د. دندشلي- الأستاذ علي صالح السعدي
مقابلات /
سياسية /
1965-08-02
مـقـابـلـة مـع
الأستاذ علي صالح السعدي
الزمان والمكان : 2 آب عام 1965 ، بيروت ـ لبنان
أجرى المقابلة : د. مصطفى دندشلي
* * *
ابتدأ علي صالح السعدي حديثه في إبداء رأيه في الجزء الخامس من نضال البعث ، وهو الجزء المخصص لنشوء وتطور الحزب في العراق ، فقال : إن هناك أشياء كثيرة لم تقل لأنها تُدين الحزب ككل . كما أنه يعبّر عن وجهة نظر معيّنة ومن طرف متحيّز ...
الأحزاب في العراق
إنّ الأحزاب الموجودة في العراق بعد الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1946 هي : حزب الاستقلال ، حزب الأحرار ، والتحرر الوطني وهو عبارة عن واجهة شيوعية. والأشخاص القياديين هم : محمد علي الشيبي ، زكي بسيم ، عبد الفتاح إبراهيم ، والحزب الوطني الديمقراطي الذي تكوّن حوالي عام 1948 .
وفي عام 1947 ـ 1948، سيطر حزب الاستقلال على الحياة السياسيّة تقريباً . وقد ضمّ كلّ العناصر القومية العربية والوطنية في ذلك الوقت : الرئيس مهدي كُبّه ، أمين السر فايق السمرائي ، مدير الدعاية صديق شنشل ، روفائيل بطي ، محسن الدوري ، عبد الرزاق شبيب ...
بعد سقوط حكومة صالح جبر (حوالي عام 1948) أصبح الشارع هو الذي يحكم ، ولم يعد هناك من وزارة تسيّر شؤون العراق . ولو كان لحزب الاستقلال قيادة قومية لاستلم الحكم . أي أنه بدل أن يسيطر حزب الاستقلال على الحكم بعد سقوط وزارة جبر ، أخذ يميّع الموقف ، ثم رضي بوزير واحد في الوزارة الجديدة وهو مهدي كُبّه . وكان شنشل يدعو للكف عن التظاهرات في الوقت الذي كان الحزب الشيوعي يدعو للاستمرار . ولكن على الرّغم من ذلك ، كانت جماهير حزب الاستقلال تنزل إلى الشارع وتسير في المظاهرات .
أما سياسة الحزب الشيوعي فيمكن تلخيصها في أنها سياسة تريد أن تصل البرجوازية إلى الحكم ، على أن يبقى الحزب الشيوعي مجرد محرِّك للمظاهرات . ولهذا بدأت الدعوات المشبوهة تظهر وهي موجودة ضد الحزب الشيوعي : الإلحاد ... وكلها صادرة من حزب الاستقلال ...
أما أحزاب الوسط فهي الأحزاب التي تسير في اتجاه الحزب الشيوعي والتي تُستعمل أحياناً كواجهة له والمتمثلة في حزب الأحرار ، والحزب الوطني الديمقراطي : محمد حديد ، كامل الجادرجي ، حسين جميل . وكانت تصدر جريدة تقدمية وهي " جريدة الأهالي " التي كانت تحمل لواء المعارضة والدعوة إلى الديمقراطية ، وكانت مفتوحة للشيوعيين ...
في عام 1948 ـ 1952 ، كان يسيطر على العراق هدوء سياسي في الشارع . واقتصرت المعارضة في الصحافة والبرلمان من قِبَل الحزب الوطني الديمقراطي: فايز السمرائي، حسين جميل ، وحزب الاستقلال أي أن المعارضة في البرلمان من عناصر برجوازية رجعية ...
في فترة هذا الهدوء النسبي ، بدأت نواة حزب البعث في حلقات صغيرة من مجموعات من شباب أكثريتها كانت منتسبة إلى حزب الاستقلال . لذلك أولدت ولادة هذا الحزب الجديد خصومة حادة من قبل حزب الاستقلال .
