د. دندشلي -حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال التجربة الشخصية- بشارة مرهج(2)
مقابلات /
سياسية /
2010-11-09
المقابلة الثانية مع
الأستاذ بشارة مرهج
الوزير والنائب وأمين سرّ القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي سابقاً
التاريـخ: صباح يوم الثلاثاء الواقع فيه 9 تشرين الثاني 2010
الموضوع: حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال التجربة الشخصية
أجرى المقابلة،
التسجيل والتحرير: الدكتور مصطفى دندشلي، رئيس المركز الثقافي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: ... في هذه المقابلة، سوف نتابع، أستاذ بشارة (مرهج) حديثنا في المقابلة الأولى، وأودّ أن ينتقل إلى مرحلة جديدة، مرحلة يتركَّز فيها الحديث حول موقعك في تحمُّل المسؤولية في حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، كيف تمَّ ذلك وفي أيِّ سنة وما هي ظروف تدرُّجك في تحمُّل هذه المسؤولية الحزبية؟! ذلك أنه في تلك الفترة كان قد ابتدأ الانشقاق الحزبي في لبنان يأخذ مجراه ووقوعه عام 1962وخروج معظم أعضاء القيادة القطرية بقيادة عبد الوهاب الشميطلي ورفاقه، فلم يَعد هناك من وجود حقيقي وفعلي على الأرض للحزب وفي مختلف المناطق اللبنانية، بل أخذنا نتحدث عن "هزة " عميقة كانت قد أصابت حزب البعث في الصميم، فتشتَّت على أثرها....
الأستاذ بشارة مرهج:... في الحقيقة، بين وقوع الانفصال عام 1961ـ أي انفصال سورية عن مصر وتفكك الجمهورية العربية المتحدة ـ، وبين انقلاب 8 آذار عام 1963، فقد كان حزب البعث فعلاً مُفكَّكاً ومنقسماً على نفسه. ولكن، في الوقت نفسه، كان يوجد خلايا حزبية بعثية ناشطة ومنظمات حزبية أيضاً تعمل بشكل معقول في مختلف المناطق اللبنانية ومن ضمنها منطقة بيروت حيث كانت الفرقة الحزبية الطالبية موجودة، بمعنى ما، وهي عبارة عن مجموعات من طلاب في جامعة بيروت العربية والجامعة اللبنانية والجامعة الأميركية. وقد تركَّزت فعلاً هذه الحلقات الحزبية في العام 1963 وذلك قبل قيام حركة 8 آذار.
وأنا، من جهتي، أصبحت في تلك الفترة مسؤولاً عن مجموعة طالبية وناشطاً عَبْر العمل الطلابي والثقافي حتى بتُّ عضواً فاعلاً في حزب البعث من حيث تحمُّلي مسؤوليات حزبية قيادية. فكنت على سبيل المثال مسؤولاً عن الفرقة الحزبية الطلابية وفي الوقت نفسه مسؤولاً عن عدد من الحلقات الطلابية بين تنظيم وتثقيف وإعداد هذه الحلقات.
ولكن بعد حركة 14 رمضان (8 شباط) في العراق وحركة 8 آذار عام 1963، بات هناك زخْمٌ حزبي. غير أن هذا الزَّخم لم يأخذ كل مداه، وذلك بسبب الصراع الداخلي في حزب البعث من خلال السلطة بين التيارات المختلفة فيما بينها، سواءً كان ذلك في العراق أو في سورية، وبين التيار القُطري والتيار القومي. يضاف إلى ذلك كُلّه تيار أكرم الحوراني. فالتيار القُطري في لبنان وسورية، مثلاً، كان قوياً جداً. ثم برز بحدَّة الصراعُ مع الناصرية ومع الرئيس عبدالناصر بالذات. فأحدث كلُّ ذلك تأثيراً كبيراً في وجود حزب البعث وتماسكه ونشاطه وتوسُّعه، لأن الجمهور والرأي العام في بيروت هما في الجوّ الناصري، والتيارات الشعبية هي تيارات ناصرية، لا شك في ذلك.
وكان حزب البعث العربي الاشتراكي في المرحلة السابقة قد لعب دوراً رائداً وقيادياً في أحداث أعوام 1956و1957 و1958 بفضل الاندماج وبنوع من التماهي الكلّي بين الرئيس عبدالناصر والناصرية آنذاك وبين حزب البعث العربي الاشتراكي. وكانت الجماهير الشعبية إنما هي جماهير واحدة، لا فرق بينهما. فلم يكن هناك أيُّ إشكالية في علاقاتهما بعضهما ببعض. وإنما كانت قد برزت بقوة وبحدَّة بعد الانفصال عام 1961، وتصاعدت أكثر فأكثر بعد 14 رمضان (8 شباط) في العراق وبعد 8 آذار 1963 في سورية، بعدما فشلت المحادثات الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، وفشل ميثاق العمل القومي في نيسان 1963، وأخذ كل واحد منهم طريقاً منفصلاً عن الآخر مع ارتفاع شدة الصراع وعنفه بينهم.
هذا الجوّ العام من الخلاف بين التيارَيْن القوميَّيْن، حليفَيْ الأمس أعداء اليوم، كان قد ترك أثراً كبيراً وعميقاً في الوجود الجماهيري لحزب البعث وفي العلاقة بين الحزب وبين الجمهور في لبنان حيث كانت الأغلبية الساحقة (في المناطق الإسلامية) هي الجماهير الناصرية.
في ما يتعلق بنا، نحن في الفِرقة الحزبية الطلابية، كنا قد رفضنا هذا الانقسام، ذلك أننا كنا نعيش حالة خاصة في الجامعة الأميركية وفي الجامعات الأخرى الموجودة في العاصمة بيروت. لقد كان الضغط الفعلي والأساسي علينا، أو بالأحرى التناقض الأساسي الذي نعيشه، إنما هو مع قوى "انعزالية" لبنانية داخل الجامعات اللبنانية والأميركية. لذلك، فقد كان همّنا إنما هو مواجهة هذه القوى الانعزالية، الترويج للفكرة العربية في أوساط الجامعات ومقاومة هذا النهج الانعزالي الفئوي ذي الأفق الضيِّق الذي لا يعترف بالعروبة وينظر إلى لبنان ككيان قائم بذاته خارج الأمة العربية، وكقومية لبنانية قائمة بذاتها. هذا هو أحد الأسباب الذي جعلنا أن لا نترك الانقسام العربي السياسي العام أن ينعكس علينا في الجامعة الأميركية.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، كنا، كطلاب وحزبيين نريد التقدُّم على صعيد الثورة العربية، كنا نرى إلى الخلاف ما بين عبدالناصر وحزب البعث أنه خلاف لا مبرِّر له. ولم نكن مقتنعين بالخلاف بينهما، ولا بمبرِّراته، ولم نتعصَّب ـ نحن هذه المجموعة، رُغم أننا بعثيون ـ لحزبنا في وجه عبدالناصر. ربما كنا أكثر حزبيَّةً، طبعاً بشكل عفوي، عندما نواجه الحركات الانعزالية اللبنانية والحركات التي تعمل على إلغاء عروبة لبنان وانفصال لبنان المطلق عن عروبته. لقد كنا نشعر ونُحسُّ تجربة الانفصال التي حدثت في سورية، كما لو أنها عار تاريخي يجب غسله، يجب إسقاطه، عَبُر النضال الوحدوي.
