السفير - محمد أركون: الكهنوت في المسيحية له شبيه في الإسلام إقصاء الفكر النقدي الحر أنعش الفكر السلفي - كرم الحلو
إعلام وصحافة /
فكرية /
2010-11-06
السبت 6-11-2010
محمد أركون: الكهنوت في المسيحية له شبيه في الإسلام
إقصاء الفكر النقدي الحر أنعش الفكر السلفي
كرم الحلو
ضدّ التطرّف اللاهوتي الأصولي ينبغي أن نتخذ موقفاً نقدياً راديكالياً، واستخدام كل منهجيات العلوم الإنسانية ومصطلحاتها لإضاءة التراث الإسلامي من الداخل ومعه كل الظاهرة الدينيّة بمجملها، بغية الخروج من السياجات الدوغمائيّة المغلقة والتحرّر من النّزعة المذهبيّة التي أصبحت تشكّل في العقدين الماضيين تهديداً فعلياً لعالمنا المعاصر وللعالمين الإسلامي والعربي. إذا لم تحصل هذه الإضاءة التاريخية واللغوية والانتروبولوجيّة والفلسفيّة للخصومات العقائديّة المتراكمة منذ قرون وقرون بين الأديان التوحيديّة من جهة، وبين هذه الأديان والحداثة العالميّة من جهة أخرى، فسوف يستمرّ الصدام بين مخيالين قائمين على الكره والنبذ المتبادل منذ قرون عديدة.
هذه الأولويّة تشكّل خلفيّة مشروع محمد أركون النقدي وتلخص كما يقول في كتابه الجديد «الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر»، دار الطليعة 2010، واحدة من أهم المعارك التي ابتدأ خوضها منذ زمن بعيد. ويذكر المؤلّف في المقدمة أنه شاء تغيير العنوان الفرنسي «ألف باء الإسلام من أجل الخروج من السياجات الدوغمائيّة المغلقة» بالنسبة للطبعة العربيّة لإعجابه بالكتاب الشهير للتوحيدي ومسكويه، الذي يحمل الاسم نفسه، وذلك لأنّ مفكري العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلاميّة، كانوا جريئين جداً في طرح المشاكل الفكرية الكبرى من دينية وفلسفية. كتاب أركون هذا ما هو إلا مجموعة أجوبة مطوَّلة عن أسئلة طرحها عليه بعض الباحثين الفرنسيين حول الإسلام وقضاياه بعد الثورة الإسلاميّة وصعود الحركات الأصوليّة وضربة 11 أيلول.
بالإجابة عن سؤال «هل يمكن القول بوجود معرفة علميّة عن الإسلام في الغرب؟» اعتبر المؤلّف أن ثمة استقطاباً مانوياً سائداً في الغرب، بين إسلام معتبر أنه يمثل محور الشر وغرب معتبر أنه يمثّل محور الخير ويحميه، ورأى أن الحرب المدمّرة القاتلة بين الطرفين إنّما هي حرب ذاكرات جماعيّة ومخيالات متعادية على مدار التاريخ. فالتنافس المتواصل بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام على احتكار الرأسمال الرمزي الأعظم لما يدعونه جميعاً بالوحي لم يستطع أحد تجاوزه حتى الآن. كل طائفة تدّعي أنّها تمتلك الوحي الإلهي الكامل من دون غيرها، ما يعني ضمنياً تكفير الآخر وحرمانه نعمة الله. لقد طبّقت المقاربة التاريخية الانتروبولوجية على المسيحيّة، لكنّها لم تطبق على القرآن، ولو حصل ذلك لتبين أن الدين حُرّف عن مقاصده الأوليّة لإشباع غايات سلطويّة وماديّة بحتة لدى مختلف الفئات الثقافية التي سكنت منطقة البحر المتوسط، وأن أديان التوحيد الثلاثة تنتمي إلى نفس الوحي وتؤمن بنفس الأفكار المتعلّقة بالله والنبوة والكتاب واليوم الآخر، ومع ذلك فقد تحاربت على مدى قرون ولا تزال. ونحن الآن بحاجة إلى ثورة فقهيّة في الإسلام توازي ثورة المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965، فقد بات من الملحّ والعاجل أن نخرج من المواجهة الثنائيّة الاستقطابيّة الجهنميّة: إسلام ضد غرب. والأولويّة في العالمين العربي والإسلامي ينبغي أن تكون للتغيير الفكري قبل كلّ شيء آخر، فالعالم الإسلامي لا يزال يعيش داخل الإطار الذهني للإسلام القروسطي، وبما أن لا ثورة سياسيّة بدون ثورة فكريّة تنويريّة تحتضنها وتشقّ لها الطريق، فقد آن الأوان للخروج من العصر الإيديولوجي والدخول في العصر الإبستمولوجي المعرفي الاستكشافي المحض، بأرخنة المعرفة الخاصّة بالفكر الديني والممارسات الدينيّة، بكل ما تعنيه الأرخنة من نزع للقداسة عن العقائد التقليديّة الموروثة. الأمر الذي لم تنهض به أنظمة ما بعد الاستقلال التي منعت انبثاق فكر نقديّ حرّ في العالم العربي أو الإسلامي، وأدّت إلى انتعاش الفكر الماضوي السلفي، وتراكم اللا مفكر فيه والمستحيل التفكير فيه عندنا، وحالت دون فتح حقبة تاريخيّة جديدة يسود فيها الفكر النقدي لا الفكر الكفاحي أو الجهادي المستعر والموجَّه دائماً ضد الخارج.
