السفير - ملاحظات بشأن التراجع المفترض للدور المسيحي في العالم العربي
إعلام وصحافة /
دينية /
2010-09-27
27/09/2010 العدد: 11702
ملاحظات بشأن التراجع المفترض للدور المسيحي في العالم العربي
كمال الصليبي
يعزّ عليّ كثيراً، كوني عربياً أنتسب إلى المسيحية، وفي مؤتمر ترعاه مؤسسة لبنانية محسوبة على المسيحيين، أن أكون الشخص الذي اختير ليطرح موضوعاً درجت تسميته بتراجع الدور المسيحي في لبنان، أو في المشرق العربي، أو في عالم العرب عموماً، أو مهما يكن الأمر. وكأن المسيحيين في ديارنا ليسوا سوى بقية باقية من شعب منقرض: بقية تنتظر دورها لتنزلق في متاهات الزوال. إن مجرد طرح هذا الموضوع من قبل العرب المسيحيين هو في رأيي افتراض في غير محلّه لأنه يتجاهل حقائق تاريخية وحضارية ووجودية ولأنه يعني، ضمنا، أن العربي المسيحي لا يعتبر نفسه عربيا بكامل معنى الكلمة لمجرد وجوده حيث هو، مهما كان موقف العربي الآخر منه.
الموضوع الذي يجب أن يُطرح ليس هذا، بل موضوع آخر أكثر منه خطورة. وهو سؤال يلزم طرحه ليس فقط في البلاد العربية حيث للعرب المسيحيين وجود، بل أيضاً في تلك البلاد التي ليس لهم فيها وجود أو حضور دائم، سواء في مشارق بلادنا أو في مغاربها. هذا السؤال البالغ الأهمية يمكن إيجازه كالآتي: ما هو مصير العرب كشعب تاريخي في حال زوال النصارى من بينهم، مع الأخذ بالاعتبار أن مثل هذا الزوال للنصارى العرب، في صورة أو أخرى، أمر يمكن تخيّله؟ الذي سيحدث هو أن العرب لن يبقوا عرباً، في حال زوال النصارى مما يُطلق عليه حتى الآن اسم العالم العربي. لن يبقى العرب عرباً على أرضهم التاريخية. بل ان الأمر يتخطى ذلك بكثير ويتجاوزه. مع مثل هذا الزوال المفترض للنصرانية العربية، لن يكون هناك شيء في العالم اسمه عرب بالمعنى الكياني التاريخي الوجودي المطلق ودون تحفظ. وبعبارة أخرى، لن يبقى هناك في أي مكان من العالم كينونة عربية قائمة بذاتها لا تتصف إلا بعروبتها، ولا يختلط أمرها بالإسلام.
النصرانية في ديار العرب جاءت سابقة للإسلام بحوالى ستة قرون، مما يجعل منها أصلاً وليس فرعاً للكينونة العربية التاريخية، على عكس الرأي السائد بين العامة من النصارى والمسلمين والقائل بأن العروبة مرتبطة أصلا بالإسلام. والواقع ان للمسيحية في تاريخ العرب على مر العصور دوراً واضحاً وجلياً. قرون من الحروب بين المسلمين والروم، ثم بين المسلمين والفرنجة وإلى ما ذلك، لم تؤثر في هذا الدور ولا هي تمكنت من إلغائه أو تحجيمه.
من نصارى ما قبل الإسلام من كان على رأس شعراء الجاهلية الذين هذّبوا لهجات لغة الأعراب وصقلوها في ما نظموا من روائع الشعر، فخلقوا بذلك اللغة العربية الفصحى، واضعين الأسس الأولى لتراثها المستمر الذي يبقى حتى هذا اليوم المفخرة التي يجتمع حولها مجمل العرب.
جميع ممالك العرب وإماراتهم، في زمن ما قبل الإسلام، كان نصرانياً، إن لم يكن يهودياً. ثم جاء الإسلام فحلّ مكان النصرانية باستئثاره بالطليعة العربية ومُثلها من مروءة وفروسية وشهامة، فكلل بذلك نجاحه التاريخي الباهر.