لذلك كنا قد قلنا في حينه إن من أولى واجباتنا، إنما هو الحفاظ على العلاقة بين القوى القومية العربية، ولا يجوز أن نقبل أن نكون نحن الصدى في الجامعات لهذا الخلاف الخارجي. فنَسَجنا علاقات جيدة مع حركة القوميين العرب ومع الناصريين ومع القوى الفلسطينية ذات النَّزعة الناصرية في الجامعات. واستطعنا إلى حدٍّ كبير أن نُجنِّب العمل الطلابي الوطني شرورَ الانقسام على الصعيد القومي. وكنا نقول دائماً إننا يجب أن نعاكس هذا الانقسام في الجامعة ونقف في وجهه. وإذا كان رفاقنا على الصعيد القومي في صراع فيما بينهم، فينبغي أن نكون نحن أداة إصلاح ذات البَيْن وتواصل وحوار.
من هنا، كان لدينا ما يمكنني أن أسمِّيَه "النَّفَس الديمقراطي"، مما يجعلنا أن لا نقبل هذه الوَحدانية الحزبية: بمعنى "أنَّ حزبي على حقٍّ"، أو وطني دائماً على حقٍّ، أو أُمّتي دائماً على حقٍّ. في حين أننا نحن كنا نعتبر أن هذه المسائل جميعها قابلة للبحث والحوار. ومَن يقرِّر في نهاية الأمر هم "الناس"، الرأي العام، وليس أنت أو أنا، وليس الموقع الأعلى أو الأدنى، سواءً كان حزبياً أو رئاسياً، أو مَن يعتبر نفسه أنه يمتلك الحقيقة وَحده، أو أن القرار بيده !! لا!!.
كنا نحن نعتبر على العكس أن الجماهير لها الدَّور الأكبر في تقرير المصير وفي تقرير المواقف الأصح، بالنسبة لمصالحها ولمصالح الأمة عامة. من هنا، كنا ضد وَحدانية الرأي. فكما أننا لم نقبل بحلِّ الأحزاب السياسية عند قيام الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 وأن يكون هناك رأيٌ واحدٌ أو وَحدانية السلطة والحكم في الجمهورية الجديدة، كذلك رفضنا تحت حجة الخلاف مع الأجهزة الناصرية، أن نغدُوَ ضد عبدالناصر وضد الحكم الناصري وضد الوحدة القومية مع الناصرية. بل العكس، إن هذه الخلافات يجب أن تعزِّز إيماننا بالقومية العربية وبالوحدة العربية ونعود ونناضل من جديد من أجل الوحدة العربية.
لهذا، كان صدامنا قومياً (أي على الصعيد القومي) مع البعثيين الذين انزلقوا في عملية ردِّ الفعل ـ أي مع القطريين اللبنانيين والسوريين والعراقيين والأردنيين وفي كل مكان ـ منذ أن كانت هناك مجموعات من البعثيين قد انفعلت انفعالاً شديداً ضد الوَحدة مع عبدالناصر واعتبرت من غير وجه حقِّ أن الممارسات الخاطئة التي حدثت أثناء الوَحدة بين مصر وسورية، هي الوَحدة بذاتها، بينما الوَحدة الحقيقية إنما كانت ضحية لهذه الممارسات التي أتت على أيدي الأجهزة الحاكمة، وللتقصير الفاضح الذي حصل نتيجة ذلك، فضلاً عن التدخلات الخارجية الاستعمارية.
وهناك أيضاً فئة أخرى من البعثيين كانت قد خرجت من الحزب واعتبرت أنه كان على حزب البعث أن يمشي في ركاب الناصرية، دون أيِّ سؤال أو جواب. كذلك، نحن كنا اعترضنا على هذه النظرة للأمور وكان موقفنا: لا!!... وقلنا: لا انسياق، ولا عدائية... لا التحاق ولا عدوانية.... موقف رصين، قومي، يُصرُّ على الحوار بين التيارات القومية العربية ويُصرُّ على الديمقراطية ويُصرُّ على التَّواصل مهما كان، مع عبدالناصر ومع كل القوى القومية العربية.
في هذا السياق، برز "التيار الثالث" الذي شعرنا أنفسنا أننا نحن ضمنه، وهو في الحقيقة التيار القومي العربي الذي يُصرُّ على حسن العلاقة مع عبدالناصر ويُصرُّ على علاقة جبْهوية مع كل القوى القومية: لا التحاق ولا ادِّعاء ولا عداوة. طبعاً، كان موقفنا صعباً للغاية وكل فريق كان يتهمنا بالتفريط بالفكر القومي... ولكن في الحقيقة موقفنا كان يسير في اتجاه القيادة القومية، وشعرنا بتقارب إلى حد بعيد مع توجهاتها العامة، ومع قيادة الأستاذ ميشال عفلق. لهذا اعتبرنا أنفسنا وكأننا فريق أو اتجاه واحد من الناحية القومية والفكرية والسياسية.
على هذا الأساس، تابعنا نضالنا في لبنان. وفي هذه المرحلة أخذتُ أتولّى مناصب حزبية أكثر فأكثر من القاعدة إلى الأعلى، بداية في الوسط الطلابي ومن ثمَّ أصبحت مسؤولاً عن قيادة فرع بيروت وذلك بعد عام 1967 .
س:... ولكن، في البداية، ما بين 1961 ـ 1963، هل كنتم قد حاولتم لَمْلمة صفوف حزب البعث المشتَّتة وأعدتم لُحمته في بيروت؟!...
ج:... طبعاً، طبعاً، لقد عانينا كثيراً في سبيل ذلك ولم يحصل ما حاولنا أن نقوم به بسهولة، لأن الأغلبية السابقة في قواعد الحزب وكادراته وقياداته، كانت قد انشقَّت وخرجت، سواءٌ مع القطريين أو مع الناصريين. فكنا في هذه الحالة نعمل على إعادة بناء الحزب من جديد.
س:... إذن، كما أفهم من كلامك، قد كنتم نواة حزبية صغيرة ومحصورة في الجامعة الأميركية...
ج:... (مقاطعاً) وفي الجامعات الأخرى وفي العاصمة بيروت كذلك. لقد كان في بيروت آنذاك عددٌ من الفِرَق الحزبية القائمة والمستمرَّة، سواءً كانت فِرقة عمالية أو فِرقة طلابية وغيرهما، التي جميعها بقيت على نهج القيادة القومية. ولكن الصدمة الكبرى التي أُصِبنا بها، هي حدث 23 شباط 1966 . بمعنى آخر، بعد نكسة الحزب في 14 رمضان (8 شباط) 1963 في العراق واختلاله وسقوطه في بغداد، أخذت الأنظار تتجه نحو حكم البعث في سورية. وكان الصراع على أشدِّه داخل السلطة وبين الأجنحة الحزبية المتعدِّدة. بالإضافة إلى ذلك كله الصراع مع الناصرية وسقوط ميثاق 17 نيسان 1963 على أثر الصدامات المسلّحة الدامية التي وقعت أحداثها في دمشق بين الناصريين والجيش في 18 تموز من السنة نفسها.