وفي عام 1952، وقعت أول حادثة طلابية . فقد قام بعض الطلاب بمظاهرة صغيرة في كلية الآداب ، ثم اعتصموا فيها ، ودام ذلك يوماً كاملاً . ولأول مرة استعملت الغازات المسيلة للدموع ... وأسلوب الحزب الشيوعي حتى عام 1953 هو استعمال المظاهرات الخاطفة في أحياء ضيّقة .. وفي تشرين الثاني عام 1952 وقعت حوادث مثيرة ، إذ هجم على كلية الصيدلة جماعة مدعومة من قبل البوليس . وعلى أثر هذا الاعتداء ، وقع بعض الجرحى . وذهاب الطلاب إلى المستشفى ، وتحولت الزيارة إلى مظاهرة كبيرة مما أدّى إلى وقوع قتيل . وفي اليوم التالي، نزلت جماهير غفيرة من الشعب ومظاهرة ضخمة ودموية إلى الشارع ، احتل على الأثر الجيش بغداد وأُعلنت الأحكام العرفيّة ، ونصّب نور الدين محمود نفسه رئيس الوزراء ...
وقد شارك البعث (أو نواة البعث)، ليس كحزب إذ لم يكن هناك أي توجيه، وإنما كأفراد، في هذه المظاهرات . وأصدر البعث بياناً في هذه الأحداث باسم " الشباب العربي الجامعي " وهو أول بيان للبعث ... ومنذ ذلك الحين ابتدأ شباب البعث يباشرون ويشاركون في التظاهرات تأييداً للقضايا العربية المختلفة : ذكرى أيار وفلسطين وذكريات قومية .
طبعاً كان البعث غريباً عن الوسط العمالي إذ إن 95 % من أعضائه من الطلاب والموظفين وبعض المحامين . وحوالي عام 1953 ـ 1954 اُكتشف وكر الحزب الطباعي وألقي القبض على نجاد الصافي وآخرين . وظنّ الحزبيون في ذلك الحين أن كبس الوكر كان وشاية من قِبَل بعض الحزبيين أنفسهم وعلى الأخص شعبان جاسم ـ وهو الآن جاسوس لعارف ـ
وفي اوائل عام 1954 وقعت أول أزمة حزبيّة : وهذه الأزمة نتيجة للتكتلات الداخلية والتي هي أكثرها شخصية : هناك تكتل يضمّ فيصل حبيب الخيزران، عبد الرحمن منيف ، فوزي ياسين قدوري ، خالد علي الصالح ، كريم شنتاف ، وهو تكتل شخصي لإبعاد القيادة القطريّة .
بعد كشف الوكر ، عمَّمت القيادة أمراً حزبياً يتيح إعطاء البراءة بشكل معين للمتهمين . والقيادة القطرية في ذلك الحين تتكوّن من: فؤاد الركابي، جعفر قاسم حمودي، شمس الدين الكاظم، تحسين معلّه ، وعضو آخر كان مجمداً وهو جاسم محمد ، نتيجة ضعف موقفه في كبس الوكر . فاحتج على التعميم الحزبي علي صالح السعدي ، دحام الألوسي ، حميد خلخال ، حازم جواد . أما تكتل فيصل حبيب الخيزران وعبد الرحمن منيف ، فقد أراد استغلال هذا الحادث لتنحية القيادة القطرية أو على الأقل تنحية فؤاد الركابي أو لإضعافه...