وبالعودة إلى الأسس الإيديولوجيّة لعلمانيّة الغرب، ذهب أركون إلى أن القول بأن المسيحيّة ميّزت منذ البداية بين الذروتين الدينية والدنيوية، وأن الإسلام يخلط بينهما، هو كلام سريع وسطحي وغير مقبول من الناحية التاريخية، ويهمل التطورات الجديدة التي فتحتها لنا الانتروبولوجيا السياسية والدينية. فالمسيحية كانت ديناً ودنيا مثل الإسلام ولقرون طويلة، على عكس ما يزعم الاستشراق، وكانت تخلع المشروعيّة المقدّسة على الأباطرة والملوك والسلطات السياسيّة الأوروبيّة مثلما خلع مشايخ الإسلام المشروعيّة الإلهيّة على حكم الأمويّين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين. وقد خلطت المسيحية بين الدين والسياسة حتى عصر التنوير، ولم يحصل الفصل في فرنسا إلا عام 1905.
وفي نظرة تقييميّة لأنظمة حقبة الاستقلال رأى المؤلّف أن «الإيديولوجيا الديماغوجيّة القومجية» حاولت بالإكراه فرض هويّة واحدة على الجميع نافية بذلك التعدّدية على الرغم من وجودها على الأرض، فليس من بلد إسلامي أو عربي واحد لا يعاني من الانقسامات العرقيّة اللغويّة أو الطائفيّة المذهبيّة، وبالتالي فالوحدة القوميّة المزعومة ليست إلا شعاراً ترفعه الإيديولوجيا الديماغوجيّة منذ نصف قرن، وعليه فالوحدة العربيّة بالمعنى الانصهاري وهم طوباوي، بينما يمكن لتجربة الاتحاد الأوروبي أن تكون قدوة للعالم العربي.
وفي ما خصّ التراث، رأى أركون أن المسلمين يعتقدون أن الإسلام قد استأصل التراثات السابقة أو المنافسة. لكن إرادة الاستئصال لم تنجح تاريخياً، ولا تزال تقاليد سابقة على الإسلام حيّة في هذا المجتمع أو ذاك من الجزائر إلى أندونيسيا وبعد خمسة عشر قرناً على التطبيق الجزئي للتراث الإسلامي.
وبالنسبة لحقوق الإنسان في الإسلام، رأى أركون أن القانون الإسلامي قد تبلور قبل ثلاثة عشر قرناً على الأقلّ، وقبل ظهور الفلسفة الحديثة التي تعترف بحقوق الإنسان، بغضّ النظر عن دينه أو عرقه ومذهبه. الأمر الذي كان مستحيلاً التفكير فيه إبّان العصور القديمة التي تبلورت فيها الشريعة الإسلاميّة. إنّ الديماغوجيّين من كل الطوائف يتجاهلون عن قصد هذه الحقيقة التاريخيّة، وكل طرف منهم يتباهى بأنّ دينه هو الأكثر تسامحاً، بينما البنى الأسطوريّة التي تؤسّس وعي الأمّة وتولّد التاريخ الواقعي المحسوس لمجتمعات الكتاب المقدّس هي ذاتها بالنسبة لليهود والمسيحيّين والمسلمين. التصوّرات الميتافيزيقية الكبرى هي واحدة بالنسبة للأديان الثلاثة، الحكايات التأسيسيّة تختلف، لكن أطر التصوّر والإدراك والتأويل والممارسة هي لغوياً وسيميائياً وعملياً متشابهة.
في الأديان التوحيديّة الثلاثة تطبيقات منفتحة على أشكال لا يُستهان بها من التسامح وهناك تطبيقات معاكسة، أما المساواة المتبادلة على صعيد المواطنة في ما يخصّ الحقوق والواجبات على المستوى التشريعي القانوني فلم تحصل إلا بعد انتصار الحداثة والتنوير في أوروبا وحصول قطيعة ابستمولوجيّة راديكاليّة أصابت العقليات في العمق. لا ريب أن في حلقات الوحي الثلاث جذوراً قويّة من أجل انبثاق الشخص البشري بصفته ذاتاً قانونيّة ووكيلاً مسؤولاً عن تأدية الفرائض والواجبات تجاه الله وتجاه أشباهه في المجتمع. لكن الشخص المفترض من قبل الوحي هو «المؤمن» وقد يدفع التعصب المؤمن إلى حدّ كره كلّ مَن لا يؤمن بدينه بل محاربته وإخضاعه وتنْزيله إلى مرتبة دنيا. ولا ريب أنّ ثمّة منظورات متعدّدة للإنسان، فهناك المنظور اليهودي التلمودي وهناك المنظور الإنجيلي ومنظور عصر التنوير وهناك المنظور الليبرالي والماركسي، ونحن لم ننتهِ بعد من استكشاف الإمكانيّات المتاحة لبلورة تصوّر كوني واسع متسامح فعلاً عن الإنسان، على رغم مزاعم الأديان والأشكال المتغيّرة للحداثة في امتلاك النّزعة الإنسانيّة الكونيّة.