أما في ما يتعلق بنا، فنحن كنا مع الشرعية الحزبية أي مع القيادة القومية، ورفضنا حركة 23 شباط. من هنا، عاد الحزب مرة أخرى وانقسم على نفسه في لبنان. ولكننا تابعنا نحن نضالنا الحزبي بالتفاهم مع القيادة القومية التي هي أيضاً في تلك الفترة بالذات، كانت قد باتت في مهبِّ الريح: بعد أن سُجن عدد كبير من أعضائها وهرب قيادات وكادرات الحزب، من استطاع إلى الهروب سبيلاً، مثلاً الأمين العام للحزب ميشال عفلق (لجأ إلى لبنان ومن هنا إلى البرازيل ).. إننا اعتبرنا أن حركة 23 شباط هي حركة انقلابية عسكرية، فألغت الحياة الديمقراطية داخل الحزب. وهنا في لبنان، على الأثر كذلك، أُعتقل معظم أعضاء القيادة القطرية، (وقيادات الحزب في جريدة الأحرار)، مثلاً الدكتور عبدالمجيد الرافعي ونقولا الفرزلي وغيرهما.
س:... جيِّد، ولكن في هذا السياق، أودُّ أن أطرح عليك سؤالاً مفاده: مع البُعد الزمني، ما هو تفسيرك أو تحليلك لقيام حركة 23 شباط 1966؟!. وكيف ترى إلى أسبابها ودوافعها العميقة الحقيقية: هل هي صراع بين يمين ويسار بين التيارات البعثية أم صراع على السُلطة: بمنتهى البساطة؟!...
ج:... نحن، بالنسبة إلينا، نحن نعلم ما كان يجري على السطح، أما الباطن فلم يكن لدينا المعلومات الكافية..
س:... ولكن، أقول: مع البُعد الزمني، أَلَم تتوصل إلى تحليل لتلك الأحداث الحزبية التي هزَّت الحزب من أساسه وسُلطة البعث في دمشق بعد سقوطه في بغداد؟!...
ج:... الحقيقة، إذا أردتُ، في العمق، أن أقول شيئاً، فقد كان هناك صراعٌ بين العسكريين البعثيين والمدنيين البعثيين. والواقع فإن البعثيين العسكريين أثناء تجربة الانفصال (وبعد قيام الوَحدة ما بين مصر وسورية)، كانوا قد عانوا معاناة شديدة. منهم مَن كان مُبعداً في مصر ومنهم مَن كان قد سُرِّح من الجيش، أي كان لديهم معاناة خاصة بهم على صعيد مهنتهم ووظيفتهم وعلى صعيد وضعهم الشخصي. فشعروا من جراء ذلك كله بالمهانة والإبعاد، فسعوْا إلى تكتلهم ونتج عن ذلك تأسيس اللَّجنة العسكرية التي كانت تضم: محمد عمران وحافظ الأسد وصلاح حديد وغيرهم.
وكانت هذه اللَّجنة العسكرية قد أخذت بعين الاعتبار أن الحزب قد حلَّ نفسه كشرط لقيام الوحدة مع مصر ولم يستطع الحزب في الوقت نفسه أن يتكافأ مع عبدالناصر وأن يحافظ على مواقعه ومواقع العسكريين تحديداً. مما أحدث نوعاً من الحساسية (أو عدم ثقة ومعارضة) تجاه القيادة الحزبية التي حُمِّلت مسؤولية ما آل إليه واقع الحزب من انهيار وتشتُّت. وإذا كان العسكريون قد استمروا في انتمائهم إلى حزب البعث، (أو بالأحرى إلى كونهم بعثيين) إلاَّ أنهم أوجدوا تنظيماً خاصاً بهم ومستقلاً كل الاستقلال عن القيادة القومية (وعن التيارات الحزبية الأخرى).
من هنا، وفي هذا النطاق، ومع تطور الظروف والأوضاع السياسية، فإن هذا التنظيم الحزبي (السرِّي)، كان قد اتخذ بطبيعة الحال طابعاً عسكرياً نظراً لتنظيماتهم العسكرية التي يعيشونها الخاصة بهم. ومنسوب الديمقراطية (التي يعرفها الحزب بالاعتماد على نظامه الداخلي)، إنما كان منخفضاً لديهم (في تنظيماتهم وفي تفكيرهم)، مما أدَّى إلى ابتعاد كل طرف عن الآخر(الحزب من جهة والعسكريون من جهة أخرى). والقيادة القومية (بحكم تركيبتها وتكوينها وسياستها) لم تستطع أن تكوِّن تشكيلاً أو تنظيماً عسكرياً خاصاً بها، فهي غير مؤمنة أساساً بقيام تنظيم عسكري له طابع سرِّي. في حين أن البعثيين العسكريين استطاعوا، كما ذكرت، أن يقيموا تنظيماً عسكرياً سرِّياً ويتصرف كوَحدة مستقلة متكاملة. فالقيادة القومية من جهتها اتبعت الأسلوب العادي: "مكتب عسكري" يضمُّ قيادات حزبية معروفة، ويكون خاضعاً للقيادة الحزبية.
ومن جهة أخرى، فإن اللَّجنة العسكرية كانت قد اعتبرت نفسها ضمناً أنها هي القيادة الحزبية (الفاعلة والمؤثرة)، مما أدّى ذلك كله إلى الصدام العنيف بين الطرفيْن في 23 شباط 1966. وقد حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه القيادة القومية ما زالت مُصرَّة على التواصل بطريقة أو بأخرى، مع الرئيس عبدالناصر وفتح صفحات جديدة معه. بينما الفريق العسكري، (أو بالأحرى معظم أعضاء اللَّجنة العسكرية) والقيادات القطرية الذين يدعمونه حزبياً، لم يكونوا جميعاً في هذا التوجُّه ولا في هذا الاتجاه إطلاقاً حينذاك. أي بمعنى آخر، إن فريق 23 شباط (بجناحَيْه العسكري والمدني) كان في حالة يائسة (أو حتى معارضة كلياً) من عبدالناصر ومن نظام عبدالناصر، ومن أيِّ تفاهم مع الجمهورية العربية المتحدة. وكان ذلك، انطلاقاً من موقف ضباط 23 شباط وتجربتهم العسكرية، فقد اعتبروا أن الهدف الآنيّ الحقيقي والواقعي بالنسبة إليهم هو السيطرة على الجيش والسيطرة على الحزب في آنٍ، وبالتالي السيطرة عن طريقهما (أي الجيش والحزب) على الحكم وتكون السلطة السياسية في عهدة اللَّجنة العسكرية. وهذا ما أطلقت عليه أنا تسمية: "الخطاب المنسوب" إلى المفهوم الأدنى للديمقراطية. ذلك لأنهم قد اعتبروا أنهم إذا كانوا يريدون أن يحافظوا على وجودهم وسلطتهم، فمن الأهمية الآن أن لا يكرِّروا التجربة الماضية وأن لا يسلِّموا زمام أمورهم لأيِّ كان.