وكان صلة الوصل بين هذا التكتل والقيادة ، علي صالح السعدي . وكان رأيه إجراء انتخابات في الحزب . وقد أصدرت القيادة أمراً بتولية علي صالح السعدي ودحام الألوسي ـ وهو محكوم عشر سنوات ـ لتسوية الأمر . وقد جرت الانتخابات . عقد مؤتمر الشعبة وآخر قطري . ولكن الأهم هو مؤتمر الشعبة : كان هناك أيضاً ثلاثة كتل : 1 ـ القيادة القطرية . 2 ـ كتلة عبد الرحمن منيف ـ فيصل حبيب خيزران ، 3 ـ علي صالح السعدي وآخرون . وقد سيطرت على المؤتمر الفئة الثالثة . وانتخبت قيادة شعبة الحزب من الأشخاص : علي صالح السعدي ، أمين ، فالح عبد الرزاق ، دحّام الألوسي ، حازم جواد ، وصباح ... وعقد بعد ذلك أول مؤتمر قطري في العراق عام 1954. والقيادة المنبثقة عنه هي : فؤاد الركابي (أمين السر)، حازم جواد، علي صالح السعدي ، كريم شنتاف ، خالد علي صالح ...
اتخذت شعبة بغداد سياسة التصلب تجاه الحزبيين . وفي جلسة واحدة فصل أكثر من نصف الحزب . في بغداد وحدها فصل ما يقرب من 60 عضواً من أصل (100) لأنهم غير قادرين على العمل ، والذين فصلوا لم يتحولوا إلى أعداء ... وقد انطلق الحزب بعد هذا المؤتمر . وقبل ذلك ، كان الحزب يصدر جريدة باسم : العربي الجديد ، وهي سرية . وبعد ذلك تغيّر اسم الجريدة إلى " الاشتراكي ".
وقد فرض الحزب نفسه بنشاط بارز على الحركات السياسيّة الموجودة . كانت وسائله سلسلة من الأعمال اليومية : الكتابة على الجدران ، لصق الأشرطة على السيارات ، حتى أن ثلاثين عضواً صوّروا أنفسهم بالنسبة للفئات الأخرى على أنهم أقوياء .
وفي عام 1954 تكوّنت الجبهة الوطنيّة الأولى . والبعث لا يريد أن يدخل هذه الجبهة ، لذلك كان يضع شروطاً تعجيزية . ولهذا تألفت من الأطراف : حزب الاستقلال ـ الحزب الوطني الديمقراطي ، والحزب الشيوعي ولكن بنشاط سري . وكانت هذه الجبهة جبهة انتخابات . وقد ساد نشاط سياسي واسع جداً طيلة حكم فاضل الجمالي حتى الانتخابات ... وقد شارك الحزب بمهرجانات الجبهة الوطنية للانتخابات بشكل تخريبي . فكان يحضر عدد من الحزبيين ، ويهتفون هتافات استفزازية ، كما جرت عدة اصطدامات مع الشيوعيين ...
قبل فترة الانتخابات الحزبيّة ، جرى مؤتمران لحزب الاستقلال وللحزب الوطني الديمقراطي ، وحاول البعثيون أن يخربوا هذين المؤتمرين ... ولأول مرة كتبت صحيفة الأهالي عدة مقالات تشير إلى هذه الفئة الجديدة المشاغبة البعثية ... وكذلك جريدة أخرى خاضعة لتوجيهات الشيوعيين ...
وفي بداية عام 1955، بدا نشاط الحزب يأخذ مدى أوسع ، وبدأ يبادر باتخاذ مواقف سياسيّة ، له دور القيادة فيها . وبدأ البعثيون يدخلون المعتقلات.. واستمر الحال على هذا الشكل.. بيانات ، مظاهرات ، إضرابات ... أي الصفة السياسية هي الصفة الطاغية على الحزب ضد الحكم الرجعي القائم وضد الاستعمار، مع طرح شعارات غير واضحة ، عامة وعريضة ، كشعار "العمال والمثقفون والفلاحون طبقة نضالية واحدة ". أما الصراع الطبقي ، فكانت لفظة محرمة . إن ذكر الماركسيّة كان يشكل انحرافاً . في تلك الأثناء ، خلى الجوّ السياسيّ تقريباً من الأحزاب التقليديّة وخصوصاً في الشارع ، وبقي المجال للشيوعيين والبعثيين فقط . ونتيجة أحداث السويس عام 1956، جرت سلسلة من الالتقاءات مع الحزب الشيوعي في سبيل تنسيق التظاهرات والاضرابات المؤيدة لمصر ولعبد الناصر ، تبعها التقاء على مستوى قيادي مع الحزب الشيوعي ومع الحزب الوطني الديمقراطي ، وبعدها مع حزب الاستقلال هذا الحزب العروبي التقليدي الذي ذاب ولم يبق منه سوى اسسه . وأصرّ حزبنا وحزب الاستقلال على استثناء الحزب البارتي ، انسجاماً مع النظرة الشوفانية لكلا الحزبين ...
