. فكنا دائماً حريصين على الشكل والمظهر الخارجي. هذا ما أقصد أن أقوله إننا لم نكن منسجمين تمام الانسجام مع أنفسنا (في حياتنا العامة والخاصة). هناك ازدواجية. وهذا ما أثَّر في حياتي المستقبلية إلى حد ما. وفيما بعد، سآتي على ذكر تأثير ذلك في حياتي الحزبية…
فإذن، بعد أن تخرَّجت من كلية المقاصد في بيروت، أردت أن أدخل كلية الطب في بيروت. ولكون عائلتنا عائلة كبيرة عددياً، وليس فيها طبيب، فكانت الطموحات هكذا، طموحات الأعيان والوجهاء والرغبات العائلية: طب أو محاماة، محاماة أو طب. ونظراً إلى أنه كلية الطب في الجامعة اليسوعية، كان المطلوب خمسة وعشرين (25) طالباً لبنانياً ـ سورياً في السنة فقط، "كوتا"، ومع أنني كنت من الأوائل عندما تخرجت من كلية المقاصد، لم يتسنّ لي أن أدخل إلى الجامعة اليسوعية.
في ذلك الوقت، كان لي صديق يدعى ممتاز القادري من البقاع، والده طبيب قديم، الدكتور عبد القادر القادري. فلهم أقارب في الشام، فقال لي صديقي: تعال لنذهب إلى دمشق ونتابع دراسة الطب هناك. فذهبنا لأول مرة لهذا الهدف كي نقدم امتحان القبول Concours وندخل إلى كلية الطب في الشام. وبسبب أنه في دمشق التقدير للكفاءات لا غير، فقد نجحت في الامتحان. بعكس اليسوعية: فكان هناك تمييز، المطلوب أن يكون الواحد francophone.. فصديقي الذي أخذني إلى الشام، إذ كان أقاربه هناك، فشل هو في الامتحان وأنا نجحت "فَعَلِقْتُ (أي دخلت كلية الطب) في الشام.. هذه هي الظروف التي تلعب دورها في حياة الإنسان. وهذا الظرف قرَّر لي مصيري في عام 1944 من حيث المهنة في المستقبل ومن حيث حياتي السياسية (والحزبية).
س: … إذن، في دمشق وأثناء الدراسة، تعرفت على التيارات السياسية القومية العربية ومنها حركة البعث العربي..
ج: … في أثناء حياتي الجامعية، كذلك هناك تابعت دراستي بمستوى مادي بسيط. فكان يصرف عليّ أخي. وكان يرسل لي كل شهر مائة أو مائة وعشرين ليرة، فكنت أعيش بها بين سكن وأكل وشرب وغيره.. وهذه المبالغ كانت تسجل عليّ كديْن، ذلك أن إنتاج الأرض لدينا، لم يكن يعطي كثيراً.
ففي أثناء حياتي في كلية الطب في دمشق، تعرفت على أحد الأصدقاء في الصف ويدعى موسى أسعد رزق، (الوزير البعثي اللاحق مرات عديدة) وهو لا يزال طبيباً في دمشق حتى الآن… دخل معي في حوار، حوار فكري وسياسي. فأنا أخذت الجانب الاشتراكي الشيوعي، الاشتراكي الماديّ في نقاشي معه. ذلك أننا متخرجون من صف الفلسفة ومتأثِّرون بأستاذنا الدكتور حاكيتي الذي شرح لنا الاشتراكية العلمية ـ وهو فرنسي وكان يدرسنا الفلسفة الأجنبيّة باللغة الفرنسية…
فهذه هي التيارات في بلادنا: التيار الشيوعي والتيار السوري القومي. فلم نكن نعرف شيئاً اسمه حزب البعث في لبنان ولا حتى في سوريا. كانت هناك حلقات سريّة، وفي أول عهدها. ولم يكن البعث حتى حينذاك معروفاً في عام 1944، فكانت الاجتماعات سريَّة. فحصل حوار طويل مع هذا الزميل، موسى أسعد رزق. واستطاع أن يطوّر لي تفكيري نحو أن يصبح تفكيراً قومياً عربياً اشتراكياً. لقد بقيت على إيماني الاشتراكي، إنما الرؤية القومية اتضحت لي أكثر وانتسابي القومي أيضاً. واعتبرت أن هذه المدرسة الجديدة، مدرسة البعث العربي، هي المطلوبة، وهي تُنبىء دائماً بالحياة الحياة العربية الواحدة وتتحدَّث عنها في ذلك الوقت. وهنا بدأتُ أحضر حلقات سريّة تثقيفية، يديرها الأستاذ ميشال عفلق، مؤسس الحـزب. وبالتدريـج انتسبـت إلى حركة البعـث العربي. وكانت الاجتماعات تتمُّ في منزل السيـد فؤاد الصوَّاف. واستمـرت هذه الاجتماعـات حتى حضرنـا المؤتمـر التأسيسي الأول في شهر نيسان عام 1947.
س: … قبل أن نصل إلى المؤتمر التأسيسي الأول، كيف كان جوّ الجامعة السورية من الناحية السياسيّة وزملاؤك في الجامعة من ناحية الاتجاهات الحزبية..؟!…
ج: … كنا نلاحظ أن نشاطنا كشباب ينتمي لحركة البعث العربي، ـ وهذا هو اسمها في ذلك الوقت ـ كنا حريصين على "الطهارة في سلوكنا"، على "النقاء"، على "الأخلاق" في الفكر والسلوك. المطلوب من الشاب المؤمن بهذه الحركة أن يكون من المجتهدين في الصيف، كقدوة، كطليعة، وطاهر الذيل، وليس عليه أيُّ مستمسك أخلاقي. ولذلك بعد فترة كانوا يسموننا "الأنبياء الصغار"، أي أن الفرد البعثي المؤمن في ذلك الوقت، كان يتربّى على أساس أنه هو الطليعة، هو القائد لهذه الأمة.
وبالفعل، كنا حريصين على تطبيـق هذا الشىء، سواءٌ في الدراسـة، فكنا من الأُوَل، وفي سلوكنـا الاجتماعي، كنا مبتعديـن عن الشواذات، بينمـا كنا نلاحظ أن هناك طلاباً ينتمون إلـى الماركسيـة من اللبنانيين وغيـر اللبنانييـن، كانوا "متهتكيـن". من الأكيد أن الماركسية لا تطلب منهم ذلـك. ولكن الفهـم لها كان غلطاً، ولم يكن التأكيد على السلوكية الأخلاقية من قِبَل القادة الشيوعيين.
س: .. الاتجاه القومي العربي، هل كان منتشراً بين الطلاب عددياً في الجامعة..؟…
ج: … حركة البعـث العربي، كان عددها يزداد يوماً بعد يوم، أكثر من غيرها. وبالمقابل، كانت عصبة العمل القومي في طور الاندثار… لم أكن مطّلعاً في ذلك الوقت تمام الاطلاع على ما سبق التبشير البعثي من طروحات فكريـة فلسفية عربية، وكان أحد روادها الأستاذ زكي الأرسـوزي….
(ملاحظة: هنا، للأسف، بسبب عطل طارئ، توقَّفت آلة التسجيل، فتوقَّفت المقابلة…).