عندما قامت حركة 8 آذار 1963، صحيح أنه قد شارك فيها بعض التيارات الناصرية، ضباطاً ومدنيين، وبعض القوى القومية الأخرى، ولكن بقيَ التكتل العسكري المتماسك الأقوى هو تكتل الضباط البعثيين، ضمن ما كان يسمى "اللَّجنة العسكرية"، وهي الحلقة الضيقة الداخلية المسيطرة ذات الفروع المتشعِّبة. ومنذ البداية، بدا بروز النفوذ الناصري بقوة (القوى القومية الناصرية تحركت: الشارع المدني والجامعات، تظاهرات شعبية عامة في سورية، والإعلام المصري استنفر والضباط الناصرون زاد نفوذهم داخل الجيش السوري)، مما أدّى إلى تفاعلات وصدامات وظهور رغبة الناصريين في العودة بصراحة إلى الحكم. كل ذلك أكَّد تخوُّفَ ضباط اللَّجنة العسكرية من عودة الأمور في سورية إلى سيرتها الأولى وثبَّت لديهم نظريَّتهم في السيطرة على السلطة كاملة في دمشق لكي يمنعوا بشتى الوسائل وجود قوى أخرى غير البعثيين داخل الجيش. وهكذا كان، إلى أن تطوَّرت الأمور بسرعة فائقة، وابتدأ الانتقال تدريجاً يأخذ طريقه إلى فكرة الحزب القائد.
أما نحن هنا في لبنان، فلم يكن ممكناً لنا أن نتخيَّل أن يكون الحزب قائداً في السلطة وفي الدولة. بل يمكننا أن نتصوَّر أن يكون الحزب القائد بمعنى النضال، العطاء، مقاومة إسرائيل. إنما أن يُسمِّي حزبٌ نفسَه أنه الحزب القائد في الدولة، فهذا الأمر أو هذا المفهوم لم يستطع أن يدخل ذهني. وهو في الواقع تقليد ونقل للتجربة الشيوعية. وهنا قد ابتدأ التأثير الشيوعي في الحزب الحاكم في سورية والإعجاب المفرط بنظام الاتحاد السوفياتي والثورة الفيتنامية في تلك المرحلة.
فنحن، في لبنان، لم نستصغ هذا النهج وهذا التحوُّل داخل حزب البعث. فبقى بالنسبة إلينا حزب البعث العربي الاشتراكي الحزب الجماهيري، حزب النضال الشعبي، حزب الوَحدة العربية، حزب النضال الفكري القومي الذي واجه الحزب الشيوعي والشيوعيين وهم في ذروة قوتهم ووراءهم معسكر كبير يدعمهم. مع كل ذلك، واجههم حزب البعث وانتقدهم وعارضهم لعدم اعترافهم بالقومية العربية ولا يعترفون بموقع الدين في حياة الإنسان.
أما نحن، بالنسبة إلينا كأمة عربية، فإن الدين له موقع كبير في حياتنا. وهذه الناحية إنما هي سرّ حزب البعث، لأن العلاقة بين القومية العربية والدين تختلف كلياً عن علاقة الأمم الأخرى بأديانها. فهي بنظرنا علاقة عضوية بين العروبة والإسلام. فهنا قد كان الصراع عنيفاً (في هذه الناحية وفي نواحي أخرى) مع الحزب الشيوعي ومع الشيوعيين. ولهذا السبب بالذات الذي جعل حزب البعث أن يستقطب الجماهير العربية والجماهير الطلابية تحديداً.
ولم يواجه حزب البعث الحزب الشيوعي فقط وإنما أيضاً وقف في وجه الإخوان المسلمين الذين أكدوا على الإسلام، إلا أنهم قد استبعدوا فكرة العروبة. كذلك وبنفس الحدَّة، وقع صراع عنيف بين البعثيين والإخوان المسلمين في سورية.
فإذا كان حزب البعث العربي الاشتراكي حزباً بالفعل قائداً، إنما قد جرى ذلك من خلال الممارسة النضالية، من خلال العمل الشعبي والعمل الفكري، وليس من خلال قرار فوقي، سلطوي. إن الجماهيري الشعبية هي التي تُطلق التسمية على الحزب القائد، وليس هو نفسه من يحقُّ له أن يُطلق على نفسه هذه الصفة: "الحزب القائد". هذه هي النقطة الأساسية والمحورية التي كانت دائماً على جدول الأعمال بيننا وبين رفاقنا في سورية ورفاقنا في العراق. فقد كانت إشكالية دائمة في العلاقة بيننا وبينهم.
س:... فإذن، وكما أَوْضحتَ، فقد أحدثت حركة 23 شباط 1966 لديكم هنا في لبنان انتكاسة أخرى عنيفة وهزَّة قوية داخل الحزب ونتج عن ذلك انشقاقات شملت جميع فروع البعث في مختلف المناطق.
ج:... طبعاً، طبعاً، الأكثرية الساحقة من البعثيين انضموا إلى صفوف حركة 23 شباط وعلى رأسهم: عاصم قانصو ومحمود بيضون ومالك الأمين وعبدالله الشهّال وغيرهم كثيرٌ من القيادات والكادرات الحزبية.
س:... إذن، على أثر حركة 23 شباط عام 1966 ...
ج:... (مقاطعاً) أخذنا، نحن هنا في لبنان، الخيار القومي الديمقراطي واتخذنا قرار معارضة هذه الحركة، باعتبارها حركة ذات طابع عسكري وقُطري. وهي في هذه الحالة لا تنسجم في تقديرنا مع أفكار حزب البعث الأساسية ومنطلقاته النظرية. ولكن في الوقت نفسه، لم نتَّخذ الجانب العدائي مع وجود الاختلاف بيننا في وجهات النظر. ولكن للأسف، فقد مورس ضغوط شديدة على السلطة اللبنانية، مما أدّى إلى اعتقال أعضاء القيادة القُطرية في لبنان (لفترة زمنية، ثم أفرج عنهم).
في غمرة هذه الأحداث وبما أننا كنا نحن القيادات الحزبية من الصف الثاني، فكان من الطبيعي أن نستلم زمام الأمور وقيادة الحزب (تحت اسم الَّلجنة التحضيرية لإعادة تنظيم حزب البعث في لبنان). وأوكل إلينا المَهمات الحزبية بصورة مباشرة. في هذه المرحلة، فقد زاد نشاطنا وتضاعف على الصعيد الطلابي وعلى الصعيد العمالي وكذلك على الصعيد الشعبي. وبدأت حلقاتنا الحزبية تنتشر تدريجاً في العاصمة بيروت وفي الضواحي: في برج حمّود، برج البراجنة، الليلكي، الشويفات، عاليه، جبيل، كسروان، المتن الشمالي.
وبالفعل، فقد كان التجاوب في جميع هذه المناطق كبيراً وفي ازدياد مضطرد. وأقمنا عدداً كبيراً من الحلقات الحزبية: أصدقاءً وأنصاراً. وبكلام أكثر وضوحاً، حتى في هذه المناطق المسيحية، غدا لنا حضور ووجود. على سبيل المثال في فترة السبعينات (من القرن الماضي) أنا كنت مسؤولاً عن حلقتَين في برج البراجنة ومسؤولاً أيضاً عن عدد من المجموعات، أصدقاءً وأنصاراً، في المتن الشمالي.