في أحداث عام 1956، دخل البعثيون بأعداد ضخمة إلى السجون . والواقع أنّ بيانات الجبهة الوطنيّة يقع عبأ توزيعها على البعث . كان الحزب الشيوعي في ذلك الحين في سبات لا يُسمع صوته إلاّ همساً نتيجة للتناقضات الداخليّة التي يعيشها على الرغم من الوحدة الظاهريّة ونتيجة للانشقاق الحاصل بين القاعدة والشغيلة والقيادة ... والشيوعي لم يبق إلاّ قيادة وجهاز طبقي ...
وكانت خطّة البعث استغلال " الجبهة الوطنية " عن طريق اللجان المتنوعة والمتفرعة عنها ، للنفاذ إلى الوسط العمالي . والغرض من ذلك مزدوج : كسب عمالي والعناصر العمالية . وإضعاف الحزب الشيوعي . وفعلاً انتخب علي صالح السعدي، عضو قيادة بغداد ، في إحدى اللجان العمالية. ولكن غياب المنطق الاشتراكي في حزب البعث ، والتركيز على الناحية القومية لدرجة التعصب ، أُبطل مفعول مخطط الحزب في كسب عناصر عمالية ، فلم يحصل إلاّ على عناصر معدودة لا تشكل كسباً بالمعنى الصحيح .
جرت الانتخابات الحزبية الثانية عام 1956 ـ 1957 وكانت أكثر إيجابية من الأولى ، ولكن على المستوى التنظيمي والسياسي فحسب ، وأنبثقت قيادة قطرية جديدة مكوّنة من : فؤاد الركابي ، أمين سر ، علي صالح السعدي ، نائب أمين السر ، حازم جواد ، خالد علي الصالح ، كريم شنتاف ، عبد الله الركابي ، صالح شعبان ، وآخر ، عبد الأمير ...
استمر النشاط والحماس على الوتيرة نفسها ، ولم يستفد البعث من حوادث السويس وظهور عبد الناصر بشكل قوي ، وهو ما كان من المفروض أن يستفيده أكثر بكثير مما حصل... وإنما ، في الوقت نفسه ، قد ثبَّت الحزب وجوده كقوّة سياسية نامية متحركة بعد معركة السويس . فجاءت حوادث السويس عاملاً مساعداً لتقوية الحزب وتثبيت وجوده .
والحزب لم يكن ولم يصبح داعية لعبد الناصر . ولم يذكر كلمة واحدة في نشراته عن عبد الناصر وإنجازاته السياسيّة ، إلخ ... بل إنّ البعث في العراق كان قد استنكر مجرد إشاعة لتصريح أكرم الحوراني أن البعث يعطي عبد الناصر عضوية شرفية . كما أن البعث في العراق ، استنكر قرار حلّ حزب البعث السوري نفسه عام 1958 ...