هذا النجاح كان ظاهرة تاريخية ما زال العرب المسيحيون وغيرهم في حيرة من أمرها حتى يومنا هذا. الإسلام، تاريخياً، استأثر بالعروبة وتملكها، وهو ما زال حتى اليوم مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً ومتبادلاً مع هذا الإرث الأصيل. أما آن الأوان لنا، نحن العرب النصارى الذين ما زلنا نعتز بعروبتنا، أن نقول، بكل صدق مع أنفسنا: مضى ما مضى؟ أمِنَ الضروري أن نجعل من الأمور التاريخية التي وصفها أحد رواد العالم الحديث جورج فورد بكونها Bunk، أي هراء، ما يعكر صفو عيشنا الجميل مع رهطنا أو ربعنا العربي على تنوعه، وما أحلاه؟
هذا أمر يبقى لكل واحد من نصارى العرب أن يقرره لنفسه ويدخله في قناعاته ويقينه: هل يريد أن يبقى في دياره التاريخية، مقيماً مع رهطه من العرب حيث كانوا بتوافق وتآلف أخويين، أم أنه يفضّل الهجرة إلى الخارج ليعيش مع ربع أقرب إليه مسلكاً وروحية، كما يتصور؟ إذا قرر الهجرة فهذا شأنه وما لنا إلا أن ندعو له بالتوفيق. لكن إذا هو قرر أن يجعل من وجوده مشكلة لنفسه ولمجتمعه تتحدى الحل، فهذه مسألة أخرى لا بد أن يحاسب عليها أمام التاريخ. وبالنهاية لن يصيب العرب المسيحيين حيث وجدوا في بلاد المشرق إلا ما يشاؤونه أو يصنعونه هم لأنفسهم.
سوف أطلق هنا العنان لخيالي فأقول: لبنان، بالنسبة الى العرب، هو آخر معاقل النصرانية في ديارهم. ومنذ عشرين سنة تقريباً، عندما بدا للعرب من أقصى مشارقهم الى أقصى مغاربهم، ان النصرانية في لبنان توشك على الانهيار، تملكهم الخوف وهبوا جميعا لوضع حد لهذا الانهيار، لا بل لمنعه من الحصول. فكانت وثيقة الطائف: هذه الوثيقة التي يتصدى لها من نصارى لبنان فريق ويرى فيها مسّاً بالمصالح المسيحية ونيلاً من حقوق يعتبرونها خاصة بالمسيحيين. وكان على رأس المتحمسين لمنع انهيار المكانة الخاصة بالمسيحيين في لبنان من كان على خصومة معهم من مسلمي البلاد منذ تأسيس الدولة اللبنانية عام 1920 وحتى أواخر الحرب الأهلية.
هذه الوثيقة، وثيقة الطائف، قرأت مسودتها ـ أو في الأقل رؤوس الأقلام منها ـ عندما كنت أقوم بزيارة للبحرين قبل انعقاد مؤتمر الطائف بأسابيع، على من أذكر. سألني المسؤول البحريني الذي أطلعني عليها بحميمية لم أكن أنتظرها منه: «بيمشي الحال على هذا الأساس؟» أظن أن هذا السؤال نفسه كان يطرح، بكامل المسؤولية والجدية، في معظم العواصم العربية آنذاك.