ولكن، لم نكد نستوعب انعكاسات حركة 23 شباط ونتائجها المؤلمة والصعبة على الحزب في لبنان، حتى وقعت النكسة الكبرى أو هزيمة حزيران عام 1967، التي أحدثت تأثيراً كبيراً في تفكيرنا ووجداننا، نحن كطلاب جامعيين وكبعثيين، فكان هذا التأثير بالغاً وشاقاً في نفوسنا. وقد وقع ذلك في الوقت الذي كنا نعتبر فيه أنّ الدَّوْرة قد اكتملت ولابد من انطلاقة جديدة للعمل الشعبي والكفاح الشعبي المسلّح والكفاح القومي العربي المسلّح: بمعنى العودة إلى الجذور، والعودة إلى القتال ضد الاستعمار.
من هنا، أصبح لدينا قناعة أنّ الحزب لا يكتمل إلاّ إذا انخرط في العمل الأساسي، ألا وهو التوجُّه نحو فلسطين. والتوجُّه نحو فلسطين لا معنى له إلاّ إذا كان مقترناً بالكفاح المسلّح. واعتبرنا أن الحزب، إذا أراد أن يكون صادقاً في نظرته للقضية القومية وملتزماً بمنطلقاته الفكرية، يجب أن يطوِّر نفسه تنظيمياً وأن يكون جزءاً من هذه العملية التاريخية، وهي عملية الكفاح الشعبي المسلّح في فلسطين ومن أجل فلسطين.
وكنا نرى في هذا الجانب أنه لا يجوز ترك هذا العبء على كاهل الشعب الفلسطيني لوحده. ذلك أن قضية فلسطين ليست هي فقط قضية الشعب الفلسطيني، بل هي أيضاً قضية عربية وقضية إنسانية. وبالتالي، حتى يكون حزب البعث منسجماً مع نفسه وصادقاً ووجوده حقيقياً وممارسة، من الواجب أن ينطلق في عملية الكفاح المسلّح من أجل تحرير فلسطين. من هنا، نبتت فكرة قيام "جبهة التحرير العربية".
س:... متى نشأت جبهة التحرير العربية وفي أيِّ سنة حسب علمك؟!..
ج:... عام 1968، عندما بدأت الحلقات الحزبية تضغط في هذا الاتجاه وتناقش موضوع الكفاح المسلح.
س:... ما هو دور خالد يشترطي في هذا الاتجاه؟!..
ج:... خالد يشترطي، كان صديقنا. وكانت علاقته بالحزب لم تعد، حقيقةً، تنظيمية، وإنما بقيت علاقة فكرية وثقافية. وقد انصبَّ اهتمامه آنذاك من أجل تطوير حركة فتح وتنميتها وتنظيمها. ذلك أنه كان قد التحق بها معظم البعثيين الفلسطينيين. من هنا كانت علاقتنا وثيقة بحركة فتح حيث لعب خالد يشترطي في هذا الاتجاه دوراً كبيراً، هو وزوجته ندى. وكان دوره حقيقة في هذا التفاعل البعثي ـ الفتحاوي.
فعن هذا الطريق، مثلاً، كنا نحن قد تعرفنا إلى "أبو عمار" (ياسر عرفات) عام 1965 تقريباً. وكان لنا صداقات مع مجمل الفريق الفلسطيني الذي جاء إلى لبنان، وفي المقدمة الشاعر كمال ناصر، وهو حزبي بعثي، الذي هو أيضاً كان قد لعب دوراً كبيراً في مدِّ الجسور ما بين حزب البعث وحركة فتح، وإقامة علاقات الصداقة مع جميع قيادات فتح، إلى جانب طبعاً خالد يشترطي، سواء يوسف النجار، أو فاروق القدومي، أو كمال عدوان أو خالد الحسن أو هاني الحسن أو أبو عمار نفسه. فكنا تقريباً مُناخاً واحداً وجواً واحداً وبيئة واحدة.
س:... هل كانت توجُّهات هؤلاء جميعاً توجُّهات قومية عربية أم توجُّهات وطنية فلسطينيّة؟!..
ج:... في تلك الفترة، وكتيار فتحاوي، كان في داخله تأثيراتٌ بعثية وعناصر من البعث، وإنما التأثير الأكبر وما كان له التأثير العميق، هو تأثير النكسة، هزيمة 1967. هذه القيادات الفتحاوية، كانوا في السابق منتشرين في مختلف الأحزاب العربية. فمع الهزيمة، شعروا أنهم يجب أن يكون لفلسطين نضال وطني خاص بها، يجب أن يركِّزوا تركيزاً كاملاً وحصراً على النضال الفلسطيني.
فكما، نحن، في الأحزاب القومية كنا كثيري الانهماك السياسي والوطني والصراع في مواجهة أنظمة الحكم العربية والسياسات العربية الخارجية، إلخ... فكنا قد ابتعدنا عن قضية فلسطين، عدنا ورأينا أنه يجب علينا أن ننكبَّ على هذه القضية المحورية، كذلك الشباب الفلسطينيون الذين كانوا يتوزَّعون في مختلف الأحزاب السياسية، قد اعتبروا أن نضالهم أضحى مشتَّتاً ولم يعطوا فلسطين حقَّها من نضالهم كما يجب عليهم أن يعطوه، فينبغي إذن أن يتوجّهوا لإقامة وإنشاء حركة نضالية خاصة بهم ومن أجل قضيتهم وبناء تنظيم خاص للقضية الفلسطينية. على هذا الأساس، كانت قد نشأت حركة فتح. بينما نحن كنا قد اعترضنا على هذا التَّوجُّه. وكانت وجهة نظرنا أنه من الأهمية بل من الواجب التركيز على النضال الفلسطيني، ولكن ينبغي دائماً وباستمرار الحفاظ على طابع هذا النضال القومي العربي.
في هذه الناحية، كنا قد اختلفنا مع حركة فتح منذ العام 1970، مع الحفاظ على الصداقة والأخوَّة فيما بيننا. أقصد، نحن كفريق، هذه البيئة البعثية في لبنان، التي كنا نحن نمثّلها، بقينا على تواصل وودٍّ مع حركة فتح، رغم الخلافات بيننا. وكان معن (بشور) عقد ندوة عام 1970ـ أي منذ أربعين سنة بالتمام ـ شارك فيها هاني الحسن، قال فيها إن الحركة الفلسطينية ستقود حتماً إلى قيام دويلة فلسطينية. بمعنى أن هذا التفكير(القطري) سيؤدي إلى قيام دولة فلسطينية (قطرية) إلى جانب باقي الدول العربية... قال هذا الكلام معن (بشور) منذ ذلك الحين، من منظور ومن منطلق قومي عربي.
إن هذا الموضوع كان موْضع بحث ونقاش، في الوقت الذي كنا نعمل فيه على تأسيس جبهة التحرير العربية. فتوجَّه معن (بشور) إليهم بالكلام قائلاً: إن هذه المنهجية الفكرية ـ السياسية التي تسيرون على خطاها، ستؤدي إلى دويلة فلسطينية لن تكون قابلة للحياة. قال هذا الكلام عام 1970. وهذا هو رأينا في ذلك الحين، ومعن (بشور) يعبِّر عن وجهة نظرنا.