ـ عبد الرحمن منيف كان ضد موقف البعث العراقي في استنكاره حلّ البعث السوري ـ
إن قوة حزب البعث العراقي الفعلية تأتي في الدرجة الأولى من تطبيق النظام الداخلي حرفياً ، والتشديد في اختيار العضو البعثي . كان الاهتمام دائماً في النوعية والجرأة والحماس ، لا في كثرة العدد . فعدد الأعضاء الحزبيين العاملين في عام 1956 ـ 1957 لا يتجاوز 400 عضو . واختيار العضو لا يتم إلاّ وفق الشروط النضالية ، لأنه بمجرد أن يقبل الشخص بالوحدة والحرية والاشتراكية ، كشعار عام ، وأن يعادي الشيوعية والحزب الشيوعي ، وأن يكون مستعداً لتوزيع بيانات الحزب والمشاركة بالمظاهرات والاضرابات ، فبمجرد قبوله بذلك يكفي لقبوله عضواً . ولكن التأكد من هذه الشروط كان يأخذ زمناً طويلاً من التجارب والملاحقة والمراقبة والمتابعة ... ولهذا كان الوصول إلى عضوية الحزب يمر حتماً من خلال سلسلة من المظاهرات والإضرابات وتوزيع البيانات . وكان النصير يبقى أحياناً كثيرة سنوات دون أن يحصل على العضوية ، إذا تقاعس عن القيام بهذه الأعمال .
كانت المراحل هي : صديق ، نصير ، عضو
ثم أصبحت بعد مرور سنوات أي عام 1961 ـ 1963، مؤيد ، صديق ، مرشح ، نصير ، عضو . أما في ما يتعلق بالمسائل الفكرية والتثقيفية ، فلم توّل قيادات الحزب لها أي اهتمام جدي . وكل ما كان لدى الحزب من وسائل تثقيفية على مستوى الفكر ، ما هي إلا عبارة عن مقالات ميشال عفلق وبعض الكراسات الساذجة مثل : " بماذا تتسم حركتنا" لعبد الفتاح الزلط، ومعنى الحرية لفايز إسماعيل .
14 تموز عام 1958 والوضع الحزبي
بُلِّغ الحزب بحركة 14 تموز قبل أسبوع ، وهو الحركة السياسية الوحيدة التي بُلغت بها كما نعتقد . وجاء ذلك عن طريق علاقات شخصية ، ولم يكن اعترافاً بالحزب كقوّة سياسيّة ... اجتمعت قيادة الحزب ، وكان قد جاء سعدون حمّادي وأضيف إليها . وطُرح مسألة الانقلاب العسكري المحتمل . وبعد مباحثات لم تدم أكثر من نصف ساعة ، قررت القيادة الموقف تجاه هذا الحدث وهو : 1 ـ تأييد الانقلاب 2 ـ قبول الاشتراك في الحكم . وقد رُشِّح فؤاد الركابي على مستوى شخصي، إذا ما طلب منه الحكم الجديد . وفعلاً ، فقد وافقت القيادة بعد الانقلاب على الاشتراك في الحكم بشخص أمين السر ، فؤاد الركابي ...
وفي 16 تموز عام 1958، اجتمعت القيادة لتقرر وتحدّد سياسة الحزب في هذه الفترة . وكان الشعار المطروح حينذاك وحدة العراق مع الـ ج. ع. م. واكتفت القيادة ، بما أن الجماهير طرحت شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة ، فيجب أن تعمل وفق هذا الشعار . وأرادت إصدار بيان حول هذا الموضوع ، ولكنها كانت أعجز من أن تصدر بياناً في تلك الأثناء ، ولهذا غضَّت النظر عنه .
في ليلة 17 تموز ، صدر قرار من عبد السلام عارف باحتلال مقر جريدة الشعب وإصدار جريدة باسم " الجمهورية " تحمل اسم عبد السلام عارف كصاحب لها ، وسعدون حمّادي كمدير مسؤول لها . وأصبح مقر جريدة الجمهورية وكأنه مقر للحزب .
كانت القيادة تجتمع باستمرار . ومنذ البدء ظهر فيها اتجاهان : 1 ـ اتجاه فؤاد الركابي ويفلسف هذا الموقف سعدون حمّادي ، ويؤيده كل من عبد الله الركابي ، صالح شعبان ، وإلى حدّ ما كريم شنتاف ، شمس الدين الكاظم . 2 ـ اتجاه علي صالح السعدي ، حازم جواد ، خالد علي الصالح إلى حدّ ما .