وفي ما يخصّ المرأة ومكانتها في الإسلام، رأى أركون أن القرآن قد حسّن وضع المرأة بالقياس إلى ما سبق ورفعها إلى مستوى الكرامة الروحيّة التي يتمتّع بها الرّجل. ولكن ثمة أحكاماً تشريعية تعامل المرأة وكأنها كائن ناقص الحقوق بالقياس إلى الرجل، فضلاً عن أن البنى والتقاليد السابقة على الإسلام لا تزال سارية، وهي بنى وتقاليد تخضع المرأة لاستراتيجيّات النظام الأبوي البطريركي الذي يوكل إلى الرجل حق السيطرة على المرأة. إلا أنّ ذلك يجب ألا يطمس إنجازات لا يستهان بها في وضع المرأة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة وقد أصبحت اليوم وزيرة ومسؤولة في غير بلد عربي ومسلم.
ولجهة وجود وظيفة كهنوتيّة في الإسلام، رأى المؤلِّف أنّ هذه الوظيفة ذات أبعاد أنتربولوجيّة ولا يخلو منها أي مجتمع بشريّ. وإذا كان من السهل القول إنّه لا كهنوت في الإسلام لأنّه يحق لأيّ مسلم الدخول في علاقة مباشرة مع الله، إلاّ أن رجال الدين المسلمين يلعبون نفس الدور الذي كان يلعبه رجال الدين المسيحيّون، وهم خلعوا ويخلعون الشرعيّة على الأنظمة والسلاطين، ويدخلون لذلك في صراع مع الحركات الأصوليّة والراديكاليّة المتمرّدة.
أما بالنسبة لعلاقة القرآن بالكتب السابقة، فيُلاحظ المؤلّف أن التأثر بالكتابات والتراثات اليهوديّة والمسيحيّة واضح جداً في القرآن، ولذلك فإن النصوص الدينيّة التأسيسيّة يجب أن تُدرس دراسة أركيولوجية عميقة تأخذ في الاعتبار السياقات التاريخية والصراعات العقائدية التي زاد من حدّتها تدخّل القرآن في القرن السابع الميلادي.
في نظرة إجماليّة، نرى أن الكتاب يختصر مشروع أركون النقدي ويسترجع مقولاته المركزيّة بما يمكن اعتباره إسهاماً إضافياً من المؤلّف في معركة الحداثة العربيّة التي يجب أن تبدأ كما يؤكد من التحديث الروحي والديني. لكن هذا لا يعفينا من ملاحظة التناقض الإيديولوجي الذي يربك التفكير الأركوني ويضع أطروحاته في مأزق فعلي. فكيف ستطبق المنهجية النقديّة الأنتروبولوجيّة على النصوص الدينيّة في عالم عربيّ أكثريّته من الأطفال والأميّين أو الفقراء اللاهثين وراء قوتهم أو النساء المقموعات المحرومات من حقوقهنّ الإنسانيّة والمدنيّة؟ وهل استطاع الغربيّون أن ينجزوا ثورتهم الدينيّة العلمانيّة قبل الثورة الاقتصاديّة والإنتاجيّة والعلميّة الحديثة وقبل أن يتوصّلوا إلى محو أميّة أكثرية المواطنين؟
يُحمّل أركون مسؤولية انتعاش الفكر السلفي الماضوي لأنظمة ما بعد الاستقلال «ذات الشعارات الغوغائيّة التي منعت انبثاق فكر نقدي حرّ في العالم العربي أو الإسلامي ككل والتي استخدمت الإسلام لتعبئة الجماهير من أجل التغطية على المشاكل الحقيقيّة». لكنّه ينسى أن الفكر النقدي المنشود كان في عداد «المستحيل التفكير فيه» في ظروف العالم العربي بعد الاستقلال وفي ظلّ التحدّي الصهيوني المفروض على الأمّة العربيّة منذ مطلع القرن الماضي. وهو ينسى كذلك أنّ «الأنظمة الشعبويّة المدانة» التي لا ندافع عن أخطائها وخطاياها كانت تعمل ولو عن غير قصد لتنمية الفكر النقدي المأمول، بالحدّ من الأميّة والفقر وطرح الفكرة الوطنيّة والقوميّة والتحرّر الاقتصادي والثقافي وحرية المرأة، ولها إنجازات لا يمكن إنكارها. وما انتعاش الفكر الأصولي الراهن وتدهور وضع المرأة العربيّة ويقظة العصبويات الطائفيّّة والإثنيّة إلا نتيجة لاندحار تلك الأنظمة على هشاشتها وتخلّفها، وعلى الرغم ممّا في بعض ممارساتها من إحباط وخيبات. إلاّ أنّ بدائلها السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة جاءت مربكة بل كارثيّة.