ولم يكن تفكيرنا هذا فقط وإنما أيضاً كان تفكير الأستاذ ميشال عفلق، وكذلك منح الصلح لعب دوراً كبيراً في هذه القضية. وكان توجُّهنا آنذاك هو نحو تشكيل جبهة التحرير العربية، أن تكون، طبعاً، معبِّرة عن التيار القومي العربي ومعبِّرة فوق ذلك عن المشاركة العربية في العمل من أجل القضية الفلسطينية وفي الكفاح المسلح الفلسطيني. ولكن، فقد تحوَّلت فيما بعد جبهة التحرير العربية إلى جزء من نظام البعث العراقي. ومن هنا، دبَّ الخلاف بيننا وبين نظام حكم البعث في العراق. ففي الوقت الذي كنا فيه نحن المؤسسين لجبهة التحرير العربية، لم نلبث أن خرجنا منها، أو في حقيقة الأمر أُخرجنا منها. وهذا موضوع آخر بالغ الأهمية من الناحية التاريخية، سوف نتحدث عنه فيما بعد.
س:... بعد هذه الجولة والإحاطة العامة، لنعد إلى موضوعنا الأول، إلى نقطة البداية: تدرُّجك في المواقع الحزبية...
ج:...(مقاطعاً)، في هذه الأجواء انتخبتُ عام 1966 أمين سرّ لفرع الحزب في بيروت. ومن ثمَّ انتخبتُ عضواً في القيادة القطرية. في هذه الفترة كنت من ضمن المجموعة التي التحقت بــ "جبهة التحرير العربية". وكان تفكيرنا حينذاك وتوجُّهنا هو بناء ـ كما كنا نعتقد ـ هذه المؤسسة الكفاحية القومية، والمشاركة في الثورة الفلسطينية. وكنت أنا من الأوائل الذين التحقوا بجبهة التحرير الفلسطينية. وكان عبدالوهاب الكيالي، المؤرّخ المعروف ـ أمين عام الجبهة وأنا مساعده، نائب الأمين العام. وقبل عبدالوهاب الكيالي كان زيد حيدر، عضو قيادة قومية ـ وهو من بعلبك ـ بعد أن هرب من سورية على أثر حركة 23 شباط 1966. في ما يتعلق بي، فقد كنت دائماً نائب الأمين العام والمسؤول عن الساحة اللبنانية. وحين غياب الأمين العام كنت أقوم بجميع المهمات في كثير من الأحيان. وفي الوقت نفسه كنت عضو قيادة قطرية للحزب في لبنان.
وهنا، في هذا النطاق، ينبغي أن أشير إلى أنه بعد أن أنجزت مرحلة التدريب (على السلاح والقتال) والتحقت بمنطقة الجنوب وعشت في قواعد الفدائيين بعد بنائها، وفي الوقت نفسه ابتدأ تأسيس المؤتمر الوطني لدعم الجنوب: ومهمته تسهيل بقاء المواطنين في أراضيهم، المساهمة في المشاريع الإنمائية، بناء الملاجئ، الحصون، الخنادق، إقامة مجاري المياه، تعمير البيوت التي تهدَّمت. ونساهم في العمل لإيجاد الحلول من هذا النوع. والحركة الأخرى هي نشاطنا الحزبي. ومهمتنا الثالثة هي العمل الفدائي. إذن، كنت أقوم بنشاط على ثلاثة مستويات: ضمن المؤتمر الوطني لدعم الجنوب، العمل الحزبي، العمل الفدائي المسلح.
وكان ذلك بعد عام 1969 وبعد اتفاقية القاهرة الشهيرة وإقامة قواعد "فتح ـ لاند" في منطقة العرقوب. فعندما كنت موجوداً في الجنوب، في تلك الأثناء، انتخبتُ أمين سرّ القيادة القطرية لحزب البعث في لبنان. فكان انتخابي إنما يعني توجُّه حزب البعث في هذا الاتجاه. وذلك بصفتي في ما سبق أمين سرّ فرع بيروت، وعضو قيادة قطرية وملتحق بالعمل الفدائي المسلح في منطقة الجنوب، قد انتخبتُ أمين سرّ القيادة القطرية في لبنان، وكان عمري آنذاك لم يتجاوز بعدُ الرابعة والعشرين سنة.
وكان هذا في مضمونه تطوُّراً كبيراً وهو بحد ذاته إعلان أو، إذا شئت، رمزٌ يدل على أن حزب البعث العربي الاشتراكي اتجاهه إنما هو نحو"الشباب"، ونحو"الكفاح المسلح" من أجل تحرير فلسطين، ونحو الجنوب اللبناني والعمل الشعبي والجماهيري، ونحو ربط الفكر النظري بالممارسة العملية، وربط الممارسة بالأيديولوجية. مما يعني أيضاً أننا قد اعتبرنا أن الهزيمة تفرض علينا نمطاً جديداً من العمل الشعبي الجماهيري والعمل الكفاحي المسلح والعمل الفكري على أرض الواقع. وهكذا نشأت هذه الروح الجديدة في حزب البعث وتوسَّع الحزب في تلك الفترة توسُّعاً كبيراً.
في هذه الأثناء، قبل ذلك بقليل أو بعده، حدث، في 17 تموز، 1968، وقوع حركة الانقلاب في العراق، والحركة التصحيحية في تشرين الثاني 1970 في سورية.
في 17-30 تموز 1968، استلم حزب البعث السلطة في العراق. وكان الأستاذ ميشال عفلق في البرازيل. ونحن هنا في لبنان كنا جزءاً من عمل القيادة القومية: مكتب الاتصال القومي. وكان إصرارُنا على المنهجية القومية والعمل القومي الموحَّد. وعندما وصل الحزب إلى استلام السلطة في بغداد، وكانت "ثورة بيضاء" إلى حدٍّ ما، حصلت مناقشات فكرية واسعة بيننا وبينهم (أي بين أعضاء القيادة القطرية في العراق). ورأينا آنذاك هو أنّ الحزب ينبغي أن يأتي إلى السلطة عن طريق العمل الشعبي وعن طريق العمل الديمقراطي الجماهيري.
س:... هل كان لكم موقفٌ معارضٌ للحزب، أو لعملية الانقلاب التي حدثت في 17-30 تموز في العراق؟
ج:... لا، لم يكن موقفاً معارضاً، وإنما لم يكن موقفاً مؤيداً. لقد اعتبرنا أن طريق الانقلابات العسكرية ليس هو الطريق الصحيح والسليم. ولكنهم جاؤوا وأخذوا يشرحون لنا ظروف العراق السياسية، ولولا هذه القوة الشعبية التي يتمتع بها حزب البعث، فلم يكن باستطاعتهم أن يقوموا بهذا التحرك ويمكنهم أن يستعيدوا السلطة مرة أخرى. وإنهم في الواقع قد استعادوا شيئاً فقدوه، كانوا هم أنفسهم مسؤولين عنه، وإن الحركة التي قاموا بها، لم يقع فيها نقطة دم في مراحلها الأولى. وإن رغبتهم الحقيقية إنما هو الالتحاق بالقيادة القومية والانطواء تحت لوائها. وأخذت منذ ذلك الحين، الاتصالات وعلاقات التواصل واللقاءات تتكرر بيننا وبينهم.
في خضمّ تلك الأحداث، كان قد ذهب في اليومَيْن الأوليْن معن (بشور) إلى بغداد بصفته الصحافية، وكتب في حينها أن ما حدث في العراق إنما هو انقلاب لا ثورة. وهذا العنوان الذي وضعته مجلة الحوادث التي كان يكتب فيها، اعترض عليه معن لعدم إغضاب الأخوة العراقيين. هذا يعني أنه قد كان من الصَّعب علينا أن نقبل أن يقوم حزبنا بعملية انقلاب عسكري.