كان الرأي الأول يقول بالانسجام مع السلطة وعدم النزول إلى الشارع . بينما الرأي الثاني كان يدعو إلى النزول إلى الشارع ، مدفوعاً بعاملين :
1 ـ مجابهة المد الشيوعي وسيطرته على الشارع .
2 ـ توسيع قواعد الحزب واستغلال الظرف السياسي الجديد لنموِّه وانتشاره .
لم يُطرح هذا الخلاف على قواعد الحزب ، وبذلك كان يذوب رأي الأقلية ضمن قرار الرأي المتخذ بالأكثرية ، مما أثار القواعد الحزبية ضد القيادة بمجموعها . وبعد حين ، اتخاذ كريم شنتاف كلياً موقف تيار فؤاد الركابي ، ومن ثمَّ لحقه خالد علي الصالح ، وذلك على أثر اكتشاف أنه يتناول معاشَين . وعندما جابهه التيار الثاني بذلك ، انحاز إلى الفئة الأولى بعد أن أيدته في موقفه ...
وفي 5/11/1958 اعتقل كل من علي صالح السعدي ، فيصل حبيب خيزران ، عبد الستار الدوري ، حازم جواد ، معاد عبد الرحيم ، وهؤلاء كان لهم موقف محدد تجاه مسلكية فؤاد الركابي ... بعد " استيزار " فؤاد الركابي ، ظهر عليه سلوك جديد يتسم بالغطرسة والتعالي على الحزبيين وحتى على القياديين وظهرت عليه آثار النعمة، وتكشّف كبرجوازي بأسلوب حياته، وتعامله مع الناس ، مما ترك تساؤلات عديدة حوله .
بعد حين ، جاء الأمين العام ميشال عفلق ، وحضر اجتماعاً في القيادة . وطرحت عليه وجهتا النظر ، فكان منحازاً للفريق الأول (أي لفريق فؤاد الركابي )، حتى قبل أن يفهم الموقف من فؤاد الركابي نفسه ولوجهة نظره . ثم طرح ميشال عفلق مسألة وحدة العراق الجديد والاندماج الفوري في الجمهورية العربية المتحدة وبدون شروط ، مؤكداً بأن هذا لا يحتمل التأجيل . وكان يبدو متفائلاً فرحاً ، وهو ينزل في إحدى شقق فندق بغداد ويزوره وزيره فؤاد الركابي . وكان يعقد يومياً سلسلة من الندوات لمجموع الحزبيين وللأنصار والأصدقاء. وكان هؤلاء ينصتون إليه، ولا يرفع أحدهم رأسه إليه ، وكأنهم أمام قديس أو نبيّ .
ولكن هذا الأمر لم يستمر طويلاً بالنسبة إلى ميشال عفلق ، إذ سرعان ما تغيّرت معاملة فؤاد الركابي له . فلم يعد يزوره . فضاق عفلق ذرعاً بهذه القطيعة وشكى منها إلى كل الرفاق ، إلى فيصل حبيب خيزران ، علي صالح السعدي ، خالد علي الصالح : كيف لا يزوره فؤاد الركابي ؟... وهكذا قرر السفر مكسوفاً خصوصاً وأن فؤاد الركابي لم يودعه في المطار .
في الأيام الأولى ، سافر فؤاد الركابي إلى القاهرة . وبعد عودته ظهرت تعليمات جديدة، بدون علم جماعة الاتجاه الثاني في القيادة القطرية ـ أي جماعة علي صالح السعدي ـ تبشر بالاتحاد القومي وبضرورة تأسيسه . وقبل هذا ، كان قد اُنتدب علي صالح السعدي للاتصال بالمحلق العسكري المصري وكان حينذاك عبد المجيد فريد ، للتفاوض معه على أخذ معونة من الجمهورية العربية المتحدة . وفي الجلسة الأولى أبدى عبد المجيد فريد استعداده لدفع 40 ألف دينار للحزب ، شرط أن يطلعه الحزب على خطته في العمل . فاعترض علي صالح السعدي على ذلك وأجابه : إننا نقبل المعونة دون شرط ، وإلاّ فإننا نرفضها . وانقطع الاتصال .