لو لم يكن المسؤولون العرب في ذلك الوقت، مدركين كامل الإدراك، في سريرتهم ان لم يكن جهراً، أهمية النصارى العرب، ونصارى لبنان تحديداً، للكينونة العربية التاريخية برمتها، هل كان حدث مثل مؤتمر الطائف يعقد أصلا، بل يستمر منعقداً حتى الوصول الى نتيجة تبقي النصارى في البلاد على رأس الهرم، وان بصلاحيات لا تستفز غيرهم من اللبنانيين كما كان الواقع في السابق؟ هل هذا الحدث التاريخي الفريد من نوعه ـ الذي هو انعقاد مؤتمر الطائف للبت العربي في أمر لبنان ـ يعني أن نصارى لبنان بقية من شعب منقرض غير مرغوب في استمرار وجوده وفعاليته في العالم العربي؟ هل يعي نصارى لبنان الى الحد الكافي ان عالمهم العربي الذي تهب عليه الرياح من كل صوب، لم يتحرك جدياً حتى الآن إلا لنصرة لبنان والوضع الخاص للنصرانية فيه. وهل من أهمية للبنان إلا كونه ـ في نهاية المطاف ـ وبسبب التركيبة الديموغرافية الخاصة به ـ محجة لا محجة بعدها للعالم العربي؟
نعود الى الموضوع الذي طلب مني معالجته: تراجع الدور المسيحي في لبنان وبلاد المشرق والعالم العربي. وأنا أرد على هذا الافتراض بطرح سؤال آخر: ما هو هذا الدور المسيحي الذي نتحدث عنه؟ هل لدى العرب المسيحيين في الوقت الحاضر ميزات عقلية أو تقنية أو غير ذلك تجعل منهم عنصراً لا يستغنى عنه في ديار العرب؟ ربما كان ذلك صحيحاً في الماضي في بعض الفترات وعلى بعض الصعد. لكننا نتحدث عن اليوم أي، أولاً، بعد زوال الحدود في انتقال المعلومات بين الشرق والغرب في العالم عن طريق وسائل الاتصال الالكترونية، وثانياً، بعد انحسار الفارق في التقدم الحضاري بين المسيحيين وغير المسيحيين في العالم العربي، وانفتاح العرب عموماً على طروحات ومتطلبات العالم الحديث والعلاقات الدولية الحديثة.
اليوم، وبعد كل هذه التغيرات التي جاء بها العالم المعاصر، يبقى لنصارى لبنان وبلاد المشرق العربي خصوصية تتمثل أكثر ما يكون في كينونتهم واستمرار وجودهم على أرضهم التاريخية إن هم شاؤوا ذلك فعلياً. و«الحجر على أرضه قنطار»، كما يقال. أما إذا نقلنا هذا الحجر الى الخارج، فعند ذلك يصح فينا قول زهير بن أبي سلمى، من شعراء الجاهلية (وثمة من يعتقد انه كان من نصارى ذلك العصر):
ومن يكُ ذا فضل ويبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
اعتداد العرب المسيحيين بالمهاجرين والمغتربين منهم هو في نظري ظاهرة مساوئها أكثر من محاسنها، إن لم يكن لشيء فلأنه يشجع نصارى بلادنا ضمناً، وغيرهم، على الهجرة. والهجرة هي من أهم أسباب تناقص أعداد النصارى في بلادنا نسبياً ومطلقاً، إن لم يكن أهمها. هذا التناقص في الأعداد هو السبب الأساسي للتخوف العام (وليس المسيحي فقط) من تراجع الدور المسيحي في جميع بلاد المشرق العربي، والأصداء السلبية المنتظرة لمثل هذا التراجع.
المسيحيون الباقون حتى اليوم في ديارهم العربية، والى جانب رهطهم، هم وحدهم من حماة هذه الديار، ان هم أرادوا ذلك فعلياً. المطلوب منهم هو ـ فقط ـ استمرار وجودهم حيث هم، حتى تستمر الظاهرة التاريخية التي اسمها العرب النصارى، التي بدونها لن يكون هناك شيء اسمه عرب. فهل ندرك عمق المسؤولية التاريخية والحضارية المنوطة بنا وخطورتها؟
إذا شئنا نحن المسيحيين البقاء على مستوى هذا الاستحقاق التاريخي الذي من خلاله يتقرر حضورنا ومصيرنا، فواجب علينا تجاه أنفسنا بادئ ذي بدء فهم أوضاعنا على حقيقتها على اننا جزء من كل، والكف عن العيش في الأوهام، واعادة الثقة الى أنفسنا، بهويتنا العربية التي نستمد منها كل ما نتميّز به.
([) قدمت في مؤتمر إحياء الدور المسيحي في المشرق العربي.