س:... كذلك ميشال عفلق، فيما يبدو، كان في هذا الاتجاه!!
ج:... طبعاً، ميشال عفلق الشيء نفسه. لذلك كانوا قد أوفدوا إليه وفوداً إلى البرازيل وفتحوا معه نقاشاً طويلاً لإقناعه بتأييد ما حدث في العراق. هذا الموقف، إنما كان انطلاقاً من تجربة سورية في هذا الموضوع... ذلك أن تجربة الانقلاب العسكري لم تكن ناجحة وأن حزب البعث العربي الاشتراكي في السبعينات من القرن الماضي، كان قد نجح انطلاقاً من العمل البرلماني، العمل الجماهيري الديمقراطي. والحزب آنذاك كان مؤمناً بالكفاح الشعبي والنضال الشعبي والنضال الديمقراطي، ولم يكن منذ البداية مؤيداً للانقلابات العسكرية ولا معتقداً بجدواها ونجاحها. ولقد وصل الحزب إلى السلطة في سورية من خلال الانتخابات النيابية والعمل البرلماني الديمقراطي، والعمل الشعبي: عن طريق المظاهرات الجماهيرية والعمالية والفلاحية والطلابية في المدارس والجامعات. فلم يصل إلى هذه القوة والنفوذ الشعبي الواسع عن طريق الانقلابات العسكرية. فضلاً عن أن الانقلابات العسكرية كانت قد شلَّت روح الحزب الحقيقية.
س:... ما دمنا نتحدث في هذا الموضوع بالذات، فالسؤال الذي يطرحه الواحد منا على نفسه هو التالي: فقبل القيام بحركة 17-30 تموز 1968 والتي قام بها حزب البعث في حقيقة الأمر، ألم يُنسَّق مُسْبقاً مع الأستاذ ميشال عفلق الأمين العام للحزب؟!..
ج:... ما حصل هنا في لبنان هو أنهم كانوا قد استعانوا بنا وذلك على الصعيد القومي في اتجاه مفاده أنه من الواجب ومن الضروري إعادة تنظيم وضع الحزب القومي. ففي لبنان طلبوا منا، وكذلك من خلال تواصلهم مع الأستاذ ميشال عفلق ومع أعضاء القيادة القومية ومنهم هنا إلياس فرح ومسعود الشابي وكمال ناصر(الذي كان قد التحق بالعمل الفلسطيني) وعبد المجيد الرافعي وهو على تواصل مع الأستاذ ميشال عفلق، والرفاق العراقيون ومع المنظمات الحزبية الموجودة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وفي البلدان العربية، واقترحوا الدعوة إلى انعقاد مؤتمر قومي، وهو المؤتمر القومي التاسع. فأوكل تكليف القيام بالتحضير لهذا المؤتمر إلى القيادة القطرية في لبنان وقيادة فرع بيروت وأنا كنت مسؤولاً فيها. وكان ذلك في الأشهر الأولى لعام 1968، أي قبل قيام حركة 17 - 30 تموز.
فنحن الذين ساهمنا في التنظيم والتحضير لهذا المؤتمر القومي التاسع. وكان يتمَّ ذلك كلُّه بطبيعة الحال بشكل سرّي. وشارك في الحضور أمين الحافظ الذي كان مطارداً من سورية ومقيماً في لبنان. وأقيم انعقاد هذا المؤتمر في عاليه وفي بيروت وفي برج البراجنة، وكانت الجلسات تُعقد في هذه المناطق الثلاث. وكان من جملة مَن حضر المؤتمر رفاق من العراق ولم يحضر صدام حسين الذي لم يُنتخب في المؤتمر عضواً في القيادة القومية، فلم ينسى ذلك وكَبَت غضبه فترة طويلة.
حقَّق هذا المؤتمر، المؤتمر القومي التاسع، نجاحاً لافتاً في تلك الأثناء وبعده، كان توجُّه القيادة القطرية في لبنان والحزب القومي بصورة عامة، توجُّهاً كاملاً نحو العمل الشعبي(٭). ولم يمضِ وقت قليل حتى وصل رفاقنا في العراق إلى استلام السلطة. عند ذاك جرى التباحث من أجل إنشاء جبهة التحرير العربية، وكانت هذه هي النقطة المحورية. وهم، أي العراقيون، وافقوا، بل وحتى أنهم كانوا قد ساعدوا على استضافة أول معسكر تدريب، ومساعدة الجبهة على انطلاقتها.
س:... في هذه الحالة، وعلى أثر حركة 23 شباط 1966 وانعقاد المؤتمر القومي التاسع، كان قد وقع انشقاقٌ عميقٌ داخل حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، فنشأ حزب بعث موالي للقيادة القومية وبالتالي للعراق، وحزب بعث قيادة قطرية موالية لسورية....
ج:... (مقاطعاً)... في الحقيقة، نحن لم يكن لدينا هذه العقدة بتاتاً. فعندما حدث هذا الانقسام هنا في لبنان في 23 شباط 1966 ، وُجد حزب البعث القومي وإلى جانبه حزب البعث القطري. ونحن كنا تحمَّلنا كل أعباء العمل القومي وتولينا عمل القيادة القومية: وتحديداً مكتب الاتصال القومي الذي "حملناه" على أكتافنا، وأقمنا المؤتمر القومي التاسع الذي أعاد هو بالفعل السلطة الحزبية تحت راية القيادة القومية الجديدة.
وحينما قامت الحركة في بغداد في تموز 1968 أخذ الرفاق العراقيون المبادرة لإعادة التواصل وأبدوا رغبتهم في أن يكونوا جزءاً من القيادة القومية، فلم يكن لدينا نحن (نحن، هل يعني القيادة القطرية في لبنان؟!) أيُّ عقدةٍ في هذا الشأن و في ما يخص أننا ننتمي سواءٌ إلى بعث عراقي أو إلى بعث غير عراقي. فنحن كنا حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان الذي شارك في صنع القيادة القومية ويعتبر نفسه ضمن "التيار القومي". فكنا نعتبر في واقع الأمر أن العراقيين كانوا قد جاؤوا بعدنا إلى هذه المؤسسة القومية. فهذا الموقف سبب لنا حساسيات فيما بعد، لأننا كنا مصرِّين على استقلاليتنا، مصرِّين على أن يكون لنا رأي في الشأن القومي، ومصرِّين على أن يكون ثمة تفاعلٌ فيما بيننا، وذلك بعد أن خرجنا من التجربة الحزبية الماضية على نمط الوَحدة الاندماجية.
وعلى ذكر "الوَحدة الاندماجية"، كنا نرى أن هذه الوَحدة فيها الشيءُ الكثير من الرومانسية أكثر مما فيها من الواقعية الحقيقية. من هنا كانت وجهة نظرنا أن في أيِّ وَحدة، يجب أن يكون هناك تفاعل وتكامل بين القطرية وبين المنظمات الحزبية الأخرى. ذلك أن الوَحدة العربية الحقيقية إنما تتأتي عَبر التفاعل والتكامل والعمل الديمقراطي والشعبي. وبقدر ما نتوجَّه نحو فلسطين، بقدر ما نسير نحو التَّوحُّد. وبقدر ما نتوجَّه كمنظمات حزبية نحو فلسطين، بقدر ما نتكامل ونتماهى.