بعد هذا ، اعتقل علي صالح السعدي ، فيصل حبيب خيزران ، عبد الستار الدوري ، معاد عبد الرحيم ، وهؤلاء المعروف عنهم بموقفهم ضد فؤاد الركابي . كان فؤاد الركابي في هذا الوقت لا يزال في الحكم ، مما أثار علامات الاستفهام حول هذا الاعتقال ، ولا سيما وقد ووجه بعضهم في المعتقل : لماذا أنتم لا تسيرون في الطريق نفسه الذي يتبعه فؤاد الركابي ، وإنما تعملون وتسعون إلى معارضة الحكم ؟!...
وقبل هذه الأحداث ، كان طالب شبيب قد وصل من لندن يحمل ورقة نقله من منظمة لندن إلى بغداد . فاستدعي لدورة ضباط الاحتياط . وحينما دعي إلى التنظيم في كلية الاحتياط رفض، كما أنه رفض الارتباط بمنظمة " المحلة ". وشوهد طالب شبيب يلاصق خالد علي الصالح كظله . وبعد اعتقال الرفاق أُصعد طالب شبيب بقرار من القيادة إلى قيادة الحزب ... وبعدها قدّم ستة من الوزراء الوحدويين ومن ضمنهم فؤاد الركابي ، وبدافع من الجمهورية العربية المتحدة ، استقالتهم من الحكم . وفي هذه الأثناء ، عاد فؤاد الركابي اتصاله بالجمهورية العربية المتحدة وكان وسيطي الاتصال: خالد علي الصالح وآيات سعيد ثابت ، بعد أن رُفع إلى القيادة بقرار منها.
وبعد فترة ، دفعت الجمهورية العربية المتحدة مبلغ 70 ألف جنيه لفؤاد الركابي ، على أن يقوم الحزب بتدبير مؤامرة اغتيال عبد الكريم قاسم . وبالفعل قررت القيادة اغتيال قاسم ... ولكن سيطرة الشيوعيين ووجود المقاومة الشعبية وحالة الإرهاب الشديدة التي كانت تطغى على العراق، أخافت القيادة من تنفيذ العملية . في تلك الأثناء وقبلها، كان قد ترسخت سيطرة الشيوعيين... فشنّوها حملة إرهابية دمويّة لم يشهد لها العراق مثيلاً ، فزجوا ما يقارب من 100 ألف في السجون . وحدثت مجزرة الموصل وكركوك والبصرة وبغداد . هذه الأحداث قد أولدت كرهاً عميقاً للشيوعيين بالدرجة الأولى ولقاسم بالدرجة الثانية .
وساعدت أخلاقية فؤاد الركابي التي تعتمد الكذب إلى تشجيع بعض العناصر العسكرية للتآمر وذلك عن طريق المبالغة بقوى الحزب بالإدعاء بإمكانية تسليح عدد كبير من الجماهير ... في نهاية الشهر التاسع ( من أي سنة 1958 أو 1959) حاول أحمد حسن البكر ، وكان آنذاك آمر فوج ، القيام بانقلاب عسكري . والدافع الأول له هو وكما يقول ، نشيد أذيع من محطة بغداد مطلعه " عاش السلام العالمي ". وعند سماعه يقول البكر : " ارتعشت أعصابي وغيّمت الدنيا في عيني ، فقررت القايم بانقلاب سريع ...".
اتصل ببعض الضباط وكلهم من الضباط الصغار ، ولكن ضباطاً منهم وشى بالحركة فاعتقلوا في الليلة ذاتها ، واعترف أكثرهم بذلك . بعد اعتقال عبد السلام عارف ، كشفت مؤامرة أخرى قام بها صالح مهدي عمّاش. وقد فاتح بها ضابطين فقط : النقيب محمود فرج والنقيب الركن شهاب أحمد. ولقد اعترفوا بنيتهم التآمرية ، ولكنهم أنكروا جديتها . وشمل الاتهام أيضاً علي صالح السعدي ، فيصل حبيب خيزران . واستند الاتهام إلى إفادة النقيب محمود فرج وأيدها صالح شعبان عضو القيادة .
بعد هذه السلسلة من المؤامرات والاعتقالات التقى في السجن كل من صالح مهدي عمّاش وأحمد حسن البكر وعدد آخر من الضباط الصغار مع كل من علي صالح السعدي وفيصل حبيب خيزران ... وقد عمل كل منهما وبالتعاون مع صالح مهدي عمّاش ، على كسب مجموعة الضباط الصغار ومن ضمنهم أحمد حسن البكر . وهكذا توطدت العلاقات بين هؤلاء الضباط وبين البعث كحزب ومع علي صالح السعدي شخصياً ...
وبعد أن أُطلق سراح الجميع في تموز عام 1959، استمرت هذه العلاقات وتوطدت أكثر فأكثر إلى حين المحاولة التي جرت لاغتيال عبد كريم قاسم ... ولكن بعد هذه المحاولة الفاشلة ، تشتت الحزب بين معتقل ومختف وهارب إلى الخارج . وبقي التنظيم الحزبي ضائعاً ومشتتاً إلى أن انتهت محاكمة البعثيين المتهمين بمحاولة الاغتيال ... بعدها تشكلت لجنة لإعادة تنظيم الحزب في العراق ، مكوّنة من : محسن الشيخ راضي ، حميد خلخال ـ وزير عمل ـ دحام الألوسي ، بهجت شاكر ، عبد الحسين عبد الصالح ... وبعدها تسلل إلى العراق حازم جواد ... ومن بعده علي صالح السعدي ، بعد قرار من القيادة القومية التي كانت في ذلك الحين هي الأمين العام ميشال عفلق ...
وفي الأيام الأولى ، لم تكن هذه القيادة ينسجم موقفها تجاه فؤاد الركابي ومجموعته . وإنما كان فقط علي صالح السعدي وحازم جواد منسجمان لضرورة طرد الركابي من الحزب . وبعد مرور مدة ، تمكنا من إقناع البقية من أعضاء القيادة حول الموقف من فؤاد الركابي .
بدأت هذه القيادة بنشاط واسع وكبير ، كان كل من علي صالح السعدي وحازم جواد ومحسن الشيخ راضي ، عماد هذه القيادة ولولبها ، إذ كان حمدي عبد المجيد خارج بغداد مسؤولاً عن الحزب في الفرات الأوسط ، يأتي أسبوعاً إلى بغداد ... ثم يذهب ... وكذلك الحال بالنسبة إلى دحام الألوسي وكان مسؤولاً عن الرمادي . أما الأثنان الآخران من القيادة ، بهجت شاكر ، وعبد الحسين عبد الصالح ، فقد تنحّى الأول بهجت لكذبه ولثرثرته وتنحّى الثاني لخوفه الشديد .
هكذا عملت هذه القيادة الخماسية على إعداد الحزب للانتخابات ... فقامت بإعادة التنظيم الحزبي ضمن سلسلة من المواقف النضالية ومن المظاهرات والإضرابات وغير ذلك ، مما أُخضع الشارع للحزب فقط . وقد ظهرت في ذلك الحين كفاءات نضالية وتنظيمية تستحق الإعجاب في قواعد الحزب . وبعد مضي مدة ، تسلل هاني فكيكي إلى العراق وأعطيت له مهام قيادية عديدة...