فليست إذن المسألة مسألة إرادية أو أن مسألة العلاقة أنها مسألة عابرة، لا، أبداً، إنما العلاقة بين المنظمات الحزبية يجب أن تُبنى على أسس سياسية، نضالية، مادية. لذلك قلنا إن لكل منظمة حزبية، ولكل قيادة قطرية، لها خصوصيتها ولها ظروفها وأوضاعها. ولكل قطر ولكل منظمة قطرية، شأنُها الخاص ووجودها واستقلاليتها، ولكنها تتفاعل مع المنظمات الحزبية القطرية الأخرى، وفي الوقت نفسه ترضخُ للرأي القومي الذي تشارك في صنعه. وهذا الرأي القومي إنما يكون نتيجة التشاور والتباحث وضمن النقاش والتفاعل بين ممثلي الأقطار العربية.
إنّ ما أريد أن أقوله هو أن نكسة حزيران وقبل ذلك وقوع الانفصال، كانا قد أثَّرا فينا تأثيراً كبيراً. إن الانفصال كان من نتيجته أنه زادنا تمسكاً بالديمقراطية والتفاعلية القطرية، وهزيمة حزيران 1967 أثَّرت فينا بأن دفعتنا إلى التَّوجُّه نحو النضال الشعبي المسلح، وأن نرجع إلى الجذور والعمل العربي الموحَّد. فجميع هذه المواقف وهذه الأفكار وهذه التوجُّهات، لم تأتِ من فراغ، بل تأتَّت في سياق تاريخي عام، وكنا نعيشه في العمق، وكنا في قلبه وصميمه. فلم نطلّ عليه أو نأتيه من الخارج.
في عام 1966 ، أول مظاهرة شعبية حاشدة كبيرة جرت وهزَّت أركان الدولة في حينها ـ ذلك أنه في عهد اللواء فؤاد شهاب ما بين 1958- 1964 ، لم تقم مظاهرة شعبية في البلد، بعد عقد التفاهم المشهور مع عبدالناصر واستوعاب كلياً الوضع السياسي والأمني في الداخل. فكانت المجتمعات الفلسطينية تقع تحت الحالة الأمنية من قبل السلطة اللبنانية ـ فلأول مرة منذ ذلك الحين يحصل تحرك شعبي دعماً للشعب الفلسطيني في لبنان، عندما استشهد جلال كعوش عام 1966.
وجلال كعوش، شاب بعثي فلسطيني كان يقوم دائماً بعمليات فدائية ضد العدو الإسرائيلي في شمال فلسطين، وفي الوقت نفسه كان قريباً من حركة فتح، وهو من المجموعات في بداية العمل الفدائي. في أثناء هذه الأحداث، ابتدأنا تحركنا في الجامعة الأميركية والجامعات اللبنانية الأخرى، وأخذنا نقوم بحركة تعبئة ومظاهرات طلابية داخل الجامعة وخرجنا بمظاهرة في شوارع بيروت. فكانت هذه المظاهرة مفاجأة للسلطة السياسية والأمنية، والتي سارت في طريقها حتى وصلت إلى منظمة التحرير الفلسطينية في كورنيش المزرعة. فاعتُبرت هذه المظاهرة أول خروج وشقَّ العصا على النظام الشهابي(*).
طبعاً، بعد الخطابات والكلمات التي ألقيت في المظاهرة عند وصولها إلى مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في كورنيش المزرعة، طاردتنا الشرطة وحصلت اعتقالات. فقد اعتُبرت هذه المظاهرة الطلابية والجماهيرية أول إسفين دقَّ في النظام الأمني الشهابي. ترافق ذلك مع محاضرة مهمَّة ألقاها منح الصلح تحت عنوان: الانعزالية الجديدة، وذلك في النادي الثقافي العربي، هاجم في هذه الكلمة "الشهابية" من الناحية الفكرية ـ السياسية. على أثرها، اللواء سامي الخطيب، رئيس المكتب الثاني في بيروت، قال: إن أكبر ضربة وُجِّهت إلينا، هي هذه المحاضرة والتي هزَّت أركان النظام الشهابي. وفحوى هذه المحاضرة أن النظام اللبناني الشهابي قد تسلَّح بقليل من العروبة من أجل دفع الكثير منها. أي أنه كان قد تقرَّب من الرئيس عبدالناصر حتى يطارد العروبة في الداخل اللبناني، وهو يساير العروبة في الخارج من أجل ضربها في الداخل.
فنحن، (أي القيادة القطرية في لبنان) كنا في هذه البيئة: بيئة كفاح مسلّح، بيئة الشعب الفلسطيني، بيئة النضال الفلسطيني. فلم نكن نرغب إطلاقاً في أن نغرق في الصراعات الحزبية الداخلية أو الصراعات بين حزبنا وبين سائر القوى القومية الأخرى. بل كنا، إذا جاز القول، تياراً معاكساً. فإذا وقع خلاف داخل الحزب، فكنا ندعو إلى التواصل والتآلف والنقاش والتفاهم وتنفيذ الديمقراطية. وإذا وقع الخلاف مع الخارج (أي مع التيارات القومية العربية الأخرى)، فكنا ندعو إلى تطبيق الفكر الجبهوي بين هذه القومية، وأهمية قيام هذه الجبهة الموحِّدة لجميع هذه القوى القومية، بما أن العدو الإسرائيلي ما زال موجوداً، والأمبريالية الأميركية دائماً موجودة والرجعية العربية في الداخل والخارج هي أيضاً موجودة، والقوى الانفصالية موجودة، إلخ... ما هي إذن مبرِّرات عدم قيام هذه الجبهة القومية، وهذه الجبهة القومية ينبغي إنشاؤها مع القوى الناصرية بالدرجة الأولى وحركة القوميين العرب وحتى القوى اليسارية.
س:... هنا سؤال يُطرح: هل إن العلاقة مع المنظمات الفلسطينية، مثلاً مع حركة فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية، كانت تتمُّ عن طريق التنظيم الحزبي أم عن طريق سياسي....
ج:... (مقاطعاً).. عن طريق سياسي، بمعنى أن فريقنا نحن (مَن هو هذا الفريق: هل القيادة القطرية؟!) كان يقيم علاقات مباشَرة، وكنا في قلب الميدان، وممارساتنا ممارسات ميدانية. كنا نلتقي أبو عمّار على سبيل المثال يوماً بعد يوم: واللقاءات كانت تتمُّ سواءٌ في الجنوب أو في غرفة العمليات أو في سورية وكنا نرافقه في كل مكان، وكانت لنا أيضاً صداقة متينة مع جورج حبيش أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو مع نايف حواتمة أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومع زهير محسن، مسؤول الصاعقة ومع كل أطراف العمل الفدائي دون استثناء. فنحن لم نكن مجموعة تنتمي لا إلى العراق ولا إلى سورية. فكنا على ودٍّ مع الجميع أو نسعى لكي نكون على علاقة حسنة ومتساوية وتعاون مع جميع المنظمات الفلسطينية.
من هنا، جاء رفضنا الالتحاق بأيِّ فريق، وهذا كان بداية الصراع ما بيننا وبين إخواننا العراقيين. فقد قلنا لهم